مقدّمات نظرية ومنهجية لدراسـة الأحـزاب السياسيـة
مقدّمات نظرية ومنهجية
لدراسـة الأحـزاب السياسيـة
* * *
في دراستنا للأحزاب السياسية تواجهنا إشكالية، ينبغي بدايةً أن نجد لها حلاً نظرياً كفراضية للبحث والدراسة، ذلك أن هناك تناقضاً أساسياً في هذه الدراسة النظرية: من جهة، يستحيل وصف عمل الأحزاب السياسية وأدائها بصورة عامة، ومن جهة أخرى من الواجب أن نقوم منذ البداية بذلك الوصف العام. في هذه الحالة، فإننا نجد أنفسنا أمام حلقة مفرغة: إن الدراسات المتخصِّصة والبحوث المُسْبقة، المتعدِّدة والمعمَّقة للأحزاب، هي وحدها التي تتيح لنا بناء نظرية عامة للأحزاب. غير أنه لا يمكن أن تكون هذه البحوث والدراسات المتخصِّصة معمَّقة حقاً، ما لم تكن هناك نظرية عامة للأحزاب، ننطلق منها لدراسة هذه الأحزاب السياسية… ذلك أن الطبيعة تجيب فقط عندما تُسأل.
ربما يكون هناك دراسات كثيرة جداً عن الأحزاب، وغالباً ما تكون ذات قيمة عالية، ومع ذلك لا توضح، حقيقةً، مشاكل تطوُّر تكوين هذه الأحزاب، ولا مشاكل علاقاتها مع بعضها البعض الآخَر، علاقاتها المتبادلة، ودورها على المستوى التنظيمي أو على صعيد تطورها الأيديولوجي.
إذن، يجب بذل الجهد لكسر هذه الحلقة المفرغة، والمحاولة لوضع نظرية عامة أوليّة للأحزاب، أو لتطوُّر كل منها أيديولوجياً وتنظيمياً، هذه النظرية هي بالضرورة غير مكتملة، افتراضية، تقريبيَّة… يمكن أن تُستخدم كقاعدة وكدليل للتحليلات اللاحقة المعمَّقة..
ينبغي في هذه الحالة أن نحدِّد طُرُقاً أو مناهج بحثية معيَّنة للأحزاب، تحاول إدخال الموضوعية في مجالٍ تسود فيه الأهواء والسجالات وسوء النيَّة بوجه عام. من هنا أهمية أن تعتمد هذه الدراسات البحثيَّة للأحزاب على مراجع رصينة جِديّة واستقصاءات ميدانية…
على سبيل المثال فقط: إن دراسة حزب البعث العربي الاشتراكي في تاريخه الطويل ومراحله المختلفة وتجاربه المتنوعة، لا يمكن أن تحقِّق نجاحاً وأن تتقدم تقدماً ملموساً ما دامت هذه الدراسات أو الأبحاث ذات طابع مفكَّك مجزَّأ تجريبي ذاتي، فهي في كثير من الحالات أقرب ما تكون إلى المواقف السجاليّة والصراعات الداخلية أو الاستقراء العام، الشامل التعاطف، منها إلى العلم السياسي ـ الاجتماعي…
فانطلاقاً من هذه الملاحظات أو المشاهدات أو القراءات الأوليّة، المتعدِّدة والمنوَّعة والموسَّعة ما أمكن، والتي هي بالضرورة مجزَّأة، بل ومتناقضة في الغالب، وبالتالي غير كافية لتكوين صورة حقيقيّة وواقعيّة وموضوعية عن حزب البعث العربي الاشتراكي في تطوره التاريخي والسياسي والتنظيمي والأيديولوجي الطويل، لذلك ينبغي أن نحاول أن ننطلق من فرضيات موضوعية، مُعاشة تجريبياً أو ممارسة عملية وميدانية، من شأنها أن تؤدّي في نهاية التحليل إلى نتائج أقرب ما تكون إلى الصحة والواقع….
هذا الجهد البحثي في الدراسة والاستقراء الميداني والنظري، الرامي إلى البَدء من فرضيات، يعيد الاعتبار إلى استعمال منهج الفرضية العلمية في مجال العلم السياسي… وبناء الفرضية أو بالأحرى الفرضيات باستعمال وسائل الاستقصاء الممكنة، تمتاز وحدها بأنها قادرة على بعث أبحاث متخصِّصة لاحقة وتحفيزها وتوجيهها. فيكون هدفها التثبُّت من هذه الفرضيات الأولية التي انطلقنا منها أو إتلافها على الأرجح فيما بعد. فتكون هذه الفرضيات قد خدمت في الوقت ذاته البحث عن الحقيقة العلمية والتاريخية في الآن معاً…
لذلك، فإننا نأمل أن لا ننسى أبداً طبيعة الفرضية المطلقة لهذا البحث. ولن نتوانى أبداً عن التذكير بها، ويمكن في المستقبل القريب أو البعيد أن يغدوَ متيسراً أكثر وصف المسار التاريخي لحزب البعث العربي الاشتراكي، على الصعيد التنظيمي والسياسي والأيديولوجي، في مراحله المتتالية وفي فروعه المختلفة، بدقَّة أكثر علمية وأقرب إلى الحقيقة والواقع. أما حالياً، فلا نزال في مرحلة الفرضيات، وهي ضرورية للوصول إلى ما يمكن تسميته الحقيقة التاريخية أو أقرب ما يكون إلى الواقع التاريخي…
ومن ناحية أخرى، فإن أغلب الدراسات المتعلقة بالأحزاب السياسية عندنا تكتفي بتحليل عقائدها (الأيديولوجيات)، أو أفكار قادتها فقط أو تاريخها السياسي الحَدَثي أو تناقضاتها الداخلية وصراعات قادتها، وهذا يعود إلى ما يمكن اعتباره ناتج من المفهوم الليبرالي للحزب، هذا المفهوم الذي ينظر إلى الحزب على أنه جماعة عقائدية، جماعة تنتمي إلى أيديولوجية واحدة. "فالحزب هو اجتماع، هو التقاء جماعة من الناس ينتمون إلى عقيدة (أيديولوجية) سياسية واحدة هي نفسها التي تجمعهم وتوحِّد بينهم"، (بنجامان كونستان سنة 1816.
وهناك مؤلفات عديدة مهمة حول هذا المفهوم تدخل في تاريخ الأفكار السياسية أكثر منها في التحليل السوسيولوجي. وفي هذا الإطار، تكتفي بدرس ووصف تقريباً تأثير العقائد (الأيديولوجيات) في الكيان التنظيمي أو الهيكلية التنظيمية للحزب. "دافيد هيوم" مثلاً أشار في كتابـه "محاولـة حـول الأحـزاب"، إلى أن البرنامج يلعـب دوراً أساسياً في المرحلة "البدائية"، (في البدايات الأولى)، حيث إنه يعمل على تكتيل أفراد متفرّقين، وفيما بعد، يأتي التنظيـم في المرتبـة الأولـى، بعد أن تصبح الأفكار والمشاريع السياسية ثانوية، وبكل معنى الكلمة. إلاّ أن هذه الملاحظة لا تنطبق أبداً في جميع الأحوال على بعض الأحزاب المعاصرة، حيث اتخذت العقيدة (الأديولوجيا) طابعاً دينياً، مما يُعطي هذه الأحزاب سيطرة مطلقة على حياة المنتسبين إليها.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، هناك:
* المفهوم الماركسي : الحزب ـ الطبقة
مقابـل
* المفهوم الليبيرالي: الحزب ـ العقيدة
* الحزب الماركسي : المحتـوى الاجتماعـي والتنظيــم المؤسَّسـي مقابل:
* الحزب الليبيرالي: العقيدة
أما "ديفرجيه" فإنه يرى أن الأحزاب السياسية المعاصرة لا تُعرف ببرامجها أو بطبقة أتباعها الاجتماعية، وإنما هي تُعرف أكثر ما تُعرف بطبيعـة تنظيمهـا: الحـزب هو مجموعة ذات كيان (تنظيمي) خاص. وتتميّز الأحزاب المعاصرة قبل كل شىء بكيانها وبنيتها التنظيمية… أصالـة الأحزاب في القرن العشرين تكمن في تنظيمها، هذا واقع… وإن نـزوع هذا التنظيـم ليصبح عنصراً أساساً في عمل الحزب وفي تأثيره وفي دوره، فذلك واقع آخر….. طبعـاً، يجب أن لا نستنتـج أن تنظيم الأحزاب أهم من عقيدتها (أيديولوجيتها) أو من ركيزتها الاجتماعيـة، بل إننا نميـل إلى الاعتقـاد أن الركيزة الاجتماعية تبقى هي المسيطرة حالياً، وليس ذلك بعيداً عن النظريـة الماركسية: القائلة بالبِنية التحتية والبِنية الفوقيـة(*).
الأحزاب السياسية:
محـاولات منهجيـة ونظريـة(**)
يستحيل وصف عمل الأحزاب السياسية القومية عموماً وآليات تنظيمها وصفاً مقارناً، ولكن من الضروري القيام بذلك. وإننا نجد أنفسنا في هذه الحالة في حلقة مفرغة: من جهة، وحدها تنتج الأبحاث المونوغرافية المتخصصة المُسبقة، العديدة والمعمّقة، بناء النظرية العامة للأحزاب ومن جهة أخرى، هذه الأبحاث المونوغرافية لا يمكن أن تكون معمّقة حقيقةً وواقعاً، ما لم تكن هناك لدينا نظرية عامة للأحزاب.
* هناك دراسات أو كتب ومؤلفات عن الأحزاب تعبّر عن مواقف أصحابها ووجهات نظرهم الخاصة…، مذكرات وتجارب شخصية… فهي لا توضِّح مشاكل تطور تنظيمات الأحزاب ولا مشاكلها الداخلية ولا علاقاتها المتبادلة فيما بينها، وكلها محصورة ضمن الإطار الشخصي والتجربة الشخصية.
* من هنا، الأهمية كسر الحلقة المفرغة، والانطلاق من نظرية عامة للأحزاب، هي بالضرورة، غائمة، افتراضية وتقريبية، يمكن أن تُستخدم كقاعدة، كدليل للتحليلات العميقة.
ولا بدّ في هذا المجال من إبداء ملاحظة، مفادها أنه في مجال دراسة الأحزاب، غالباً ما تسود فيها الأهواء الشخصية والنِّزاعـات السياسيـة والصراعـات على السلطة وسوء النية بوجه عـام.
* أغلب الدراسات المتعلقة بالأحزاب، تكتفـي بتحليل عقائدها فقط، وهذا ناتج عن المفهـوم الليبرالـي للحزب: "فالحـزب هو اجتماع رجال يعتقدون العقيدة السياسية نفسها (كونستان 1816) وهناك مؤلفات عديدة تدخل في تاريخ الأفكار السياسية أكثر منها في التحليل السوسيولوجي.
* نشوء الأحزاب (في أوروبا..) في البداية، كان نتيجة تطور الصراع الاجتماعي ـ الذي نتج عن الثورة الصناعية… (إن الفوز بالانتخابات يحتاج إلى أدوات في الصراع الاجتماعي، والتي تعكس تطور أشكال الصراع والوعي المرافق).
* طبعاً، الأحزاب في عالمنا العربي ـ وإن كانت تحمل في الشكل بعض سمات الأحزاب في البلدان المتقدمة، ـ ألا أنها تختلف عنها كثيراً في المضمون نظراً لاختلاف الواقع الاجتماعي والاقتصادي والتاريخي، وللتأثيرات الخارجية والداخلية فيها.. لم تتشكل المؤسسات والأحزاب السياسية عندنا إلاّ تحت تأثير العوامل الخارجية أو أحياناً تكون تقليداً بصورة أو بأخرى، إلى هذا الحد أو ذاك، للقوى السياسية في البلدان المتقدمة. بمعنى أن الأحزاب في عالمنا العربي لم تكن في كثير من الحالات، نتيجة لتطورات موضوعية للظاهرات الاجتماعية: هنا يقع الاختلاف الجذري.
* ملاحظة: فإذا كانت ثمة عوامل مشتركة تجمع الأحزاب السياسية التي نشأت في عالمنا العربي، إلاّ أنه ينبغي ألا نُغفل العوامل الاجتماعية والتاريخية الخاصة لكل منها والتي لعبت دوراً قد يكون هاماً في نشوئها وتكوينها وتطورها. إذن، فلا يمكن فهم مثلاً كل واحد من الأحزاب القومية في أيِّ بلد عربي بالاستناد إلى العوامل أو السمات العامة. بل لا بدّ بالإضافة إلى ذلك من دراسة الخصوصية المميزة والعوامل الاجتماعية أو الظروف السياسية السياسية الخاصة لكل منها.. وإلا وقعنا في العموميات وابتعدنا كثيراً عن فهم العوامل الحقيقية والواقعية في تكوُّن الظاهرة الحزبية وتطورها السياسي والاجتماعي في كل بلد. وهذا يقتضي دراسة الظاهرة الحزبية القومية وظروف نشأتها وتطورها في كل قطر عربي على حدة، لتحديد ما هو متشابه وما هو مختلف، ذلك أن ثمة اختلافات أو فروقات، كثيراً أم قليلاً، في طبيعة قيام أنظمة الدول العربية وتأسيسها في مشرقها أو في مغربها، من ناحية التكوين السياسي أو البِنية الاجتماعية أو التركيبة الاقتصادية أو العلاقات الخارجية، فينبغي إدخال ذلك في الحسبان عند دراستنا للأحزاب السياسية في هذه الأقطار العربية.
* العوامل التي أدّت إلى ظهور الأحزاب..
إن نشوء الأحزاب كان نتيجة مواجهة الأخطار الخارجية: الاستعمار، والردّ على الواقع الاستعماري ومن أجل التحرر الوطني. والمفاهيم النظرية للأحزاب كانت قد تكونت في كثير من الأحيان تحت تأثير عوامل التقليد للأفكار (القومية أو الاشتراكية) التي ظهرت في أوروبا. تأثير مثلاً الفكر القومي، والتأثيرات الخارجية التي أحدثتها الثورات العالمية الكبرى…
* دور البعثات الطلابية إلى الخارج..
هنا تأتي دور البعثات العلمية إلى أوروبا في الوقت الذي بلغ فيه الصراع الاجتماعي والسياسي أوجه. فكان لا بدّ للطلاب الوافدين أن يتأثروا بشكل أو بآخر بالأفكار السائدة هناك وبخاصة الفكر القومي والفكر الاشتراكي. وعند عودة هؤلاء المبعوثين (الطلاب) إلى بلادهم، حاولوا أن يبثوا وينشروا الأفكار الجديدة التي حملوها معهم داخل شعوبهم، لاقتناعهم بأن القومية تشكل الرد الفعلي على الاستعمار وعلى الواقع المتخلف. كذلك ساعد الفكرَ القومي التحرري انتشارُ بعض المدارس والمدرسين في الإرساليات الأجنبية (الجامعة الأميركية ـ بيروت). فانتشار تلك الأفكار وبداية الوعي بالمشاكل الاجتماعية أدّى إلى نشوء الأحزاب القومية…. كأداة للتخلص من السيطرة الاستعمارية وتحقيق التحرر الوطني والوحدة القومية، كما الإجابة عن الأمراض الاجتماعية ومواجهتها نظرياً وسياسياً..
* الجامعة الإسلامية والوحدة الإسلامية/ الجمعيات العربية / القومية الطورانية/…
* لا بدّ من التمييز بين العامل أو الفكر القومي في أوروبا من حيث النشوء والتكوين وبين المفاهيم القومية في عالمنا العربي التي طغى عليها التحرر الوطني من السيطرة الاستعمارية… أما العامل الاجتماعي فلم يظهر حقيقة وفعلاً إلاّ فيما بعد…
* بعض الكتَّاب يردُّ نشوء فكرة القومية العربية إلى بريطانيا التي شجّعت بعض الحكومات لاستخدامها كوسيلة في صراعها مع فرنسا…
* طبَّق الاستعمار سياسة "فرِّق تسد" من أجل السيطرة، وغذّى النِّزاعات القومية والعرقية والأثنية والدينية. وأثمرت هذه السياسة كثيراً خاصة وأن الاستعمار حرص على أن يخلق وحدات سياسية تحوى تناقضات إثنية وقومية ودينية، إلى جانب تسليم السلطة إلى جماعات مرتبطة به بمعاهدات… وتفجرت هذه التناقضات فيما بعد ونتج عنها أحزاب سياسية تنطلق أساساً من مذاهب إثنية وقومية وطائفية.
كما أن مثل الأحزاب الشيوعية من حيث نشوئها وتكوينها في مجتمعاتنا لم تكن وليدة ظروف وتطورات اجتماعية داخلية، بل نتيجة لثورة أكتوبر عام 1917 في روسيا القيصرية وبالتالي غدت حكماً فروعاً لأحزاب شيوعية أممية أخرى….
* إذن، نشأت الأحزاب السياسية القومية بصفة عامة للرد على متغيرات اجتماعية وسياسية في ظروف تاريخية معيَّنة وتطورت مع تطور الأوضاع الاجتماعية والصراع السياسي، ولكنها في الأعماق هذه الأحزاب بمجملها لم تستطع أن تلعب في أغلب الأحيان إلاّ دوراً ثانوياً، ما عدا بعض الأحزاب (البعث) القومية التي لعبت دوراً هاماً في مراحل معينة، إلاّ أنها فشلت في حل إشكالَيْن كانا وراء نشوئها:
1 ـ الإشكالية القومية الوطنية (الوحدة).
2 ـ والإشكالية الاجتماعية…
* من الكتّاب مَن يعزو فشل الأحزاب القومية إلى غموض أيديولوجيتها القومية وتذبذبها وطوباويتها، لذا ولعدم الوضوح النظري فشلت في حلِّ إشكالياتها القومية والاجتماعية. وهذا الرأي غير صحيح: هناك وضوح في أيديولوجية الأحزاب القومية، وإذا لم تستطع أن تحقق أهدافها القومية والاجتماعية (نموذج البعث + الناصرية) فإنما السبب يعود إلى شيأين: ضعف التنظيم الداخلي وتناقضاته وعدم ديمقراطيته من جهة، والصراع على السلطة فيما بينها من جهة أخرى: [علاقة البعث والناصرية / البعث مع البعث].
* الأحزاب الوطنية والقومية نشأت في ظل الاستعمار الغربي وقادت النضال التحرري، فكان الهدف: التحرر من الاستعمار في الدرجة الأولى، ولكن التحرر يبقى شكلياً، إذا بقي فارغاً من أيِّ محتوى اجتماعي (حزب البعث استثناء).. وبالفعل، الأحزاب القومية والوطنية ظهرت إرهاصاتها في مرحلة تاريخية انتقالية مضطربة: في ظل الأمبراطورية العثمانية، وفي الوقت الذي اشتد فيه الصراع بين الدول الأوروبية لاقتسام امبراطورية "الرجل المريض" (دور بربطانيا في صراعها مع فرنسا).
بعد الاستقلال وضعت الأحزاب القومية (البعث) هدفين أمامها: التخلص من واقع التجزئة وقيام دولة عربية واحدة، وتغيير الظروف المعيشية والاجتماعية للجماهير العربية. ولكن الفشل كان من نصيب تلك الأحزاب ولم تحقق أياً من أهدافها. الأقطار العربية بقيت مجزأة، وتعقدت المشكلة الوطنية بزرع إسرائيل، وبروز التناقضات الداخلية، وتكونت كيانات قطرية وإدارات محلية وطبقات اجتماعية حاكمة، لها مصالح سياسية خاصة وشخصية وكثير منها عائلية ـ عشائرية، كما برزت في كل قطر تناقضات مذهبية ودينية وإثنية (وهذا ما يسمى بروز دور الأقليات) فطغى كل ذلك على السلطة السياسة الحاكمة في بِنية القطر ومقوماته.
* كل السؤال المطروح الآن هو التالي: كيف يمكن أن نضع خطاباً سياسياً متماسكاً يستند إلى فهم الماضي الذي يشكل جزءاً أساسياً من واقعنا السياسي والأيديولوجي والاجتماعي الحالي، ويكون دافعاً ـ غير مناقض ـ لحاضرنـا الموضوعي الاجتماعـي والثقافـي المعقّـد، والذي (هذا الحاضر) يختلف اختلافاً كبيراً عن الماضي في مضمونه وبناه، من أجل بناء غد أفضل وحل الإشكاليات القائمة؟…
* إن ما تقدم لا يشكل نظرية عامة متكاملة، وإنما هذا التحليل هو افتراضي، مقاربة اتجاهات عامة يمكن تعديلها أو تصحيحها أو تغييرها…
* * *
* من الملاحظ دور المثقفين في نشوء الأحزاب السياسية والقومية بصورة عامة، إذ عليهم تقع مسؤولية تخليص مجتمعاتهم من السيطرة ومن التخلف الاجتماعي… كما أن نشوء الأحزاب وتكوينها في بداياتها الأولـى، لا بدّ أن يترك أثراً بالغاً في بِنيتها النهائية وهيكليتها التنظيميـة.
ومن جهة أخرى، هناك أمثلة كثيرة جداً على نشوء أحزاب سياسية قام بها مثقفون ومجموعات من الكتَّاب والمفكرين. غير أنه من النادر أن يجد هذا الحزب أو ذاك له قاعدة جماهيرية شعبية، قاعدة تدعمه وتفسح له في المجال أن ينجح في نظام برلماني انتخابي عام. المثل على ذلك: "التجمع الديمقراطي الثوري". Rassemblement Démocratique Révolutionnaire (R.D.R.) ، هذا الحزب الذي أسسه جان ـ بول سارتر ومجموعة من المثقفين الفرنسيين، وكان فشلهم الذريع في الانتخابات النيابية العامة، وعدم دعم وتعاطف الجماهير العمالية والشعبية معهم..
ومما لا شك فيه في كل الأحوال، فإن تأثير المثقفين والمفكرين والكتَّاب في أصل تكوين الأحزاب السياسية ونشوئها وولادتها، أقله على صعيد الفكر والنظرية العامة، إنما هو تأثير كبير في بداياته لا يمكن إغفاله. كما أننا لا يمكن أن نغفل دور الطلاب، طلاب الثانويات والجامعة ودور الأساتذة والمعلمين في أصل نشوء الحركات الوطنية والاستقلالية وتطورها منذ بداية القرن العشرين. فقد كانوا الرافد الأول والداعم لقيام الأحزاب السياسية في بلادنا.
* إن الأحزاب السياسية القومية إنما هي ضرورة للتخلص من التجزئة ومن التخلف الاجتماعي على حد سواء. ولكن السؤال هو أيُّ نمط من الأحزاب القومية: أحزاب قومية ليبرالية أم أحزاب رديكالية، أحزاب قوميـة عربيـة أم أحزاب قومية اشتراكية؟ أحزاب قومية قطرية أم غير عربية؟..
وفي كل الأحوال، ينبغي إعطاء أهمية أساسية إلى التنظيم الذي هو العامل الأساسي والحاسم لنجاح النضال والنضال الحزبي على وجه الخصوص، وإلاّ وقعنا في العفوية التي لا تستطيع أن تحل أي إشكالية. هذه هي المسألة الأساسية، الصعبة والمعقدة: تطور الصراعات الاجتماعية، نسبة الوعي، موازين القوى السياسية الموجودة، هي التي تحدِّد إلى حدٍّ بعيد النَّمط الحزبي السائد.
* وإذا كانت الأحزاب السياسية ومعها الأنظمة السياسية، فشلت في مجتعاتنا (الديمقراطية، النظام البرلماني، إلخ..)، فلأنها لم تكن بشكل من الأشكال حصيلة التطورات الداخلية. فقد استوردت إلى جانب السلع والأزياء، أشكال المؤسسات الاجتماعية وأسقطتها على مجتمعاتنا [أنظر ص 55 مهم].
ديفرجيه: إن فشل أساليب الديمقراطية التقليدية (أي على النمط الأوروبي ـ الأميركي) لا يمكن أن يكون إلاّ في حكم المؤكد: إن البرلمانات لم تكن لتستطيع أن تعمل في أوروبا خلال القرن الثاني عشر، في حين أن بعض الشعوب (الشعوب في العالم الثالث) التي تزوَّد بها اليوم، هي تقريباً في هذا المستوى مع حفظ النِّسَب. فالأحزاب وتعدديتها، إذا طبقت في بلدان ذات كيان اجتماعي قديم (تقليدي متخلف) وعلى جماهير شعبية غير مثقفة (غير واعية)، فإنها تخدم وتثبِّت الأرستقراطية التقليدية (الإقطاعية، العشائرية، العائلية)، أي أنها تحول دون قيام ديمقراطية حقيقيـة…
فشل التجارب الديمقراطية في العالم الثلاث قد كان مؤكداً، لأن قيام المؤسسات الديمقراطية واستكمال تطورها والظاهرات الاجتماعية، لا بدّ أن يتلاءم مع طبيعة المجتمع وتطوره الاجتماعي.. وما يتحكم بشكل الظاهرة الاجتماعية السياسية لا بدّ أن يتأتى من واقعها، لذلك فلا يمكن أن نلبسها الشكل الذي نريد.
ديفرجيه يطرح موضوع الملاءمة بين أساليب الديمقراطية وتحقيقها وبين طبيعة تطور المجتمع في العالم الثالث: بمعنى، هل الديمقراطية هي هدف بحد ذاتها؟ تبدو المشكلة أكثر تعقيداً: ففي مجتع متخلف: هل يجب أن تكون الديمقراطية محور النضال، أم أنه يجب إعطاء الأفضلية لتغيير الواقع المتخلف، ولو ضحينا بالديمقراطية والحرية؟… الواقع، أن مفهوم الديمقراطية بحد ذاته يحتاج إلى تحديد أكثر… (1)
(*) ـ هذا النص مستوحـى في مضمونه العام من أستاذ العلوم السياسيـة والقانـون الدستـوري العام في جامعـة باريس الأولـى (السوربـون) موريس ديفرجيه في كتابه بالـغ الأهمية في هذا الموضوع: "الأحزاب السياسية". Les Partis palitiques, Armand Colin, 1951, Paris
(**) ـ موسوعة الأحزاب / الحركات / التنظيمات.
(1) ـ أنظر د. غسان بدر الدين، محاضرات في الأحزاب السياسية، ص 155.