محاولة تأريخ حزب البعث العربي الاشتراكي - د.أحمد بدر الدين
مقابلة مع
الدكتور أحمد بدر الدين
بتاريخ 21 تشرين الأول 1989 ـ دمشق
الموضوع: محاولة تأريخ حزب البعث العربي الاشتراكي
من خلال التجربة الشخصية
أجرى المقابلة: د. مصطفى دندشلي
* * *
الدكتور مصطفى دندشلي: … أودّ في بداية مقابلتنا أن تقدِّم لي بطاقة هُويَّة تتعلق بسنة الولادة والمراحل الدراسية والمناصب السياسية والحزبية التي تبوأتها…
الدكتور أحمد بدر الدين: … إنني من مواليد سنة 1924، وأنا من حوران. وكان والدي مدير مديرية الديون العامة في حوران. ولقد ولدت في "بصرة" الشام. وبعدها انتقل والدي، بعد دخول القوات الفرنسية إلى سورية ـ ذلك أن الديون العامة التي كانت على الحكومة العثمانية، قد أُلحقت بوزارة المالية وأُلغيت مديرية الديون العامة ـ وأصبح موظفاً في وزارة المالية. وانتقل إلى "دير الزور" ومن ثمَّ إلى "بو كمال". وعشنا في "بو كمال" ما يقرب من سبع عشرة سنة. لذلك فأنا تربَّيْت وترعرعت في "البو كمال". ودرست في المرحلة الابتداية هنا في "بو كمال"، حتى الصف الرابع الابتدائي، وبعدها تابعت دراستي في دمشق، حيث نلت شهادة السرتيفيكا ودخلت بعدها مدرسة التجهيز الأولى ـ وهي الثانوية الوحيدة فقط في دمشق، ولم أستطع أن ألحق ثانوية "عنبر" التي كانت موجودة في حيِّ الأمين، الذي كان أسمه سابقاً "حيِّ الحارات"… نُقلت مدرسة عنبر بعد عام 1936 في عهد الشيخ تاج الحسيني، إلى مدرسة التجهيز الأولى، وبعد ذلك تحوَّلت إلى مدرستَيْن: ثانوية جودت الهاشمي ومدرسة ابن خلدون…(*)
إذن، أنا التحقت بمدرسة التجهيز الأولى من سنة 1937 إلى أن تخرجت ونلت شهادة البكالوريا الثانية سنة 1943 ـ 1944. وقبلها حصلت على شهادة البريفيه سنة 1941، وكنت في القسم الداخلي. لذلك، فقد كان لي معرفة بكل أبناء الأرياف، وكنت أتعاطف معهم كثيراً وأعرف مشاكلهم. وكنت أستنكر في الواقع النظرة الفوقية التي كان الشوام ينظرون بها إلى الحوارنة أو إلى أبناء الأرياف. وعند تخرجي، كان لا يزال الفرنسيون هنا في سورية ونظامهم السياسي القمعي كان رهيباً. ودخل الإنكليز إلى سورية وإلى دمشق سنة 1941… وذهبنا وقتها إلى العراق أثناء ثورة رشيد عالي الكيلاني. وبعدها تابعت دراسة الطب هنا في دمشق في سنة 1944 ـ 1945، ولم تكن الحرب بعد قد انتهت. وقد كان الدخول إلى معهد الطب في دمشق من خلال مسابقة، ويُحدّد العدد بـ 25 طالباً. ومن لا ينجح في المسابقة يتابع دراسة الحقوق. والجامعة السورية في دمشق كانت عبارة عن معهد الطب وكلية الحقوق فقط. وكانت الحرب العالمية الثانية لا تزال قائمة ومَن يريد أن يتابع دراسته في الهندسة، يحاول بالواسطة أن يذهب إلى مصر لعدم وجود كلية هندسة في سورية. وعميد معهد الطب في دمشق في ذلك الوقت كان الدكتور الطبيب حسني سبح وهو أيضاً عميد الجامعة السورية آنذاك، وهو من دمشق، من حارة "قولي" وهي حارتنا. وكان محترماً جداً. ومن جملة الذين لم ينجحوا في المسابقة وانتسبوا إلى كلية الحقوق هم: يوسف شقرا ومظهر الشربجي ـ محام ووزير سابق ـ ومحمود التلي، وغيرهم كُثُر…
فأنا دخلت إلى معهد الطب هنا في دمشق، وأنهيت ألـ B.C.B والصف الأول والصف الثاني. وكان لي أصدقاء من حلب يريدون أن يتابعوا دراستهم في الطب في باريس، فأخبرت والدي بذلك وقلت له إنني أريد أن أدرس الطب من المنبع. فذهبت إلى فرنسا. فلاقيت الأمرَّيْن، فقد كانت لغتي الفرنسية ضعيفة. فأنا خريج مدرسة التجهيز ـ كما قلت ـ ولم تكن اللغة الفرنسية فيها قوية… [……] ولكن، ومهما يكن من أمر، فقد سارت الأمور فيما بعد بشكل جيد وتخرجت عام 1951، والمدة التي أمضيتها في فرنسا هي من أواخر عام 1947 حتى 1951… وعدت إلى سورية والتحقت بخدمة العلم في عهد الانقلابات العسكرية: الحناوي والشيشكلي….
وأثناء دراستي في فرنسا، كان يوجد حلقة لحزب البعث في باريس…. [نعم، وهنا أفتح هلالَيْن لأقول: لقد أصبحت وزيراً بعد الثامن من آذار، ولعنة الله على تلك الساعة ويا ليت لم يحصل ذلك. والله أنا كنت أمانع، بعدما عرض عليّ صلاح الدين البيطار وأبو ناجح محمد عمران أن أكون وزيراً في الحكومة. فأنا كنت ضد تدخل العسكر في السياسة وما أزال حتى الآن. لذلك، عندما دخلت في آخر وزارة التي شكلها الأستاذ صلاح الدين البيطار عام 1966، صار هناك قناعة عند بعض الضباط وبخاصة أبو عبدو (أمين الحافظ) رئيس الدولة، أن العسكر لا يجوز أن يتدخلوا بالسياسة خوفاً من وقوع الصدام فيما بينهم. عند ذاك، دخلت إلى الحكومة على أساس أن العسكر سوف يعودون إلى الثكنات…]
س: هنا، إسمح لي بعد جولة الأفق هذه، أن أعود إلى البداية، إلى المراحل الأولى: متى دخلت إلى حزب البعث العربي، ولماذا اخترت حزب البعث، وما هي العوامل أو الدوافع التي جذبتك إلى حزب البعث ولم تجذبك إلى أحزاب أخرى في دمشق؟!…
ج: …. والله أنا من أُسرة محافظة ومتديِّنة. وكنت دائماً أشعر أن أبناء الريف في سورية مغبونون. فدخولي إلى حزب البعث وانتسابي إليه ـ هنا، لا تآخذني القـول: إن والدي كان يتبوَّأ منصباً عالياً في "بو كمال" في وزارة المالية. وكان رجلاً نزيهاً مستقيماً جداً. وكنت دائماً أتساءل بيني وبين نفسي: هذه الأمة العربية التي أنجبت خالد بن الوليد وعمر بن الخطّاب، ما زالت موجودة، لماذا لا تنجب أمثالهما؟!… الأستاذ ميشال عفلق كان أستاذ مادة التاريخ في مدرسة التجهيز الأولى في تلك الفترة والأستاذ صلاح الدين البيطار كان يدرِّسنا مادة الفيزياء، وأذكر أنه درَّسني مادة "الضوْء"، ولا أزال حتى الآن أحتفظ برؤوس الأقلام والملاحظات التي كنت أسجِّلها من دروسه. وكان الأستاذ صلاح الدين البيطار أستاذاً ناجحاً جداً جداً. وهنا أذكر أيضاً الأستاذ ميشال عفلق، عندما أقاموا لنا ونحن في الصف التاسع أو في الصف العاشر، بعد البريفيه، امتحاناً مجاناً، في مدرسة التجهيز، فكان السؤال الذي طُرح علينا هو التالي: أيهما كان له أثر في هدم الكنيسة الكاثوليكية، "كوبرنيكس" الذي حرك الأرض بعد أن ثبَّتتها الكنيسة أم لوثر الذي انتقد الكنيسة الكاثوليكية وبيعها لصكوك الغفران؟!… وطُرح هذا السؤال على طلاب الصف التاسع، تصوَّر؟!.. وصديقي في الصف، عدنان راغب، قال لي: يا أخي، لم أقرأ ذلك في أوراقي وهو غير موجود في الكتاب… فقلت له: لا، هذا كله من شروحات أستاذ المادة، ميشال عفلق، فيجب أن تستنج أنت ذلك استنتاجاً من شرح الأستاذ عفلق. هذا مثل أو نمط من الطروحات التي كان يطرحها الأستاذ ميشال عفلق من خلال تدريسه مادة التاريخ… وكنا نحن الدفعة الأولى التي طُبِّق عليها نظام امتحان "البريفيه".
س: … ميشال عفلق في تلك الفترة، ما هو تقييمك له، كأستاذ وبصورة موضوعية، هل يمكن أن نعتبره أستاذاً ناجحاً، موضوعياً؟!…
ج: … الأستاذ ميشال عفلق، كان يدرِّسنا في الصف السابع قسماً من التاريخ الروماني، كما أذكر، ومن تاريخ الفرس. لم يكن أستاذاً كلاسيكياً. فلم يكن يطرح لك الموضوعات الموجودة في الكتاب، فتستطيع أنت أن تقرأها. ولكنه كان دائماً يثير انتباهنا لأشياء ولمسائل غير موجودة في الكتاب المدرسي. فأنا أذكر أن الأستاذ ميشال عفلق كان قد تعرَّض مرة للديانات القديمة، قبل الديانات السماوية. مثلاً، الديانة في مصر القديمة، وماذا كانوا يعبدون وما هي آلهتهم القديمة، وطقوسهم الدينية. وأذكر في هذا السياق هذه الجملة، عندما قال: الفينيقيون كانوا يعبدون عشتار وأدونيس. وهذه عشتار ابنها أدونيس. وتبكي عشتار ابنها بعدما يُقتل. فدموعها تتحوَّل إلى أنهر وسيول التي تتجلّى وتسير بين الجبال والسهول، والمياه حمراء كالدماء. وهذا دمُ أدونيس. وبعد ذاك، يأتي الربيع ويعود أدونيس مع زهر الربيع. هذه هي إحدى أساطير الديانات القديمة، وهي تشبه تقريباً الأشياء أو الطقوس حتى في الديانات السماوية. وكان الأستاذ ميشال عفلق يضرب لنا مثلاً أن "القربان" عند المسيحيين، عندما يأتون بقليل من الخبز ويضعونه في النبيذ ويُطعمونه بعد طقوس معيَّنة وبخور وأدعية ويناولونه للمؤمن، فيكون وكأنه يأكل من لحم المسيح ويتحوَّل الخمر إلى دم المسيح، يعني وكأنه يتمثل المسيح. وهذه الفكرة، في مضمونها ومعانيها، موجودة في الديانات القديمة وبقيت واستمرت…
مثل آخر، التعميد عند المسيحيين، ما هو التعميد؟.. التعميد هو عبارة عن الإتيان بالمولود ويغطِّسونه في الماء، معنى ذلك أنهم قضوا عليه ومن ثمَّ يرفعونه، فأصبح مسيحياً، وهكذا… كان الأستاذ ميشال عفلق يضرب لنا أمثلة من هذا النوع من المقارنة والتشابه. ولكنه لم يكن ليتطرق للدين الإسلامي قطّ، وإنما كان يحكي عن الديانات الأخرى. وكان يقول إن هذه الديانات كلها كانت متَّكئة على هذه الطقوس، ولكن عندما جاء الإسلام، كان أرقى من كل ذلك. أما مَن درَّسنا الحضارة العربية الإسلامية فهو عبد الوهاب الأزرق، وقد حفظنا عنه قوله عن النبي محمد: عاش مسكيناً ومات مسكيناً وكان يرجو ربَّه أن يُحشر في جملة المساكين… أما الأستاذ عفلق فقد درَّسنا في صف العاشر (أي الأول ثانوي)، تاريخ الحضارة وعصر الانبعاث أو النهضة في أوروبا وفي إيطاليا بالذات. وكان يدرِّسنا الكتَّاب والفلاسفة المشهورين في ذلك العصر من النهضة الأولى وأغلبهم في إيطاليا. وكما قلت، في الامتحانات كان يطرح علينا أسئلة من نمط: أيهما أكثر أثراً وأوقع في تهديم الكنيسة الكاثوليكية، كما جاء أعلاء…. وكذلك ما ميَّزة الفنّ في شمال إيطاليا من جنوبها؟!.. هذا هو نمط الأسئلة التي كان يطرحها…
س: … لم تجبني عن سؤالي: هل كان ميشال عفلق أستاذاً ناجحاً في التدريس أم أن الطلاب كانوا يملّونه لحديثه البطيىء؟!..
ج: … لا والله، كان يمشي في الصف بين الطلاب ويحكي ببطء ومَن يريد من الطلاب أن يكتب الملاحظات ورؤوس الأقلام، كان يستطيع أن يلحق (يُلَحِّق) ويأخذ الملاحظات. فقد كان محبوباً من الطلاب لقربه منهم، ولأنه كان يتعرَّض لقضايا الساعة ويثير هذه الأمور ويطرحها للمناقشة. كان محبوباً…. في تلك الفترة بالذات، فيما أذكر، ألقى محاضرة في مناسبة مولد الرسول العربي، وهي محاضرة معروفة (كان قد ألقاها في الجامعة السورية في دمشق عام 1943 تحت عنوان: ذكرى الرسول العربي). وكان آنذاك جمعية إسلامية تدعى: "شباب محمد" والوجه البارز فيها الشيخ علي الطنطاوي، ولم تنشأ بعد جمعية الإخوان المسلمين في دمشق. ومن جملة رؤساء "جمعية شباب محمد" محمد المبارك وخلدون الكناني وبعض الأساتذة في مدرسة التجهيز الأولى في دمشق، وكانوا جميعاً ضد اتجاه ميشال عفلق وصلاح الدين البيطار. ويتضامن معهما مدير مدرسة التجهيز الأولى الأستاذ جودت الهاشمي.
س: … ويبـدو أنه قبل تأسيس حزب البعث حدثت موجة أو ردة فعل دينيـة ضد ميشـال عفلـق بالذات، هل تذكر شيئـاً من هذا النـوع من العداء ضـدَّه في تلك المرحلة؟…
ج: … قيل وقتها على لسان الأستاذ ميشال عفلق ـ وكنا نحن طلاباً لا نعرف أشياء كثيرة مما يجري من هذه الأمور ـ أنه قال: "إذا ذلَّ العرب، ذلَّ الإسلام". فهم، الإسلاميون آنذاك، احتجوا على هذا القول الذي قيل في إحدى محاضراته، وأعلنوا أن العرب لا علاقة لهم بالإسلام، ذلك أن الإسلام إنما هو دين للجميع، لجميع الناس ولجميع الشعوب، ولا يحمل هذه النظرة القومية: "يا أيها الذين آمنوا، إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم"… (في تلك الفترة شنّ الشيخ على الطنطاوي حملة شعواء وشديدة اللهجة والعنف ضد ميشال عفلق وبخاصة على محاضرته في ذكرى الرسول العربي…. أنظر، ما قال أنطون مقدسي حول هذا الموضوع….).
ولكن، على العموم، أبناء الريف كلُّهم كانوا مع الأستاذ ميشال عفلق وإلى جانبه ومع الاتجاه القومي العربي. وقسم كبير من أبناء المدينة كانوا بوجه عام لا مبالين ولا يحملون هذه الأمور على محمل الجدِّ. فالكتلة من الطلاب التي كانت تقوم بالإضرابات وتنظم المظاهرات وتقودها، هم طلاب القسم الداخلي في "التجهيز".
هنا يروي الدكتور أحمد بدر الدين بعد هذا العرض الشامل حادثة شخصية، عندما كان يتابع دراسته في باريس، كان مسؤولاً مالياً في حلقة حزب البعث العربي. ويذكر أنه كان يتلقّى أعداداً من جريدة "البعث" بصورة دورية، وهي الجريدة الناطقة باسم الحزب وذلك من أجل أن يوزِّعها على الطلاب السوريين الحزبيين أو على الطلاب العرب في باريس. وكان يعمل على بيعها في مقاهي الحي اللاّتيني. فجاءه مرة أحد أقربائه للعلاج، وهو من التجار، فرأى معه رزمة من الجرائد، فقال له، كم تحوي هذه الرزمة من الجرائد وبكم ثمن عدد الجريدة؟ فقال له: عشرون عدداً وثمن العدد 15 فرنكاً فرنسياً. فقال له قريبه: أعطني هذه الجرائد حتى أريحك وأنا معك منها. فأجابه: لا، هذه الجرائد للتوزيع من أجل نشر أفكار وأهداف ومبادئ حزب البعث. فقال له: والله لو كان كل الحزبيين البعثيين مثلك فإنني سأدخل إلى هذا الحزب…
س: … متى انتميت إلى حزب البعث العربي وكيف تعرفت عليه؟!..
الدكتور أحمد بدر الدين: … في عام 1941، عند قيام ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق، أنشأ وقتها الأستاذة ميشال عفلق والأستاذ صلاح الدين البيطار وآخرون من الشباب القوميين معهم، "حركة نصرة العراق". هذه هي البدايات. وأنا كنت ما أزال في صف البريفيه… (وهنا يتحدث عن ذهابه مع مجموعة من زملائه الطلاب إلى إحدى المناطق (الحدودية العراقية) حيث يوجد نوع من التعصب الإسلامي شديد في المظاهر طبعاً، حيث هناك مطعم خاص بالمسلمين وزيّ خاص بالمؤمنين ولا يدخل إليه إلا المسلمون...إلخ..).
س: … إذن، عند نشوء "حركة نصرة العراق"، تعرفت على حزب البعث…
ج: … لا، لم يكن الحزب قد وُجد آنذاك. كان هناك مجموعات، مجموعات… وكان ما يسمّى "نادي فيصل" وفيه د. مدحت البيطار، تُلقى فيه المحاضرات وتُعقد الاجتماعات. وكان زكي الأرسوزي يسكن في بيت في زقاق الصخرة، وكان من رفاقنا صدقي إسماعيل ويوسف شقرا وسابا سابا وأفتريادس حكيم وجميعهم من لواء الاسكندرون وكل اللوائيين كذلك، ومنهم أيضاً وهيب الغانم. وأخوه مسعود الغانم وسليمان العيسى. فكانوا يتردَّدون إلى زيارة زكي الأرسوزي في سكنه. في الواقع، أنا شخصياُ لم أنتم إلى حزب البعث العربي إلاّ بعد نيلي شهادة البكالوريا بعد سنة 1943. في البداية كنت نصيراً وأشارك في حضور المحاضرات… وأذكر أنني دخلت إلى حزب البعث وأنا في صف B.C.B من معهد الطب في دمشق، وكنا عدداً كبيراً: أنا وصيّاح القباقيبي ومحمود الحكيم ومحمود سعدى وموسى رزق ويحيى النصّ وأحمد راسم قريْدي من إدلب، وعبد الخالق الخضَيْري من العراق، وكنا عدداً كبيراً في صف B.C.B، يعني من أصل أربعين طالباً كنا 15 بعثياً. وأنا كنت مسؤولاً عن الحلقة في صف B.C.B.
لذلك عندما عُقد مؤتمر الحزب في نيسان 1947، دُعيت للمشاركة في هذا المؤتمر وممثلين عن باقي أعضاء الحلقة. وأذكر أن رئيس المؤتمر كان جلال السيد وسكرتير المؤتمر عبد الرحمن المارديني. وأذكر أيضاً مجيىء وهيب الغانم ومعه أربعة أو خمسة أعضاء منهم: محسن الخيِّر ومحمد الخيِّر. (وهنا يروي بدر الدين عن المشاحنة التي حصلت بالنسبة للتمثيل. وهي معروفة…) وقَسَم الحزب هو التالي: أقسم بشرفي ومعتقدي أن أكون وفياً لمبادئ حزب البعث العربي… منفِّذاً لأوامره ومخلصاً لأهدافه والله على ما أقول شهيد، يعني نحن كنا مؤمنين في الأصل… (لا، لا يتضمن القسم الجملة الأخيرة: والله على ما أقول شهيد…) بلى، يضمّ القسم الجملة الأخير… (؟). وعُقد المؤتمر كما أذكر في مقهى "لونابارك" ـ والآن هي في البناية التي فيها المركز الثقافي الروسي…. (الحل: أقسم وهيب الغانم أمام رئيس المؤتمر والأساتذة، والأعضاء معه، أقسموا فيما بعد اليمين الحزبي أمامه. وهكذا كان حلُّ عُقدة حضور المؤتمر وهيب الغانم ومَن معه).
س: … أودّ أن أطرح عليك سؤالاً من جملة الأسئلة الكثيرة المحرجة والحسّاسة والمحيِّرة في آن معاً، وهي أسئلة مطروحة، ومطروحة بجديَّة، أول سؤال: يقال بأن حزب البعث العربي منذ نشوئه كان عبارة عن حزب يضمُّ الأقليات الطائفية أو المذهبية في سورية، يعني ودعني أحكي بمنتهى الصراحة، أن العنصر المسلم السُّني كان قليلاً جداً بين صفوفه، وما يغلب على حزب البعث في تلك الفترة هم الأعضاء الذين ينتمون إلى الأقليات الطائفية: دروز، علويون، إسماعيليون، مسيحيون، والأعضاء المسلمون السُّنة كانوا قلة في الحزب، فما رأيك في ذلك؟
ج: … في الواقع، نحن كنا نلاقي (معارضة كبيرة في أوساطنا العائلية. كان يوجد آنذاك في دمشق جمعية إسلامية تُدعى "شباب محمد"، قبل تأسيس "جمعية الأخوان المسلمين". وكان يقول لي والدي: هؤلاء عندما يقولون عن أنفسهم إنهم "شباب محمد"، أنتم ماذا تقولون عن أنفسكم: "شباب ميشال". يعني أننا كنا نلاقي صعوبة ومعارضة في نشر مبادئ وأفكار البعث في أوساطنا الأهلية: شباب مسلمون يدعون إلى الإسلام، ونحن ندعو إلى القومية العربية. فالقومية العربية لم تكن مقبولة تماماً (في البيئة الدمشقية الإسلامية التقليدية المحافظة).
والدي كان ضابطاً في الحرب العالمية الأولى وكان في الخط الحديدي الحجازي ويقول لي: والله يا ولدي، كنا لا نفرِّق بين التركي والعربي، إلاّ في الأخير (ربما بعد قيام ثورة الشريف حسين في الحجاز سنة 1916). وحكى لي قصة وقال: كان خفري باشا قائد الجيش التركي الموجود في المدينة المنوَّرة، بعدما انتهت الحرب وأعلن الأتراك الهدنة وهو في حالة عصيان قال إنه لا يسلِّم المدينة المنوَّرة إلاّ عندما يقسمون له الأَيْمان أنه لن يدخلها مسيحيّ، لا إنكليزي ولا فرنسي…
س: … يمكننا أن نقول إنه في تلك الأجواء وفي الأوساط التقليدية الإسلامية، لا شك في أنه في مدينة دمشق المحافظة تهيمن الأفكار الإسلامية المحافظة، وكبار السن في عمر المرحوم والدكم، ربما ينظرون هذه النظرة. ولكن نحن الآن في محاولة تقويم حركة طلابيَّة شبابية، وجامعيين في الأوساط العلمية الجامعية، فسؤالي هنا المحدَّد: هل نستطيع أن نقول بأن عدد الحزبين في سنة 1943 وما بعدها عند تأسيس حزب البعث العربي، والذين التفّوا حول ميشال عفلق وصلاح الدين البيطار، هل كانت أكثريتهم الساحقة من الأقليات الدينية…
ج: … لا، هنا في دمشق، الذين كانوا حول الأساتذة عند تأسيس الحزب هم من المسلمين السُّنة. وأنا أريك الأسماء، جميع الأسماء، وهي موجودة عندي. وأسماء الفِرَق الحزبية. ولكن، في الأخير، وبعد انتشار الحزب في مختلف المناطق السورية، بعد انعقاد المؤتمر التأسيسي الأول وبعد انقلاب حسني الزعيم 1949، توسَّع الحزب كثيراً. ولكن، أنا، بعد المؤتمر التأسيسي ذهبت إلى فرنسا، فلم أعد أعرف الشىء الكثير وبالتفصيل عن تلك المرحلة…
س: … لا، نحن لا نزال نتحدث عن مرحلة 1943 وما بعدها بقليل. إذن، غير صحيح الرأي الذي يقول بأن حزب البعث منذ نشوئه كان حزب أقليات طائفية.
ج: … لا، كان حزباً يضم النخبة المثقفة…
س: … ولكننا من الممكن أن نقول بأن الحزب كان يضم أيضاً طلاباً من الأرياف…
ج: … هذا صحيح …… وكان كثير جداً من طلاب القسم الداخلي في مدرسة التجهيز الأولى في دمشق، الآتون من الأرياف المحيطة بعثيين.،. هذا إذا لم أقل بأنهم كلهم بعثيون أو أصدقاء وأنصار لحزب البعث.. وكان عدد طلاب القسم الداخلي في مدرسة التجهيز في دمشق في الأربعينات وفي المرحلة التي نتحدث عنها، ما يقرب من مئتي (200) طالب. ومعظمهم ينتمون إلى الطائفة الإسلامية السُّنيّة وكان معهم طلاب دروز وإسماعيليون ومسيحيون… مثلاً موسى رزق وهو مسيحي من "صدنايا"، محمود سعدى من "دار عطيَّة" محمود حكيم من "دوما"… يعني، ما أريد أن أقوله بأن القسم الأكبر من طلاب القسم الداخلي أو الغالبية من المسلمين السُّنة.
ولكن لقد كان في تلك الفترة جمعية "شباب محمد"، وبعد ذلك تحوَّلت إلى "جمعية الإخوان المسلمين" ومؤسسها الشيخ مصطفى السِّباعي، هؤلاء لاقوا صدىً واسعاً في الأوساط الجماهيرية الدمشقية أكثر من حزب البعث. هذا هو الواقع. الشعب في طبيعته محافظ. تصوَّر مثلاً أن الأستاذ ميشال عفلق سقط في الانتخابات عام 1949 وهو وزير. (كان وزيراً في الحكومة الأولى بعد انقلاب عسكري في عهد الحناوي..).
س: … سؤال آخر حول دور الأستاذ زكي الأرسوزي في تكوين البعث عند نشوئه…
ج: … أنا أجهل كل شىء حول هذا الموضوع. أجهل هذا تماماً. أنا كل ما أذكره هو أننا في الخمسينات، عندما نملّ من متابعة المحاضرات ودروسنا الجامعية في جامعة دمشق، "ننزل" إلى مقهى "الهافانا"، نجد الأستاذ زكي الأرسوزي كأستاذ قومي وله هذا الصيت، محاطاً بمجموعة من الشباب. فيحكي لنا عن اللغة العربة وأشياء من هذا النَّوع. أما في القضايا السياسية فلا يتحدث أبداً….. وكما أذكر فإن زكي الأرسوزي كان يتَّهم كل العالم وأكاد أقول دون استثناء: فيقول عن ميشال عفلق إنه من أصل يوناني وعن صلاح الدين البيطار إنه كردي. فأنا مرة سألت الأستاذ صلاح الدين البيطار، فقال لي: إن عائلته من أصل مغربيّ. أما مَن هو من أصل كردي فهو الدكتور مدحت البيطار. فسألت مدحت البيطار، نفى ذلك…
س: … قلت إنك في عام 1941 شاركت في حركة نصرة العراق، هل كنت تسمع بتكتل من الشباب حول زكي الأرسوزي، أو مجموعة من الطلاب تحيط به…
ج: … قلت لك بأنه كان معي في الصف مسعود الغانم وسليمان العيسى… كانوا يتحدثون بأنه فاتح بيته لهم، فيأكلون عنده، وإذا كانوا من القسم الداخلي ينامون في القسم الداخلي معنا، وإذا لم يكونوا كذلك، يذهبون إلى بيت الأرسوزي. وكان فاتحاً لهم بيته…
س: … هل دعيت أنت لحضور جلسة من جلساته من أجل تأسيس حزب أو ما شابه ذلك؟
ج: … لا، أبداً، ولا أعتقد بأنه كان يفكر في تأسيس حزب سياسي. لقد جاؤوا من اسكندرون، وذهبوا أولاً إلى حماه وفُتحت لهم مدرسة وقسم داخلي فيها، بعد ذلك قِسْم منهم جاء إلى الشام (دمشق) وقِسْم آخر ذهب إلى حلب. (صدقي إسماعيل ويوسف سقرا وقسم من اللوائيين المسيحيين جاؤوا إلى دمشق ودخلوا في القسم الداخلي في مدرسة التجهيز الأولى…) ومن هؤلاء المسيحيين: سابا سابا، حنا سابا، أركاديوس حكيم…
س: … هل يمكن أن تعطيني صورة عن الأرسوزي من خلال جلساتك معه في مقهى "الهافانا"؟…
ج: … في تلك الفترة، الأرسوزي كان مأخوذاً بفلسفة اللغة العربية. في الحقيقة والواقع، لم يكن يتكلم دائماً بطريقة جدية… يتحدث عن أصل الكلمة ومن أين أتت واشتقاقاتها…… أنا زوجتي سويدية وتزوجنا سنة 1958 في أيام الوحدة… [….]
س: … طيِّب، نعود إلى الأرسوزي، لأن الحديث حوله لإجلاء الحقيقة، يأخذ بالنسبة إليَّ شيئاً من الأهمية: مدى أثره في نفوس الشباب آنذاك وفي أوساط الطلاب وأجوائهم؟!…
ج: … أنا بالنسبة إليَّ، لا أثر له في نفسي، ليس له أيُّ أثر… فهو في تلك الفترة لم يدرِّس هنا في دمشق حتى يكون له أثر. درَّس في أنطاكية في لواء الاسكندرون، ثم جاء إلى الشام (دمشق) ومن هنا ذهب إلى العراق ـ بغداد، وبعدها عاد إلى سورية ودرَّس في حماه (الحقيقة، أن الأرسوزي درَّس في مختلف محافظات سورية: دير الزور، حمص، حلب ومن ثمَّ أخيراً ربما في دمشق…) وجلساته في مقهى "الهافانا" كانت في أثناء الوحدة بين سورية ومصر….. أنا هنا أريد أن أصل إلى شىء وهو أننا نحن كنا نحتفل في 15 كانون الأول من كل سنة، بذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وندعو جماعة من الأشخاص المحاضرين للالتقاء بهم، مرة جاء أحد الأشخاص من لبنان، ومرة أخرى دعونا زكي الأرسوزي ليلقيَ كلمة في أحد اجتماعاتنا: فتحدث عن العرب من المحيط إلى الخليج وأن أوضاعهم لا تزال حتى الآن "عجْرَة"… فهو من هذه الناحية كان جريئاَ ويقول الأشياء وتعريتها… ويوم وقعت هزيمة حزيران 1967، سألت زكي الأرسوزي عما حصل، فقال: كل الزعماء العرب خونة من المحيط إلى الخليج… يجب أن تتصل بمنير العبد الله وتتحدث معه، فهو صديق الأرسوزي ويعرفه جيداً.. فأنا لا أريد أن أتحامل عليه. فأنا لا أعرف شيئاً عنه. ولا أريد أن أكون سلبياً، فأنا لا أعرفه إلاّ من خلال الجلسات التي نجلس معه فيها في مقهى "الهافانا"، وهي جلسات لم تكن جديَّة: فكان يحكى لنا عن اللغة العربية والكلمة وأصلها…. وكان سلبياً مع الكل. وهذا، المسكين، نتيجة الإحباط الذي أصابه، frustration، كان آملاً شيئاً وصار شيئاً آخر…
ألم نُصاب نحن بالإحباط نتيجة الوَحدة بيننا وبين مصر… نحن مجموعة دعونا مرة جلال السيد إلى لقاء، هنا، وكان جميع الأصدقاء موجودين. واستلم هو الكلام، وعندما يتكلم جلال السيد، فلا يدع أحداً يتكلم معه. فقال لهم: يظهر أننا نحن لم نكن نؤمن بالديمقراطية. نحن ـ يقصد حزب البعث ـ أيَّدنا انقلاب حسني الزعيم. وكذلك أيَّدنا انقلاب الحنَّاوي وأصبح الأستاذ ميشال عفلق وزيراً في الحكومة الأولى لهذا الانقلاب. ونحن أيضاً بعد ذلك أيَّدنا انقلاب أديب الشيشكلي. ومعنى ذلك أننا ـ يقصد دائماً حزب البعث ـ لا نؤمن بالديمقراطية. ثم، نحن نقول بالوحدة العربية، ولكن كيف سنحقِّق الوحدة وما هي مراحل تحقيق هذه الوحدة. إننا نطلق شعارات دون أن نعرف ماذا تعني هذه الشعارات. الاشتراكية!!.. ما هي الاشتراكية وما هو نوعها؟.. لا نعرف… هذه الأشياء، عندما تحدث عنها، والجميع سكت…
س: … يعني، هنا لي وجهة نظر على ما قاله جلال السيد: هذا ما يمكن أن نسميَه ملاحظة أو وصف الواقع، كما هو واقع في ظاهره الخارجي البادي للجميع. وهذا لا يحتاج بالتالي إلى أيِّ ذكاء خارق. إنما، في رأيي، أهمية طرح السؤال وهو الإجابة عنه: لماذا نحن وصلنا إلى ما وصلنا إليه؟!… هذا هو المهم: الإجابة عن لماذا؟!. الإجابة عن السؤال: لماذا نحن غير ديمقراطيين؟!.. لماذا نحن لم نعمل على توضيح مفهومنا للديمقراطية، ومضمون الديمقراطية في بلادنا في الوقت المناسب؟!.. لماذا نحن لم نحسن تحقيق الوحدة وتطبيقها كما يجب أن تُطبَّق؟…. وبالتالي، الجميع يعلم أن الوحدة قد فشلت، فالسؤال: لماذا شلت الوحدة وما هي أسباب فشلها؟!.. كذلك وفي السياق نفسه، لماذا نحن لم ننجح في تطبيق الاشتراكية ولو على مراحل؟!…
وهو، جلال السيد، بكلامه يدين نفسه ويتحمل هو أيضاً المسؤولية الكبرى في فشل حزب البعث وعدم نجاحه في تحقيق مبادئه الأولى وتوضحيها وتفسيرها… وهو كان نائباً عن حزب البعث في الانتخابات التي جرت في عهد الحناوي واستمر في قيادة الحزب حتى سنة 1954، ويبدو من خلال المعلومات عندي أن علاقاته بأعضاء الحزب في محافظة دير الزور وهي منطقته، لا يمكن بحال أن تتَّصف بالديمقراطية على الإطلاق. والدليل على ذلك أنه فُصل من حزب البعث في دير الزور بالإجماع، وهي منطقته. أن يأتي ويقول الآن إننا غير ديمقراطيين وإننا فشلنا في كذا وكيت، صحّ، هذا واقع…. ولكن، لماذا فُصل من الحزب وبالإجماع في منطقته، دير الزور؟!… قد يقول، وهو فعلاً يقول: هؤلاء هم الشيوعيون!!…
ج: … هذا كلام… أنا لا أريد أن أدافع ن الأستاذ جلال السيد، لأنه سوف ينصفه التاريخ يوماً ما. ولكن، أنا أسألك سؤالاً: لماذا هذه المبادئ القويمة والسديدة التي كنا قد تبنَّيناها فشلت فشلاً ذريعاً عند التطبيق وظهرت كما هو بادٍ أمام أعيننا وكما تشاهدونه جميعاً؟!… (هنا إشارة إلى الوضع في سوريا).
س: … هذا هو السؤال الذي أعمل أنا واتصل وأناقش البعثيين أنفسهم واستمر حتى الآن من أجل الإجابة عنه؟.. ومقابلتي معك وكذلك مقابلتي مع الآخرين. أتمنى أن أصل في نهاية المطاف إلى الإجابة عن هذا السؤال، إجابة علمية موضوعية تاريخية إلى حدٍّ ما….
ج: … أنا أوضِّح لك: إنني كطبيب أقول: لا أقدر أن أداوي أيَّ مريض، إذا لم أشخِّص مرضه، وأعرف ما هي صفاته. وعندما أدرك صفاته، أشخِّص عندئذ مرضه. وهذا أرجو أن يكون بيننا وليس للنشر. نحن قلنا بالوحدة العربية، ونحن في تاريخنا الحزبي لم نكن نفرِّق بين علوي ودرزي وإسماعيلي وسنّي ومسيحي. لم نكن فرّق قطّ في حياتنا الحزبية. ونحن الذين لم نكن لنفرِّق فيما بيننا، ولكن عندما جدَّ الجدّ ووصلنا إلى التطبيق العملي لمبادئنا، بتنا طائفيين. لماذا؟!… ( هذا هو السؤال!!…). لأننا نحن متخلِّفون. نحن متخلِّفون….
س: … أنا أوافقك الرأي. وهذه هي وجهة نظري: نحن نعيش في مجتمع متخلِّف، بغض النظر في أحيان عن بعض المظاهر الخارجية. وهذا المجتمع المتخلِّف يعكس مظاهر وعلاقات التخلِّف في مجمل الحركات السياسية في بلادنا، ومنها حزب البعث العربي الاشتراكي…
ج: … والتخلُّف لا يبدو فقط على المستوى السياسي، وإنما يتبدّى لك أيضاً في سلوك الناس وعلاقاتهم فيما بينهم. وهذا يعني أن ضغط المجتمع المتخلِّف هو الأقوى والأشدّ والأمضى. هناك مفاهيم سائدة لا يؤمن بها الواحد منا، ولكنه لا يستطيع أن ينتقدها ولا يمكنه أن يجاهر بذلك. وهناك مفاهيم أخرى يوافق عليها ظاهرياً ويؤيدها كذباً ولكنه في سلوكه وحياته اليومية يقوم ويمارس عكسها وينقضها…. بمعنى أنه يناقض ما كان قد وافق عليه ظاهرياً…
كيف أن مفاهيم فرضوها (مؤسسو الحزب) علينا وقبلناها وهي: أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة. ولكن، يا أخي، هذه الأمة أضحت مِللاً وفِرقاً وشِيَعاً. وكل فرقة وكل ملَّة وكل طائفة لها مشاكلها. فأنا عندما دخلت إلى حزب البعث العربي. لم أكن مضطهداً دينياً، ولا مضطهداً اجتماعياً. وكنت والحمد لله طالباً متفوِّقاً… ولم يكن لديَّ أيُّ مشكلة خاصة إطلاقاً، وإنما كانت القضية الوحيدة بالنسبة إلينا هي أن تعود الأمة العربية وترجع وتنهض وتصبح كما كانت قوية. فأنا لم أكن مضطهداً طائفياً ولا اجتماعياً…. بمعنى أنه لم يكن عندي مشكلة شخصية، لا مادية ولا معنوية. هناك أناس كانت لديهم مشكلة أن الإقطاعيين يسيطرون عليهم. أنا لم تكن عندي هذه المشكلة. وهناك أناس آخرون ينتمون إلي هذه الطائفة الفلانية أو تلك، ويُنظر إليهم من الطائفة الإسلامية السُّنيَّة نظرة فوقية، نظرة استعلائية، نظرة استغلال واستثمار… ألم يستثمر البوايكة، وهم تجار الحبوب، الحوارنة المساكين؟!… فأنا لم تكن عندي هذه المشكلة قط…. بل أنا انتسبت إلى حزب البعث بهدف أن تعود الأمة العربية وترجع إلى مجدها العظيم… إنما عندما دخل "الإخوان" الآخرون (القصد هنا الأقليات من الطوائف الأخرى)، إلى حزب البعث، فقد كان لكل واحد منهم مشكلة، ومن بعدها بقيت معه هذه المشكلة واستمرت كما هي. وعندما وصل إلى السلطة، ظهرت تلك المشكلة وبانت على حقيقتها إلى العيان…
س: … طالما أنت فتحت هذا الباب وتطرقت إلى موضوع بالغ الأهمية، فأودُّ في هذا السياق أن أطرح سؤالاً: لماذا فشل حزب البعث العربي الاشتراكي في تحقيق مبادئه، في رأيك؟!…
ج: … أنا أقل لك: قلة الوعي والتخلُّف. ونحن جماعة عاطفيون، ولسنا عقلانيين…
س: … لقد عُرف عن حزب البعث العربي وبوجه خاص في بداياته الأولى أنه حزب "مثاليّ"، بمعنى قدوة ونموذج، ويجمع الشخصيات المثالية)، ويضمُّ المثقفين والمتعلمين الذين درسوا في الجامعات الأوروبية، إلخ… لماذا لم تستطع هذه النخبة من المثقفين أن تتجاوز الواقع المتخلِّف المريض وأن تعمل على تغييره علمياً وتطبيقاً على أرض الواقع الفعلي؟…
ج: … أنا أعتقد أنه كان هناك تسرُّع في الوصول إلى الحكم وإلى استلام السطلة… التَّسرُّع: يعني كان هناك، سياسياً، روح انتهازية. أنا عندما دخلت إلى حزب البعث، لم أنكر قطّ ولا في يوم من الأيام أن أكون في السلطة… إن تجربتي في الحزب وقناعتي الذاتية تدفعني إلى أن أطرح السؤال: هل أحد هؤلاء العسكريين الذين يتربَّعون على عرش السلطة هنا في سورية، والذين حكموا البلد، كان قد اطلع أو عرف ماذا يجري في العالم. هل قرأ كتاباً له قيمة فكرية ثقافية فلسفية سياسية، خارج عمّا كان مقرراً عليه في المدارس الثانوية أو بعدها في الكلية الحربية التي نال الإجازة فيها في فترة وجيزة؟!… ربما بعد ما ينتهي من الجيش ويتقاعد، يبدأ في القراءة وقراءة التاريخ.
هنا يروي حادثة مهمة حصلت معه في باريس أثناء دراسته ملخصها: التقى في غرفته النقيب عفيف البزري والطبيب سلمان قطايري وهو شيوعي، وجرى النقاش بينهما وكان عفيف البزري يستشهد كثيراً بآيات من القرآن الكريم، فقال له قطايري: يا أخي، ضع القرآن على جنب. فغضب عفيف البزري وهمَّ في ضربه… ثم وبعد مرور فترة من الزمن أصبح الفريق عفيف رئيساً للأركان للجيش في سورية عام 1957، واتهم بأنه شيوعي… وعندما ذكَّره أحمد بدر الدين بهذه الحادثة فيما بعد، قال له: صحيح، هذه كانت الدعاية أميركية وغربية (ينبغي التوسع في هذه الحادثة)… ثم يتابع د. بدر الدين حديثه فيقول: … اعترف البزري بأنه جرت الشائعات عنه أنه "الجنرال الأحمر". (لماذا، ومن أين أتت هذه التُّهمة بأن الفريق البزري شيوعي، ألم يكن لها أساس من الصحة؟!… الجواب: يجب أن تقرأ كتاب: "أسرار الانفصال"، يوضَّح كثيراً من الأشياء) وقلت له: يا أبا يوسف، عندما ذهبت على رأس ثلاثة عشر ضابطاً إلى مصر وقابلتم عبد الناصر وعرضتم عليه الوحدة بين سورية ومصر ماذا جرى أثناء ذلك؟!.. فقال البزري: والله، هو، أي عبد الناصر، لم يكن يريد هذه الوحدة. ولكننا ترجَّيْناه أن يقبل الوحدة وإلاّ وقع الشقاق فيما بيننا. وأُفهم عبد الناصر أنهم منقسمون، الضباط في الجيش…. فاشترط عليهم عبد الناصر شروطاً ثلاثة: (1) أن لا يتدخل الجيش في السياسة (2) ولا يريد وجود الأحزاب السياسية… (3) وإجراء استفتاء حتى يحصل على 99،99% من الأصوات…
* تعليق بدر الدين: وافقتم على أن لا يتدخل الجيش في السياسة، وهذا من حقِّهم، فأنتم تمثلون الجيش. ولكنكم قبلتم بحل الأحزاب السياسية ووافقتم على ذلك: مَن أنتم، وبأيِّ حقٍّ توافقون على ذلك؟… فغضب البزري وانهال بالسِّباب وكيل الاتهامات على الأحزاب في سورية… (انتهى التعليق) ويضيف د. بدر الدين: … كل هذا تخلُّف…… فهل أنت مغشوش به (بالفريق عفيف البزري) وبكل ما حصل…. هذا منتهى التخلُّف….
س: … هذا صحيح ومعروف للجميع، ولكن المشكلة ليست هنـا، وإنما لماذا لا ندرك أن ذلك كله تخلُّف وكله خطأ إلاّ بعد فوات الأوان ووقوع الواقعة؟!.. لماذا لا نعي ذلك في حينه؟!…
ج: … لعدم الوعي والإدراك في حينه، وسببه، كما قلت، التخلُّف (ليس فقط الاقتصادي أو الاجتماعي، وإنما أيضاً وبوجه خاص الثقافيّ والفكري والحضاري).
س: … في هذا السياق العام، أودّ أن أطرح عليك سؤالاً آخر، وأستفيد من معلوماتك الغنيَّة، بما أنك كنت دائماً على صلة وثيقة بالأساتذة المؤسِّسين لحزب البعث وكنت دائماً، كما تقول، أميناً للمال، للخزينة في الحزب، سؤالي هو التالي: ما هو تقويمك لشخصية الأستاذ ميشال عفلق وهل لك أن تقدِّم لي صورة عنه؟!…
ج: … بعد وفاة الأستاذ ميشال عفلق وأُعلن عن أنه اعتنق الإسلام، وأنا صِلاتي به كانت متينة، فهذه الأشياء لا أريد أن تُنشر. بعد حركة 23 شباط 1966، بعدما سمعت من بعض العسكريين أنهم يريدون أن "يصفّوه" (أي أن يقتلوه)، جئت به وأخبأته عندي في البيت. وهذا، رجاءً أن يكون الحديث بيننا. ويشهد الله على ما أقول إنه جاء ولا يحمل معه سوى القرآن. وبعدها سافر إلى طرطوس ومنها إلى لبنان…. وعندما كنت أُحْضر له الطعام خصّيصاً له، فكان يقول لي: لماذا كل هذا الطعام…. والله، سأعيش في حالة شظف، كما هي حالة الجماهير في العالم العربي والعالم الثالث. وأذكر مرة أنه قرأ لي آية من القرآن في "سورة الحجرات" أو شىء من هذا القبيل، تقول: "فلا تُذهب نفسِك حَسَراتٍ عليهم". فقال لي: هذا هو عزائي… يعني أن الرسول، عندما خُدِعَ من قِبَل جماعته أو عُذِب، فنزلت الآية والله يقول له: "لا تُذهب نفسَك حسراتٍ عليهم".
الأستاذ ميشال عفلق، كان رجلاً في منتهى النَّزاهة، فهو مثاليّ في سلوكه، عفيف النَّفس، نزيه إلى حد التّقشُّف. وكان يقرُّ (ربما في المراحل التالية من حياته) أنه لا يصلح للعمل الإداري ولا للقيادة، وإنما يصلح للتَّنظير، لا أكثر ولا أقل، ويقبل بهذا الموقع.. (هذا الاقرار بالواقع، كما يقول بدر الدين، ربما يكون قد حصلت لديه هذه القناعة بعد التجارب العديدة والقاسية والمريرة التي مرَّ بها هو شخصياً ومرّ بها الحزب معه). ولو يُعرض عليه في ذلك الحين أن يكون رئيس وزارة أو رئيس جمهورية لرفض، حتى وزيراً في حكومة لا يقبل. كان الأستاذ ميشال عفلق يُقرُّ بهذه الأشياء. لقد كانت نظرته، يمكن أن تكون الآن كما كانت نظرتنا، عندما دخلنا حزب البعث، بمعنى أن تكون الأمة العربية مستقبلاً على صورتنا…
س: … إذا أردنا أن نفسِّر الخلل في حزب البعث العربي الاشتراكي، ألا نعتقد أن شخصية الأستاذ ميشال عفلق، هذه الشخصية التي أنت الآن قلت عنها إنها غير إدارية ولا تنظيمية، ألا يمكن أن تكون سبباً (من الأسباب) في خلل الحزب وفشله، وذلك بصفته المؤسس الأول وبصفته الدائمة الأمين العام؟!… لأن الأمين العام يجب أن تتوافر فيه صفة أو صفات قيادية هي غير متوافرة في شخصية الأستاذ ميشال عفلق.
ج: … حتماً، هناك خلل، يوجد خلل، وهذا من أسباب التخلُّف…
س: … لو أردنا أن تقارن شخصية الأستاذ ميشال عفلق مع شخصية الأستاذ صلاح الدين البيطار، كيف تنظر إلى شخصية صلاح الدين البيطار؟!…
ج: … صلاح الدين البيطار كان سياسياً أكثر من الأستاذ ميشال عفلق. أذكر مرة أنه في سنة 1947 حصلت الانتخابات النيابية في سورية وترشَّح الأستاذ ميشال عفلق وصلاح الدين البيطار وعبد الرحمن المارديني. في ذلك الوقت وقع خلاف بين الأستاذ البيطار والأستاذ عفلق. والسبب في ذلك أن البيطار عمل أو حاول أن يتقرب إلى قائمة المشايخ، علماء الدين وكان عضواً فيها محمد المبارك… يبدو أن الأستاذ صلاح الدين البيطار حاول أن يتقرَّب إليهم. فغضب الأستاذ عفلق ونقم عليه، فوقع الخلاف والزعل بينهما. فعقدنا مهرجاناً أو بالأحرى اجتماعاً موسَّعاً من أجل مصالحتهما في بيت الأستاذ ميشال عفلق… فتكلم الأستاذ عفلق في البداية وقال في آخر كلامه: "الفكرة النبيلة يجب أن يكون جميع الوسائل إليها نبيلاً وعلى المستوى نفسه". فكان يُجْبر على أن يترشَّح للانتخابات حتى يقبل أن يرشِّح نفسه. (هنا يتحدث د. بدر الدين عن سبب سفر عفلق إلى البرازيل سنة 1950، بعد رسالته إلى حسني الزعيم، والخلاف الذي وقع بينه وبين صلاح الدين البيطار الذي كان ـ كما يقول بدر الدين ـ ناقماً عليه لكتابته هذه الرسالة.)
س: … كيف توضِّح لي شخصية الأستاذ صلاح الدين البيطار ويُقال بأنه لم يكن محبوباً من قِبَل الأعضاء البعثيين، قواعد الحزب، لماذا؟…
ج: … والله، أنا لا أعرف أنه لم يكن محبوباً داخل الحزب. ولكن يوجد تكتلات داخل الحزب، وهذه التكتلات تدفع الحزب وتجرُّه نحو اليسار حتى يستقطبوا حوله الجماعات الشعبية: مثل مصلح سالم ومجموعة دير الزور… ومرة في أحد الاجتماعات قلت أثناء النقاش لوهيب الغانم: أنت تمثل كتلة ولا يحقّ لك أن تتحدث باسم الحزب…. (يتحدث عن اجتماع ربما حصل أثناء الانفصال في بيت سامي السقّا. فترأَّس الاجتماع وهيب الغانم فاحتجّ بدر الدين قائلاً: لا يحق له أن يترأس الاجتماع لأنه رئيس كتلة، لذلك اقترح أحمد الخطيب أن يرأس الجلسة وهو حيادي… ويبدو أن أغلب الموجودين من الديريين. وهو لا يحبهم ويعتبرهم سفهاء… فهو لم ينسجم معهم.. ويقول بأن العشاوي في زمن الانفصال كان يحمل الشنطة للأستاذ جلال السيد بعد نجاحه في الانتخابات ويسير من ورائه أبعد من سبع خطوات… هذا العشاوي الذي "دخل" فيه صلاح جديد وجعل منه إنساناً. ويقول د. بدر الدين بأنه جمع في بيته صلاح الدين البيطار مع عدنان عقيل مدير المخابرات وخاصة بعد حركة 8 شباط 1963 ونجاح الانقلاب البعثي في العراق. وقال عقيل للبيطار: نحن مستعدون أن نسلّمكم الحكم، ولكن دون "هزّة"… وعدنان عقيل من أصحاب بدر الدين الذي تعرَّف عليه في باريس ومعه عفيف البزري، والإثنان درسا تبوغرافياً في فرنسا. عدنان عقيل اُتهم فيما بعد أنه شيوعي.
ثم يتحدث بدر الدين عن صلاته ببعض الضباط وتسليم ضابطين إلى عدنان عقيل بعد حوادث حلب أثناء الانفصال، وضمانته لهما، ويشير إلى زياد الحريري، رأس حركة انقلاب البعث، وحافظ الأسد وصلاح جديد وغيرهما من الضباط البعثيين لم يكونوا في الجيش، كانوا مسرَّحين، فعادوا إلى الجيش بعد 8 آذار وألقوا القبض على عدنان عقيل واُتهم بأنه شيوعي… وكذلك ألقوا القبض على نور الدين الدسوقي، النائب العام في المحكمة العسكرية، الذي كان قد أفرج، بواسطة بدر الدين وهو خاله، عن محمد عمران من السجن في الفترة السابقة… عبد الكريم الجندي هو الذي كان يتولى مسؤولية وضع الضباط والمواطنين والقائهم في الحبس… ثم ينهي قوله: فيا أستاذ: كله تخلُّف في تخلُّف، أغلاط بأغلاط… (وكانت هذه هي اللاّزمة طوال حديثه….)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(*) الأفكار في هذه المقابلة لم تكن متتابعة ولا متسلسلة، بل متقطعة ومتداخلة والانتقال من فكرة إلى فكرة أخرى، لذلك ومن أجل الوضوح، حاولت وضع اللغة المحكية أو الجمل المتقطعة أو غير المكتملة وعملت على إعادة الصياغة اللغوية كي تكون أكثر وضوحاً، مع المحافظة الكلية على المعنى وعلى المضمون والفحوى المقصود… فاقتضى الإشارة إلى ذلك…