محمد المجذوب: لا إكراه في العروبة كما لا إكراه في الدين
المقاومة أسقطت رهان الجيل العربي الصاعد على الأنظمة العربية
محمد المجذوب: لا إكراه في العروبة
كما لا إكراه في الدين
انطلق من عاصمة الجنوب والمقاومة صيدا، وراح يغرف العلم من ينابيعه الأصلية حتى نال شهادة الدكتوراه في الحقوق وتقلب في مناصب رفيعة حتى رئاسة الجامعة اللبنانية. وكانت تجربته نموذجاً للحكمة والنزاهة والتجرد والتواضع والعطاء المجاني.
هو من دعاة الوحدة الوطنية، والعيش المشترك، والمدافع الصلب عن القضايا القومية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، والحاضن للمقاومة اللبنانية التي أثبتت فاعليتها في ردع العدوان الصهيوني.
الدكتور محمد المجذوب، رئيس المنتدى القومي العربي، ورئيس الجامعة اللبنانية سابقاً، ونائب رئيس المجلس الدستوري سابقاً. كان معه هذا اللقاء.
1 ـ الانطلاقة كانت من صيدا، والتحصيل الجامعي كان في فرنسا، وبداية التدريس الجامعي وتبوؤ المناصب الجامعية كان في الجامعة اللبنانية. فهل كان للبيئة الصيداوية أثر واضح في توجهاتك الفكرية وتكوين شخصيتك الوطنية القومية؟
ـ كان لصيدا، حيث نشأت، ولكلية المقاصد الإسلامية حيث تعلمت حتى نهاية المرحلة الثانوية، أثر بارز في حياتي وتفكيري وسلوكي، ويمكنني تلخيص أهم الدروس التي تلقّيتها خلال تلك الفترة، بالآتي:
التشبت بالأخلاق الحميدة: فالأمم، كالأفراد، لا تزدهر وتتفوّق إلاّ بالتزامها الأخلاق الفاضلة في كل تصرّف. فالعلم المجرّد من الأخلاق مشروع كارثة. ولعل غياب (أو تغييب) الأخلاق كان من الأسباب الوجيهة التي أدّت إلى ارتكاب المجازر الوحشية في الحرب الداخلية اللبنانية.
وجوب إتقان اللغة العربية وتعميمها: فاللغة هي ذاكرة التاريخ، ووعاء الثقافة، وأساس الهُوية، ووسيلة الأمة لصون وحدتها والحفاظ على تراثها. والمؤلم حقاً أننا، في الوقت الذي نهتم فيه باتقان اللغات الأجنبية، نعمد، في المدارس والجامعات، إلى إهمال لغتنا العربية. ويحدث هذا في وقت يقوم فيه غيرنا بتنمية لغاته وتطويرها. ومن الصعب أن نجد أمةً متمسكةً بقوميتها تتعامل مع الغير بغير لغتها.
التسامح الديني، ونبذ التعصّب، واحترام الآخر، والانفتاح على الحضارات والثقافات: فصيدا، والمقاصد مثلها، كانت ولا تزال مضرب المثل في العيش المشترك. ولا يذكر أحد أن المدينة، أو المقاصد، شهدت منذ أجيال أحداثاً مذهبية أو خلاقات طائفية. وعندما كنت في الصفوف الثانوية في المقاصد الإسلامية كان عدد الطلاب المسيحيين يوازي عدد زملائهم من المسلمين.
التفاخر بالانتماء القومي، والتجاوب والتفاعل مع كل حركة أو انتفاضة تحررية. والعروبة، كما تعلمناها في صيدا والمقاصد، لا تختلف في شىء عن الرابطة القومية، بالمعنى الحضاري والإنساني في مفهوم القومية. والعروبة ليست هُوية طائفية تُستخدم في الأزمات والمعارك لخدمة مآرب طائفية. وهي ليست هُويةً دينيةً أومذهبيةً تحتكرها جماعة دون أخرى. فالإسلام بكل مذاهبه، والمسيحية الشرقية بكل مذاهبها، هما من الأركان العضوية والفاعلة في صرح العروبة. والعروبة ليست مذهباً سياسياً يرفع لواءه أنصار نظام أو حزب أو تيار، وإنما هي رابطة حضارية منزّهة عن الاعتبارات السياسية أو الحزبية.
إن العروبة فضاء نساني يستوعب كل المتأثّرين بالثقافة العربية مهما تكن أصولهم. إنها فكرة ثقافية لتراكمات حضارية، مُشبعة بقيم التسامح، واعتبرت الناس أحراراً في اختيار المذاهب والعقائد التي تلائمهم. إنها قاعدة تقوم على التآخي بين المكوّنات أو الأقوام العربية، فلا إكراه في العروبة، كما لا إكراه في الدين.
الاعتزاز بلبنان العربي، انتماءاً وهُويةً، واعتباره جزءاً غالياً من الوطن العربي الكبير، يتميّز بنظامه الديمقراطي الذي يسمح بالتعبير الحرب عن الشرعي والعقيدة دون قيود. ويكفيه فخراً أنه كان، منذ بداية النهضة العربية الحديثة، في طليعة المطالبين بالتحرر والسيادة، والعاملين على تعزيز الثقافة العربية وتطوير اللغة العربية، والمؤيدين والداعمين لحركات التحرير في أرجاء الوطن العربي.
في سبيل الجامعة
2 ـ تدرّجت في مناصب الجامعة اللبنانية، فكنت مديراً لأحد الفروع، وعميداً لكلية الإعلام، ثم عميداً لكلية الحقوق، وأخيراً رئيساً للجامعة، قبل اختيارك عضواً ثم نائباً لرئيس أو مجلس دستوري تمّ إنشاؤه في نهاية عام 1993. ما هي انطباعاتك عن هذه المرحلة؟
ـ أمضيت أكثر من 30 سنة في هذه الجامعة، وكنت من الرعيل الأول الذي باشر التدريس فيها عام 1958.
لقد اضطررت، وأمثالي من الطلاب اللبنانيين، إلى متابعة الدراسة الجامعية في الخارج لوجود جامعتين فقط (فرنسية وأميركية) في لبنان آنذاك يصعب على اللبناني المنتمي إلى غير الطبقة الميسورة الانتساب إليهما، بسبب ارتفاع الأقساط، ومحدودية العدد المقبول سنوياً، والضعف في اللغات الأجنبية. وعندما نلتُ، أنا وأترابي، شهادة الدكتوراه وعدنا إلى الوطن قررنا العمل من أجل إنشاء جامعة لبنانية توفر لكل طالب راغب في التخصص الجامعي فرصة الانتساب المجاني إلى هذه الجامعة. وفتحت الجامعة أبوابها عام 1958.
وتميّزت السنوات الأولى من حياة الجامعة بالنضال المتواصل الهادف إلى استصدار قانون للجامعة، واستعمال كلياتها، وإقرار مبدأ التفرّغ فيها، وإنشاء الاتحاد الوطني للطلاب، وشراء العقار في الشويفات (الحدث) لإقامة المجمّع الجامعي الموحّد فيه. ولكن الحرب اللعينة التي اندلعت في العام 1975 كانت شؤماً وبؤساً وكارثةً على الجامعة، وعلى مختلف المؤسسات في الدولة كذلك. لقد تشوّهت وتوارت، تدريجياً، مبادئ الجدارة والاستحقاق والكفاية والمساواة، وحلّت محلها آفات التدخل والتحيّز والفساد والمحاصصة. ولم يتمكن اتفاق الطائف والتعديلات التي أدخلت على الدستور من تغيير هذا السلوك الذي أسفر عن تقزيم القِيَم وإلغاء المبادئ وقلب الموازين.
وحاولنا، مع العديد من الزملاء، أن نتصدّى لهذا الفساد المستشري، فلم يحالفنا التوفيق، وذلك لعدة أسباب، أهمها تدخل أمراء الحرب في شؤون الجامعة، وتشتّت أهل الجامعة، وانغماس معظمهم في الجاذبات السياسية وإهمال واجباتهم تجاه جامعتهم.
وما أصاب الجامعة أصاب المجلس الدستوري. لقد اعتُبر إنشاؤه في لبنان، في نهاية عام 1993، حدثاً ديموقراطياً ضخماً، وخطوةً جبارة على طريق ترسيخ أسس دولة القانون والمؤسسات. ولم يُخيّب المجلس الأول الآمال، فكانت قراراته موضع فخرٍ واعتزاز. ولكن السياسة تدخلت في أمور هذه المؤسسة القضائية فشلّت حيويتها وأجهضت مكاسب انطلاقتها الأولى الوطنية والقومية.
3 ـ أنت الآن، ومنذ سنوات، رئيس المنتدى القومي العربي في لبنان، فهل تلمس تناقضاً بين النزعة الوطنية (أو القطرية) الشعور القومي؟
ـ لا تناقض بين الأمرين ومن الأفضل استخدام مصطلح الخصوصيات الوطنية أو المحلية بدلاً من كلمة النزعة، إلاّ إذا كان الأمر يتعدى الخصوصيات إلى التمايز والرغبة في الابتعاد عن روح الوحدة القومية.
في كل أمة خصوصيات محلية تشكل عناصر متكاملة في الفسيفساء القومية. ومكوّنات الأمة العربية، أو مقوماتها، معروفة وهي متلاحمة ومتشابهة وليس بإمكان كيان في الأمة الادّعاء بوجود اختلافات وتباينات مع مقومات أمته تجعل منه أمة أخرى لا تربطها بأمته أية علاقة قومية.وعليه في هذه الحالة أن يثبت وجود عناصر قومية لديه متمايزة تختلف كل الاختلاف عن العناصر التي تجمعه بأمته الأصلية.
إن التباين في النظمة السياسية والاجتماعية، والسياسات الخارجية، والمواقف من الأحداث الدولية لا يُشكل مطلقاً تنكراً للرابطة القومية.
لقد حاول بعض أنصار النزعة القطرية المتطرفة تحويل القطرية إلى قومية، تمهيداً لإعلان انسحابهم من الإطار العروبي، غير أنهم فشلوا، لأن الأحداث أثبتت أن الأمة العربية كتلة واحدة تتأثر بما يُصيب أجزاءها.
4 ـ ما رأيك في المقاومة اللبنانية التي حرّرت عام 2000 وتصدّت اليوم للعدوان الغاشم ببسالة؟ وما رأيك في المواقف المطالبة بنزع سلاحها في إطار القرار 1559؟ وهل هناك وسيلة ناجحة للتصدي للعدو غير طريق المقاومة؟
ـ لقد حققت المقاومة اللبنانية بقيادة "حزب الله"، في العامين 2000 و2006، إنجازين لا سابق لهما في المنطقة العربية، ففرضت على العدو الصهيوني، في الإنجاز الأول، انسحاباً كاملاً بلا قيود أو تنازلات، وتصدّت في الإنجاز الثاني، ولمدة 33 يوماً، للآلة العسكرية للعدو الذي استخدم شتى أنواع الأسلحة التدميرية، المحرّمة دولياً وإنسانياً.
واستطاعت المقاومة بذلك تغيير وجه التاريخ في صراعنا مع العدو، وإعادة الثقة بالنفس إلى الأمة، وتحطيم الكثير من الأساطير والأوهام التي كان لها تأثير بالغ في تعميق الإحباط العربي وتكريس الغطرسة الإسرئيلية.
لقد كان للمقاومة اللبنانية تأثير إيجابي في أنحاء الوطن العربي، بحيث أصبحت مثالاً يُحتذى للجيل العربي الصاعد، وبوصلةً رائدة في صراعنا مع العدو.
ومن روائع الإنجازين أنهما ألغيا، من الذاكرة العربية، الأفكار الانهزامية التي راجت بعد هزيمة الخامس من حزيران، ورسّخا فكرةً جديدةً تتلخّص في قدرة مجموعة من الشباب العربي، المؤمن بربه ووطنه، على إلحاق الهزيمة بالعدو وطرده من الأراضي العربية المحتلة.
وقدرة المقاومة على إحراز النصر، رغم انعدام عنصر التكافؤ في السلاح، جعلت الجيل العربي الصاعد يُسقط الرهان على الأنظمة العربية الحاكمة وجيوئها الجرارة وأسلحتها المكدّسة، ويفضّل الاعتماد على سلاح المقاومة لإنهاء العدو. فالواقع أن هذه الأنظمة فشلت في انتزاع أي نصر من العدو، إما بسبب غياب التنظيم والتعاون، وإما بسبب رداءة السلاح وعدم أهلية القيادة، وإما بسبب الارتهان لإرادة الغير والتخلّي عن وقفات العز. وهناك دول عديدة (فيتنام ويوغوسلافيا السابقة والجزائر) عانت، كما نعاني نحن اليوم، من قسوة الاحتلال، ولكنها استطاعت بفضل المقاومة وحدها، طرد جيوش المحتل واستعادة السيادة والحرية.
والقرار 1559، الذي أصدرته الإدارة الأميركية وإسرائيل وأتباعها، بلسان مجلس الأمن الدولي، يعتبر المقاومة ميليشيا إرهابية ويطالب بنزع سلاحها وحلّها. والحقيقة إن شرح هذا الموقف لم يعد بحاجة إلى ردّ أو توضيح، لأن الإدارة الأميركية مصممة على إدراج كل عمل يُسيء إلى إسرائيل في خانة الإرهاب الدولي.
5 ـ مشكلة لبنان التاريخية هي مشكلة الوحدة الوطنية التي كانت ولا تزال غلافاً شفافاً لكثير من الأمراض الطائفية والمذهبية. هل ترى أن من الممكن الخروج من هذا المأزق المزمن؟ وكيف الوصول إلى وحدة وطنية حقيقية ودائمة؟
ـ إن هذه العلّة ستبقى على قيد الحياة ما دام هناك زعماء ومسؤولين يعتمدون على تأجج الشعور الطائفي للبقاء في سدة الحكم والسيطرة على مقدرات البلاد. إن إلغاء الطائفية السياسية وما تُفرزه من منازعات وتشنّجات لا يتمّ إلاّ تدريجياً، بالإكثار من القوانين والأنظمة غير الطائفية، وتعميم التربية والبرامج المدرسية الوطنية المناهضة للطائفية، وإيصال نواب إلى الندة البرلمانية، والإتيان بموظفين كبار إلى مراكز القيادة الإدارية، يتمتعون بميزات واتجاهات غير طائفية.
إن القيادة السياسية في لبنان تتحمل القسط الأوفر من تفاقم النزعة الطائفية والتعصّب المذهبي في البلد. ولا نبالغ إن أكدنا أن إلغاء الطائفية، أو الحدّ من وطأتها وغلوائها على الأقل، مرتبط إلى حدّ كبير بتحقيق ثلاثة أمور: تغيير القيادة السياسية الحاكمة التي فشلت في إنقاذ البلد من الأزمات والمخاطر التي تعرّض لها منذ الاستقلال، وظهور أحزاب شعبية لا طائفية قادرة على استقطاب المواطنين وتسلّم مقاليد الحكم، والانكباب على تطبيق برامج إصلاحية كفيلة بتوفير العدالة والمساواة والضمانات الاجتماعية لكل المواطنين.