صيدا بين الفاطميين والفرنجة
صيدا بين الفاطميين والفرنجة
1097 ـ 1291م
الدكتور إبراهيم رزق الله أَيُّوب
لعل حروبَ الفرنجةِ التي أدّت إلى احتلالِ أجزاءٍ من الشرقِ بين 1097 ـ 1291م، وتجاذبَ السيطرةِ على صيدا مع الفاطميين، ثم الأيوبيين، فالمماليك، كانت لهما نتائجُ بعيدةٌ، بما تركته بين الصيداويين بصورةٍ خاصّة والعربِ بصورةٍ عامّة، وبين الإفرنج، من آثارٍ، وما أنشأتْه بينهم من علاقاتٍ اجتماعيةٍ، كانت عاملاً مهمّاً، ساهم في التطوُّرِ الاجتماعي والاقتصادي، ونقَل بعضَ معالمِ الحضارةِ العربيةِ إلى الغرب. وهو ما سنُبيّنه فيما يلي.
تعد مدينة صيدا من أقدمِ مدنِ لبنانَ الساحليةِ الجنوبية. وهي تحتلّ موقعاً طبيعياً على شاطىءِ البحرِ الأبيضِ المتوسط، خَلفَ رأسِ داخلٍ في البحر، تحيط به من الشمالِ مجموعةُ جزرٍ صغيرةٍ ـ طولُها كيلو مترٍ واحد ـ كوَّنَتْ حاجزاً طبيعياً يقي المراكبَ شرَّ أمواجِ البحر. ولها ثلاثْ بوابات، وقلعة (بحرية) محكمة، وأسواق نظيفة (1).
هذا الموقعُ الفريدُ، جَعَلَها ميناءً بحرياً ممتازاً، ومركزاً تجارياً مزدهراً، وبخاصةٍ تجارةَ الأقمشةِ والنحاس والرقيق بفضل سيادتها البحريةِ وتقدمِها على غيرِها من المدن الساحلية منذُ الألف الأولِ قبلَ الميلاد (2). وحافظتْ على المركزِ المتقدِّم في العهد الفارسي، قبلَ أنْ يصمِّمَ أبناؤُها على الموتِ حرقاً بالنارِ داخلَ بيوتِهم عامَ 350 قبلَ الميلاد (3).
استسلمتْ صيدا عامَ 636م (4) لجيشِ يزيد بن أبي سفيان ـ والي دمشق ـ زمنَ الفتوحاتِ الإسلاميـة. ثم خضعتْ كغيرها من المدنِ الساحليـةِ للفاطميين على يدِ جوهرٍ الصقلّـي ـ قائدِهِم ـ عامَ 969م (5).
جَعَلَ الفاطمييون على ولايةِ صيدا "أبا الفتح عبيدَ الله بنَ الشيخ" في بدايةِ عهدِهم. في حين أنَّ الخليفةَ الفاطمي ـ الحاكمَ بأمرِ الله ـ أَقْطَعَ صيدا وصورَ وبيروتَ "الفتحَ القلعي" الملقَّبَ بـ "مباركِ الدولةِ وسعدِها" عامَ 1015م (6). ثم صارتْ عامَ 1070م في جملةِ ولايةِ أميرِ الجيوشِ بدرِ الجمالي، في حين جاءَ مقدَّمُ الأتراكِ بالشامِ لنجدةِ والي صور ـ عينِ الدولةِ بنِ أبي عقيل ـ القاضي، فاستسلمتْ صيدا للجمالي، بعدما حاصَرَهَا وضَيَّقَ الخناقَ عليها وعلى مَنْ فيها (7).
ومِمَّا يؤخذُ على سياسةِ التوظيفِ الإداريةِ الفاطميةِ، اختيارُ الأشخاصِ من بينِ الأُسَرِ الكبيرةِ والغنية. فأَصبحتِ الوظائفُ فيما بعدُ شبهَ وراثيةٍ. فكان هذا سبباً في التقاتُلِ بين فئاتِ الشعبِ وطوائفِه (8). لكنَّ ذلك لا يعني أنَّ وُلاةَ الدولةِ الفاطميةِ على صيدا، كانوا أَقلِّيَّةً، بل على العكس، فقد زادّ عددُهُم على الخمسةَ عَشَرَ والياً، عندما سيطرَ صلاحُ الدينِ على الخلافةِ الفاطميةِ، وأقامَ الدولةَ الأيوبيةَ مكانَها 1171م (9).
تكرَّرتْ هجماتُ الرومِ (البيزنطيون) لاستعادةِ سيطرتِهم على الشاطىءِ الشرقيِّ للبحرِ الأبيضِ المتوسطِ بعدَ فُقْدانِهِ، منذُ الفتحِ الإسلاميِّ، في النصفِ الأوَّل من القرنِ السابعِ الميلادي. فاستطاعَ الامبراطور "يوحنَّا زيميس" (Zimice) 974 ـ 976م أن يفرضَ الجزيةَ على صيدا في أثناءَ حَمْلَتِهِ على البقاعِ وساحلِ لبنانَ وفلسطين (10). ومع هذا، بقي على الفرنجةِ أن ينتظروا قرناً آخَرَ قبلَ أنْ يتمكَّنُوا من تثبيتِ أَقدامِهِمْ على الشاطىءِ اللبنانيِّ، ومنه بالطبعِ مدينةُ صيدا، إذْ إِنَّ سلسلةً من المعاركِ، بين الفاطميين والفرنجةِ، استمرَّتْ على مدى هذا القرنِ، كان النصرُ فيها حليفَ الفاطميين حيناً، والفرنجةِ (الصليبيون) حيناً آخَرَ (11) ومنها:
ـ سَقَطَتْ القدسُ بأيدي الفرنجةِ في تموز 1099م. بينما صمدتْ صيدا أمامَ حصارِهِم لها من البحرِ والبرِّ عامَ 1108م. ولا سيَّما عندما جاءتْها النجدةُ من الفاطميين، بوصولِ الأُسطولِ المصريِّ إِليها وانتصارِهِ على المراكبِ الجَنَوِيَّةِ في البحرِ والمحاصَرينَ في البرِّ (12).
ـ ولما عاوَدَ الإِفرنجُ غزواتِهِم المتكرِّرَةَ في العامِ التالي 1109م. لمدنِ الساحلِ، شكا أهلُ صيدا ضعفَهُمْ أمامَ تلك الغزواتِ، وطالبوا الفاطميين ببقاءِ الأسطولِ المصريِّ على ساحِلِهِمْ. لكنَّ رجاءَهُمْ لم ينفعْ لأَنَّ الأُسطولَ سُرْعانَ ما قَفَلَ راجعاً إلى مصرَ (13).
ـ أمَّا في سنةِ 1110م، فحاصرَ "بغدوين" ملكُ الفرنجةِ في القدسِ مدينةَ صيدا حتى تَمَّ له فتحُها بعدَ حصارٍ دامَ سبعةً وأربعينَ يوماً. ثُمَّ فَرَضَ على المدينةِ عشرين أَلفِ دينارٍ، بعدما سَمَحَ لِمَنْ أرادَ مِنْ سكَّانِها بالخروجِ منها والالتجاءِ إلى دمشق (14).
وهكذا، ظلَّتْ مدينةُ صيدا خاضعةً للفرنجةِ منذُ فتحِهِمْ لها عامَ 1110م إلى أنْ عادتْ إلى سيطرةِ الدولةِ الأيوبيةِ على يدِ السلطانِ صلاح الدينِ يوسفَ بَن أَيوبٍ عامَ 1192م. عندما عُقِدَتْ بينه وبينَ الفرنجةِ هُدْنةٌ مدَّتُها: ثلاثُ سنينٍ وثلاثةُ أشهُرٍ وثلاثةُ أيام (15).
نستطيعُ القولَ بعدَ هذه المقدِّمةِ الموجَزَةِ: إِنَّ الفرنجةَ قد تجاذبوا السيطرةَ على مدينةِ صيدا فترةً غيرَ قصيرةٍ (1110 ـ 1291) مع الفاطميين ثم الأيوبيين فالمماليك.
الحالة الاجتماعيـة
في تلك الفترة من تاريخِ مدينةِ صيدا، كان السوادُ الأعظمُ مِنَ الشعبِ الصيداويِّ مؤلَّفاً مِنَ:
1 ـ العربِ المَشَارِقَةِ، المنتسبينَ إلى قبائلَ أصيلةٍ من شبهِ جزيرةِ العربِ، ومنْ بعضِ القبائلِ المغربيةِ، وتأتي في المقدِّمَةِ قبيلةُ "كتامة" المغربيةُ التي كانتْ من أُولَى القبائلِ التي تقبَّلَتِ المذهبَ الفاطميَّ وانتصرتْ لدولتِهِم، وجاءتْ مع جيوشِهِمْ، بدايةَ فتحِ مصرَ وبلادِ الشامِ حيثُ اتَّخَذَ أبناؤُها مَرْبَعاً لهم.
2 ـ بعضِ الجماعاتِ والجالياتِ الإفريقيةِ من تُجّارٍ وصُنَّاعٍ قد استقرَّتْ في المدنِ الساحليةِ، ومنها صيدا (16).
3 ـ جماعةٍ من الفرسِ كان قد أتى بهم معاويةُ بنُ أبي سفيانَ إلى طرابلسَ وجبيلَ وبيروتَ وصيدا ليسكنوها (17).
4 ـ جماعةٍ من النصارى الذين آمنوا بالسيِّد المسيحِ عن طريق الكرازة، كما يقول صاحبُ أعمال الرسلِ (18)، فضلاً عن الإرشادات الواردةِ في الأناجيل (19).
5 ـ جاليةٍ صغيرةٍ من اليهود.
6 ـ وأخيراً، جماعاتٍ من الغزِّ والتركمانِ والخوارزمية الذين أُدْخِلُوا إلى الساحلِ اللبنانيِّ منذُ منتَصَفِ القرن الحادي عشرَ الميلادي، وفي أثناءِ حكمِ المماليكِ إِلى أنْ تسلّمَ مركزَ الولايةِ في مدينة صيدا غَيْرُ والٍ، منهم: بُجْكُمُ التركي (1014 ـ 1016م). وأَقْسِزُ الخوارزميُّ التركمانيُّ (1076 ـ 1078) (20)، وسعدُ الدولةِ منصورُ أَسْتَكِين (1098 ـ 1100م).
وعلى الرُّغْمِ منْ تعدُّدِ الطوائفِ والمذاهبِ والأصولِ والأجناسِ في المجتمع الصيداوي، فإنَّ الأُلفةَ كانت سائدةً فيه، وكذلك روحُ المحبةِ والتعاونِ والتسامحِ حتى مع الأعداءِ، بدليل أنَّ أهلَ صيدا عَلَّمُوا الفرنجةَ ـ وعن طيبةِ خاطرٍ ـ كيف يتَّقونَ خطرَ السُّمِّ من لَسْعِ الحيَّاتِ، بعدما نصبوا خيامهم في بساتين المدينة للتزوُّد بالأطعمةِ والمياهِ، وهم في طريِقِهم إلى القدسِ قبلَ احتلالِها (21).
وفَتَراتُ الهدوءِ والسلمِ التي كانتِ الهدنةُ تقعُ فيها أحياناً كثيرةً، أتاحتِ الفرصةُ لأهل صيدا والإفرنج لأنْ يختلطوا اجتماعياً ويتعاطَوا مختَلَف الأعمالِ الاقتصادية. وليس هناك من أدلَّةٍ تؤكِّد الزيجاتِ المختَلِطَـةَ بين الصيداويين (من الجنسَين) والفرنجةِ، على الرُّغْمِ منَ الاختلاطِ اليوميِّ واكتسابِ بعضِ المَهَاراتِ والخُبُراتِ المعيشيـةِ، والتعـوُّدِ على بعضِ العـاداتِ والتقاليـدِ في اللِّباسِ (22) والأثاثِ وأنواعِ الطعامِ والشرابِ والرياضةِ والفروسية. فأخذ رجالُ الفرنجةِ عنْ أهلِ المدينةِ، وغيرِهِمْ مِنَ العربِ سكَّانِ المُدُنِ الواقعةِ ضمنَ نفوذِ الفرنجةِ، لِبْسَ السراويلِ الفضفاضةِ والثيابِ الواسعةِ المتهدِّلَة. وصارتْ نساؤُهُمْ يرتدينَ الثيابَ الشرقيةَ، ويَضَعْنَ الحِجابَ على وجوهِهِنَّ في الأمكنةِ العامّة (23). كما بقيَ الفرنجةُ أَوفياءَ لعهودِهِمْ حِيالَ السكّانِ المحلّيين (24).
ومَعَ هذا وذاك، لم يَتِمَّ التفاعلُ بينَ الفرنجةِ والصليبيين بتلك السرعةِ وتلك الحريةِ اللتَينِ تَمَّ فيهما التفاعلُ المادّي. وذلك بسبب العَداءِ المُسْتَحْكَم بين الشرقِ والغربِ، والتعصُّبِ الدينيِّ والحاجزِ اللغوي (25).
الحالة الاقتصاديـة
كانتْ صيدا كغيرِها من المدنِ الساحليةِ تُحيطُ بها الحدائقُ والبساتينُ المغروسةُ بجميعِ أنواعِ الخُضَرِ والفواكِه (26)، وبخاصَّةٍ البلحَ والليمونَ الحلـوَ والحامضَ، وقَصَبَ السكَّـرِ والأكّي دنيا والموزَ… وغيرَهُ.
ولمَّا كانتْ ملحقاتُ ولايةِ صيدا على الساحلِ تمتدُّ شمالاً من الدامور حتى الصرفندِ جنوباً، وإقليمَي الخرُّوبِ والتفاحِ حتى وادي الجرمق ـ إلى الجنوبِ من جزين ـ شرقاً، فهي تستفيدُ من ثروةِ هذه الملحَقاتِ الزراعية: كالزيتونِ والتفّاحِ واللوزِ والخوخِ والمِشْمِشِ والكرمةِ، والثروةِ الحُرْجِيَّةِ والرعويةِ، فضلاً عن زراعةِ الحبوبِ المختلفةِ والبقول واسْتخراجِ النحاسِ والمعادن (27). وكانتِ زراعةُ البساتينِ مزدهرةً في ولايةِ صيدا، بفضلِ غزارةِ مياهِهَا من نهرَي الأَوَّلي والزهراني.
احتلَّتِ الصناعةُ في صيدا مركزاً مرموقاً لجهةِ تعدُّدِ الصناعاتِ التي تُنْتِجُهَا، والجودةِ لأنَّ الصيداويين قد أدركوا منذُ العهدِ الرومانيِّ أهمِّيَّةَ الأسواقِ الخارجيةِ، وتزايدّ الطلبِ على الإنتاجِ اللبنانيِّ الذي يمكنُ تصديرُهُ إِلى الخارج. فقد برهنَ الصنَّاعُ الذين اشتغلوا بالمعادنِ (الثمينةِ) آنذاك على أنهم من ذوي المهارةِ، وأَنهم يَمْلِكُونَ الكفاءةَ الكاملةَ لتلبيةِ طلبِ تلك الأسواقِ، وبَلَغَ إِنتاجُهُمْ، سواءٌ من ناحيةِ الجودةِ أَمِ الكمِّيَّةِ، درجةً عاليةً من التقدُّم.
وظلَّتْ مدينةُ صيدا في هذه الفترةِ التي نحنُ بِصَدَدِها تمدُّ أسواقَ العالَمِ بزجاجِها الممتازِ، وقد بَرَعُوا بِهِ منذُ أيامِ الفينيقيين، ويذكرُ فيليب حتّي (28): عُثِرَ على مزهرياتٍ زجاجيَّةٍ عليها توقيعُ رجلٍ صيداويٍّ اسمُهُ انيون (ENION) في أَماكِنَ متباعدةٍ مثلِ مصرَ وقبرصَ وشمالِ إيطاليا وجنوبِ روسيا. ويظهرُ أنه كانَ لمصانعِ هذا الرجلِ مكتبٌ في روما.
وحافظتْ صيدا إلى حدٍّ بعيدٍ على تفوُّقِها في صناعةِ النسيجِ والاتْجارِ بِهِ سواءٌ القطنيةُ أوِ الحريريةُ منها، بألوانِها المنسجمةِ والمذهّبة. ومِنَ الصناعاتِ الزجاجيةِ: المصابيحُ البديعةُ، والأكوابُ الجميلةُ والزجاجاتُ المذَهَّبَةُ والمطليَّةُ بالميناء.
أمّا صناعةُ الفخّارِ والخَزَفِ على اختلافِ أنواعِهِما فكانتْ مزدهرةً في مدينةِ صيدا، شأْنُها في ذلك شَاْنُ سائرِ المدنِ على الساحلِ لدقَّةِ صُنْعَتِهِ وبهاءِ مظهرِهِ، ولا سيَّما المطليِّ منها.
ومن الصناعاتِ التي كانتْ رائجةً آنذاكَ صناعةُ الزيوتِ (زيتُ السيرج) وصناعةُ ماءِ الزهرِ، وماءِ الوردِ، وغيرِها من العطور. ثم صناعةُ السكَّر لكثرةِ زراعةِ قصبِ السكَّرِ في صيدا وأعمالِها. وأيضاً صناعةُ المَصَابِنِ والمدابغِ والأصبغةِ والأغذيةِ والحلوياتِ والأوعيةِ النحاسية.
هذهِ كانتْ حالةُ الزراعةِ والصناعة، فما هي حالةُ التجارةِ في زَمَنِ الفاطميين والفرنجة؟
ذكرتُ سابقاً أنَّ الصيداويين أَدركوا منذُ العهد الرومانيِّ أهمِّيَّةَ الأسواقِ الخارجيةِ، وتزايُدَ الطلَبِ على الإنتاجِ المحلّيِّ الذي يمكنُ تصديرُهُ إلى الخارج. إِنَّهُم تُجَّارٌ رَكِبُوا البحرَ منذُ القديم طَلَباً للرزقِ، أوغلوا في الشرقِ والغربِ بغيةَ الربحِ والثراء.
فقد ظلَّتْ صيدا كغيرِها من المدنِ الساحليةِ تستقبلُ البضائعَ والسِّلَعَ الواردةَ بحراً من جنوبِ شبهِ الجزيرةِ العربيةِ، ومِنَ الهندِ والصين. وتُعيدُ تصديرَها إلى الأسواقِ الأوروبيةِ بعدَ أنْ يَتِمَّ صُنْعُ الحريرِ الصينيِّ وحياكتُهُ مثلاً، وشَحْنُ البهاراتِ والتوابلِ الشرقيةِ أيضاً، وشَحْنُ الرُّخامِ الأبيض (29).
لذلك، أعاروا التجارةَ البحريةَ جانباً كبيراً من عنايتِهِمْ، فكانوا دائماً يُدْخِلونَ التحسيناتِ على مرفأ المدينةِ وأُسطولِهِمِ التجاريِّ، وقواعدِ الملاحةِ وأُصولِها، وأَخذوا عن الصينيين استعمالَ البوصلة.
وأنشأوا الوكالاتِ البحريةَ والخاناتِ لاستقبالِ التجَّارِ والجالياتِ الأجنبية. فكانتْ مراكبُهُمْ تُقْلِعُ بالبضائع إلى مصرَ في أيام الفاطميين أو إلى جزائرِ قبرصَ ورودوسَ وكريتَ (اقريطش)، والبحرِ الأسودِ (بنطس)، وأَحياناً إلى خليجَي البندقيةِ وجَنَوَى، فاتحين آفاقاً جديدةً أمامَ بضائِعِهِمْ في البحارِ والمحيطاتِ المعروفة لديهم.
وسَيَّروا القوافلَ البريّةَ جنوباً نحو عكّا فمصرَ، وشرقاً نحوَ دمشقَ وصولاً إلى الجزيرةِ الفراتيةِ فبلادِ الرومِ، وأَحياناً شمالاً إلى طرابلسَ فانطاكيةَ وحلب. وغالباً ما كانتِ القوافلُ تعودُ من مصرَ محمَّلةً بالقطنِ والنيلِ والمرايا والأمشاط، ومن فلسطينَ بالخرنوبِ والعسلِ والزيتِ والزيتونِ، ومن الجزيرةِ الفراتيةِ بالأَغنامِ والحبوبِ، ومن حلبَ بالقطن، والثيابِ من أنطاكية.
ولمَّا كان هدفُ أهلِ البندقيةِ وبيزا وجَنَوَى (جمهوريات إيطالية) مِنَ الاشتراكِ في الحربِ، ونَقْلِ المحاربينِ في سُفُنِهِمْ وتقديمِ المساعدةِ، هو أنْ يفوزوا بما أَمِلُوهُ مِنَ مُسَاعَدَتِهِمْ، وهو تحقيقُ الأرباحِ المرتفعةِ مِنْ وراءِ السيطرةِ على التجارةِ مع البلادِ المفتوحة، فما كادتِ الحربُ تهدأُ حتى ساهمَ هؤلاءِ في تنظيمِ البلادِ وإدارتِها، بعد حصولِهِمْ على حَقِّ السَّكَنِ، واتِّخاذِ المستودَعاتِ والإِعفاءِ من الضرائب (30). وراحوا عندّها يعملونَ وُسَطاءَ بينَ الشرقِ والغربِ، ويشحنون مِنْ ميناءِ صيدا وغيرِهِ مِنْ موانىءِ الشرقِ الأَدنى، ما يبتاعونه من بضائعَ إلى موانِئِهِمْ في الغرب (31). فزادتْ حركةُ التجارةِ في صيدا وفي غيرِ ميناءٍ من موانىءِ الشرقِ الأدنى (32) زيادةً فاقتْ كُلَّ ما عُرِفَ في العهودِ السابقة (33).
وفي الغربِ قامتْ حركةٌ واسعةُ النطاقِ للاستيلاءِ على ثَروَاتِ الشرقِ الضخمةِ، وفَتَحَتْ أَعْيُنَ شعوبِهِ على بعض ألوانِ المأكلِ والمَشْربِ والمَلْبَسِ والمرافقِ الاجتماعيـةِ والفكريةِ التي لم يكونوا ليعرِفوا منها إِلاَّ القليلَ (34).
وأخذتْ تجارةُ الإفرنجِ في عهدِها الأَوَّلِ سنةَ 1097 ـ 1187م تتقدَّمُ باطِّرادٍ حتّى غدا أربابُها أصحابَ نفوذٍ كبيرٍ في السياسةِ، شَجَّعَتْهُمْ على التدخُّلِ في شؤونِ الحكوماتِ والمنازعات. انتقلَ بعدَها عددٌ كبيرٌ من التجَّارِ إلى الإقامةِ في ميناءِ صيدا وغيرِ ميناءٍ على الساحل. فأعادوا إلى التجارةِ بينَ الشرقِ والغربِ ازدهارَها. لكنَّ هذا الأمرَ أزعجَ السلطاتِ الافرنجيـةَ، بسببِ تدخُّلِ وُكَلاءِ التجارة ـ قناصلِ الجالياتِ ـ وامتيازاتِهِمْ. وراحتْ تَزيدُ الرسومُ الجمركيةُ على البضائعِ المُصَدَّرَةِ من بلادِ الشرقِ، فحصلتْ نتائجُ أَضَرَّتْ بمصالحِ الإِفرنجِ تُجَّاراً وسياسيين. إِنَّ هذه الأحوالَ لم تَدُمْ طويلاً، فما كادَ القرنُ الثالثَ عَشَرَ يُشرِفُ على نهايتِهِ حتّى رأينا المسلمين بقيادةِ بعضِ سلاطينِ المماليكِ أمثالِ "بيبرس" و"قلاوون" و"الأشرف خليل"، قد تمكَّنوا من انتزاعِ ما كان بأيدي الفرنجةِ من تجارةٍ وامتيازاتٍ وسلطاتٍ، وأَجْلُوهم مِنَ الشرقِ في السنة 1291م.
الحواشـي
1 ـ خسرو، ناصر. سفر نامه. نقلها إلى العربية يحيى الخشَّاب، منشورات دار الكتاب الجديد، بيروت 1970م.ص 49.
2 ـ حتي، فيليب. لبنان في التاريخ. ترجمة أنيس فريحة، منشورات دار الثقافة للطباعة والنشر، بيروت، ص 118 ـ 119.
3 ـ حتي. المرجع السابق، ص 190.
4 ـ البلاذري، أحمد بن يحيى. فتوح البلدان. نشره صلاح الدين المنجِّد، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة 1956، القسم الأول، ص 126.
ـ يحيى، صالح بن. تاريخ بيروت، تحقيق فرنسيس هورس اليسوعي وكمال سليمان الصليبي، دار المشرق، بيروت 1967م. ص 12.
5 ـ ابن القلانسي. ذيل تاريخ دمشق، نشر آمدروز، المطبعة الكاثوليكية، بيروت 1908م. ص 14.
6 ـ ابن العديم. زبدة الحلب من تاريخ حلب، دمشق 1951 ـ 1954م. 1/208 ـ 209.
7 ـ ابن القلانسي. ذيل تاريخ دمشق، ص 120.
8 ـ أيوب، إبراهيم رزق الله. التاريخ الفاطمي السياسي، منشورات الشركة العالمية للكتاب، بيروت 1996م. ص 131.
9 ـ أيوب. المرجع السابق، ص 56.
10 ـ حتي. لبنان في التاريخ، ص 336 ـ 337.
11 ـ بروكلمان، كارل. تاريخ الشعوب الإسلامية، تعريب نبيه أمين فارس ومنير بعلبكي. منشورات دار العلم للملايين، ط 9، بيروت 1981م، ص 256 ـ 257.
12 ـ ابن القلانسي. ذيل تاريخ دمشق، ص 162.
13 ـ ابن القلانسي. ذيل تاريخ دمشق، ص 168.
14 ـ ابن القلانسي. المرجع السابق، ص 171.
15 ـ يحيى صالح بن. تاريخ بيروت، ص 20 ـ 21.
16 ـ حتي. لبنان في التاريخ، ص 192.
17 ـ ابن رسته. الأعلاق النفيسة، طبعة ليدن 1892م، ص 327.
18 ـ الكتاب المقدَّس، سفر الأعلام 19:11
19 ـ متّى، الأنجيل 11، 21، 22، 15، 21 مرقص، الأنجيل 3، 8، 7، 34، 31.
لوقا، الأنجيل 6، 17، 10، 13، 14
20 ـ المناوي، محمد حمدي. الوزارة والوزراء في العصر الفاطمي، منشورات دار المعارف بمصر، القاهرة (لا.تا) ص 202 ـ 203.
21 ـ حتي. لبنان في التاريخ، ص 347.
22 ـ ابن جُبَير. الرحلة، منشورات دار صادر ـ دار بيروت 1964م. ص 276.
23 ـ ابن جبَير. الرحلة، ص 278.
24 ـ ابن جبير. المرجع السابق نفسه، ص 273.
25 ـ خسرو ناصر. سفر نامه، ص 49.
26 ـ حتي. لبنان في التاريخ، ص 237.
27ـ حتي. المرجع السابق، ص 237.
28 ـ حتي. المرجع السابق نفسه، ص 237 ـ 238.
29 ـ حتي. المرجع السابق نفسه، ص 237.
30 - Heyd, W. Histoire du Commerce du Levant au moyen Age.
Leipzig, 1885, p 136 -157.
31- Heyd, W. Histoire du Commerce du Levant au moyen Age p 312.
32 - Rey, E. Colonles Franques en Syrie aux Xll et Xlll
Siècles, Paris 1883, p 191 - 195.
33 - Rey, E. Colonies Franques en Syrie aux Xlll S.P 189.
34 - Rey, E. Colonies Franques en Syrie aux Xll et Xlll S.P 190.