د. بزري - شهادات شخصية وذكريات خاصة - مصطفى المرسي
مقابلـة مع
السيد مصطفى المرسي
( صاحب محل في حسبة صيدا)
التاريـخ: 19 تموز 1989
الموضوع: الدكتور نزيه البزري:
شهادات شخصية وذكريات خاصة
الإشراف والتوجيه: الدكتور مصطفى دندشلي
* * *
س: … أطرح عليك السؤال المعتاد الذي أطرحه على الجميع: متى كانت البدايات الأولى لمعرفتك الشخصية بالدكتور نزيه البزري،؟…
ج: … بداية معرفتي بالدكتور نزيه البزري ابتدأت منذ العام 1942 ـ 1943، أيام استقلال لبنان: إنه شاب تقدميّ، جاء من دراسته الجامعية كطبيب، وعاش بيننا وبدأ عمله في مدينته صيدا. ونحن كشباب في ذلك الوقت كنا شغوفين بأن يطل علينا شاب ويسير في مقدمتنا كي نتمكن من سلوك طريق المستقبل ونواكب الزمن (العصر الحديث) الذي كنا نحياه. وبالفعل، فقد كان الدكتور نزيه البزري (قبلة الأنظار بالنسبة إلينا) وهو تقريباً المؤهَّل الوحيد كي يخوض غمار العمل العام، الاجتماعي والسياسي في آن.
س: … هل معرفتك به، كانت كطبيب أم كسياسي؟.
ج: … كانت عن طريق السياسة. كنا لا نزال شباباً متخرجين من المدارس حديثاً، أنا وأبناء جيلي. وكنا متحمسين للعمل العام والنشاطات الاجتماعية في المدينة، وخصوصاً للنواحي السياسية. لأن صيدا في تلك المرحلة من تاريخها، كانت محكومة من زمرة غير متعلمة، زمرة يهمها مصالحها الخاصة، ولم تكن تُعير للنشء الجديد أيَّ اهتمام، بل تعتبره وتتَّهمه بأنه يتدخل بما لا يعنيه. وهم الحكام الأُوَل الإقطاعيين الموجودين في صيدا، مثل سائر المناطق اللبنانية في ذلك الزمان. (لا بدَّ من القول هنا إن بروز نزيه البزري في أيام الاستقلال اللبناني، معناه أن له ماضٍ سياسي وتجربة سياسية، بالإضافة إلى ذلك، أيضاً كطبيب من حيث مهنته…).
وقد كانت أيُّ تطلعات مستقبلية من أيِّ فئة من الفئات الاجتماعية، غير مقبولة بالنسبة لهم. من هنا، ليس أنا فقط، بل جيل من الشباب والشابات، كان لهم التفكير ذاته. وعندما جاءت انتفاضة الاستقلال اللبناني، وقامت صيدا كبقية المناطق اللبنانية، وعندما اعتقلت القوات الفرنسية رئيسَي الجمهورية والوزراء وبعض أعضاء الحكومة، وأُفرغت الساحة من الزعماء، كل مدينة لبنانية بحد ذاتها، نَظَّمت أمورها وشؤونها وتحمَّل أهلُها المسؤولية، لأنها في حرب مع المستعمر الفرنسي. وكون الدكتور نزيه البزري طبيباً، ولديه تطلع مستقبلي، تلاقت أفكارُنا مع أفكاره وسرنا بموكبه….
س: … عندما خاض الدكتور نزيه البزري السياسة كنائب، لم تكن لديه تلك الحنكة السياسية. فكيف كانت بداياته السياسية التي ظهر فيهـا وبرز، كيف كان موقفك الشخصي منها؟…
ج: … لا تقدر أن تعطيه هذه الصفة. فالتجربة السياسية يخوضها الإنسان، عندما يكون في خضمّ المعركة السياسية، عندها وعلى مرِّ الزمن، يصبح صاحب تجربة أو تجارب سياسية. والمبادئ في العمل السياسي، لا يمكن أن نتعلمها فقط بعد التجربة. فكون الدكتور نزيه البزري إنسان متعلم ومثقَّف، لا بد أن تكون له نظرة سياسية خاصة. والمواضيع السياسية لا يمكن أن تكون غائبة عن تفكيره.
س: … كيف يمكن أن توضِّح لنا المراحـل السياسيـة الأساسيـة التي مرَّ بها الدكتور نزيه البزري؟…
ج: … بداية، ترشيحه ضد رياض الصلح، ذلك الزعيم المعروف عربياً وعالمياً. وكرجل الاستقلال الوطني، كانت جرأة لا تقاس بالنسبة إلى الدكتور نزيه البزري في تلك الظروف، لا سيما أنه يقف في مواجهة رجل له وزنه السياسي.. ولكن ما دفعه للوقوف هذا الموقف الجرئ، هو طموح الشباب، والأجيال الجديدة للتعبير عن رأيها، لأن المرحوم رياض الصلح، كان في جوٍّ بعيد عن الشعب، أو حتى متعالٍ عليه. فلم يكن هناك أيُّ صلة بينه وبين المواطن، والناس، كل الناس ومجمل الشعب الصيداوي في ذلك الحين. لقد كانت له صلة قربى ببعض العائلات الصيداوية وببعض الأزلام، هم الذين كانوا يذهبون لرؤيته إلى بيروت (رأس النبع) حيث كان منزله الدائم ويتلقَوْن منه الأوامر وينقلون له الصورة ويقدمون له المطالب لصيدا كما يرونها هم. أما أن يشعرَ هو ويحسَّ بمطالب هذا البلد وتطلعات الشعب الصيداوي المستقبلية، فأنا أعتقد بأنه لم يكن بهذا الوارد، لأنه كان منشغلاً بالسياسة العامة، اللبنانية والعربية وحتى العالمية سواءٌ بسواء، أكثر بكثير من أن يقيم علاقة صلة وصل واتصال بصيدا.
من هنا، وكما قلت سابقاً، فإن الفئة المثقَّفة والمتعلمة في صيدا، كانت تشعر أن ليس لها زعيم حقيقي وليس لها قائد يرعى شؤونها ويسهر على مصالحها وأوضاعها، وإنها لذلك بحاجة إلى تكتل يقوده واحدٌ منها، من أبنائها، ويُعبِّر عن حاجات الشعب الحقيقية ويلبِّي مطالبه الضرورية. فوجد أمامه الدكتور نزيه البزري الذي وجد فعلاً مَن يشجعه ويدفعه في هذا الميدان الشائك، في تلك الظروف السانحة، وبالتالي ترشيحه في الانتخابات النيابية المقررة عام 1951. فتقبل نزيه البزري تلك الفكرة. وكنتُ أرى وأشاهدُ بأم العين في المهرجانات الانتخابية، ذلك الاندفاع المنقطع التظير والشعور والمحبة الزائدة، الصادقة والعفوية لنزيه البزري في معركته الانتخابية عام 1951 في مواجهة رياض بك الصلح.
هذا، وأنا لم أكن أتصور حينذاك أن هذا الشئ (أي هذه الانتفاضة الشعبية في المعركة الانتخابية) قد كان نكاية برياض الصلح أو محاربة له ولشخصيه، بل كنت أتصور وأشعر أن صيدا تُعبِّر عن شعورها الذاتي وهدفها الخاص ومستقبلها، وليس كرهاً أو دحراً لرياض الصلح. ولقد كان شعور الدكتور نزيه البزري هو هذا الشعور نفسه، وكذلك كان الجميع، حقاً، لا يريدون نحر رياض الصلح في ذلك الوقت: أي أن أهالي صيدا لا يريدون توجيه إهانة أو شئ من هذا القبيل إلى رياض الصلح، بل إن ترشيح الدكتور نزيه البزري، إنما هو موقف سلوكي، ترشيح مبدئي، ترشيح ديمقراطي رياضي. وقد كان السواد العظم يرى في المعركة الانتخابية بين نزيه البزري ورياض الصلح تخليص صيدا من الزمرة المتحكمة الموجودة فيها والتي يتبناها رياض الصلح.
ولعل الخطأ الذي ارتكبه رياض الصلح في ذلك الحين أنه لم يكن يُعيَّر أيَّ اهتمام للقاعدة الشعبية. وقد كان في ذلك الوقت القانون الانتخابي وقوائم انتخابية تقام بحسب المحافظات، تتحكم بها الإقطاعية السياسية، ولم تكن للدائرة الانتخابية المحلية أيُّ اهتمام، ذلك أن صيدا كانت تابعة للجنوب كدائرة انتخابية واحدة. وكان هناك الزعيمان الجنوبيان القويان آنذاك: أحمد بك الأسعد وعادل بك عسيران. وربما كان عادل عسيران على مستوى ثقافي وعلمي أكثر تقدماً وتطوراً، ولكن لا يمكن تجريده من العقلية الإقطاعية كأحمد الأسعد سواء بسواء. وكان كل واحد منهما يضم في قائمته أسماء لا تمت إلى الشعب والطبقات الشعبية بصلة، ويفرضها في قائمته الانتخابية المؤلفة من 13 عضواً…. في تلك الانتخابات، تفوق رياض الصلح على نزيه البزري في دائرة الجنوب، ولكنه خسر في عدد الأصوات في صيدا، فقد فاز فيها نزيه البزري بفارق كبير في عدد الأصوات (….)
إن ما يربط رياض الصلح بصيدا علاقات عائلية. وهذه العائلات، يعتبرها السواد الأعظم من أهالي صيدا، بعيدة كل البعد عن هموم الناس، وتهتمُّ أكثر ما تَهتمُّ به هو مصالحها الخاصة فقط لا غير. من هنا، التذمر العارم الذي كان حاصلاً من تصرفات هذه العائلات في صيدا، وهي التي يتبناها ويحميها رياض الصلح حين ظهوره على المسرح السياسي في المدينة. لذلك لم يدرك ولم يكن لديه الوقت الكافي للتفكير في أن هذه الفئة ستصبح عبئاً عليه فيما بعد.
وقد عكست فعلاً النتائج الواقع والوضع الصيداوي، فتألم كثيراً من نتيجة الأصوات التي حصل عليها في الانتخابات. فقد كان يعتبر رياض الصلح أن صيدا بلده وقاعدته الشعبية والأصوات التي حصل عليها في بنت جبيل والنبطية وصور، مثلاً، ليست هي القاعدة الشعبية التي أرادها. وبما أن أصوات بلده، لم تكن كافية وملائمة لوزنه السياسي وكرجل سياسي وكرجل دولة، فهو يعتبرها ليست كافية أو مناسبة بالنسبة إليه.
هذا من جهة ومن جهة ثانية، ما هي ظروف الانتخابات النيابية عام 1957 وترشيح معروف سعد ضده، وما هو موقف الجماهير الشعبيـة حينذاك؟… لقد فاز نزيه البزري بالنيابة عام 1953، وصار السياسي الأول بكل معنى الكلمة. وبات نائباً ووزيراً في آن معاً. هناك مثل يقول: "ترقَّب زوالاً، إذا قيل تمَّ، فقد بدأ نقصه". الدكتور نزيه البزري أخذ شهادته السياسية، وتبوَّأ مركزه نائباً ثمَّ وزيراً وأضحى تفكيره تفكيراً سياسياً أعلى (أوسع وأعم وأشمل) من أفق التفكير والأفكار السياسية التي كانت لديه، عندما كان محتكاً بالشعب. أصبح لديه مدرسة خاصة، قائمة بينه وبين نفسه، صار لديه آراؤه وتطلعاته الشخصية، نسبة إلى معارفه الجديدة واتصالاته البرلمانية والسياسية. وله آراء، ربما كانت تختلف عمّا بدأ وعمّا سارت وراءه الأوساط الشعبية وقدمته على أنه ممثل عنها. وهنا أصبح نوع من التباعد بينه وبين الجمهور من الناس. لا شك، أولاً وأخيراً، في نزاهة كفه وصدقه وطيبته. ولكن الناس دائماً تحب أن يكون القائد بقربهم، أن يعيش معهم، ويحسّ بآلامهم ومطاليبهم ويفضّ مشاكلهم دائماً (ويتطلع لطموحاتهم الاجتماعية أو الوطنية أو السياسية)، وأن يطلع باستمرار ويراقب كل شئ جديد يحدث في البلد. أما بالنسبة إلى الدكتور نزيه البزري، فبعد النيابة والوزارة، صار لديه مشاغله الخاصة، فابتعد عن النقطة الأساسية التي بدأ منها وانطلق.
أما بالنسبة إلى الأستاذ معروف سعد، فهو رجل له ماضيه النضالي وله قاعدته الشعبية. رجل له رفاق ومحبُّون وأقارب وأنسباء، وله أشخاص التفُّوا حوله، وهم خصوم لنزيه البزري. فهذه الظروف شكلت لمعروف سعد قاعدة، يمكن أن يطل منها ويتبناها بالمعنى الحقيقي للكلمة. إلى جانب ابتعاد الدكتور نزيه البزري، وتركه فراغاً (على صعيد الوجود السياسي) مكَّن معروف سعد من ملئه. وقد كان معروف سعد يدخل بيت الفقير، يجلس إلى جانب الفئات الشعبية، يأكل معهم ومن طعامهم، مهما كانت نوعيته وطبيعته. وكيف كان يتكيف مع الناس: ينزل إلى البحر ويجلس مع البحارة، ويحدثهم بآلامهم ويبث فيهم آمال مستقبل أفضل. ويهاجم الأوضاع السائدة والمصالح والأطماع الخاصة.
في هذه الأجواء والظروف المستجدة، طبعاً، تكتلت حوله كتل لها مآخذ كثيرة على الدكتور نزيه البزري، سواءً كانت شخصية أو غايات عامة أو خاصة. فكل هذا، شكل نقطة الانطلاق لمعروف سعد، ساعدته كثيراً، كما أن له تطلعاته ونضالاته الماضية، قد ساهمت في معركته الانتخابية. فكل هذا، كان يُحذَّر منه الدكتور نزيه البزري، إلاّ أنه كان مطمئناً إلى أن له قاعدة شعبية أساسية: خدمات وصداقات وأقارب، ويعتقد دائماً أنها إطار لا يمكن لأي شخص أن يتخطاه.
وبالفعل، فإن الحاصل هو أن نظرياته وحساباته كانت خاطئة وليست دقيقة. فكل زعيم، بقَدَر ما يكون قريباً من شعبه، يكون أفضل له ولمركزه، وكل زعيم بقَدَر ما يبتعد عن الشعب حقاً، سوف يجد نفسه وحيداً يوماً ما. (في الحقيقة، نزيه البزري إنسان صريح وصادق مع نفسه وواقعي).
س: … ممن كانت تأتيه التحديرات؟…
ج: … إن مجمل التحذيرات والتنبيهات للدكتور نزيه البزري، كانت تأتيه من أصدقائه وأنصاره ومؤيديه الذين كانوا حوله أشبه بحلقة، أو مكتب سياسي. ولكن التكتلات في صيدا، قد انقسمت إلى قسميْن: مع نزيه البزري وضده. فبالنسبة إلى الفئة التي تخص نزيه البزري، من الفئات الشعبية وبخاصة الصيادين والعمال، فكان الكثيرون ينقلون له نشاط معروف سعد. فقد كان لا يعيرها أهمية ولا بخصومه. هنا أعطي مثلاً تشبيهياً: فإن مَن يدرس أو يُحضِّر درسه، يكون دوماً مجتهداً، أكثر من الذي أنهى دراسته. فالذي يدرس ويُحضِّر درسه، يكون أنشط، ويدرس بتعمُّق أكثر من الذي انتهى. فبالنسبة إلى الدكتور نزيه البزري، فقد أنهى دراسته (وتدريبه السياسي) وحصل على شهادته النيابية والوزارية، بينما معروف سعد كان لا يزال يحضِّر نفسه. والتحضير فيه بذل وجهد وعطاء وترقُّب واتصالات وتحريك الأجواء (إعلامياً وسياسياً ووطنياً).
وهنا ظهر التفاوت: معروف تبنَّى شعارات قومية. في ذلك الوقت، مرَّ على لبنان مرحلة يمكن أن نسميها مرحلة العلاقات الخارجية وتأثيرها في الداخل، وهي شعارات القومية العربية. وبرز الزعيم عبد الناصر، وكانت تطلعاته وأفكاره القومية العربية عظيمة. فأخذ معروف سعد هذا الخط وصار هناك نوع من "الاتصال الروحي" مع المدّ الناصري. واُعتبر معروف سعد ممثلاً لفكر عبد الناصر القومي العربي في صيدا. بينما الدكتور نزيه البزري وُضع في صف غير الصف الذي تنادي به القومية العربية، فاتهم بأن بينه وبين كميل شمعون رئيس الجمهورية، صداقة، وعلاقة سياسية.
وكما نعلم، فإن الحملات الانتخابية والتشهيرات التي تطلق من هنا وهناك، لا ترحم أحداً. فمنها، مثلاً، إبراز صورة شمعون ونزيه، وهذا شئ طبيعي أن يحصل لقاؤهما، كوزير ورئيس جمهورية، وليس غريباً أن يلتقيا معاً وسوية، إنما بمناسبة رسمية أو غير ذلك. فهذه الدعايات وأشياء أخرى شبيهة، جعلت الناس تعتقد أن كميل شمعون وسياسته الخارجية والعربية، إنما يسيران في ركب ضد القومية العربية وعبد الناصر بالذات وبشكل خاص. وبما أن الدكتور نزيه البزري رجل مسؤول ونائب ووزير في حكومة رئيس الجمهورية، لم يُدْلِ دائماً أو قط بتصريحات تطمئن الناس بعكس السياسة والأشياء التي يلصقها به خصومه في المعركة الانتخابية. (هنا، لا بدّ من تعليق أو إبداء ملاحظة على الهامش: وهو أن نزيه البزري لديه ثقة بالنفس قوية جداً. بالإضافة إلى أنه في تلك المرحلة لم يكن ليحبَّذ الظهور الإعلامي. وكان يرفض استعمال الأسلوب المهاجم الجارح…). فالمهاجم له وزنه، والمدافع كذلك له وزنه. المدافع يريد ردَّ التهم التي تُلصق به وإبعاد الشكوك عنه، فيكون الموقف أبعد وأصعب، بل وأضعف من المهاجم الذي يقيم مؤتمراً صحفياً أو مهرجاناً كل يوم، يطلق فيه الاتهامات تلو الاتهامات. وفي المقابل، لا يقدر الدكتور نزيه البزري أن يقيم مؤتمراً صحفياً كل يوم ينفى فيه الاتهامات.
هنا، أعطي مثلاً: "أنا متهم: أني "شمعوني" (بمعنى أني أنتمي إلى تيار سياسي يقوده كميل شمعون وأتبنى سياسته الداخلية والخارجية)، والواقع أني لست كذلك". بينما المعارضة تأتي بصور تركِّبها وتجمعها مع بعضها البعض. ولكن هذه صور أخذت في مناسبات رسمية اجتماعية. فالشعب دائماً يأخذ الأشياء بمظاهرها (وبخاصة في ظروف الانتخابات حيث الانفعالات العاطفية…). ربما الإنسان المتعلم يقول إنها صور في مناسبات رسمية، ولكن الإنسان الشعبي، عندما تعطيه الصورة وتقدمها له، فلا يقول إن هذه مناسبة رسمية أو احتفالاً اجتماعياً، أخذت له هذه الصورة بصفته وزيراً أو نائباً، وحضر هذا الاجتماع مع رئيس الجمهورية….. فهذه الأشياء في ذلك الحين كانت تلعب دوراً مؤثراً سياسياً، وبالتالي انتخابياً.
إلى جانب، طبعاً، ظهور الأحزاب: بعثيون، قوميون عرب، شيوعيون. فهؤلاء لهم أيضاً صفتهم السياسية وموقف تمليه عليهم صلتهم الحزبية وسياسة الحزب العليا، مع مَن يتلاءم الحزب ومع مَن يتبنّى سياسة الحزب!!… ولأجل الصدف، كان معروف سعد في ذلك الوقت السبَّاق لالتقاط هذه الفكرة (التيار القومي العربي والناصري) والتقى بهذه الأفكار الجديدة المطلّة، إذ إنه كانت له صداقات واسعة وعلاقات مع هذه الأحزاب. فكل هذه المواضيع السياسية والقائمون على قيادة هذه الأحزاب في مدينة صيدا والمنطقة، كانوا فئات متعلمة ومثقفة ومن أبناء صيدا. ولهم أهل وأقارب ونشاطات سابقة، تلاقت أفكارهم وسياساتهم مع معروف سعد، أكثر منها مع نزيه البزري. هذه الأشياء كانت تلعب دوراً كبيراً في المعارك الانتخابية. فأدت في تلك المرحلة (التي يمكن أن تُسمى، مفصلية تاريخية…)، إلى انتصار معروف سعد على نزيه البزري.
س: … عندما تأتي التحذيرات للدكتور نزيه البزري من كل الجهات، ألم يحاول أن يوضِّح موقفه ورأيه بصراحة ويعمل على وقف مدّ التيار السياسي لمعروف سعد؟!…
ج: … إن الذي يعمل ويجهد في التَّحصيل، له مقدرة أكثر من الذي أنهى تحصيله…. ولا ننسى أن دور الدولة كان له وزنه في ذلك الوقت، كون موقف رئيس الجمهورية، وكون سياسة الحكومة العليا، يلعبان دوراً كبيراً. كان هناك "المكتب الثاني" (جهاز المخابرات في الدولة) الذي ينفذ إرادة الدولة العليا: فمع مَن تتوافق السياسة ومع أيِّ زعيم، مرشح للانتخابات، كانت سياسة الدولة داعمة له ومساعدة. في عهد الرئيس شمعون، ربما كان وضع الدكتور نزيه البزري أقرب إلى الدولة من معروف سعد. بينما في عهد الرئيس فؤاد شهاب، كان معروف سعد أقرب إلى الدولة. فالمكتب الثاني ـ أي مخابرات الجيش ـ له نشاطاته، والجيش له هيبته وسلطته ومكانته. مجرَّد إيحاء لعرقلة مهرجان انتخابي لأي مرشح من المرشحيْن، كان ينفَّذ. ونستطيع أن نقول إن 30% من السكان، إذا لم يكن أكثر من ذلك، يأخذون الإيحاء من "الدولة" وأجهزتها: وهي تريد فلاناً….
هنا يطرح السؤال: كيف تقدر الدولة أن تحقق إرادتها؟!… ذلك يتم من مجالات عدة، سواءٌ قبل أو أثناء المرحلة الانتخابية. هناك طبعاً لوائح انتخابية، وهي تُعطى من دائرة النفوس. والقائم الموظف على دائرة النفوس ـ فإذا كان الإيحاء إلى جانب سعد أو البزري ـ يصبح هناك تصحيح أوراق النفوس لصالحه وتسجيلات لأوراق جديدة. وهذه الأشياء تلعب دوراً كبيراً عند نشر وإعلان لوائح الشطب قبل موعد الانتخابات النيابية بشهر واحد. هناك أسماء كثيرة لا تكون موجودة أو مشطّبة عمداً أو سهداً. هنا، النائب ضمن لجانه الانتخابية، يريد تصحيح الأخطاء في اللوائح وتثبيت ناخبيه. فعندما يأتي للمراجعة في هذه الأمور، يبدأ بتنفيذ إرادة الدولة العليا، فيصبح هناك تسهيلات للمرشح الفلاني وصعوبات للآخر.
هذا ما يتعلق باللوائح الانتخابية، أما ما يتعلق بالمهرجانات الانتخابية، يدسُّ "المكتب الثاني" بعض "العملاء" له بين جمهور مهرجان المرشح غير المرضي عليه، كما أنه يوعز لأشخاص كثيرين أن يحضروا المهرجان الآخر الذي يريدون تأييد مرشحه ويحشدون له بكل الوسائل حشداً كبيراً. ويوم الانتخابات، توزَّع أقلام الاقتراع ووضعها في مكان يختلف عن مكانها الطبيعي. وبالنسبة إلى الناخب، فإنه يُعتبر أيضاً أن محاولة تصويته لنائب ضد نائب آخر ـ هنا يأتي الإيحاء بخلق مشكل يوم الانتخابات، أمام قلم الاقتراع والقبض على أشخاص معيَّنين ينتمون للمرشح الخصم ـ هذه الأشياء التي أصبحت لدينا معروفة، هي بحدِّ ذاتها تُعتبر إحدى الوسائل الضاغطة واعتقال أشخاص محدّدين ومعيَّنين، وعدم إطلاق سراحهم إلاّ بعد الظهر أو في اليوم التالي، أي بعد خسارة مرشحهم، أو في حالات أخرى كذلك، القبض على أشخاص معيَّنين لمجرد مرورهم بشارع أو بحيِّ ما، على اعتبار أنهم مشاغبون. كل هذه الوسائل، كانت "تلعبها" الدولة، كي تمكن من تنفيذ مخططها وإنجاح مرشحها. والمرشح الفائز أو النائب، يسعى إلى تأييد سياسة السلطات العليا. هذا الدعم من المكتب الثاني يضاف طبعاً إلى قاعدته التي ترجح كفة المرشح الذي تريد الدولة له النجاح.
س: … ما هي ظروف المعارك الانتخابية آنذاك في مدينة صيدا؟ ما هو دور الناس بشكل عام في المعركة الانتخابية، والتنافس كيف كان يتم في الأوساط أهلية؟.
ج: … إن التنافس الانتخابي بين المحازبين يبتدئ في الفترة الانتخابية وقبل الانتخابات، وليس يوم الانتخاب بالذات، أي منذ بدء الحملة الانتخابية، قبل شهرين من يوم الانتخاب، شأنها في ذلك شأن الحملات الانتخابية في العالم. وإن دعوات الأشخاص (أو المفاتيح الانتخابية) من الأحياء، وهو ما يسمى: المكتب الانتخابي (الماكينة الانتخابية). ويشكل أعضاؤه من المؤيدي ومحازبي كل مرشح من المرشحين، طبعاً وهم الملمون بالحملات الانتخابية وعلى كيفية إدارتها، والسهر على حسن تنظيمها وتأمين النفقات وتوزيعها إلى آخر ما هنالك، فلا يوجد مرشح للانتخابات أو نائب ما، إلاّ وكان يقوم ويعمل على تنظيم حملته الانتخابية إدارياً وإعلامياً ومالياً. وكل دورة انتخابية لها شعارها، حسب السياسة الظرفية المتبعة في تلك الظروف المرحلية.
س: … كيف كانت تُقام الحملات الانتخابية وتُنظم المهرجانات؟…
ج: … (هنا، نصل لنقطة مجردة نوعاً ما…). لقد كانت مدينة صيدا مقسمة إلى أحياء كبرى، كما هو معروف. وفي كل حيٍّ من الأحياء، كان يُدعى إليه المرشح للانتخابات حيث يقام اجتماع واسع أو ضيِّق في أحد البيوت. فمثلاً، اليوم العلاني، سيأتي الدكتور نزيه البزري إلى هذا الحيِّ. فيقوم أنصاره ومؤيدوه بجمع أكبر حشد ممكن من الجمهور. وتلقائياً، فإن كل من يؤيده يحضر هذا الاجتماع. وقد كان للمهرجان وزن انتخابي وأهمية ولفت نظر. ولذلك فإن دوره "تمييل الكفة"، لأن الحضور، في اليوم التالي، سيتحدثون عن الحشد الذي وصل إليه المهرجان. بعد مدّة قليلة من الزمن، يقيم أنصار المرشح الآخر مهرجاناً في ذات الحيّ وفي أحد البيوت المؤيدة له. وشئ طبيعي، تكثيف الدعاية وحشد الجماهير كي يردوا على المهرجان السابق للمرشح المنافس. وهكذا، تتنقل المهرجانات من حيٍّ إلى حيٍّ آخر، حتى نصل إلى عقد المهرجان الختامي الكبير الذي كان يُقام قبل الانتخابات بثلاثة (3) أيام. وكان يقام عادة في منزل الدكتور نزيه البزري ويُعتبر المهرجان النهائي الذي على أساسه تقاس النتائج المرتقبة من حيث النجاح أو عدمه. وقد يكون هذا المهرجان في يوم واحد أو في يوميين متتاليين.
والطريف في الموضوع، أن عدداً كبيراً من كل فريق أو جماعة، كان يذهب ويحضر المهرجان الآخر، كي ينقل صورة عن هذا المهرجان لمرشحهم. طبعاً، أثناء المهرجانات، كانت تلقى كلمات تحوي مزايا المرشح أو النائب المرشح وتعدِّدِ صفاته وخدماته وتطلعاته وخطَّه السياسي، إلخ…، إلى جانب مهاجمة الخصم والطعن به بشتى التُّهم والعيوب والمثالب، ولكن ضمن الآداب والأخلاق. وكل إنسان أو عائلة في صيدا تضع لها في نفسها انطباعات خاصة بها، ولها ارتباطات مع أيِّ زعيم من الزعماء. والمهرجانات كانت تلوِّن الصور قليلاً. وأما السواد الأعظم من الناخبين، كان يعرف مستقبلاً، لمن سيدلي بصوته ومقرِّراً ذلك منذ فترة سابقة.
وقد كان هناك فئة من الناس مرتزقة، تنتظر الانتخابات كي تبيع أصواتها. وهنا يضطر المرشح لصرف الأموال وشراء الأصوات ـ ومَن هو الشخص الذي يقوم بعملية الدفع وشراء الأصوات !! ـ … ولكن، عادة في الانتخابات وإدارتها، كان يوجد صندوق اسمه: "مصروف الانتخابات"، وكان يموِّل الصندوق أصدقاء المرشح وأقاربه وهو شخصياً. وكل فريق من الفرقاء (سعد، البزري) كان له أصدقاء أثرياء. (كان سعد يتَّهم نزيه البزري أنه حامي الرأسمالية، مع أنه كان في صف سعد أشخاص رأسماليون ومتمولون كُثُر، بل أكثر ممن هم في صف نزيه البزري. الدكتور نزيه البزري، على سبيل المثال، كان يُعبِّر فعلاً عن الطبقات الفقيرة المتعلمة، وأيضاً كان مع سعد، فئات اجتماعية فقيرة، وأيضاً أغنياء ومتعلمون.
والسؤال هنا يُطرح: كيف يمكن تفسير وجود فئات اجتماعية هي ذاتها تؤيد الفريقيْن كلاً من جهته؟.. والواقع أنه ليس كل فرد يؤيد البزري أو سعد لشخصه أو لعاطفة ذاتية نحوه. هناك فئات كثيرة ضد بعضها البعض. فيرى أيَّ فريق من الفرقاء في أيِّ صف يقف خصمه، فيقف في الصف الآخر المناوئ. (هنا تأتي مواقف العائلات المتخاصمة سابقاً، فتعبر عن خصومتها للآخرين بمواقفها في الانتخابات النيابية تأييداً لخصم خصومها…). هذه الأشياء والمواقف كنا نلمسها لمس اليد: الأخ في البيت الواحد يقف أحياناً ضد أخيه. طبعاً، لا يجوز التعميم، وليس السواد الأعظم، ولكن هذه الحالات الملاحظة، لها تأثيرها بين الناس.
س: … كيف تعزو فشل الدكتور نزيه البزري ونجاح معروف سعد في الدورات الانتخابية المتتالية قبل عام 1972؟!…
ج: … إن الفشل لا نقدر أن نعزوَه إلى شئ محدَّد أو نعطيه السبب المطروح عادة، وذلك بالنسبة إلى الأفكار القومية. للفشل عدد من الأسباب: عندما يغدو المرشح نائباً، يكون قد قدَّم للرأي العام وعوداً عامة وأخرى شخصية. الوعود العامة هي الشعارات التي ترفع أثناء الانتخابات، أو الشعارات الاجتماعية ويتأمل المرشح، عندما ينجح، في تحقيقها وبلوغها. وهنا، إذا اُعتمدت سياسة عليا في الدولة، وهي تسير بمواكبة الأحلاف الأجنبية، فليس باستطاعة النائب أن يخترق جدار الدولة ويحقِّق أفكاره القومية التي اتخذها وبرز على أساسها ـ هذه شعارات تُطلق فقط في الحملات الانتخابية: الوحدة العربية، القومية العربية، قضية فلسطين، العرب والعروبة، كل زعمائنا السياسيين كانوا لا يزالون يتخذونها شعارات لكسب الرأي العام، رأي عام برئ وطاهر، وهو يتبنى هذه الشعارات، وهو عاشق ويأمل أن تتحقق الأحلام التي يطلقها الزعيم والتي كانت تقوم بها وتؤيدها وتتبناها على خير وجه، الهتافات في المظاهرات والمهرجانات. فعندما يصل إلى البرلمان، يدخل في حياة سياسية واقعية بعيدة عمّا كان يحلم بتحقيقه: أي تبنِّي شعارات بُحَّت حنجرته من طرحه لهذه الأفكار.
فالدكتور نزيه البزري، لم يقدر أن يُنفِّذ الشعارات التي كان ينادي بها في المهرجانات. والشئ الثاني، وهو تشغيل مَن يحتاج إلى عمل، وتوظيفهم. مثلاً، الوعود التي أعطاها لعائلة معيَّنة، كي يوظف أحد أفرادها، فهذه العائلة التي سارت وتحدَّت، حين انتخبت، هذا الزعيم أو ذاك، تنتظر أن تتحقَّق مطاليبها، وهي مطالب عادة خاصة ومطالب عامة: شق طرقات، فتح مدارس، توظيف العاطلين عن العمل، إلخ… ولكن، "ليس كل ما يتمنى المرء يدركه". فالزعيم يتمنَّى كل شئ، في حين أنه عندما يدخل في المسؤولية، يجد نفسه عاجزاً عن تحقيق ما كان قد وَعَد به. وهنا، ليس ضرورياً أن يكون التوظيف في الدولة، فهناك شركات ومؤسسات عمل كثيرة. فبقدر ما للنائب من سلطة على هذه الشركات، فإنه يستطيع أن يوظف مَن هو بحاجة إلى وظيفة، "بَكرْت" صغير. وهذا لا يكفي، خصوصاً وأن العثرة في ذلك الوقت قد كانت أن الناس تفضل الوظيفة في الدولة، ولو كان حارساً في البلدية، أو دركياً أو جندياً في الجيش أو أي شئ من هذا القبيل. فالدكتور نزيه البزري، في هذه المجالات، لم يقدر أن يجيب عن جميع هذه الرغبات للمستوظفين وهم كُثُر، والذين كانوا بينهم وبين أنفسهم، موعودين لتوظيف أبنائهم، فينفضون عنه.
نأتي إلى ناحية تحقيق المشاريع الموعودة، فبالنسبة إلى مدينة صيدا، فإن النائب لا يقدر أن يحقِّق في الدولة اللبنانية بتركيبتها الحالية أيَّ مكسب لمنطقته، خصوصاً كون "المنطقة مسلمة"، ذلك لأن السياسة الطائفية العليا في الدولة اللبنانية، كانت مرسومة من أجل الإنفاق على المناطق المسيحية، دون المناطق الإسلامية. وهذه السياسة الطائفية المنحازة من الأسباب الأولى والأخيرة للكارثة التي نعيشها اليوم في لبنان. أسباب العلاقات الخاصة: يؤسفني أن أعلن ما أعرفه عنها وبكل صراحة، عندما تزول وتنتهي فترة الانتخابات، تقفل أبواب الدكتور نزيه البزري، فإن شعور أهل بيته يختلف عن شعورهم نحو الناس قبل الانتخابات. (مفاهيم الناس وحاجاتهم الضرورية ومطاليبهم الملحِّة كثيرة من النائب ومن الحكومة بشكل عام …)
لقد كانت أبواب المنزل على مصراعيها، والناخب كان يشعر وكأنه في منزله وبيده يعمل القهوة، يدخل ويخرج دون قيد أو شرط. لكن عندما تنتهي الانتخابات، تقفل الأبواب، ليس بوجه الجميع، وإنما تُقفل في نهاية الأمر. فكلمة: أهلاً وسهلاً، قد تغيَّرت طريقة إلقائها بعد الانتخابات، المواعيد غير مضبوطة، التطلعات تختلف عمّا كانت أثناء الانتخابات. كل هذه الأشياء تحزُّ في نفسية الناس. فيلتقطها الخصم ويستفيد من هذه الأخطاء.
هذه هي الأسباب الرئيسة التي كانت مجالاً متاحاً لمعروف سعد كي يتغلب على نزيه البزري في دورات انتخابية عديدة، إلى جانب شحنات السياسية القومية العربية وشحنات مواقف الأحزاب ونشاطاتها المتتابعة والتي تطورت وقويت كثيراً، وبات لها دور أكبر من السابق. هذا، ولكل عضو في حزب من الأحزاب، أقارب وأهل وأصحاب، وله نشاط مستمر وتأثير. فالفريق الخاسر ينقص من شعبيته، أما الفريق الرابح فتزيد..
س: … ما هي العوامل المؤثرة، في رأيك، كي يصبح الإنسان في مجتمعنا رجل سياسة أو زعيماً سياسياً؟…
ج: … طبعاً، ليس كل من طلب الزعامة السياسية، يحصل عليها ويصبح زعيماً. فالزعامة في لبنان، إنما هي زعامة وراثية: الأب، والابن، وابن الابن للزعيم، يخرج من بيته زعيمٌ. والسواد الأعظم من زعماء لبنان، ينتمون إلى هذه المدرسة (التقليدية). والذي يتعلم يجد أنه كي يكون زعيماً، يجب أن يبيع "ما فوقه وما تحته". فيصرف النَّظر عن الطموح المشروع ويتجَّه لحياته الخاصة، أو يوفّر على نفسه مؤونة التعب وينتمي إلى حزب سياسي الذي هو لا يختلف شأنه عن طبيعة البيئة التي وُلد فيها الزعيم الآخر، وإن انتقلت من نطاق شخصي إلى نطاق إداري (مؤسَّسي) مكوَّن في الحزب. وحتى يصبح زعيماً، أولاً يجب أن تتأسَّس النَّزعة في نفسه منذ مقاعد الدراسة، ويكون عنده إلمام في كثير من الأمور، وفي نفسه وُسعٌ ومقدرة على التِّحمُّل. وليس صعباً في هذه الحالة، أن يصبح زعيماً، على اعتبار أن الزعامة تمثل إرادة، وشعوراً، وحياة في مجتمع يحياها الإنسان.
فالزعيم يعيش ويتحسَّس هذه الأحاسيس (الاجتماعية والسياسية والحياتية) ويحيا هذا الشعور والواقع، أكثر من غيره. فيكرِّس حياته لحمل الشعلة ويتقدَّم صفوف غيره. وبقدر ما يكون مخلصاً وقوياً في إيمانه برسالته، ويتمتَّع بنفَسٍ طويل، فإنه يصل إلى ما يبتغيه. أولاً، ينبغي أن يكون له مقدرة وفضل في أن يجسِّد أفكار الناس (أو البيئة التي ينتمي إليها) والتي انطلق منها، شرط المواظبة. الدكتور نزيه البزري، لم يكن زعيماً (بالسليقة)، ولكن في فترة زمنية أثناء شغله (أي عمله كطبيب)، بدا وكأنه "الزعيم". فأطل وحمل مشعل إرادة الناس (خصوصاً الشباب المتعلم والفئات الشعبية في صيدا القديمة، على حدٍّ سواء)وتطلعاتهم وآلامهم، فأضحى زعيماً (من حيث لا يبغي ولا يريد).
س: … الدكتور نزيه البزري في رئاسة بلدية صيدا (1952 ـ 1959)، كيف تقوِّم تلك المرحلة السياسية ـ الاجتماعية من حياته؟.
ج: … الواقع، أن هذه الخطوة كانت غلطة، من وجهة نظري الشخصية، وهي غلطة الدكتور نزيه البزري أن يكون رئيس بلدية، لأنه في الحقيقة حمل كل مسؤوليات أو أوْزار البلد من إدارية واجتماعيـة وسياسيـة. فهـو لم يؤسِّس مدرسة. وقد كنا رفاقـه، ونحن نأخذ عليه هذا الموقف في أنه استأثر بكل هذه الأمور. ربما له أفكاره واجتهاده الخاص، وربما لم يجد مَن يجسد عن طريقه هذه المهمات والأعمال الكبيرة. ولكن الرأي العام أو السواد الأعظم منه، يعتبر أن من المفروض على الدكتور نزيه البزري أن ينظِّم، أن يقيم قاعدة صحيحـة. فلم تكن موجودة لديه أو جاهزة الحضور تلك القاعدة.
حتماً، فإن لكل زعيم سياسي مقربين وأزلام. فكانت تُسلَّم الإدارات للأزلام والأقارب. (تعليق: هنا سبب فشل نزيه البزري هو الابتعاد عن الناس، أو حتى التكبُّر عليهم برأي البعض. يضاف إلى ذلك، أخطاؤه سالفة الذكر…). وقد وقع معروف سعد في الخطأ نفسه، وأصبح رئيس بلدية ونائباً عن صيدا. ربما كانا يخدمان ويوظفان ويصرفان على أزلامهما، وينفِّذان وعودهما قبل الانتخابات من خلال البلدية. الإثنان قد وقعا في الخطأ ذاته، وارتدَّ عليهما بشكل غير طبيعي. وكان يجب، في رأيي الشخصي، أن يُقام في البلد في ذلك الوقت شئ مثالي: مثلاً، مجالس من معاونين لأيِّ فريق من الفريقَين، وذلك من أجل إقامة قاعدة شعبية منتظمة بالمعنى الحقيقي للكلمة، لمشاركتهما في شؤون النيابة ومناقشتهما في آرائهما السياسية، سواءٌ في ما يتعلق بقضايا لها علاقة بالدولة أو في المعاملات الاجتماعية إدارياً عن طريق البلدية. فكلاهما، عندما يصل الواحد منهما إلى الكرسي، النيابية أو البلدية، يصبح متفرِّداً بآرائه.
س: … ما هي إنجازات الدكتور نزيه البزري وما هي الإخفاقات التي اعترضت سبيله؟…
ج: … في لبنان بشكل عام، وقبل الاجتياح الإسرائيلي، لم يكن هناك قرار سياسي موحَّد، بل هناك مواقف متعدِّدة. وأنا من خلال ما لمسته من الدكتور نزيه البزري أنه إنسان مُهذَّب، أديب اللسان، يناقش، ويعترض ضمن الأسس البرلمانية، الديمقراطية والأخلاقية، لا يستعمل، ولم يستعمل ربما في حياته، اللسان البذئ، ولا عنده تشهير بأحد، ولا حتى بالخصوم، من أجل أن يستقطب أصوات الجمهور العريض، ولا يرغب في الدعاية ولا يسعى إليها. له مواقف في النَّدوة النيابية، وله تصاريح أثناء وجوده في البرلمان قبل الاجتياح (1982) كانت دائماً ضمن الأصول الأخلاقية وضمن اللعبة البرلمانية، كما كانت تُسمى حينذاك.
بينما معروف سعد، طبيعته فيها شئ من العنف، كما أن لهجته تختلف عن لهجة الدكتور نزيه البزري، وكانت ملفتة للرأي العام. وقد كسر طاولة المقعد في البرلمان، وسبّ وشتم الخصوم السياسيين. وهذا كان يثير اهتمام الناس. ولكن أسلوب الدكتور نزيه البزري يختلف كثيراً عن أسلوب معروف سعد، إلى أن جاءت فترة الاجتياح، فبرز نزيه البزري الزعيم والنائب الذي بقيَ في بلده (أي مدينته) أثناء الاجتياح. وكنا نراه يومياً على الشاشة وفي مؤتمراته الصحفية المتتالية، يهاجم ويطالب الانسحاب الإسرائيلي. وعلمت مرة أن المسؤول الإسرائيلي قال له: "لماذا تهاجمنا دائماً؟". أجابه الدكتور نزيه البزري: "أنتم محتلون أرضنا. وكوني نائباً عن هذه المدينة وممثلاً للرأي العام اللبناني فيها، فأنا أنقل شعورهم ورغبتهم ورأيهم، إلى جانب رغبتي الشخصيَّة، وأقول لك وأنقل ما تسمعه وتراه. فضع نفسك مكاني، هل تقف مكتوف الأيدي صامتاً، إذا اُحتللِتُم، أم تتصرف مثلي؟!. فلا يوجد علينا ملامة، إذ نطالب بالانسحاب". وقد شهد الخصم والصديق بمواقفه أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان.
في الواقع لا يوجد إخفاقات بالمعنى الحقيقي، بل هناك أخطاء. فلم يقدر الدكتور نزيه البزري أن يحقق للجمهور الصيداوي ما كان قد وَعَد به. فالزعيم، عندما يعِدُ، يجب أن يكون التنفيذ بين يديه، في حين أن التنفيذ قد كان بين يدي الدولة اللبنانية. وعتبنا عليه أنه لا يعمل شيئاً لصيدا، ولكنه كان يقول: هذه سياسة الدولة اللبنانية، وليس بيدي شئ. الدولة، كما قلت سابقاً، لديها سياسة عليا للإنفاق، والمتعمِّق بالسياسة العليا للإنفاق في لبنان، يعرف أنه ليس نزيه البزري فقط، بل غيره أكثر منه أيضاً، لم يقدر أن يجلب لمنطقته الإسلامية أيَّ شئ. وقد سمعنا منه تصاريح عديدة، يعلن فيها أنهم يدخلون مجلس الوزراء، ويدخل رئيس الجمهورية وبيده المشاريع التي يريد تنفيذها، مشاريع مدروسة، يحضرها معه فقط كي يتخذ قراراً بها، ويقول بالحرف الواحد: هذه قرارات ستُنفَّذ سواء رضيتم أم لا. وهنا كانت المواقف التي يجب أن توقف: طالما أنك تسمع من رئيس الجمهورية هذا الكلام، لماذا لم تستقل من الوزارة؟!… أما رأيه الخاص، فقد كان أن الاستقالة، بنظره، لا توصل إلى نتيجة، بل تفسح المال لصاحب السلطة السياسية العليا، بالاستقلال التام برأيه وسياسته. لذلك فإن العمل من الداخل أفضل منه من الخارج.
طبعاً، للدكتور نزيه البزري إنجازات ومساعدات كثيرة لمؤسَّسات في صيدا. ولكن هذه لم تكن تطلعات الشعب الصيداوي. فالشعب دائماً، بالنسبة إليه، يريد أكثر ويريد تحقيق كل المطالب، في حين أن الدكتور نزيه البزري لم يكن باستطاعته تحقيقها، كما أن الوضع الذي كان فيه، لم يكن يسمح له بتنفيذها…
س: … في أيهما نجح الدكتور نزيه البزري، كطبيب أم كسياسي، أم في كليهما؟!…
ج: … لا شك في أن الدكتور نزيه البزري يُعتبر من الأطباء الموهوبين عالمياً (وبجميع المقاييس). وهذه الأشياء لا أقولها أنا فقط، بل في أيِّ منطقة كان يذهب أيُّ صيداوي للعيادة، يقول له الأطباء: "عندكم الدكتور نزيه البزري، وتأتون إلينا". له لمسات طبيَّة غريبة الشكل، وعيادة المريض 50% من شفائه، يعود إلى الثقة بينه وبين المريض. وقد كان في زمانه من أمهر الأطباء في صيدا والجنوب على وجه الإطلاق. في الصيف، يذهب للاصطياف في إحدى القرى. وعندما يأتي إلى صيدا يومَيْن في الأسبوع للمعاينة، كنا نسمع بعض الأطباء يقول: إنهم بوجود الدكتور نزيه البزري في صيدا في هذا الوقت، هم يصابون في حالة ركون: "نزيه، هنا، انقطع رزقنا". فإن 50% من مرضاه يتعالجون دون مقابل، و25% هي معاينات رمزية. والباقي يدفعون رمزياً أو عينياً. فهو قد نجح بنظري كطبيب أكثر منه كسياسي. وإننا نلاحظ (بما لا يدع أيَّ مجال للشك) أن الذين هم دونه في المستوى الطبيّ، أصبحوا الآن رأسماليين كباراً، بينما الدكتور نزيه البزري، وهو الطبيب اللامع الموهوب، عاين مرضاه (ومن كل الطبقات الاجتماعية في المدينة وخارجها) وهم كُثُر أكثر، بكثير من أن يعدوا، ولكنه لم يستغل مهنة الطب إطلاقاً (بل نظر إليها على أنها مهنة إنسانية في الدرجة الأولى ومجالاتً لخدمة الناس والإنسان على وجه الخصوص). وهذه شهادة من الخصم والصديق سواء بسواء، بجدارته الطبيَّة. ولو أراد أن يبني مستشفى، لكان عنده مستشفى يناهز مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، هذا لو أراد واتجه نحو الطبابة (والثَّروة) فقط لا غير.
وأنا، على ما أعتقد وبكل صراحة، إن الدكتور نزيه البزري (في حياته الخاصة والعامة) إنما هو (في المقام الأول) رجل إنسانيّ، وبكل ما تحمل الكلمة من معنى… طبعاً، تمرّ به أحياناً فترات صحيّة بالنسبة إليه، فيحتاج فيها إلى فترات من الراحة. ولكن الشخص الآخر المريض لا يقدر أن يقدِّر هذه الظروف التي يمر بها الطبيب، فيعتقد أن الدكتور نزيه البزري لا يريد تطبيبه. يعتقد السواد الأعظم أنه "قطعة من فولاذ"، يجب أن يبقى ساهراً للناس فقط. غير أنه مثله مثل مطلق البشر. والآن إنه رجل أرهقته الحياة. وقد مر بظروف صعبة، وبخاصة فترة الاجتياح الإسرائيلي، واتخذ موقفاً أظهر فيه عن جوهر ونضال ووطنية وأصالة، ليست متوافرة في أيِّ شخص كان. فالموقف الذي وقفه وتصدى لقوات الاحتلال الإسرائيلي في صيدا، لم يقفه أيُّ زعيم آخر في تلك الفترة. فالجنود الإسرائيليون يحيطون بالمنزل، والكلاب معهم أيضاً، والضغط الإسرائيلي ليلاً نهاراً يمارس عليه بشتى الوسائل، إلاّ أنه كان يظهر يومياً على شاشات التلفزة متهماً قوات الاحتلال، ورافضاً التعامل معها ومهاجماً إسرائيل، وهي محيطة بمنزله، يدعوها إلى الانسحاب: هذا موقف رجل حقيقة. وهذه المواقف تُحسب له، ولا أحد هنا ينكرها. وقد أظهر عن نزاهة وعن نظافة كف طوال سنين حياته.
طبعاً، هو رجل له أخطاء وله حسنات، له نظريات وآراء خاصة مقتنع بها، وقد يرفضها غيره. ولكن لا يمكن أن نطعن بوطنيته، بقوميته وعروبته وبنزاهته. كل الناس هنا، والرأي العام عموماً يشير إلى هذا النائب أو ذاك، وكيف أنه حصَّل وبنى، ربما عن طريق النيابة أو غيرها، إلاّ الدكتور نزيه البزري، فلا شبهات أو اتهامات أو مظاهر أو دلائل في هذا الخصوص.
س: … هل يمكن أن ترسم لي صورة موضوعية عن شخصية الدكتور نزيه البزري السياسية؟!.
ج: … من سياق حديثنا ومعرفتنا الكاملة بالدكتور نزيه البزري، فهو إنسان نبيل، متعلم، مثقف. وكان قد لفت نظر كل فرد يسعى إلى أن يزيد معرفته بصيدا، من حيث وجوده ووجود جرأته. وكان قدوة وسباَّقاً كي يحصِّل كل فرد من أهالي صيدا ثقافة وأن يكون متعلماً ويصبح طبيباً. في السابق، فقد كان من يصل إلى أن يتعلم ويصبح طبيباً، هو ابن العائلات المحدودة العدد في المدينة أو في لبنان. (فكان يشجع الشباب على العلم والتخصص العلمي العالي وفي شتى المجالات). ومما هو معروف لدينا جميعاً أنه بمساعدة وتنشيط د. نزيه البزري، قد أصبح لدى الكثير من الشاب الصيداوي الرغبة، بل والأمل في أن يتعلم ويدخل الجامعات.
أما بالنسبة إلى شخص الدكتور نزيه البزري، فإنه ما زال واستمر طوال حياته يتمتع بالديمقراطية… فإذا انفرد به الواحد منا وجلس معه وتحدث إليه، يجده إنساناً دمثاً، متواضعاً، دون تكلُّف أو مقدمات. أما إنسانيته، فما زالت كما هي، (تحسُّها في نظرته للأوضاع الاجتماعية السائدة)، وهو كان وما زال يبدو للجميع كالأخ القريب والصديق الصدوق. إنما الظروف الصحية والاجتماعية العامة، ليست بالنسبة إليه شخصياً وإنما أيضاً إلى بقية الناس، كانت قد فعلت فعلها وأبعدت الناس عن بعضها البعض، وانشغل كل واحد بمشاغله الخاصة. وأصحاب الحاجة يتصلون به لخدمة طبيَّة خاصة أو مساعدة شخصية خاصة..
* * *
تعليق: من خلال هذه المقابلات، فقـد حاولنا أن نلقيَ ضوءاً على سيرة حياة الدكتور نزيه البزري: السياسية، والاجتماعية والعلمية، يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
* طبيب ناجح، موهوب في مهنة الطب، إلاّ أنه لم يكرس وقته وجهده وفكره وعمله من أجل أن يغدوَ من الأثرياء والأغنياء الكبار أو أن يصبح صاحب مستشفى كبير.
* إنساني، نبيل الخلق، واثق بالنفس، كريم، معطاء، ذو أخلاق رقيقة ولسان دافئ، كفيف اللسان، وذكاء ثاقب وثقافة عالية مهنياً وفكرياً.
* سياسي ديمقراطي إلى أبعد الحدود، ذو أفق حرٌّ ومعتقد فكري ثابت لا يتغير، وذو نهج قومي عربي بحت، القضية الفلسطينية قضية مقدسة لديه. يتعاطى السياسة باعتدال وروية وبكثير من الخلقية الأدبية والدبلوماسية القانونية والدستورية.
* كثيرون من الذين يعرفونه يشهدون ببراعته السياسية ومواقفه القومية والوطنية المشرقة قبل الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 وبعده، وبخاصة أثناء ما سمِّيَ بـ "الحرب الأهلية" في لبنان. وإذا كان الدكتور نزيه البزري لم يقدر أن يُنجز شيئاً ملموساً على صعيد العمران والإصلاحات الأساسية في مدينة صيدا، فإن السبب يعود في الدرجة الأولى إلى سياسة الدولة والسلطة العليا وسياسة الحكم في لبنان وتأثيرها الفاعل والكبير في الوقائع والأوضاع المحلية، سواءٌ في صيدا أو في الجنوب اللبناني على وجه العموم…