الدكتور نزيه البزري: ملامح وصفـات - كامل بدوي البساط
مقابلـة مع
الحاج كامل بدوي البساط
الموضوع: * الدكتور نزيه البزري: ملامح وصفـات
شخصية من خلال معرفتي وتجربتي الشخصية
* الدراسة في مدرسة المقاصد الإسلاميـة
* الواقع التجاري والاقتصادي العام في مدينة صيدا
أجرى المقابلة: د. مصطفى دندشلي
الزمان والمكان: مساء يـوم الأربعـاء الواقع فيـه 18 شبـاط
(فبراير) 2009، في منزله ـ صيدا
* * *
د. مصطفى دندشلي: … أولاً، أودّ أن تحدثني في هذه الجلسة العفوية دون أن أرهقك، في نقطتَيْن أساسيَّتَيْن وأن يتمَّ التركيز عليهما: النقطة الأولى وهي التي لها علاقة بدراستك في مدرسة المقاصد الخيرية الإسلامية في صيدا: البدايات الأولى، ذكرياتك أو ما تبقى منها عن تلك المرحلة، الأساتذة الذين درست عليهم المبادئ الأولى وزملاء الصف والدراسة. النقطة الثانية: ما هي الأجواء الوطنية التي كانت سائدة آنذاك في صيدا بعد خروجك من المدرسة وحتى الحرب العالمية الثانية وما بعدها ومرحلة الاستقلال عام 1943 والشعارات التي كانت ترفع. أما النقطة الثالثة، وهي تدخل مباشرة في مجال عملك وشغلك والذي استمر حتى الآن… مثلاً، التجارة في مدينة صيدا، نوعية التجارة والعلاقات التجارية مع الخارج، وهل هذه التجارة قد كانت متطوِّرة بالنسبة لتلك الظروف أم كانت تجارة متوسطة أم تقليدية محلية…. ونوعية التجارة ونشاطات التجار…. أريد أن تستعيد هذه الذكريات وما يبقى منها في الذهن والذاكرة، وذاكرتك والحمد لله ما زالت قوية، يقظة، نشيطة. فما أريده منك هو نوع من الانطباعات من خلال تجربتك الشخصية العملية أكثر منه بحث علمي مدعَّم بالأرقام والتواريخ. فلنبتدئ في التطرُّق في مختلف هذه الأمور، بسنة الولادة…
الحاج كامل بدوي البساط: … إنني ولدت بالضبط في اليوم الواقع فيه 25 كانون الأول 1919. أذكر ذلك لأن والدي رحمة الله عليه، كان يكتب يوم ولادتنا على الصفحة الأولى من المصحف الشريف، وذلك بالتاريخ الهجري. ولكن، فيما بعد، وفي وقت متأخر، حوَّل لي الحاج حسن القصير، وكان اختصاصياً في التقويم وتحويل السنوات الهجرية إلى الميلادية، وهو الوحيد في صيدا الذي كان يقوم بكتابة الإمساكيَّات في شهر رمضان، فهو الذي حوَّل لي تاريخ ولادتي المسجَّل في القرآن الكريم إلى التاريخ الميلادي: أي، كما قلت، 25 كانون الأول 1919.
أما في ما يتعلق بالدراسة، فإن المدَّة الزمنية التي التحقت فيها بمدرسة المقاصد كانت قليلة جداً. وذلك عند خروجي منها، كنت أبلغ من العمر اثنتي عشرة سنة (أي في العام 1932). وهنا أقول إنني عندما دخلت إلى مدرسة المقاصد فقد كانت المدرسة في أدنى أطوارها، ولم تكن فيها إدارة أو مدير يدير شؤونها (أي بعد عام 1927 ـ 1928، بعد خروج الأستاذ عبد الرحمن البزري من الإدارة، وهو الذي كان مديراً في مدرسة المقاصد بعد الحرب العالمية الأولى وتحديداً عام 1920، وكانت مدرسة المقاصد تضم آنذاك مرحلتين: الابتدائية والإعدادية…) وإنما عندما التحقت بمدرسة المقاصد كان الذي يتولى شؤونها العلمية يُسمى: المعلم الأول. ولكن، لا بدّ من أن أشير إلى أنه قبلي، وفي زمن أخوتي الكبار: عبد الله وعبد الغني وحسن، كانت توجد الصفوف الإعدادية والصف الإعدادي النهائي (وهو ما يعادل في يومنا الحاضر صف البريفيه). ولكن، في زمني وفي فترة دراستي، لم يكن هناك في مدرسة المقاصد سوى المرحلة الابتدائية. وأخوتي هؤلاء الذين ذكرتهم لك، وهم أكبر مني، كانوا في المرحلة الإعدادية. وبحسب ما قيل لي كانوا الأوائل في صفوفهم، كل واحد منهم في صفه. ولكن، بعد هذه الفترة، مرَّت مدرسة المقاصد في مرحلة تدهور في أوضاعها ولست أعلم السبب، حتى أنه لم يُعيَّن فيها مدير وألغيت الصفوف الإعدادية فيها. لذلك، كنت أنا قد سَمَّيْت عهدي في مدرسة المقاصد عهد الانحطاط، لدرجة أن توزيع الشهادات في نهاية المرحلة الابتدائية، قد تمَّت ووُزِّعت علينا دون إقامة الاحتفال السنوي المعتاد. لماذا؟… لست أدري!! ربما لأنه لم يكن هناك إدارة أو مدير أو حدث تغييرات في المدرسة. وإنني أذكر أن حصولي على الشهادة الابتدائية، قد كان عمري اثنتي عشرة سنة (أي في العام 1932)، وكان "المعلم الأول" أو المدير الأستاذ عبد الله الخليلي. وكان زميلي في الدراسة شفيق الأرناؤوط…. في الصف الثاني ابتدائي وما فوق، أحياناً يكون المعلم "نمرو واحد" الشيخ مصطفى الشريف، يعني في الصف أنه يحلّ محل المدير الذي ربما كان الأستاذ محمد طاهر المغربي. وكان أيضاً في إحدى السنين المدير الشيخ مصطفى الشريف. والأساتذة الذين علموني وأذكرهم تماماً هم: منيف لطفي، الشيخ مصطفى لطفي، داود الديماسي، محمد طاهر المغربي، خليل متى (لغة فرنسية) محمد بربر. هؤلاء هم الذين أتذكرهم.
وهنا أذكر أنه كان قد حصل معي حادثة مؤسفة مع الشيخ مصطفى الشريف الذي كان بمثابة "المعلم الأول" أو المدير. لقد قلت مرة إلى معلم اللغة الفرنسية، خليل متى، وسألته: هل أنت عربي وتتحدث اللغة الفرنسية أم أنك فرنسي؟!.. فأخذ هذا السؤال بمعنى سيِّىء وأساء فهمي، وحمله على أنني أقول له إنك فرنسي (ونحن تحت الانتداب الفرنسي وحكم الجيش الفرنسي). فذهب وأخبر الشيخ مصطفى الشريف بما قلت له. قبل الانصراف بعد الظهر، وأمام جميع التلاميذ ونحن في "الطلائع" نستعد للخروج، ناداني قائلاً: كامل البساط، فليأت إلى هنا، وسط ساحة المدرسة، وضربني "قتلة" بالعصى، وزربني نصف أو ثلاثة أرباع الساعة في المكتب بعد الانصراف. فذهبت بعد ذلك إلى البيت وأنا غاضب، وقلت لأخوتي: أنا لا أريد أن أذهب إلى المدرسة بعد اليوم، لأن الأستاذ ضربني وأهانني أمام جميع التلاميذ. وأنا في اعتقادي أنني لم أفعل شيئاً سيِّئاً. إن سؤالي هذا السؤال للمعلم، كان شريفاً، لم أقصد شيئاً آخر. فأنا برأيي: طفل صغير سأل سؤالاً وهو لا يقصد شيئاً سيئاً. ذهب إخوتي الكبار واتصلوا بالمدرسة وشرحوا للمعلم الموضوع وللإدارة وأوضحوا الأمر أنه لم يكن التلميذ، كامل البساط، خبيثاً أو يريد شيئاً. وانتهى الأمر عند هذا الحدِّ، وعدتُ في اليوم التالي إلى المدرسة، لأنني كنت في تلك الفترة في السنة الأخيرة من دراستي الابتدائية ويجب أن أحصل على شهادتي النهائية، وهذا ما حصل، إذ لم يكن هناك الصفوف الإعدادية آنذاك.
د. مصطفى دندشلي: … ماذا كان اسم المدرسة في تلك الفترة: مدرسة المقاصد أو مدرسة البنين الأولى؟..
الحاج كامل بدوي البساط: … مدرسة المقاصد. كنا نعرف اسم مدرسة المقاصد، ولم نكن نعرف اسماً آخر غيره… فأتممت تلك السنة في مدرسة المقاصد ونلت شهادتي الابتدائية منها. وأراد إخوتي أن أتابع دراستي، فسجَّلوني في "مدرسة الرشديَّة" في صيدا، حتى أتقوّى باللغة الفرنسية وأحصل على شهادة السرتيفيكا. إذ إننا في مدرسة المقاصد، لم نتقدَّم إلى امتحان شهادة السرتيفيكا. ولأجل الصدف، فقد كان الدرسان الأولان من الدروس درسَيْن باللغة الفرنسية، الواحد بعد الآخر. وكان المعلم يريد أن يمتحن التلاميذ الجدد، فكلما نطق أو لفظ جملة باللغة الفرنسية، يقول لي: قم، يا بساط، ماذا فهمت من هذه الجملة؟. وكلما قرأ جملة باللغة الفرنسية، يتوجه إليَّ قائلاً: ماذا فهمت، يا بساط؟ وبما أننا نحن في مدرسة المقاصد، لم نكن أقوياء باللغة الفرنسية، أو لأنه مضى علينا شهور لم نراجع فيها دروسنا الفرنسية، فكنت أقف وأتلعثم ولم أجب شيئاً… لذلك قد انتظرت حتى يُضرب حرس الفرصة حتى فتحت باب المدرسة وخرجت دون رجعة وقلت لهم: السلام عليكم. في ذلك الحين لم يضغط عليَّ إخوتي أو حاولوا إرجاعي إلى هذه المدرسة. ومنذ تلك الفترة، لم أعد إلى المدرسة ودخلت إلى حياة العمل.
وإذا أردت أن أعود قليلاً إلى الوراء وأحدثك عن أجواء التعليم في مدرسة المقاصد، فأنا أتذكر تماماً المواد الدراسية التي كنا نتعلمها، ويحضرني الآن طريقة الأستاذ مصطفى الديماسي، رحمة الله عليه، في التعليم، عندما يشرح ويكرِّر الشرح لأحد التلاميذ وهو بطيىء. ولم يحسن الإيجابة، فكان يُمسك بشعره ويشدُّ به من شدَّة غضبه. فلم يكن يضرب التلميذ، كما يفعل غيره من المعلمين، وإنما "يَفش خلقه" بشعره. وإنني أشهد بأن كل أساتذتنا كانوا مخلصين جداً جداً في إعطائهم الدروس وشرحها لنا بصبر وطول بال: مثلاً، الأساتذة محمد طاهر المغربي معلم التاريخ، منيف لطفي لغة غربية، الشيخ مصطفى لطفي قواعد عربي، داود الديماسي حساب وكذلك، كما أذكر أستاذ الرياضة عفيف المغربي، والشيخ مصطفى الشريف معلم الدين الإسلامي ونحفظ يومياً كثيراً من سور القرآن الكريم وبخاصة "جزء عمَّ" والصلاة ظهراً في الجامع الكبير المحاذي لمدرسة المقاصد.
وهنا، لا بدّ من أن أشير إلى أنه، إذا كانت مدرسة المقاصد تمرّ بأدنى مستوى من حيث الإدارة ومراحل التعليم في المرحلة التي كنت أدرس فيها، ولكن بعد خروجي منها بسنة بالضبط، تولى الإدارة فيها الأستاذ محمود الشماع، جاء محمود الشماع إلى إدارة مدرسة المقاصد بعد أن خرجت منها بسنة واحدة. (فيكون محمود الشماع قد استلم إدارة المقاصد وشؤونها العلمية والتعليمية والتربوية في العام 1933). وأذكر أيضاً أنه جاء بسنتين أو أكثر بعدي كتلاميذ بهاء الدين البساط وعدنان دمشقية ورفاقهما. وأخذ محمود الشماع كمدير جديد للمدرسة ينشىء صفاً أعلى في كل سنة، وهكذا حتى أصبحت الصفوف فيها حتى البكالوريا وسميت عند ذاك كلية المقاصد الخيرية الإسلامية. (وهنا يتحدث الحاج كامل بدوي البساط عن ظروف عمله وتنقله في العمل لدى إخوته، بما أن والده كان قد توفي رحمه الله، وذهابه في الصيف مع والدته لزيارة أخيه الكومندون محمد زكي البساط ضابط في الدرك، والذي يتنقل بحكم وظيفتـه من مكـان إلى آخر في مختلف مناطق لبنـان. ثم يشير إلى عمـل إخواته: عبد الله، حسن، أبو صلاح الذين لهم محلات "سمانة وبقالة"، وأبو عفيف تاجر سمانة وأبو غازي كان قد انتقل من محل السمانة والبقالة إلى فتح "المكتبة". وبعد ذلك يتوقف ملياً أمام الأحداث التي حصلت في صيدا والتي شارك فيها هو، وكانت نتيجة وصدىً لأحداث جرت إما في طرابلس أو في الشام، وإلقاء القبض على بعض القيادات السياسية في بيروت من حزب النجادة. وكان هو من الشباب المتحمسين والمندفعين للقضايا الوطنية والاستقلالية آنذاك، وكان له أصدقاء وأصحاب في كلية المقاصد يذكر منهم: حسيب سعيد البزري، وحسيب توفيق البزري ونهاد الجوهري وأحمد قدورة. وكان الحاكم في البلد في ذلك الحين "بتشكوف" فقاموا جميعاً وهو معهم ولربما كان مندفعاً أكثر منهم وشاركوا وقادوا هذه الأحداث والدعوة إلى الإضراب العام. وكان الاتفاق فيما بينهم أنه إذا ألقي القبض على واحد منهم فيجب أن يخبر عن الجميع. لماذا؟.. حتى تشترك جميع هذه العائلات الصيداوية معنا وتعمـل على الإفراج عنا. وهذا ما حصل بعد أن ألقي القبض على كامل البساط ووضع في مخفر الشرطة العسكرية الكائن في حينه فوق "الحسبة القديمة" ولَحِق به حسيب توفيق البزري وجرى التحقيق معهما ومن ثمَّ أودعا في القشلة مدة ثلاثة أو أربعة أيام. وبعد ذلك يذكر أنه علم أن بتشكوف كان قد أنذر أعضاء جمعية المقاصد وطلب منهم طرد مدير كلية المقاصد منها وهو قبول الذوق، وقد كان ذلك في العام 1941 ـ 1942. فقد اعتبر أنه المحرض الأول على هذه الأحداث والإضرابات في صيدا انطلاقاً من كلية المقاصد. وكانت الجمعية قد رفضت هذا الإنذار وأي تهديد من هذا النوع وقيل أيضاً في حينه إن أعضاء الجمعية كلفوا آخرين أن يحلوا محلهم في حال اعتقالهم. ولكن في نهاية الأمر، رضخت السلطة الفرنسية لما هو واقع وانتهت الأحداث وأفرج عن المعتقلين الشابَيْن كامل البساط وحسيب توفيق البزري….)….
د. مصطفى دندشلي: … حدثني من ذكرياتك عن الحركة الوطنية في صيدا، وكيف كانت في حينه المشاركة الصيداوية وشعب صيدا فيها…
الحاج كامل بدوي البساط: … أذكر على سبيل المثال أن الكتلة الوطنية في سوريا أثناء الانتداب الفرنسي هي التي تقود الحركة السياسية الوطنية الاستقلاليـة. وأذكر تماماً أن وفوداً كبيرة ذهبت إلى سوريا دعماً وتأييداً للكتلة الوطنية في صراعها السياسـي والوطني ضد الانتداب الفرنسي. (إذن كان ذلك عام 1936). فأنا أذكر أنني أنا وأخي حسن والوفد الصيداوي كنا قد التقينا أعضاءً من الكتلة الوطنية في أحد الصالونات في السراي ومررنا أمامهم. وكانت الاتصالات السياسية والوطنية مستمرة بين صيدا والشام وأي حدث سياسي ووطني وقومي يحدث هناك، يلاقي صداه هنا في صيدا. وكنا نحن هنا ندعو إلى الوحدة السورية ولم نكن نعترف بوجود لبنان مستقلاً عن سوريا ولا بالعلم اللبناني. واستمر ذلك إلى أن قام الاتفاق بين رياض الصلح وبشارة الخوري (عام 1943) فخف هذا التوجُّه (شيئاً فشيئاً ومع الزمن) نحو الوحدة السورية. وإن بقينا إلى حد ما ننظر إلى لبنان على أنه ليس هو الوطن الحقيقي لنا، إلى أن اندمجنا فيه فيما بعد. وأذكر أنه عندما يُنشد النشيد اللبناني في المناسبات (أو حتى في دور السينما) أو يرفع العلم اللبناني، لا نقف دليلاً على عدم الاعتراف بهما.
د. مصطفى دندشلي: … بكلمة مختصرة: لو طُرح عليك سؤالٌ حول دور المقاصد في العمل الوطني والسياسي وتفاعلها مع مدينة صيدا ومع الأهالي بصورة عامة، كيف كنتم تنظرون إلى هذا الدور؟!…
كامل بدوي البساط: … الفكرة في أذهان الصيداويين جميعاً أن جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية هي التي تقوم بتعليم أبناء صيدا ولولاها لما استطاع المسلمون في صيدا أن يتعلموا أن يعرفوا حتى الحد الأدنى من تعاليم دينهم ولغتهم وتدبير شؤونهم التجارية. فجمعية المقاصد كانت قد نشأت من صيدا ومن شعب صيدا وتتفاعل مع شعب صيدا وتبثُّ الروح وتدبَّها في صيدا، إلى حد كبير، أقصد الروح العلمية والثقافية والوطنية والعروبية. فكل وطني وعروبي في صيدا، كان منشأه في المقاصد. كل عائلات صيدا تقريباً كانت ترسل أبناءها إلى مدرسة المقاصد، والقلة القليلة من هذه العائلات التي كانت تسجل أبناءها في مدرسة الأميركان أو في مدرسة الفرير، لاعتقادها أنها هي أعلى درجة من مستوى محيطهم، وتريد أن يتعلم أبناؤها هنا، في كلتي المدرستين اللغات الأجنبيـة، وليس أكثر من ذلك ولا علاقة له بالجانب الوطني أو الإسلامي، لأننا كلنا يعلم أن المقاصد كانـت مقصِّرة في تعليم اللغة الأجنبية ومستواها ضعيف جداً فيها، فكانت بعض العائلات تفضل تعليم أولادها في المدارس الأجنبية.
ولكن المقاصد، كان موقعها من مدينة صيدا كموقع القلب في جسم الإنسان: التفاعل كلي ونشر الروح الوطنية والعربية في المدينة عبر المظاهرات والإضرابات والاحتجاجات وكانت فلسطين في مركز تحركاتنا وشعاراتنا وهتافاتنا. فكنت أنا أدعو الله دائماً أن تعود لنا فلسطين. وهذا الموقف الوطني تجاه فلسطين قد كان موقف الناس جميعاً. يضاف إلى ذلك أنه قد كان هناك اتصال بيننا وبين فلسطين: تجارة دائمة ومتواصلة. وكنت ترى السيارات والشاحنات يومياً ذهاباً وإياباً بيننا وبين المدن الفلسطينية خاصة عكا وحيفا وتبادل البضائع من كل الأنواع والأصناف من هنا إلى هناك ومن هناك إلى هنا. فكان التبادل التجاري سار على قدم وساق. وكذلك كانت العلاقة العائلية بين عكا وصيدا متينة جداً. وكان العكاويون يقولون بأن الصيداويين هم أخوانهم. أما أنا بالنسبة إليّ: عكا، حيفا، يافا، القدس، نابلس، صفد، طبريا، بيسان وحتى تل أبيب وغيرها، فكنت أعرفها وأقوم بتصريف البضائع فيها التي أحملها من صيدا وعقد اتصالات وعلاقات تجارية مع هذه المدن (…). ما أريد أن أقوله هو أن العلاقة كانت وثيقة بين صيدا ومختلف المدن الفلسطينية من ناحية العلاقات التجارية والاجتماعية والعائلية. (خاصة عكا وحيفا) وسياسية وطنية (…).
د. مصطفى دندشلي: … أريد الآن أن ننتقل إلى موضوع آخر وأن نتحدث عن الدكتور نزيه البزري، بمنتهى الموضوعية التاريخية، ذلك أنني في صدد تأليف كتاب عنه. فما هي ذكرياتك الشخصية، العائلية، الاجتماعية والسياسية عن الدكتور نزيه البزري. لنبتدئ الحديث عن هذه العلاقة من الناحية الشخصية والاجتماعية، وكيف كانت معرفتك به منذ البدايات الأولى؟
الحاج كامل بدوي البساط: … لقد تعرفنا إلى الدكتور نزيه (البزري) بعد ما أصبح طبيباً، فلم نكن نعرفه قبل ذلك. وأنا، كنت قد تزوجت في العام 1944، وبعد أن رزقنا بولد، ثم بآخر، فكنا نسمع عن الدكتور نزيه البزري كطبيب، والأطباء في ذلك الوقت قليلون. فأذكر منهم الدكتور فتيموس للأطفال، والدكتور خليل الشامي عيادته في شارع الشاكرية مقابل جامع المجذوب، وقبلهم الدكتور رياض شهاب والدكتور لبيب أو ظهر وآخرون…
أما انطباعي عن الدكتور نزيه البزري في تلك الفترة، فكان في الحقيقة يأسرنا بلطفه، كان حقيقة بلطفه الجمّ يأسرنا جميعاً. فهذا ما جعلنا أن نتحبَّب إليه. فكان لطيفاً جداً بكل معنى الكلمة وكطبيب فكان ناجحاً جداً من حين مجيئه إلى صيدا، وليس له مثيل في المدينة في ذلك الحين. فكانت يده وكأن فيها الشفاء السريع ومن اللمسات الأولى. وهو كثير التواضع. الله وأكبر، متواضع جداً. وأذكر هنا حادثة صغيرة حدثت لي معه، وهي أنه جاءني مرة هدية من مصر، عبارة عن قطعتين في بروازين مكتوب عليهما: الله جلَّ جلاله. فأهديت واحدة منهما إلى الدكتور نزيه (البزري). بعدها، فيما أذكر، في إحدى المناسبات ذهبت إلى بيته وأثناء الحديث ولست أدري كيف أتت المناسبة، فقال لي: الله جلَّ جلاله. يريد بهذا التلميح اللطيف أن يذكرني بهديتي إليه. فهذا إن دل على شىء، فإنه يدل على تواضعه الجمّ وكأنه يريد أن يقول لي: إن فضلك سابق عليَّ.
وعندما انتقلت عيادته إلى شقة مقابل السراي القديم، صادف أن سكنا مع عمي والد زوجتي في بيت فوق عيادته في نفس البناية. فعندما كان يريد أن يرتاح ويروِّح عن نفسه قليلاً، فكان يصعد إلينا ويجلس معنا. فكان أقل مرض أو وجع يحدث لنا أو لغيرنا في جسمه أو رأسه أو أي شىء من هذا القبيل، يا دكتور نزيه، الله يرضى عليك، فحضوره وتلبيته دائمة دون ملل أو تذمُّر.
فقد كان قريباً جداً من الناس، كل الناس. مثلاً، هو أجرى لي عمليتين في ظفر قدمي في مستشفى الراهبات في صيدا القديمة، سوق الكندرجية، وهو ليس طبيباً جراحاً. كما أن زوجتي مرة تضايقت جداً من الولادة، فأجرى لها عملية "كورتاج". فهو لم يكن جراحاً ولا طبيباً نسائياً. فكان يمارس كطبيب جميع الاختصاصات تقريباً، التي كان طبعاً واثقاً من أنه يستطيع أن يقوم بها.
فكان نزيه البزري كطبيب وكإنسان لطيفاً جداً وخدوماً بكل ما تحمل الكلمة من معنى. فكل هذا السلوك وهذه التصرفات تجاه الناس، كل الناس، جعلتنا غصباً عنا أن نحبه ونعشقه. وهي تدل عن طبيعة وخلق ومكنونات في داخل الشخصية، طبعاً، لا شك في ذلك. فلم يكن يقوم بهذه الأشياء ويفعل ذلك تصنُّعاً أو تكلفاً أو لغاية سياسية، لأن التصنَّع يظهر رأساً ويُبان بوضوح.
بل أقول أكثر من ذلك إنه لم يكن حينذاك له أي هدف أو مأرب سياسي، ولا حتى كان يخطر في باله. والشىء العظيم فيه أنه لا يقبض بدل المعاينة، لا يقبض من أكثر الناس الذين يعاينهم… ولم يكن "حاطط" (وارد) في فكره لا السياسة، ولا مَن يحزنون. فكان الجانب الإنساني هو الذي يحركه في عمله الطبّي، أنا لا أشك في ذلك أبداً.
هذا هو انطباعي الشخصي نحوه: قد يُقال بأن شهادتي مجروحة نحوه، أنا أقول: لا، هذا هو الواقع. يشهد الله أن هذا هو الواقع الذي لمسناه منه، نحن…. يظهر رأساً الإنسان المتصنِّع والإنسان الصادق في تصرفاته وسلوكه. لم يقصده أحد من الناس من داخل المدينة القديمة، فكنت تجده دائماً بين الحارات والطبقات الفقيرة يسلك السلوك نفسه مع أيِّ إنسان آخر، لا شك في ذلك. ولا يقصده أحد من الناس، ويرده خائباً، في النهار أو في الليل. من أجل ذلك كله، فقد كَسَب محبَّة كل الناس.
د. مصطفى دندشلي: … عندما تعاطى الدكتور نزيه البزري العمل السياسـي، كان ذلك في وجه زعيم وطني كبير. وصيدا كانت دائماً منذ زمن تؤيد رياض الصلح وتدعمه في مواقفه الوطنية وهو أصبح كما كان يسمى "رجل الاستقلال". فترشح نزيه البزري ضد هذا الرجل الوطني. فاحتضنت صيدا نزيه البزري. ما هو تفسيرك أنت وبحسب معلوماتك لهذا الموقف السياسي للمدينة؟..
الحاج كامل بدوي البساط: … ربما يكون السبب نقمة ضد رياض الصلح، لأنه لم يعط مدينة صيدا كل اهتماماته طوال فترة نيابته، وهي ليست بالقصيرة. ربما يكون هذا هو السبب الأساسي. فهذه كانت ثغرة في حياة رياض الصلح السياسية تجاه صيدا التي كانت دائماً الحاضنة والمؤيدة والمدافعة عنه. وكانت هذه الثغرة تكبر وتتَّسع مما أدى إلى نوع من ردة الفعل ونوع من "فشَّة الخلق" لمدينة صيدا التي أيَّدت في وجهه نزيه البزري. (هذا صحيح، ولأن رياض الصلح كان يعتمد في صيدا على مجموعات عائلية وفئة سياسية معينة هي التي تمثله وتنطق باسمه ودون أن ندخل في التفصيلات).
د. مصطفى دندشلي: … في تلك الفتـرة، هل كان قبلها وأثناءها، توجد شخصية صيداوية يمكنها أن تواجه رياض بك الصلح رجل الاستقلال، كما واجهته شخصية نزيه البزري؟ أم أنه في تلك الفترة لم يكن هناك شخصية اجتماعية أو سياسية من الممكن أن تقف في مواجهة رياض الصلح انتخابياً إلا شخصية نزيه البزري، وذلك للعلاقات الإنسانية والطبيَّة الواسعة التي عقدها نزيه مع أهالي صيدا والتي كان عمرها أكثر من عشر سنوات؟!…
الحاج كامل بدوي البساط: … أنا أوافق كلياً على تحليلك وهو صحيح وفي محله بالضبط. فلم يكن هناك أيَّ شخصية أخرى سوى هذه الشخصية النزيهه وهذه الصفة تنطبق على الاسم. ولم يكن له عداوات أو خلافات شخصية مع أحد أو لم يكن له مواقف حادة ضد هذا الفريق أو ذاك، وهو من جذور عائلية معروفة في صيدا وهو طبيب ناجح وله خدمات لكل الناس وأثبت وجوده في ميدان الطب والصحة العامة بسرعـة…. (وهنا يتوجه الحاج كامل بدوي البساط إلى زوجتي آمال ابنة أخيه الحاج عبد الغني البساط الجالسة بجانبه ويقول لها ضاحكاً: زوجك، يُنطق الحجر، زوجك ينطق الحجر…. وأتمنى وأرجو من الله أن تكون في النهاية نياتنا صادقة وصالحة، إن شاء الله….