إشكالية الثقافة ودور المثقف بين النظرية والممارسة : نظرة مستقبلية (1 )
إشكالية الثقافة ودور المثقف
بين النظرية والممارسة : نظرة مستقبلية ( )
[ ... ] أولاً ، حول إشكاليّة الثقافة ، وهذا اصطلاح يُستخدم الآن في أدبياتنا بشكل واسع . والإشكاليّة كلمة من " المشكلة " و" المشكل "... وهذا التعبير في الأصل تعبير فلسفيّ ... وقد امتدّ الآن ويُستعمل بكثرة في مختلف العلوم الإنسانيّة ، من علم اجتماع واقتصاد وسياسة وغيرها ... ويعني هذا الاصطلاح الحديث : بحث ظاهرة من الظواهر من جوانبها المتعدّدة ، ومن وقائعها المتشابكة والمتداخلة والمتفاعلة ، والتي يكتنفها الغموض واللَّبَس ، والتي يصعب حلُّها قبل معرفة أسبابها والظروف المحيطة بها ، وتحليلها للوصول إلى اكتشاف كنهها ... أو بتعبير آخر ، الإشكاليّة ، كاصطلاح ، هي مجموعة من التساؤلات التي تُطرح حول ظاهرة من الظواهر الاجتماعيّة أو الفكريّة أو السياسيّة أو الفلسفيّة أو الاقتصاديّة ، وذلك من مختلف جوانب هذه الظاهرة والأجزاء أو العناصر التي تتكوّن منها ، لمعرفة حقيقة هذه الظاهرة وإدراكها ... فالإشكاليّة تتطلّب ، بحسب هذا المفهوم ، الاعتماد على منهج ، أو هي الطريقة في البحث والاستقصاء والتفكير الانتقاديّ لإيجاد حلول للمعضلات أو للقضايا التي تطرحها ...( )
من هنا ، وممّا تقدّم ، نلاحظ أنّ هذا الاصطلاح ، " إشكالية "، يحمل كثيراً من الغموض وعدم الوضوح ... لهذا استعملناه كصفة إضافيّة إلى " الثقافة "... ذلك أنّ الثقافة ، كمصطلح حديث ، هي أيضاً شديدة الغموض وتُثير كثيراً من الالتباس ...
إلى هنا ، حتى نستطيع أن نقف على معنى هذا التعبير " ثقافة "، كما هو متداول في ظروفنا الراهنة ، لا بدّ من أن أتوقف قليلاً ، وألقي نظرة سريعة حول تاريخيّة الاصطلاح واستعمالاته المختلفة..
أولاً " الثقافة " في علم الاجتماع والأنتروبولوجيا ، إنّما هي مفهوم شامل لحياة الإنسان ، الماديّة والعمليّة والروحيّة والعقليّة والسلوكيّة ـ الاجتماعيّة ... وبهذا المعنى ، كمفهوم وكمصطلح حديث ، تتعارض الثقافة مع الغريزة . فالغريزة ، كما نعلم ، هي كلّ ما ينشأ مع العضويّة عند الكائن الحيّ ... فكلّ ما عدا ذلك من حياة الإنسان ، يدخل ضمن " الثقافة "... وكلّ ما يكتسبه الإنسان إنّما هو بهذا المعنى من عناصر الثقافة في المجتمع ...
لقد نشأ هذا الاصطلاح " ثقافة " في أوروبا ، انطلاقاً من فرنسا، وكان يعني " حراثة الأرض". وهو المعنى الأساسيّ والأصليّ للكلمة .. طبعاً لن أتوسّع وأدخل في تفاصيل التغيّرات التي حصلت واستجدت لهذا الاصطلاح .. فقد انتقل من معنى " حرث الأرض " إلى ألمانيا ، حيث اُعطيَ المعنى الحضاريّ ـ التاريخيّ واستخدم بالاعتماد على مفهوم التاريخ العام ... وكان هناك تمييز بين مفهوم الثقافة ومفهوم الحضارة ... وبعدها انتقل هذا المفهوم إلى إنكلترا ومنها إلى الولايات المتحدة الأميركيّة ، ثم عاد ورجع إلى فرنسا ... وكان في كلّ نقلة أو انتقال من هذه الانتقالات يدخل عليه معانٍ جديدة ... لا أريد أن أدخل أكثر في تفصيل ذلك ، وإنما أودّ أن أشير إلى نقطة أساسيّة ، وهي أنّ هذا الاصطلاح : " الثقافة "، يُستعمل الآن بمعنى " الحضارة "، عند علماء الاجتماع والأنتروبولوجيا ، ويُستخدمان غالباً بمعنىً واحدٍ من حيث المضمون. وهو يضمّ شتّى الجوانب الماديّة والروحيّة للمجتمع...
طبعاً ، عندما نستعمل ، بصورة عامة ، كلمة " ثقافة " في أدبياتنا ، وعندما نقول " إشكاليّة الثقافة "، أو " الحركة الثقافيّة "، فإنّ ما نقصده وما يتبادر عموماً إلى الذهن هو الجانب العقليّ والفكريّ والروحيّ ، دون الجانب الماديّ للمجتمع ... بهذا المعنى ، الثقافة تعني ، كمفهوم خاص ، التطوّر العقليّ والفكريّ والروحيّ والعلميّ، ومدى هذا التطوّر ومستواه في مجتمع ما ، أو في بيئة اجتماعيّة معيّنة... هنا الثقافة تشمل المعارف على أنواعها والآداب والفنون على اختلافها والعلوم الإنسانيّة إجمالاً . هذا هو، برأيي ، المعنى أو المفهوم الخاص أو المعنى السائد والمنتشر عند الرأي العام للمصطلح ، عندما نتحدّث عن الثقافة وعن الحركة الثقافيّة في مجتمع ما .. فتكون الثقافة بهذا المعنى هي الحركة الفكريّة والعقليّة والعلميّة ومختلف النشاطات التي لها علاقة بالعملية الذهنية ...
إلى هنا ، أنتقل إلى مفهوم الثقافة وإلى مفهوم المثقف في تراثنا وفي أدبنا العربي ... ويبدو أنّنا لم نعرفهما في تراثنا الفلسفيّ ولا الأدبيّ ولا الفكريّ. فكان يُستعمل بدل تعبير " المثقف "، كلمة ، الكاتب، الشاعر ، الأديب ، الفيلسوف ، العالم ، الفقيه، إلخ ... إنّما لفظة " مثقّف " كان لها معنى لغويّ آخر سوف آتي على ذكره في ما بعد . كذلك الثقافة : فالثقافة والمثقّف مصطلحان حديثا الاستعمال بمعناهما الحديث . فنحن حتى الآن لا نعرف معرفة دقيقة وتفصيليّة تاريخيّة المصطلحان ومَن استعملهما ومتى ، بهذا المعنى الحديث لأول مرة ...
والثقافة هي ترجمة لكلمة culture في اللغة الفرنسية ، وكلمة مثقف ترجمة لكلمة Intellectuel وإذا أردنا أن نبحث عن أصل الاشتقاق اللغويّ في لغتنا العربيّة فإنّنا نجد أنّها تأتي من ثَقِف أو ثَقَف وثَقُف ثَقْاً وثَقَفاً وثقافة ، بمعنى صار حاذقاً خفيفاً . وثَقِف الكلام ثَقْفاً وثقافة أي حذقه وفهمه بسرعة ... وثَقِفَه ثَقْفاً أي ظفر به وأدركه ... كما أنّنا لا نجد ورود كلمة " ثقافة " أو " مثقّف " في القرآن الكريم ، وإنّما وردت في اشتقاقها بهذا المعنى : وقاتلوهم حيثما ثَقِفْتموهم ، أي أدركتموهم وظفرتم بهم ...
طبعاً ، المجال لا يسمح لي أن أدخل في تفصيل هذه الاشتقاقات ومعانيها المتنوّعة وإنّما أشير إلى أنّ كلمة : ثَقِف وثَقَف الرمح ، تعني هذّبه ، شذّبه ، صقله .. فالمثقّف تعني في عُرف الشعراء ، الرمح ... هذا هو المعنى اللغويّ للكلمة . وثَقِف الولد وثَقَفه بمعنى هذّبه وعلّمه . من هذا المعنى اشتقت كلمة " ثقافة " بمعنى التهذيب والتربية والحذق والإدراك ، إلخ ... هذه هي المعاني اللغويّة ، بكثير من الاختصار ، للثقافة وللمثقّف ...
ونحن عندما استعملنا كلمة " ثقافة "، بمعناها الحديث ، لا نعرف ، كما قلت ، تاريخيّة هذا الاصطلاح . ولكن يُقال في هذا المجال بأنّ أول من أدخل كلمة " ثقافة "، بمعناها الاصطلاحيّ في أدبياتنا هو الدكتور محمود عزمي ، أحد الكتّاب والأدباء المصريّين في أوائل هذا القرن ، وهناك من يقول بأنه سلامه موسى ( ). على أيّة حال ، حول تاريخيّة استخدام هذا الاصطلاح وأوّل من استخدمه من الكتّاب العرب ، فلا تزال المسألة خلافيّة من الناحية التاريخيّة ، أو لا تزال إشكاليّة غير مبتوتة أو محسومة .
كذلك كلمة " مثقف ". فهذه الكلمة تُستعمل في التداول السائد الآن منذ وقت قريب . ويبدو أنّه لا يتجاوز النصف قرن أو منذ الحرب العالميّة الثانية ، في أحسن الاحتمالات . وحتى أنّه ، في ما بين الحربَيْن ، لم يُطلق على الكاتب أو الأديب أو الفيلسوف أو غيرهم صفة " مثقف ". وإنّما يبدو ، كما يقول أحد الكتّاب المصريّين ، أنّه مع ثورة يوليو 1952 ، ابتدأ هذا الاصطلاح " مثقف " يأخذ معنىً سياسياً ..
فحول تاريخيّة هذا الاصطلاح واستعمالاته في أدبياتنا ، فليس لديّ في الحقيقة معلومات حتى الآن أكثر من ذلك . ولكن بالعودة إلى أصل منشأ اللفظ " مثقف "، فلربما نستطيع أن نوضح نوعاً ما المعنى الأساسيّ ومفهوم الاستعمال . هنا أشير إلى أنّ أول مرة استعمل بالمعنى الحديث اصطلاح " مثقف " intellectuel كان ذلك في فرنسا .. وهو مشتق في اللغة الفرنسيّة : من كلمة intellect تعني العقل ، الذهن ، واشتق منها صفة intellectuel ، ذهنيّ ، عقليّ ، أي ما لـه علاقة بالعقل أو بالذهـن . ويجـري دائماً في اللغة الفرنسيّة مقارنة بيـن العمل الذهـنيّ travail intellectuel والعمل اليـدويّ travail manuelفالعـمل الذهنيّ والفكريّ يقابله العمل اليدويّ . فهنا ، كلّ عمل ليس له علاقة بالشيء الماديّ أو بالممارسة المحسوسة ، فكان يصنف بأنّه عمل ذهنيّ أو فكريّ .
فإذن ، هذه الكلمة في البداية كانت صفة . وأول مرة استعملت في اللغة الفرنسيّة كاسمSubstantif ، كان ذلك في حادثة تاريخيّة مشهورة في فرنسا تسمى قضيّة " درايفوس "" Dreyfus . وهو ضابط يهوديّ في الجيش الفرنسيّ ، حوكم محاكمة سريعة وصوريّة وأُعدم ، فأثارت هذه الحادثة ضجة في الأوساط الأدبيّة والفكريّة الفرنسيّة ، بين مؤيد ومعارض لهذا الإعدام .. فصدر على أثر ذلك ما سُمّيَ " بيان المثقّـفين " le manifeste des intellectuels ففي أثناء هذه الحادثة بالذات استعملت لأول مرة عام 1898 كلمة " مثقف "، بهذا المعنى ، وأصبح مضمونه هو التالي في ما بعد : المثقّف هو الإنسان الذي يرى المجتمع من منظار نقديّ ويستخدم خطاباً نقدياً : معارضة دائمة للسلطة القائمة ، السلطة السياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة ، وكل ما له علاقة بقضايا المجتمع والإنسان ...
إذن ، في أصل هذا الاصطلاح ، المثقّف هو الإنسان الناقد ، والمعارض .. فالمثقّف هـو مرآة تعكس صورة " مفترسة " للسلطة في المجتمع ، وتحثّ على العمل الفكريّ والممارسة العمليّة من أجل تغيير المجتمع والسلطة فيه . فالمثقّف يُعرَفُ من خلال عمله النقديّ . وعليه أن يساعد المجتمع بأن يعيَ ذاته وذلك عن طريق الكتابة أو عن طريق الخطاب . ومهمّة المثقّف ووظيفته ودوره الفكريّ والاجتماعيّ والسياسيّ أن يدلّ على عيوب المجتمع وأخطائه وثغراته وأن يشجب ويستنكر ويعترض . من هـذه الزاويـة ، ليس هناك من ينجو من النقـد . إنّ موقف " إميـل زولا " Emil Zola في قضية "درايفوس ". يعطي المثل ويقدّم النموذج ويحدّد المعنى للمثقّف في المفهوم الفرنسيّ ، بداية ، على صعيد التحليل النظريّ وعلى صعيد الممارسة العمليّة . لذلك ومن هذا المنظور ، فإنّ مفهوم المثقّف اليمينيّ مناقض للمعنى نفسه ، مناقض في معناه وفي جوهره وفي أصله في اللغة الفرنسيّة . فهناك ، إذن ، من جهة ، المثقف الناقد والمعارض في الفكر والممارسة . وهناك ، من جهة أخرى ، الكاتب ، " حارس النظام " chien de garde والمحافظ عليه والمدافع عن الأمر الواقع والسلطة السائدة فيه ...
لهذا فإنّ أحد الكتّاب الفرنسيّين يقول أنّ ليس هناك ، بهذا المعنى النقديّ الدائم والمستمر ، من وجود لمثقّف في مجتمعاتنا . ذلك أنّه من الممكن أن يستخدم الكاتب أو المفكر خطاباً نقدياً إعتراضياً في قوله وفعله ، ولكن إذا تغيّرت الظروف وأصبح جزءاً من السلطة ، أيّ سلطة اجتماعيّة ، أو السلطة السياسيّة ، السلطة المسيّطرة ، أياً كانت هذه السلطة ، تسقط عنه صفة المثقّف . وقد قيل بأنّ المثقّف الوحيد الذي عرفه التاريخ هو " لينين "، المعارض الدائم قبل استلام السلطة وحتى وفاته بعد استلام السلطة بوقت قليل . فقد انتقد السلطة القائمة في الاتحاد السوفياتي ، هذه السلطة التي عمل طوال حياته السياسيّة على مجيئها . ولكن السؤال يبقى مطروحاً : لو أنّ الظروف سمحت للينين أن يستمر أو أنّه بقيَ حياً بكامل نشاطه السياسيّ والفكريّ ، فهل سيصبح ، هو أيضاً ، جزءاً من السلطة ومدافعاً عنها وعن وجودها أم أنّه سوف يستمر في استخدامه لسلاح النقد ونقد النقد ؟!... هذا سؤال سوف يبقى مطروحاً ، ومن الصعب الإجابة عنه .
في هذا السياق ومن هذا المنظور لتطوّر استعمال اللفظ التاريخيّ ، أرى من المفيد أيضاً أن أعطيَ لمحة سريعة عن مفهوم المثقّف عند " غرامشي ". وهو مفهوم مهمّ جداً ويُطلق عليه اسم " المثقّف العضويّ ". ويمكن تلخيص فكرة " غرامشي " في هذا الموضوع وهي أنّ " المثقّفين العضويّين " هم جزء من طبقة اجتماعيّة أو فئة اجتماعيّة ، لها مهمّة محدّدة ولها وظيفة معيّنة وهي أن تُعطيَ للمجتمع أو للجماعة أو للفئة الاجتماعيّة : 1) وحدتها البنيويّة والتكوينيّة التكامليّة ، 2) ووعيها لذاتها ، 3) ووعيها لوظيفتها . هذه باختصار ، النقاط الأساسيّة أو المهمّات الموكولة إلى المثقّف أو المثقّفين بنظر غرامشي.
وأختم هذا الجانب بإعطاء كذلك فكرة سريعة عن موقف لينين من المثقّفين ، والذي لم يكن موقفه موقفاً إيجابياً منهم بل موقفاً نقدياً ، أحياناً قاسياً . هناك إجمالاً ، من وجهة نظر الفكر الماركسيّ عموماً ولينين تحديداً ، دون أن ندخل كذلك في التفصيل ، هناك المثقّفون من جهة والبروليتاريا من الجهة الأخرى ، وبينهما تناقض اجتماعيّ . ويرى لينين أنّ ما يميّز المثقّف أو المثقّفين أولاً الفرديّة ، وثانياً عدم المقدرة على التنظيم ، التنظيم السياسيّ بصورة خاصة ، ثم هناك ثالثاً نمط الحياة والسلوك النّفسيّ والاجتماعيّ للمثقّفين ، هذا السلوك الذي يميّزهم كلياً عن ذلك الذي هو خاص بالبروليتاريا .
* * *
فكما نرى فإنّ مفهوم الثقافة والمثقّف ، من المفاهيم الصعبة والمتشعبة والمتداخلة والغامضة . ولكلّ مفكر وكاتب تعريفه الخاص أو الحقّ في أن يكون لـه تعريفه الخاص للثقافة ومفهومه للمثقّف . وهناك اختلافات في وُجهات النظر كثيرة في هذه الناحية .
لذلك يبقى السؤال مطروحاً : ماذا نريد من الثقافة ؟... وما هي علاقة الثقافة بالسلطات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة ، إلخ ؟... وفي لبنان سؤال مطروح هل " تطيّفت الثقافة "، بمعنى أنها أصبحت طائفيّة ؟!... إنّني أُلفت إلى أن الثقافة تُستعمل هنا بمعنى : " التطوّر الفكريّ والعمل الذهنيّ والعقليّ والعمليّ ". وتشمل الحركة الفنيّة والأدبيّة والفكريّة ، إلخ ... هذا هو بالذات ما أقصده ، هنا ، بطرح السؤال إذا كانت الثقافة في لبنان قد "تطيّفت ". فأبتعد قليلاً عن معناها الاجتماعيّ والأنتروبولوجيّ.
* * *
في هذا المنحى ، آتي الآن إلى إعطاء مفهومي الخاص ، ومفهوم مركزنا الثقافيّ ، للثقافة والعمل الثقافيّ ودور المثقّف . واسمحوا لي في البداية أن أشير إشارة سريعة إلى كلمة " ثقافة " التي اتخذها مركزنا صفة له منذ تأسيسه عام 1977 - 1978 ، لم تأتِ صدفة ، أو تقليداً ، وإنّما كان لها في أذهاننا معانيها البعيدة . وأشير أيضاً إلى أنّ لمركزنا الثقافيّ خلفيّة فكريّة وثقافيّة ، يمكن اختصارها بالنقاط التالية :
1) الانطلاق من ملاحظة استقرائيّة عامة ، تُظهر أنّ الفكر العربيّ بمجمله ـ وهذه ناحية أشدّد عليها دائماً في جميع لقاءاتنا الثقافيّة ـ والفكر هنا في لبنان بوجه الخصوص ، إنّما هو فكر مجرّد ، ونظريّ ، مطلق ، بعيد إلى حدّ صارخ أحياناً عن الواقع . فهناك فِراقٌ بين الفكر والواقع المحسوس ، هناك طلاق بينهما . كما ويبدو بوضوح ، وهذه فكرة أيضاً أشدّد عليها كثيراً ، وكلما ازددت اطلاعاً وقراءة لما يكتبه المثقّفون عندنا ، أزداد اقتناعاً بهذه الفكرة ، وهي أنّ مثقّفينا يميلون غالباً إلى طرح القضايا ، وحتى القضايا المصيريّة منها ، في صورتها الكلّية ، النظريّة المجرّدة ، والبعد عن المعالجة الواقعيّة ـ التاريخيّة المحسوسة . فمفاهيمنا وآراؤنا هي أقرب في كثير من جوانبها إلى المفاهيم الغيبيّة والآراء " الأسطوريّة " ((mythique بالمعنى الأنتروبولوجيّ للكلمة ( ) التي تُحجب عن إدراكنا ووعينا رؤية حقيقيّة للواقع . فنحن هنا ، في المركز الثقافيّ ومن خلال تجربتنا الذاتيّة المتواضعة ، نريد فقط أن نقول بأنّ العمل الفكريّ والثقافيّ الصحيح هو الذي ينطلق من جزئيات الواقع إلى كلياته ، ومن الكليات إلى الجزئيات ، بحركة جدليّة متفاعلة ، كلّ ذلك من أجل الوصول إلى معرفة ذلك الواقع معرفة ذاتيّة وموضوعيّة حقيقيّة .
2) ينتج عن هذه الملاحظة الأولى فكرة كانت ولا تزال محور أهداف المركز ونشاطاته الثقافيّة والاجتماعيّة وملخصها : أنّ أيّ عملية إصلاح حقيقيّة للمجتمع ، مهما كانت بسيطة وجزئيّة ، يجب أن تبدأ من واقع هذا المجتمع بجوانبه المتنوّعة . فالإصلاح أيّ إصلاح ، مهما كان جزئياً ، يجب أن يسبقه أو أن يلازمه استيعاب ذلك الذي نحن بصدد إصلاحه وهو المجتمع والواقع الاجتماعيّ . فلا يمكن القيام بعملية تغيير حقيقيّة ، ولمصلحة الإنسان، لما لا نفهمه ولا ندركه . فالانطلاق من معرفة هذا الواقع ، بكلّ تفصيلياته وجزئياته ، ضرورة علميّة حتى تكون عملية التغيير واعية وصحيحة .
3) إنّ عملية التحوّلات الثقافيّة والفكريّة هي أصعب وأبطأ بكثير ، بالنظر للتحوّلات الماديّة للمجتمع ، من شقّ الطرق وبناء مصانع وعمارات وشوارع وشركات إعمار . إنّما بناء الإنسان ، بتحولاته الفكريّة والثقافيّة والاجتماعيّة هو الأصعب . وهنا تكمن المعضلة الأساسيّة . فالتغيير الماديّ للمجتمع ، مع أهميته القصوى ، ينبغي أن يرافقه في الوقت ذاته ، أو أن يسبقه ، وعيٌ فكريّ ، ومعرفة حقيقيّة ، حتى تكون رؤية المستقبل أوضح وطرق الإصلاح والتقدّم أضمن .
4) فالثقافة هنا ، إذن ، وكما أفهمها أنا شخصياً ، هي الثقافة الواقعيّة ، لا الثقافة المثاليّة المجرّدة أو النظريّة . إنّ للمثقّفين عموماً والفكر الاجتماعيّ على الخصوص ، دوراً أساسياً في مرحلة التغيير وفي مرحلة تحرير الأرض والوطن والإنسان .
فالثقافة بهذا المعنى هي " التزام " حقيقيّ ، هي التزام داخليّ ، ذاتيّ وموضوعيّ في آن معاً . التزام واعٍ بقضايا الناس وقضايا المجتمع وقضايا الشعب . هي التزام فكريّ بظروف الواقع من أجل السيطرة على المحرك الاجتماعيّ ـ السياسيّ في تطوير المجتمع . الثقافة هي العقل والعلم والتنظيم والواقعيّة الاجتماعيّة ...
5) هنا يُطرح السؤال في هذا السياق أيضاً حول من هو المثقّف ؟!... إنّ المثقّف ، نتيجة لما تقدّم ، هو ذلك الإنسان الذي يلتزم التزاماً عميقاً بقضايا مجتمعه ، ويدركها إدراكاً واعياً ، حتى يستطيع أقلّه نظرياً أن يتحكم بمختلف جوانبها. فالمثقّف هو الذي يعيش في صميم الواقع لا بعيداً عنه أو غريباً. هو الذي يعيش ظروف المجتمع . لذلك نجد أن صفة أساسيّة من صفات المثقّف الحقيقيّ هي صفة النقد ونقد النقد . والمثقّف ، كما أراه وأتصوّره ، هو الإنسان الذي يطمح دائماً وباستمرار نحو الأفضل . هو ذلك الإنسان الذي يحمل معوله على كتفه ويحاول أن يهدم من أجل البناء ، بناء " إنسانيّة الإنسان " في مجتمع حرٍّ وعادل ...
6) فمن ضمن هذه الرؤية لمفهوم الثقافة والعمل الثقافيّ ، فإنّ نشاطات مركزنا المتنوّعة من تنظيم الندوات والمحاضرات وعقد اللقاءات الثقافيّة وتحقيق الأبحاث والدراسات الاجتماعيّة والتربويّة وتأسيس مركز للتوثيق والمعلومات تابع لـه ومتخصّص بقضايا المجتمع في واقعنا المحليّ والجنوبيّ واللبنانيّ ، إنّما يعتمد ذلك كلّه على تلك المنهجيّة التي ذكرت في الفكر والبحث والعمل الثقافيّ ...
7) وهنا أخيراً اسمحوا لي أن أتقدّم ببعض المقترحات من أجل أن يتبلور لدينا تصوّر نظريّ وعمليّ لمشروع ثقافيّ مستقبليّ ...
أ ـ من الأهمية بمكان كبير أن نحدّد مفاهيمنا الثقافيّة والفكريّة والسياسيّة ، وأن نحاول توضيح مضامينها بصورة تزيل عنها ما علق بها من التباس وإبهام وغموض .
ب- أن نعمد إلى تحديد قضايانا المصيريّة الملحة ، تحديداً واضحاً وطرحها في العمق وعلى مستويات مختلفة .
ج- أن نعتمد اللقاءات الفكريّة والثقافيّة بشكل دوريّ وكصيغة عمل بين المثقّفين وتحت صيغ متنوّعة وذلك من أجل إيجاد لغة ثقافيّة مشتركة حول مواضيع محدّدة . فالمثقّفون هم طليعة عمليّة التغيير الاجتماعيّ وبناء مجتمع أفضل ...
والآن أفتح باب الحوار ، ولا شكّ في أنّ المناقشة العامة ستُغني هذه الطروحات الثقافيّة الجزئيّة التي قدمتها ...
* * *
* الأسطورة : Le mythe ، بالمعنى الأنتروبولوجيّ للكلمة ..هي ظاهرة اجتماعيّة ـ فكريّة قد يكون لها أساس من واقعيّة ما ، ولكن قد تضخم هذا المفهوم كثيراً مع الزمن حتى أصبح بينه وبين الواقع فارق كبير ، حتى أصبح هناك فارق واختلاف بين المعتقدات الفكريّة والتصوّرات الذهنيّة ، وبين الواقع الحقيقيّ والتاريخيّ لهذه الظاهرة ...
* الأسطورة : في اللغة هي الحديث الذي لا أصل لـه ، يُقال : " إنْ هذا إلاّ أساطير الأولين ". والأسطورة في علم الاجتماع والأنتروبولوجيا في أحد معانيها وكما أفهمها أنا ، هي التصوّر الخياليّ ذو أصل تاريخيّ ـ اجتماعيّ ، أو هي حديث خرافيّ يفسر معطيات الواقع الفعليّ ، بكيفية معيّنة ولمصلحة سياسيّة أو اجتماعيّة أو دينيّة معيّنة ، تُحجبه عن الإدراك والوعي الحقيقيّ . هي رؤية وهميّة للواقع الفعليّ ، تُستخدم لمنفعة خاصة أو لغرض آنيّ لإثبات صحة الموقف الذاتيّ ، أو لمواجهة الخصوم بإثارة العواطف والانفعالات الجماعيّة والفرديّة على حدّ سواء ...
الأسطورة أيضاً هي صورة الماضي أو الحاضر أو المستقبل أو جميعهم ، تعبّر عن تصوّر أو رؤية وهميّة ، أو مجتزأة للواقع الفعليّ ، وتظهرها كأنّها حقيقة تثير عواطف الجمهور وانفعالاته من أجل تثبيت الوحدة المجتمعيّة وتأجيج العصبيّة وتماسك الجماعة إزاء تحديات خصوم الداخل أو أعداء الخارج.
* فالعقل الأسطوريّ هو العقل المخرّف mythomanie الذي يُقلب اختراعات الخيال الوهميّ ، إلى حقائق واقعيّة .[ لمزيد في التفصيل ، أنظر ، جميل صليبا وكذلك أحمد زكي بدوي .. م. س ].
* " جورج سوريل " يرى أنّ كلّ كلام مبالغ فيه ، على التمرد والعصيان ، لا يستطيع أن يحمل الناس على الثورة أو على التحرك الجماعيّ ، دون وجود أسطورة تحرك القلوب والعواطف والانفعالات ...
* ولي محاولة لتفسير بعض التيارات السياسيّة اللبنانيّة بالاعتماد على هذا المفهوم الأسطوريّ : مثلاً تعبير الخوف عند المسيحيّين ، والغبن عند المسلمين السُنّة والحرمان عند المسلمين الشيعة ، ثلاثة مفاهيم الخوف والغبن والحرمان ، هي مفاهيم أسطوريّة ، بهذا المعنى . صحيح أنّ لهذه المفاهيم واقعاً تاريخياً أو اجتماعياً أو ذاكرة تاريخيّة ، ولكن أدخلت عليها مبالغات ضخمة واستخدمات انفعاليّة ووجدانيّة بعيدة عن واقعها الحقيقيّ ، بحيث أنّه أصبح هناك فارق كبير وهوة ساحقة بين هذه المفاهيم ، الخوف والغبن والحرمان ، والواقع الحقيقيّ على الأرض .( أنظر في ما بعد ص وما بعدها ...]
المناقشة العامة ( )
في المناقشة العامة ، قُدِّمت مداخلات قصيرة حول الموضوع ، وطُرحت مجموعة من الأسئلة ونقاط أساسيّة يمكن تلخيصها في ما يلي :
* أنّ دور المثقّف هو دور أساسيّ في المجتمع ، خصوصاً في أمّة تعاني من المشاكل التي لا تعدّ ولا تحصى : من مشاكل الهزيمة ومن التخلف الاقتصاديّ والتخلف الاجتماعيّ وشتّى مستويات التخلف السياسيّ وأنواعه .(...) وحتى نستطيع أن نضع المثقّف في مكانه المناسب ، يجب أن نحدّد دوره الحقيقيّ والأساسيّ ، والمثقّف هو الإنسان الذي يعيش قضايا عصره وينبغي أن يعيش وفق هذا العصر وأن يعيش ثقافة عصره .
* وثمّة نقطة أخرى وهي علاقة الثقافة بالحضارة وعلاقة الحضارة بالثقافة . فيرى البعض أنّ فرقاً ما بين الحضارة والثقافة . فمفهوم الحضارة أوسع كثيراً من مفهوم الثقافة وأشمل .. فلو أخذنا الحضارة العربيّة ، فهي مزيج من عدد من الثقافات : ثقافة فارسيّة ، ثقافة هنديّة ، ثقافة يونانيّة ، فثقافة عربيّة وإسلاميّة ، إلخ ...
* ثمّ هناك التحدّي الكبير أمام الثقافة ، وهذا التحدّي هو التطوّر العلميّ الهائل ... فنحن نعيش الآن في مواجهة تحدّي التطوّر الفنيّ ، الثورة التقنيّة .. فالعلم أصبح يأتي إلينا ونحن في البيت ، عَبْر الشاشة الصغيرة . أصبح العالم صغيراً كقرية صغيرة أمامنا . هذا التحدّي الخطير الذي يواجه المثقّف في عصرنا ، التحدّي !!... كيف ؟... بمعنى أن يستوعب المثقّف قضايا عصره ... فأصبح العالم أمام التطوّر التقنيّ والتطوّر الهائل في تكنولوجيا الاتصالات ، يضيق ويلتقي ، ويحطِّم كلّ الحواجز . هنا في الواقع يبرز دور المثقّف ، ونحن ما أحوجنا إلى هذا المثقّف في هذا الوقت بالذات ، لكي يلعب هذا الدور الرِّياديّ ، بعيداً عن جميع المفاهيم التقليديّة ...
* السؤال المطروح : هل المثقّف هو الذي تتوافر لديه مجموعة من المعلومات في ميادين مختلفة ، ويتكلم فيها ويحاضر ويناقش ، أم أنّ المثقّف هو الذي يستعمل هذه المعلومات لهدفٍ أكثر طموحاً ، فينتقل إلى مثقّف هادف ؟!... هل الثقافة هي مجموعة من المعلومات تتوافر لدى الإنسان ليُطلق عليه اسم " مثقّف " ؟... أم أنّ المثقّف هو الذي يستعمل هذه المعلومات ليطرح شيئاً ما . ليضع هدفاً يصل إليه . أي أنّه يستعمل هذه المعلومات لتحقيق شيء ما ؟... يعني ، هل هو المثقّف الهادف ، أم الإنسان الذي يجمع المعلومات ؟... لقد تحدثت ، دكتور مصطفى ، عن لينين . فلينين ، لو اكتفى بمعلوماته السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة ، لو اكتفى بها لنفسه ، أو كتبها هكذا دون هدف ، ربما لم يكن ليكون " لينين "... وأنا أريد أن أنتقل من هذا العنوان العام ، إلى لبنان ، ما هو المطلوب من المثقّف اللبنانيّ ؟!... والسؤال مطروح على الجميع .
* طُرح سؤال للاستيضاح: هل المثقّف هو الملتزم بقضايا المجتمع ؟... أولاً : إذا كان المثقّف هو الملتزم بقضايا المجتمع ، فهل هذا يعني أنّ المثقّف هو " فرد " ملتزم ، يعني هل وعيه والتزامه بقضايا المجتمع هو وعي فئة أو طبقة ، أم وعي فرد ؟... ثمّ ، ثانياً ما هي المعوّقات التي تمنع أو تعيق المثقّف في عمليّة تغيير الواقع أو من المشاركة في عمليّة التغيير ؟... فهل المثقّف أو المثقّفون ، إذا كان لديهم التزام اجتماعيّ موحّد ، أحرار في أن يطرحوا رؤية مختلفة ؟!... بمعنى آخر ، هل هناك حريّة رأي وتعبير واعتقاد في لبنان ؟...
* ... ثم ما هي الميّزات الأساسيّة التي يجب أن يتحلى بها المثقّف ؟... فالمثقّف ليس ذلك الإنسان الذي يختزن المعلومات . لا ، من المفروض أن يكون لهذه الأشياء مكمّلات : شخصيّة المثقّف ، يجب أن تكون شخصيّة شموليّة . بالإضافة إلى المعلومات التي يختزنها في فكره وفي عقله ، ينبغي أن يتميّز أيضاً بالالتزام وبالجرأة الأدبيّة ، وشجاعة مواجهة الآخرين في أخطائهم وفي عيوبهم . والمثقّف كذلك يجب أن لا يتاجر بثقافته . ذلك أنّنا نرى أنّ الكثيرين من " المثقّفين " يُسخرون الثقافة في نواحٍ تجاريّة ، مصلحيّة . فلا يجوز أن يسمّي الإنسان الذي يختزن المعلومات ويسخرها في النواحي المصلحيّة الخاصة، أنّه مثقّف حقيقيّ ، مثقّف ملتزم ... بل إنّ هذا الإنسان إنّما ثقافته لشخصه ، لنفسه ، لمصلحته ، لمنفعته . هذا بالنسبة لتعريف المثقّف من وجهة نظري الشخصيّة .
أما النقطة الثانية فهي التالية : ما هي الثقافة في لبنان ؟... الثقافة في لبنان متعدّدة . هناك ثقافة غربيّة . وهناك ثقافة شرقيّة ـ إسلاميّة . وهناك ثقافة عربيّة . وحتى في المجتمع ذي المنحى الشرقيّ ، هناك ثقافة قوميّة ، وهناك ثقافة دينيّة ، وثقافة يساريّة . ثمّ هناك عند الجماعات ذات الثقافة الغربيّة ، من يدرسون التاريخ الفرنسيّ على حساب التاريخ العربيّ .هنا السؤال : أيّ طريق يجب أن يسلك المثقّف لينسجم مع هذه التعدّدية من الثقافات ؟...
النقطة الثالثة هي أنّ الثقافة لها وجوه عديدة :منها الثقافة الفكريّة ، والثقافة التكنولوجيّة ، والثقافة الأخلاقيّة ، إلخ ... ولكن ، نحن قبل أن نتطلع ونجلو فكرنا بالثقافة التكنولوجيّة ، يجب أن نتدرّج أولاً ونندمج بالثقافة التي هي على مستوى قُدُراتنا . يجب أن ننهض بمجتمعنا الذي يعاني كثيراً من التخلف ويتحوّل نتيجة هذا التخلف والجهل إلى قوة عمياء ، تستعمل من قبل بعض تجار الدين من السياسيّين ، وتجار الجيوب ، إلى غير ما هنالك من التجار المتنوعين ... هذه هي النقاط الثلاث التي أطرحها للنقاش ...
* ... في الحقيقة ، من خلال المناقشات والتعليقات ، نخرج بمعنىً ملتبس لمفهوم الثقافة والمثقف ، وسنخرج من هذه النّدوة بمعنى أكثر التباساً . لذلك أوافق على أن تُعقد ندوة في المستقبل ، ندوة عمل حول الثقافة والمثقّف ودورهما . سؤال : (...)عندما تتحدّثون أحياناً عن المثقّف ، يخيل للواحد منّا أنّكم تتحدّثون عن الثائر . إنّي أرى نفس المضمون . نستطيع أن نرفع كلمة مثقّف ونضع مكانها كلمة " مناضل "، أو كلمة " ثائر ". وأحياناً أرى أنّه يمكن أن نضع مكانها ، كلمة " متنوّر "، وأحياناً أخرى " عامل " ( تكنوقراط ) في مركز للأبحاث والمعلومات والدراسات ...
* فالثقافة ، إذا كان من الضروريّ أن يكون لها تعريف ، فهي تحديد عوامل التطوّر والتقدّم قديماً وحديثاً.. تقدّم وتطوّر اجتماعيّ وسياسيّ وأخلاقيّ وروحانيّ . والمثقّف هو مَن يعي هذه العوامل . ومن يلتزم بها. أليس كذلك ؟!... هناك مثقّف ينشأ ، ويكوّن نفسه مثقّفاً ، هناك أناس يتكوّنون ، متعلمون، يطّلعون ، ويلتزمون بشيء ما . ولكن على محطة من الزمن ، على مفرق من التاريخ ، يسقطون . بمعنى أنّ هذه الفئة من المثقّفين تتخلف عن التزامها . تبيع التزامها . فهل يصحّ على هذا الإنسان المثقّف الذي سقط أن يسمّى تاجراً ـ مثقّفاً ؟!... فهذه حالة يمرّ بها المثقّف ، المثقّف الذي سقط ، يمكن أن يسقط ويمكن أن لا يسقط ..
الإجـابـة
* الدكتور مصطفى دندشلي ... في الحقيقة ، إنّ طرح الأسئلة والمداخلات التي استمعت إليها ، تحتاج لوحدها إلى عقد نُدواتٍ وحواراتٍ يشارك فيها مثقّفون من اتجاهات فكريّة متنوّعة ، وذلك لأهميتها المعرفيّة الخاصة في فهمنا للواقع الاجتماعيّ الذي نعيش فيه ويحيط بنا . وسنسعى في المستقبل أن نقوم بذلك . ولكن الآن ، سأحاول أن أجيب عن مجمل الأسئلة بكثير من الاختصار وعدم الدخول قدر الإمكان في التفصيلات الجزئيّة . وهنا اقول : هناك خلافاتٌ كثيرةٌ في وُجهات النظر ، حاولت في كلمتي أن أشير فيها ، في موضوع علاقة الثقافة بالحضارة ، أو علاقتها بالأيديولوجيا ، أو المعرفة ، والفروقات المفهوميّة بينها . فليس هناك ، كما قلت ، من إجماع حول هذه المفاهيم . إنّما يبدو ، مع تطوّر علم الاجتماع والأنتروبولوجيا ، أنّ الاتجاه الآن هو استعمال تعبير الثقافة ، بمعنى الحضارة نفسها. وصحيح، كما قلت ، ثمّة علماء اجتماع وفلاسفة ، يستعملون اصطلاح حضارة بصيغة أشمل من الثقافة ، وأنّ الثقافة أو الثقافات الفرعيّة تنضوي تحت لواء الحضارة وفي داخلها . والأسئلة التي أتيت على ذكرها بالنسبة إلى الحضارة العربيّة صحيحة وهذه هي وُجهة نظري ...
في الواقع ، أنا لم أتدخل أولم أُشر إلى أنّ هناك بعض العلماء يقول بأنّ الحضارة أو التطوّر الحضاريّ إنّما هو كمفهوم يعني تطوّر المجتمع من الجوانب الماديّة، من الناحية الصناعيّة، أو العمرانيّة. هنا ، يستخدمون تعبير التطوّر الحضاريّ للإشارة إلى هذا الجانب الماديّ . وعندما يستعملون التطوّر الثقافيّ ، فإنّما يقصدون التطور الفكريّ والروحيّ والوجدانيّ والنّفسيّ والأدبيّ في المجتمع . هذا التميّيز في تطوّر المجتمع بين المادة والروح ، في هذا الظرف الذي نعيش فيه من تطوّر العلوم البحتة والعلوم الإنسانيّة عموماً ، لا يستقيم وغير مقبول ، ذلك أنّ بين الجانبين تداخلاً وتأثيراً وتأثراً وتفاعلاً جدلياً واضحاً . فلا تمييز بين ما هو ماديّ وما هو روحيّ . ففي العلوم الاجتماعيّة ما هو ماديّ قد يكون فيه الكثير من الروحيّ ، والعكس صحيح أيضاً ، فما هو روحيّ قد ينضوي تحته وفي داخله جوانب ماديّة . طبعاً ، تُستخدم الآن تعبيرات عديدة للإشارة إلى هذه الجوانب الماديّة لتطوّر المجتمع ، فنتحدّث مثلاً عن الحضارة الصناعيّة أو المجتمع الصناعيّ وعن الحضارة التقنيّة أو التكنولوجيّة أو المجتمع التكنولوجيّ. فأنا لم أُرد أن أدخل في تفصيل هذه الاصطلاحات الحديثة الآن ، وإنّما أردت فقط أن أشير إلى تاريخيّة المفهوم وتعقيداته ، بمعنى " عمليّة الثقافة " وتطوّرها ، ودور المثقّف كذلك ، وهذا الأهمّ .
إنّ المثقّف ، كما عرضت مفهومه بالنسبة إليّ ، هو المثقّف الملتزم والذي يعيش قضايا مجتمعه من أجل تغييره . وقد شدّدت كثيراً على ذلك . من هنا ، فإنّنا نجد أنّه من الصعوبة في مجتمعاتنا العربيّة أو مجتمعات العالم الثالث أن يتحقّق هذا المفهوم الملتزم بكليته ، في الواقع وعلى الأرض في ظرفنا الراهن . كلّنا يعلم الظروف التي نعيشها ، من ضائقة ماليّة ومعيشيّة واقتصاديّة عامة ، المتفاقمة منذ سنوات، فقد استطاعت من خلالها القوى الماليّة والاقتصاديّة أن تستوعب المثقّف والمثقّفين وتحتويهم. وأن تُدجّن ، كما نقول الآن ، أعداداً كبيرة منهم ، وذلك طبعاً عن طريق الإغراءات الماليّة أو الماديّة أو الخدماتيّة ـ المصلحيّة ، وهي كثيرة ومتنوّعة . مثلاً عن طريق المؤتمرات والنّدوات وإصدارات الصحف والمجلات والإذاعات والتلفزيونات . هذا يعني أنّ المال المحليّ والعربيّ والعالميّ ، كسلطة سياسيّة رهيبة ، أصبح له وجودٌ وتدخّلٌ مكشوفٌ . وهذا ما نعرفه الآن بصورة واضحة منذ السبعينات مع " الفورة النفطيّة " ..( )
هذه هي الآن مشكلة المثقّف في مجتمعاتنا أو بمعنى أصح ، إحدى المشاكل الكبرى التي يواجهها . لذلك فإنّنا نجد الآن ، أكثر فأكثر ، غياب الصفة الأساسيّة التي ينبغي أن يتمتع بها المثقّف ، وهي صفة النقد الاستقلاليّة وتكوين الوعي الاجتماعيّ، وتحديد قضايا المجتمع وفضح السياسات القائمة، من أجل التغيير .. وتواجهنا في الوقت الحاضر الأزْمة التي نعيشها في لبنان ، في ما يخص الديمقراطيّة والحريّة وحرية المثقّف ، والتضييقات الاجتماعيّة المتنوّعة التي يخضع لها المثقّفون من كلّ جانب .. جميع هذه الأمور ، من الأهميّة معرفتها ومناقشتها لفهم أوضاع المثقّف والمثقّفين . السلطات القائمة ، السياسيّة والماليّة والعسكريّة ـ ليس فقط في لبنان ، وإنّما أنا أتحدّث عمّا يجري في العالم الثالث ـ هذه السلطات القائمة استطاعت في الواقع أن تستوعب الكثير الكثير من المثقّفين وأن تقمع حرياتهم أو أن تضبط كتاباتهم ، كلّ ذلك عن طريق المال ، عن طريق الاغراءات الماليّة . من هنا في الحقيقة وفي الأعماق تأتي الخطورة ، خطورة كَبْت الحريات ...
* * *
[ ... ] مَن هو المثقّف ؟... هذه مشكلة أو إشكاليّة كانت مطروحة ، وهي لا تزال وستستمر مطروحة إلى ما لا نهاية .. ذلك أنّه ، في العلوم الإنسانيّة ، لا يمكن أن يحصل اتفاق ، أو إجماع على مفاهيم خلافيّة كمفهوم الثقافة ومَن هو المثقف !... هناك اجتهادات كثيرة ، وآراء عديدة تصدر من ظروف تاريخيّة ، ومن مصلحة اجتماعيّة ، من رؤية ومن فلسفة معيّنة ..عندما أحاول أنا شخصياً أن أقدم تعريفاً للثقافة وللمثقّف ، فلا بدّ من أن يكون نابعاً من رؤية فلسفيّة ، من تجربة اجتماعيّة تربويّة في بيئة معيّنة ، من اجتهاد شخصيّ نتيجة ثقافة معيّنة ، وخبرة لها ظروفها الخاصة إلى آخر هنالك ...
مَن هو المثقف ؟... فأنا أعطيت في كلمتي بشكل واضح لا لَبَس فيه ولا غموض ، تعريفي الخاص بحسب اجتهادي وتجربتي الشخصيّة . وهو الإنسان ـ أقول الإنسان ، فليس ذلك الذي يختزن المعلومات الكثيرة والمتنوّعة . إذا نظرنا إلى ناحية المعلومات ، يُصبح " موثّقاً "، " معلوماتياً "... وهناك كثيرون يختزنون المعلومات ولكن لا يجوز ولا بأيّ شكل من الأشكال أن نطلق عليهم صفة : مثقّفين ـ أقول : المثقّف ، في ذهني ، هو الإنسان الملتزم بقضايا المجتمع والإنسان .هناك التزام وهذا الالتزام من أجل تغيير الواقع الاجتماعيّ نحو الأفضل . وعملية التغيير لا يمكن أن تتم عن طريق الشعارات ، ولا عن طريق النوايا الحسنة ولا عن طريق تدبيج المقالات النظريّة المجرّدة ، البعيدة عن الواقع الاجتماعيّ ... عملية التغيير يجب أن تقوم وأن تعتمد على وعي ، وعي حقيقيّ ... وهنا الصعوبة ...
من السهولة بمكان إطلاق لفظة " وعي "، ولكن حتى نعطيَ لهذا الاصطلاح ولهذا المفهوم الفلسفيّ والنّفسيّ والاجتماعيّ ـ السياسيّ ، معناه الحقيقيّ ، تلك هي المشكلة . أن يكون وعيي موضوعياً لمشاكل المجتمع الذي أعيش فيه ، وعي حقيقيّ ، معيوش ، ملموس ، ومن ثمّ نقل هذا الوعي الذاتيّ من هذا الإنسان " الذي نقول عنه إنه مثقّف " ـ فليس لـه أن يحتفظ بهذه المعلومات لنفسه ـ وإنّما نقل هذا الوعي لظروف المجتمع وقضاياه الحقيقيّة إلى الجمهور ، إلى الرأي العام ، إلى أصحاب المصلحة ، هنا الصعوبة : عملية نقل الوعيّ وتعميمه... لذلك ، فقد أعجبني كثيراً مفهوم غرامشي " للمثقّف العضويّ "، المرتبط عضوياً بجماعة اجتماعيّة معيّنة وله ثلاث وظائف : إعطاء لهذه الجماعة وحدتها التكامليّة المجتمعيّة ، ووعيها لذاتها ، ولوظيفتها من أجل التغيير .. يعني قبل أن نقوم بعملية التغيير يجب أن يسبقها مرحلة مهمّة جداً ، هي مرحلة الوعي ، ونشر الوعي ...
إلى ذلك كله ، إنّني أشدّد كثيراً على مسألة الالتزام عند المثقّف. وقد ذكرت ذلك في مداخلتي. وشدّدت كذلك على ناحية النقد والاعتراض .كان يُسمى المثقّف بداية في بلد كفرنسا ، بالإنسان "المشاغب"، " والذي يضع أنفه في كلِّ شيء أو في ما لا نعنيه "، فكرياً ، فلسفياً والذي يدعو إلى مجتمع أفضل يحقّق فيه الإنسان إنسانيته .هو الإنسان المعارض والناقد والذي يستخدم سلاح الفكر والكلمة . ولا يترك الأمور في استقرار وهدوء وسكينة . كلّ ذلك لأنّنا لم نصل بعد ، على هذه البسيطة ، إلى المجتمع الكماليّ ، المجتمع المثاليّ ... " جمهورية أفلاطون "، أو " المدينة الفاضلة " التي لم تتحقق بعد ، لا في الماضي ، ولا في الحاضر ، ولست أدري إذا كانت ستحقّق مستقبلاً ...
إذن ، من هنا يأتي دور المثقف : أن يُظهر عيوب ، وهي كثيرة ، ونـقائص المجتمع والعصر الذي يعيش فيه ، في مجتمعاتنا الإنسانيّة كافة ، المتطوّرة منها أو غير المتطوّرة ، أو بوجه خاص في مجتمعات العالم الثالث ، هناك عيوبٌ كثيرة .هناك استغلال للإنسان بشتّى الطرق والوسائل . هناك استهتار لقِيَم الإنسان ومسخها ... وهناك أخيراً وليس آخراً انتهاك لحقوق الإنسان في جميع المجتمعات ، كائنة ما كانت ، وإن بنسب مختلفة . مَن الذي يُظهر هذه العيوب ، وهذه الانتهاكات الإنسانيّة ؟!... المثقّف . المثقّف الحقيقيّ ، هو الذي يبلورها ويظهرها للناس ، ولأصحاب المصلحة في معرفتها ...
منذ وجود المجتمع ، وُجدت الثقافة . فهي قديمة قدم الوجود الإنسان .. هنا الثقافة بمعنى الحضارة ، هذا النمط في التفكير والسلوك والعمل ، كما ذكرت ذلك ، في مفهوم الأنتروبولوجيا وعلم الاجتماع . وبحسب هذا المفهوم ، تُدرس الشعوب والقبائل " البدائيّة "، ولكلّ منها ثقافتها الخاصة ولها تنظيماتها الاجتماعيّة ومعتقداتها وأسلوب ونمط حياتها . لذلك من العلماء الآن من يرفض وصفها "بدائيّة"، أو أنّها لا تقوم في حياتها على تنظيمات اجتماعيّة معيّنة وأحياناً كثيرة معقّدة . أو رفض هذه النظريّة الفوقيّة أو العنصريّة التي كان ينظر إليها الأوروبيّ أو بعض المستشرقين . على العكس من ذلك ، إنّ لهذه الشعوب والقبائل التي تُسمى خطأ " بدائيّة "، تنظيماتِها ومعتقداتِها وعلاقاتِها الاجتماعيّة المحدّدة وطقوسها وعاداتها ، إلخ .. هذه هي التي تُسمى عند علماء الأتنولوجيا بالثقافة أو الحضارة ...
من هنا، في الواقع ، وبالاعتماد على هذه الدراسات منذ القرن التاسع عشر ، جاء هذا المفهوم، الثقافة أو الحضارة . هذا هو أصل المفهوم ، ثمّ عُمّم بعد ذلك وانتشر مع الاحتفاظ بمعناه الأوّلي مع إضافة معانٍ أخرى كثيرة إليه. فعلماء الأتنولوجيا أو الأنتروبولوجيا هم أول من أنشأ هذا المفهوم وحدّده، ومن ثمّ عمّمه ، كلّ ذلك من خلال دراساتهم للشعوب أو القبائل التي لا أقول بدائيّة وإنّما " أولية " في تنظيم حياتهم الاجتماعيّة . فلهم ثقافة . ولهم تكنولوجيا . عندما نسمع لفظة تكنولوجيا ، قد يتصوّر الواحد منّا رأساً الصناعات النوويّة والصواريخ والإلكترونيات المتطوّرة وأجهزة الاتصالات المتنوّعة إلى آخر ما هـنالك . هـذا صحيـح ، ولكـنّ الصحيـح أيضاً هو أنّ تعبيرات Technologie وTechnicite وTechnique والتي ترجمت إلى اللغة العربيّة باصطلاح التقنيّة ، تعني مجموعة الوسائل والأدوات الحياتيّة والزراعيّة والصناعيّة والمنزليّة التي يستخدمها أيّ مجتمع في حياته الخاصة والعامة لتأمين حاجاته ولسدّ الضرورات المعيشيّة . فلكلّ مجتمع من المجتمعات إذن تقنياته التي تتناسب مع مستوى تطوّره الاجتماعيّ وثقافته الخاصة لاستخدام هذه التقنيات ...
من هنا نقول بأنّ لكلّ مجتمع أو جماعة من الجماعات ثقافة خاصة . والثقافة هنا هي التنظيم الاجتماعيّ والعلاقات الاجتماعيّة والعادات والتقاليد والطقوس وطرق التفكير والتصوّرات ، إلخ ... فكلّ مجتمع أو كلّ جماعة لها طُرق في التفكير والسلوك والعمل . إذن لها ثقافتها الخاصة بها وهي التي تحدّد هويتها . تعبيراتنا عن عاداتنا وتقاليدنا وعن عواطفنا وشعورنا وانفعالاتنا ، تختلف كلياً عن تعبيرات مثلاً الفرنسيّ أو الألمانيّ أو الأميركيّ أو اليابانيّ أو الصينيّ ، وهي توضّح شخصيتنا وتحدّدها . هذه الأشياء أصبحت معروفة في علم الاجتماع والأنتروبولوجيا وهي التي تدخل في عناصر الثقافة وتكوّن وحدة مجتمعيّة متكاملة ...
ما أريد أن أقوله من كلّ ذلك هو أنّ الثقافة كسلوك وكتنظيم هي قديمة . وإنّما كمصطلح وكمفهوم اجتماعيّ ، حديثة العهد ونشأت في الغرب . وأول تعريف للثقافة بمعنى الحضارة صاغه الأنتروبولوجيّ الإنكليزيّ " تايلور " عام 1871 ، كما ذكرت في كلمتي .. واستعمل الثقافة والحضارة بمعنى واحد ...
وهنا لا أريد أن أدخل في تفصيلات هذا الاصطلاح ، فذلك يؤدّي بنا بعيداً . ولكن ينبغي أن أشير في هذا المجال إلى أنّنا نحن كعرب وكلبنانيّين ، لنا ثقافة ، لنا حضارة ، بحسب هذا المفهوم الذي أشرت إليه سابقاً ، في الماضي وفي الحاضر . طُرقنا في السلوك وفي التفكير وفي العمل أو الفعل ، نُظُمنا الاجتماعيّة والاعتقاديّة ، عاداتُنا وتقاليدُنا وتصوّراتُنا لهذا الوجود ولما بعد الوجود ، هي ثقافة خاصة ، بهذا المعنى . وهي حضارة . وهي موجودة منذ القديم ومنذ الوجود العربيّ حتى الآن وهي متطوّرة بحسب تطوّر المجتمع . من هنا يأتي هذا المفهوم الآخر : " المثاقفة "... ولكن ، ولكن الثقافة أو المثقّف كمصطلح وكمفهوم جديد فهو ، في الواقع ، حديث العهد والاستعمال بهذا المعنى ، كما أشرت إلى ذلك ...
ثمّ ، أنا لم أقل أبداً إنّ المثقّف هو الذي تتوافر لديه المعلومات الغزيرة أو المعرفة المتنوّعة . إنّما قلت وشدّدت على ذلك ، إنّه ذلك الذي يستخدم هذه المعلومات لهدف وهو تغيير المجتمع نحو الأفضل ولمصلحة الإنسان . لماذا أُشدّد كثيراً على تعبير " لمصلحة الإنسان " ؟!... حتى أتجاوز أيّ إشارة إلى أيّ انتماء دينيّ ، طائفيّ ، مذهبيّ ، عرقيّ ، والتركيز على الإنسان كإنسان وكقيمة عليا . وحتى أنفي في الوقت ذاته العمل لتغيير المجتمع لمصلحة خاصة ، اقتصاديّة أو ماليّة أو رأسماليّة ، داخليّة أو خارجيّة .
أما بالنسبة إلى المعوّقات، فإنّني أرى بأن أول معوّق للمثقف ، كما أراه ، هو فقدان الاستقلاليّة والديمقراطيّة والحريّة الشخصيّة والسياسيّة في المجتمع الذي نعيش فيه ..وهنا السؤال يطرح في تراثنا العربيّ ـ الإسلاميّ ، هل توافرت الحريّة ، الحريّة الشخصيّة والحريّة الفكريّة والاعتقاديّة كما نفهمها نحن الآن ؟... كيف ؟... ومتى ؟... وما هو مداها ، وممارستها ؟!... سؤال يبقى على أيّة حال مطروحاً أو ليس هنا مجال الإجابة عنه .
غير أنّني أعيش الآن في لبنان ، وفي الوطن العربيّ ، فأول معوّق فعلاً لعمل المثقّف وممارسته وظيفته ومهمّته هو فقدان الديمقراطيّة والحريّات العامة والشخصيّة . ومن ثَمّ تأتي هذه الأزْمة الاجتماعيّة والاقتصاديّة الخانقة ، ممّا تُسهل لقوى المال والسلطة أن تستوعب المثقّف ، والمثقّفين ومن كلّ الأقطار ـ طبعاً بنسب مختلفة ـ وتعمل على تدجينهم واحتوائهم وانصهارهم في قالبها ، قالب السلطة . وتوظف هذه " المعرفة "، معرفة " المثقّفين " ونشاطهم الفكريّ لمصلحتها واستمراريتها .
والآن نحن نعيش مرحلةً " خصبة " جداً وغنية جداً ، إذا صحّ القول ، كلّ ذلك بما تحتويه من خضّات وتقلبات وتغييرات اجتماعيّة وسياسيّة ـ تاريخيّة.من هنا أهميّة وجود المثقّف الحقيقيّ ، والمراكز الثقافيّة ، على أن يكونوا جميعاً شاهداً على ما يجري في المجتمع ، ولكن ليس شاهدَ زورٍ . وإنّما شاهد حقيقيّ ، نقديّ ، اعتراضيّ لما يجري من حولنا .
في لبنان نمرّ بمرحلة تاريخيّة مهمّة ومصيريّة وخطيرة . فكلّ الأمور والعلاقات السياسيّة وغير السياسيّة ، الداخليّة والخارجيّة ، متكش