آراء حول بعض قضايا القراءة والترجمة والثقافة في لبنان ( )
آراء حول بعض قضايا القراءة والترجمة والثقافة في لبنان ( )
أجرت إحدى الصحف ا للبنانيّة في شباط لسنة 1972 تحقيقا ت واسعة عن أ وضاع دور النشر ونشاطاتها الحاليّة والعامة . وهذا الموضوع في الواقع جانب من مشاكل الثقافة العربيّة والكتاب العربيّ ، والتّطرق في نفس الوقت إلى علاقة المال بالفكر والتجارة بالثقافة . وسنحاول طرح المشكلة من جديد واثارة الموضوع ، خاصة وأنّ الموضوع يثار حوله لغط وهمس ، هذا إذا لم نقل اتهامات أحياناً تصل إلى حدّ الخطورة .
اللبناني لا يقرأ
هناك إجماع من أصحاب دور النشر على أنذه لا يحسب أيّ حساب للسوق اللبنانيّ . إنّ الاستهلاك المحليّ من مجموع نسخ الكتب التي توزّع لا يتجاوز في أحسن الحالات 10 بالمئة . أنّ تفسير ذلك ، كما يؤكّد الأستاذ عثمان ، " هو أنّ اللبنانيّ لا يقرأ ، وإذا قرأ فإنذه يفضّل القراءة في اللغة الأجنبيّة " ويضيف قائلاً :
" من المؤسف أن أقول أنّ الكتب العربيّة التي تباع في لبنان يقتني أوفاها الوافدون من البلاد العربيّة . فمن المعلوم أنّ بعض ما ينشر من الكتب في لبنان يمنع في بلد عربي أو آخر . فإذا ما جاء المصطافون العرب مثلاً أقبلوا على شراء هذه الكتب التي لا توجد في بلادهم .
ولكن لماذا لا يقرأ اللبناني ؟... وما سبب ذلك ، مع العلم بأنّ نسبة المتعلمين في لبنان عالميّة بالمقارنة إلى بقية البلدان العربيّة ؟...
إنّ الأستاذ عثمان رئيس نقابة الناشرين في لبنان يوعز ذلك " إلى سوء التخطيط في المناهج التربويّة ". فهو يقول : " لقد أدخلت المدرسة في ذهن الطلاب أنّ الكتاب هو الكتاب الذي يقرأ في الصف . فلم توجههم إلى كتب المطالعة الذي يزيد من ثقافتهم ويوسع آفاق معرفتهم . فما أقل المحامين الذين يقرئون أو يقتنون الكتب التي تصدر حتى في الحقوق ، في نفس ميادين تخصّصهم ؟... وكذلك الأطباء ، وكم عدد الذين يحجزون منهم نسخهم من الكتب الطبيّة ؟...
إنّ متعلمينا ، للأسف ، يعتقدون أنّهم قد ملكوا علم الأولين والآخرين ، عندما ينالون الشهادة . إنّني أزور أصدقائي من المحامين والأطباء فلا أجد إلاّ قليلاً منهم من يملك مكتبة في بيته . وهذا فيما أعتقد راجع إلى أساس التوجيه التربويّ في مناهجنا ...".
هذا من جهة ومن جهة ثانية فإنّ عمر القارئ العربيّ ، برأي الأستاذ عثمان يتراوح ما بين 17 و25 سنة . وما أن يتجاوز هذه المرحلة حتى ينصرف إلى شؤون الحياة ويخف اهتمامه بالقراءة كثيراً .
والسبب في ذلك هو أنّ أكثر القراء العرب لا يقرئون إلاّ بوحي من أساتذتهم في المدارس الثانويّة أو في الجامعة . ومن هنا كثرة الإقبال على الكتب ذات الصلة بالمناهج المدرسيّة أو الجامعيّة.
وعن سؤال عمّا إذا تطوّر وازداد عدد القراء في العالم العربيّ ، فإنّ مدير دار العلم للملايين يجيب بأنّ " نسبة القراءة قد ازدادت من غير شكّ منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية حتى يومنا هذا . ولكن هذه النسبة تزداد بنفس نسبة المتعلمين ، أي أنّها غير متوازية في تصاعدها مع عدد المتعلمين في العالم العربيّ .
أمّا فيما يتعلق بتطوّر ميادين القراءة ، فإنّ الإقبال كان شديداً في الأربعينات على الكتب التي تتناول موضوعات القوميّة العربيّة . وكان " سيّد السوق " آنذاك ، الباحث الكبير ساطع الحصري . فلما طويت الأربعينات ، بدأت الكتب الاشتراكيّة تحل محلها . فأقبل عليها القراء إقبالاً شديداً . وفي الستينات ، أخذت مواضيع الاشتراكيّة الثوريّة في الانتشار وكثرت الكتب التي تتحدّث عن الثورة في جميع ميادين الحياة العربيّة ".
ثمّ يؤكّد الأستاذ بهيج عثمان على أنّه " بعد حرب حزيران 1967 ، أصاب القارئ العربيّ نوع من القرف . ولا أجد تعبيراً أدقّ من ذلك . فأهمل كلّ هذه الموضوعات السابقة القوميّة العربيّة والاشتراكيّة والاشتراكيّة الثوريّة وزهد حتى في القراءة . وحلّ محله موجة أخرى من جمهور القراء رأى ضالته في هذه الكتب الجنسيّة الرخيصة التي تنسيه ما حوله من أحداث وتشبع نهمه الشخصيّ . فإذا بالكتاب الجنسيّ يرتفع مبيعه إلى عشرات الآلاف . وبقي الكتاب القوميّ أو العلميّ أو الأدبيّ على الرف ، ينتظر قارئه الذي لا يحضر ".
وفي هذا الصدد يوضح أحد مسؤولي دار الطليعة قائلاً : " في فترات صمود الحركة السياسيّة والجماهيريّة يزداد الإقبال على الكتب ذات الصبغة السياسيّة . وفي فترات النكسة والتراجع، يركد سوق هذه الكتب . بعد هزيمة حزيران وصعود حركة المقاومة الفلسطينيّة ، زاد عدد الكتب التي تعالج حرب العصابات والحرب عموماً وكثر انتشارها . ولكن هذا النّوع من الكتب أصيب بشيء من الكساد بل وبعدم الاهتمام الكبير بعد أزمة أيلول في الأردن سنة 1970 ". أمّا فيما يتعلق بالرأي الذي يؤكد بأنّ الاتجاه منذ هزيمة حزيران هو نحو ازدياد الكتب الدينيّة أو الكتب الجنسيّة ، فإنّه يقول : " هذا الرأي يحتاج إلى إثبات ، لأنّ هناك أساساً قراءاً متنوعين ، فمنهم من يقرأ كتباً دينيّة وهم استمرار للمدرسة التقليديّة ، وفئة أخرى تهتمّ بالكتب ذات الاتجاه السياسيّ الحديث ، وثالثة تميل لا لهذا ولا لذاك وإنّما للمؤلفات الخفيفة . فليس إذن من مقياس واحد للحكم ، ولا يمكننا أن نفعل ذلك لعدم توفر الإحصائيات اللازمة في هذا الميدان .
أمّا بالنسبة للكتب الجنسيّة ، فهناك أولاً الكبت الذي يجعل من القراءة عندنا عن الجنس نوعاً من المتعة التي تأخذ طابعاً تعويضياً ، وهناك ثانياً محاولة اكتشاف ذلك المجهول : الجنس ، وهناك ثالثاً موجة ـ على الصعيد العالميّ ـ من الإقبال على الجنس تظهر في الأفلام والكتب وفي الحياة العامة . ولا بدّ من أن تنعكس هذا على الكتاب والنشر في المجتمع العربيّ . لأنّ المجتمع العربيّ يمر بمرحلة انتقاليّة تتحطم فيها بنى اجتماعيّة وقِيَم تقليديّة ، ويعيش الناس أنماطاً جديدة من الحياة ، خاصة في المدن . ولعلّ التبدّل في العلاقات الاجتماعيّة من أهمّ مظاهر هذه المرحلة . والجنس " تابو " العرب لا بدّ من أن يلقى والحالة هذه كثيراً من الاهتمام .
ويمكن تلخيص أسباب هذا الاتجاه بعدّة عوامل أهمّها :
ـ الهزائم والنكسات التي تجعل الناس أكثر إنكفاءاً على ذواتهم .
ـ الفكر الليبرالي والتحرريّ الذي يطرح قضيّة المساواة بين الجنسين وقضيّة تصحيح العلاقات بين الرجل والمرأة .
ـ موجة الانفلات الجنسيّ التي تكتسح العالم في الوقت الحاضر .
اللصوصيّة العصريّة في النشر
مهمة دور النشر مبدئياً هي أن تقوم بصلة الوصل بين الكاتب أو المفكر وبين القارئ أو السوق . وهي لا تفعل ذلك " لوجه الله " أو لتأدية " رسالة ثقافيّة ". بل هناك أيضاً وخاصة هدف الربح والتجارة . والغاية المثلى هي أن يكون هناك توافق بين نشر الثقافة والمعرفة من جهة وبين الكسب الماديّ المعقول الذي بدونه ـ في أوضاعنا الحاليّة ـ لا يمكن تأدية الهدف الأوّل .
ولكن ما يجري عادة ـ عدا في دور النشر الملتزمة سياسياً ـ هو أن يطغى عامل الربح والتجارة على كلّ ما سواه وتنقلب دور النشر والترجمة والتوزيع إلى مؤسّسات تجاريّة رأسماليّة غايتها الكسب السريع والكبير وبأيّة طريقة كانت .
ولهذا السبب يثار حول أعمال ونشاط بعض دور النشر في لبنان لغط كبير ، وتطلق الاتهامات وتقام الدعاوى . بل ولا يخفى على أحد أنّ هناك عمليات سرقة وتزوير ترتكب بالنسبة للكتب المترجمة أو حتى بالنسبة للكتب العربيّة ، وخاصة منها ما يسمّى التّراث العربيّ .
وليس هناك أجدر من الأستاذ عثمان ، رئيس نقابة الناشرين اللبنانيين ، ليجيبنا على كلّ هذه التساؤلات : " لا ريب بأنّ بعض الناشرين وأكثرهم غير منتمين إلى نقابة الناشرين اللبنانيين ، يصدرون بين حين وآخر كتباً لا يملكون حقوق نشرها . أمّا الكتب المترجمة فمن الواضح أنّنا بموجب ارتباطنا باتفاقيّة " برن " ( عاصمة سويسرا ) يتوجّب علينا أن نؤدّي للمؤلّف الذي تترجم آثاره حقوق التأليف . وهؤلاء الذين يقومون بهذا العمل دون أداء هذه الحقوق يخالفون قانون النشر . وأمّا الذين ينشرون كتب التّراث العربيّ ـ أن نقلوا عن طبعه لغيرهم ـ فإنّما يعتدون على حقوق الطبع للناشر .
" ولكن الأخطر من هذا كله أن يوجد في لبنان وسوريا وإيران من ينشر كتباً ما زال أصحابها أحياء يعيشون من إيرادها الضئيل ، وهذا أشنع ضروب القرصنة واللصوصيّة ".
" وعلى الدول العربيّة وسائر الدول الأخرى أن تتعاون لمكافحة هذا النوع من اللصوصيّة العصريّة وذلك بأن تسنّ القوانين الرادعة وأن يحسن تطبيقها ، وهذا أهمّ شيء .
" ومن المؤسف أن أصرّح بأنّ في السوق اليوم عدداً من هذه الكتب التي يستثمرها من لا صلة شرعيّة لديها ، في الوقت الذي يحتاج مؤلفها إلى من يسد به رمقه . ومن المؤسف أيضاً أنّ هؤلاء المعتدين قد أفلتوا من رقابة القانون التي هي عندنا كالغربال الكثير الثقوب يستطيع أن يتسرّب منها المعتدون كأنّهم أبرياء ".
ظاهرة الترجمة
حول ازدياد الكتب المترجمة عن اللغات الأجنبيّة إلى اللغة العربيّة ازدياداً كبيراً في السنين الأخيرة يقول الدكتور سهيل إدريس : " لا يزال لدينا الشعور ، الذي يجد دون شكّ تبريراً لـه بأنّنا محتاجون إلى المزيد من الثقافة الأجنبيّة لنستطيع أن نلحق بالركب العالميّ في ميدان الثقافة والعلم . وهذه ظاهرة طبيعيّة . وقد سبق للفكر الأجنبيّ في القرون الوسطى أن نقل الفكر العربيّ والثقافة العربيّة . فهو اليوم لا يفعل إلاّ أن يرد لنا بعض الفضل . هذا من جهة ومن جهة أخرى ، فإنّ العقد الأخير قد شهد بعض الضعف والانحسار في ميدان التأليف والإبداع العربيّ . إنّنا نجتاز اليوم مرحلة انتقاليّة في هذا الميدان . وقد أوشك جيل طه حسين وتوفيق الحكيم ومخائيل نعيمة وسواهم أن يغيبوا عن الساحة الأدبيّة . ولكن لم يستطع الجيل التالي أن يركّز أقدامه بعد ممّا يجعله يحتل الساحة الأدبيّة. فلا بدّ والحالة هذه من الاستعاضة عن هذا النقص بلجوء إلى الترجمة والاقتباس .
ولكن من الواضح أنّ الترجمات ، بشكل عام ، رديئة جداً . بعضها ، إذا لم نقل غالبيتها ، يتّصف بركاكة الأسلوب وضعف مبنى الجمل ، ممّا يؤدّي بطبيعة الحال إلى تشويه المضمون والأثر الأجنبيّ المترجم نفسه . ما هو سبب ذلك ؟... يجيب الدكتور إدريس : " هذه الرداءة في الترجمة ، إذا وجدت ، فهي تشبه الرداءة في التأليف أيضاً . المهمّ أن تكون دار النشر التي تتولى القيام بإصدار الكتب واعية لمهمتها ورسالتها في تقديم أفضل الإنتاج تأليفاً أو ترجمة . ولا ريب في أنّ السرعة والركاكة في الترجمة اللتين تلازمان بعض الكتب ، تكمن وراءهما نزعة تجاريّة فاسدة لا علاقة لها بوعي حقيقيّ لقضيّة الإسهام بتعزيز الثقافة العربيّة الراهنة ".
أمّا في كيفيّة الترجمة فإنّ صاحب دار الآداب يقول بأنّ الترجمة الدقيقة التي تكاد أن تكون حرفيّة هي أسلم الترجمات وأوفاها تعبيراً عن الأصل . " ليس المهمّ أن نصوغ الفكر الأجنبيّ بصياغات عربيّة تتوخّى فيها البلاغة والفصاحة العربيّة ، فإنّ ذلك سيضرّ حتماً بطريقة التفكير الأجنبيّ وبالعبقريّة الخاصة لكلّ لغة . إنّني شخصياً أفضل أن يقال عن الترجمة العربيّة لأثر أجنبيّ أنّ الأصل الأجنبيّ واضح فيها ، على أن يقال أنك لا تحس فيها الأصل الأجنبيّ . أي أنّه بكلمة واحدة ، يجب المحافظة على عبقريّة كلّ لغة أجنبيّة في اللغة المترجم إليها حتى ولو أدّى ذلك إلى عدم جمال الأسلوب وعدم التقيّد بالأسلوب البلاغيّ . لا شكّ أنّ المفهوم الأساسيّ للترجمة هو أن يكون المترجم مالكاً تماماً لكلتا اللغتين المترجم إليها والمترجم عنها . فهذا ضمان لسلامة الترجمة وأمانتها . وهذا يقتضي طبعاً أن يكون على اطّلاع واسع وعميق على تاريخ اللغة الأم وآدابها وتاريخ اللغة الأجنبيّة وآدابها ".
* * *
أنّ القارئ لا بدّ أن يكون قد توقف أمام الاتهام الخطير الذي أطلقه رئيس نقابة الناشرين اللبنانيين الأستاذ بهيج عثمان ، والذي أكّد فيه أنّ " القرصنة اللصوصيّة العصريّة " تتمّ في بعض هذه المؤسّسات . ففي هذه المؤسّسات ، بالفعل ـ تطغي وتسيطر العقليّة التجاريّة ، عقليّة الكسب بأيّة طريقة كانت : وهي ميّزة من ميّزات المجتمع اللبنانيّ . فالربح لا حدود ولا رادع له . ولكن عندما يتدخل ذلك في قضايا الثقافة وتنتقل بعض مؤسّسات النشر والطباعة في لبنان من دور الوسيط بين الفكر والقارئ ، إلى مؤسّسات تجاريّة بحتة : المال يسيطر فيها على شؤون الثقافة ، والصفقات المشروعة وغير المشروعة تتمّ دون رقيب أو حسيب ، فهذا يتطلب من كلّ إنسان حمل القلم واحترم نفسه أن يحاول وضع حدّ له ، أو فضحه وكشف النقاب عنه : وهذا أضعف الإيمان .
ولكن ليس هذا تماماً هو موضوع حديثنا الآن . ولنا عودة إلى تلك المشكلة فيما بعد . وإنّما نودّ ، في هذا المجال ، أن نناقش قضيّة أساسيّة هي قضيّة الترجمة .
إذا ألقينا نظرة على بيان مطبوعات معظم دور النشر في لبنان ، لوجدنا أنّ نسبة الكتب المترجمة عالية جداً . وهي تشمل مختلف ميادين الفكر والثقافة من اجتماع وسياسيّة إلى أدب وقصة. وبالتالي ، فإنّ الكتب المؤلفة من كتّاب لبنانيين ( أو عرب ) قليلة جداً أو تكاد أن تكون نادرة .
وأوّل شيء يتبادر على الذهن ، هو أنّ المجتمع اللبنانيّ والعربيّ مجتمع مختلف اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً . وأنّ هذا التخلّف الذي يستمر عصوراً طويلة كان له ، بطبيعة الحال انعكاسات ظاهرة على المستوى الفكريّ والثقافيّ . وهو لهذا ، في هذه المرحلة من النهضة العربيّة العامة ، بحاجة إلى أن يغب من الفكر الغربيّ والحضارة الغربيّة ، حتى يستطيع أن يواكب العالم في تطوّره .
إنّ هذا الاتجاه ، في الظاهر صحيح وسليم جداً . وكثرة الترجمة عندنا لا بدّ وأن تكون والحالة هذه ، دليل صحة ومظهر نشاط فكريّ وثقافيّ متيقظ على ما يكتب في الخارج .
ولكن لو تعمقّنا قليلاً فيما يترجم ، وينقل إلى اللغة العربيّة لقلّ تفاؤلنا وخفّ حماسنا ولوجدنا أنّ كثيراً من الكتب المترجمة ـ إذا لم نقل معظمها ـ تتصف بالضعف أو بالركاكة سواء في تركيب الجمل أو في المبنى اللغويّ أو انتهاك أبسط شروط الترجمة التي لا بدّ منها . فلا يقدّم للقارئ لا الكاتب الأجنبيّ ولا اتجاهاته الفكريّة ولا مؤلفاته السابقة ، ولا حتى السنة أو البلد أو اللغة التي نشر فيها الكتاب .
على القارئ أن يتدبّر الأمر ، ويشتري الكتاب ... ربّما للضجّة التي تثار حوله أو حول مؤلفه . وإذا فهم القارئ بعد ذلك أم لم أو استوعب أم لم يستوعب ما جاء فيه ، فهذا سؤال آخر لا يهمّ الناشر اللبنانيّ كثيراً .
* * *
ولهذا الوضع أسبابه . ويمكن إجمالها إمّا بالسرعة الزائدة في الترجمة أو لعدم تمكن المترجم من اللغتين ، المترجم عنها والمترجم إليها ، أو لعدم تخصّصه في الميدان الذي يترجم فيه ، أو لجميع هذه الأسباب . ويمكن أن نضيف سبباً آخر معروفاً لدى الجميع ، وهو أنّ دار النشر التي تقرّر أن تترجم كتاباً أجنبياً ، تخشى أن تسبقها غيرها إليه ، إذا لم تبادر بالسرعة القصوى إلى ترجمته ونشره ، إذ أنّ معظمها لا يعترف بحقوق الكاتب أو الناشر في اللغة الأصليّة .
إنّ للترجمة أهميّة كبرى ، بالنسبة للدول النامية ، والمتطوّرة ثقافياً وحضارياً . فمثلاً يترجم إلى اللغة الفرنسيّة أهمّ المؤلفات في مختلف ميادين الاقتصاد والاجتماع والأدب والقثّة ، إلخ...
عن اللغات الأخرى ( ومنها العربيّة ) ـ والعكس بالعكس ـ مع أنّه ليس هناك من يدخل الشعب الفرنسيّ ضمن الشعوب المتخلفة .
إنّ العالم يصغر أكثر فأكثر وانتقال الأفكار من بلد إلى بلد آخر ، يتمّ بسرعة فائقة ، وأيّ حدث يجري في أيّ بقعة من الأرض يجد له صدى في البقعة الأخرى . ممّا يجعل بعض الكتاب يعتقدون بأنّ العالم سائر لا محالة نحو الوحدة : الوحدة في نمط التفكير والثقافة والوحدة في السلوك والعادات وطرق العيش والحياة . يتمّ ذلك للإنسان المعاصر بما هو متوفر لديه من الوسائل الحديثة في الانتقال والتنقل ، وفي الطباعة والنشر وبواسطة السينما والتلفزيون والإذاعة .
* * *
ولكن السؤال الهام بالنسبة إلينا وفي ظروفنا الحاليّة ، هو : ماذا نترجم ؟... ولمن نترجم ؟... وكيف نترجم ؟...
إنّ الشرط الأساسيّ في ترجمة الكتب ، هو أولاً وقبل كلّ شيء أن تلبّي هذه الكتب حاجة المجتمع العربيّ واللبنانيّ في أوضاعه الراهنة ، وأن تكون أحد العوامل النظريّة المساعدة لتوضيح وحلّ مشاكله ، ودافعاً له لتخطي الصّعاب التي تجابهه في مختلف الميادين .
ويمكن أن نعطي ، في هذا الصدد ، مثلاً من ضمن الأمثلة العديدة التي لا بدّ وأن تخطر بذهننا والتي تدل على مدى تخبطنا أو مدى تحكم عقليّة الربح والإثارة في قضايانا الثقافيّة ، هذا المثل هو تلك الموجة وذلك الحماس في الفلسفة الوجوديّة وترجمة كتب " سارتر " إلى اللغة العربيّة في الخمس عشرة سنة الماضية .
إنّ فلسفة " سارتر " الوجوديّة هي تيار فكريّ عبّر فيه " ساتر " ومن خلال قصصه ومسرحياته ، عن مرحلة من مراحل تطوّر المجتمع الغربيّ والفرنسيّ منه بشكل خاص وهي مرحلة ما قبل وما بعد الحرب العالميّة الثانية . وإنّنا نشكّ في أن يكون القارئ العربيّ غير المختص قد فهمه ووقف على مضامين قصصه ومسرحياته ، وأدرك أبعاد هذا التوتر والغمّ والقلق الداخليّ ومشاكل الحريّة ومسؤوليّة الفرد .
وكتب " ألبير كامو " تدخل ، هي الأخرى ، ضمن هذه الموجة من الإثارة في الترجمة . فكتابة " الموت السعيد " الذي ترجم حديثاً تحدثت عنه الصحافة الفرنسيّة طويلاً عند ظهوره في الأشهر القليلة الماضية . لقد وضعته في سياق أعمال " كامو " وقامت بمقارنات بينه ( وهو ليس آخر مؤلفاته ) وبين كتبه السابقة . وذكرت أنّه ليس أحسن إنتاجه وفيه نقاط ضعف كثيرة . وهو إنتاج سنيه الأولى ، ولربما لم يكن راضياً عنه ، لذلك لم ينشره في حياته . وقد وجد ضمن أوراقه التي خلفها وراءه . ومع ذلك ، فكتاب " الموت السعيد " يظهر جانباً من شخصيّة " كامو " الفكريّة وقلقه في مرحلة من مراحل حياته .
إنّ هذه الإيضاحات البسيطة والضروريّة حول هذا العمل الفكريّ والأدبيّ لـ" كامو " لا بدّ من أن تكون عامل توضيح للقارئ لكي يفهمه . ولكننا لا نجد أيّ شيء من هذا في الترجمة العربيّة التي لم تضع لها مقدمة موضحة ، وإنّما ، في ذهن الناشر ، يكفي اسن " كامو " لإغراء القارئ العربيّ بشراء الكتاب .
ومن المحتمل ، بالإضافة إلى ذلك ، أن تصدم الترجمة العربيّة القارئ وتمنعه من متابعة القراءة ، عندما يجد لتوّه ، في الصفحة الأولى ، ثلاثة وعشرين مرة ذكر فعل " كان " وفي الصفحة (97 ) ثمانية وعشرين مرة وهكذا ز وإذا كان هذا طبيعياً في اللغة الفرنسيّة فهو في اللغة العربيّة يفقد هذا الأثر الأدبيّ جمال الأسلوب وقوّة المبنى ـ هذا إذا لم نقل أنّه يشوهه .
* * *
هل يفهم من ذلك أنّه لا يجب ترجمة " سارتر " أو " كامو " أو سواهما من نفس الاتجاه أو المذهب الأدبيّ والفكريّ أو غيره ؟... لا أبداً ، وإنّما المشكلة تطرح بالنسبة لنا بصورة أخرى ، وهي : لمن نترجم ؟.. أيّ أنّه من الواجب تحديد القارئ الذي نترجم له والأخذ بعين الاعتبار بيئته الاجتماعيّة ، هواجسه الفكريّة ، مشاكله السياسيّة ، أو ظروف مجتمعه في مرحلته الراهنة . وبتعبير آخر : علينا احترام القارئ .
* * *
ويتفرع عن ذلك كله سؤال آخر تجدر الإشارة إليه ومحاولة الإجابة عليه ومناقشته وهو : كيف نترجم ؟...
يقول الدكتور سهيل إدريس " أنّ الترجمة الدقيقة التي تكاد أن تكون حرفيّة هي أسلم الترجمات وأوفاها تعبيراً عن الأصل ". ويضيف : " ليس المهمّ أن نصوغ الفكر الأجنبيّ بصياغات عربيّة تتوخّى فيها البلاغة والفصاحة العربيّة . فإنّ ذلك سيغيّر حتماً بطريقة التفكير الأجنبيّ بالعبقريّة الخاصة لكلّ لغة . إنّني شخصياً أفضل أن يقال عن الترجمة العربيّة لأثر أجنبيّ أنّ الأصل الأجنبيّ واضح فيها ، على أن يقال أنك لا تحس فيها الأصل الأجنبيّ ". ثمّ يدعو أخيراً إلى "المحافظة على عبقريّة كلّ لغة أجنبيّة في اللغة المترجمة إليها حتى ولو أدّى ذلك إلى عدم جمال الأسلوب وفقدان البلاغة .
إنّ هذا المفهوم من الترجمة يثير عدّة قضايا هامة في آن واحد . فإنّ صحّ هذا الرأي في ترجمة الكتب العلميّة من اقتصاد واجتماع وسياسة ، إلخ ... ( وهذا غير ثابت أيضاً )، فكيف يمكن أن نتصوره في ترجمة الأعمال الأدبيّة والقصصيّة ؟... إنّ المترجم ، في هذه الحالة ، لا بدّ من أن يكون ليس فقط اختصاصياً في ميدان الترجمة ـ فهذا أمر مفروغ منه ـ وإنّما كذلك أن يكون أديباً وفناناً ، أن يحس النص الذي يريد ترجمته أن يتفاعل معه وأن يضفي عليه شيئاً من شخصيته الفنيّة ، من إبداعه ، وشيئاً من شخصيته وبنيته وأسلوب اللغة المترجم إليها .
* * *
إنّ " باسترناك " الأديب السوفياتي ( 1890 ـ 1960 )، الحائز على جائزة " نوبل " للآداب سنة 1958 ، قال ، عندما قرأ قصته " الدكتور زيفاغة " في اللغة الفرنسيّة كأنّه يقرأ لأوّل مرة هذا العمل الأدبيّ الرائع في جماله وأسلوبه . إنّ هذا يعني ـ بتعبير آخر ـ إنّ المترجم الفرنسيّ قد صبغ هذه القصة بشيء جديد من روحه الأدبيّة ومن " بلاغة " اللغة الفرنسيّة الخاصة بها .
وكذلك الأمر بالنسبة إلى بـ" بيار دي نرفال "، عندما ترجم قصة " جوته " الفلسفيّة "فاوست " إلى اللغة الفرنسيّة . فهو لم يتقيد بالنص الألمانيّ تقيداً " دقيقاً يكاد أن يكون حرفياً ". وإنّما سمح لنفسه بأنّ يترجم بعض الفصول الشعريّة نثراً وأن يلخص بعض الفصول الأخرى وأن يغيّر بعض الصور الشاعريّة في النصّ الأصليّ ، بصور أخرى تؤدّي نفس المعنى وتتقبلها اللغة الفرنسيّة. وقد أبدى " جوته " إعجابه بهذه الترجمة كما هو واضح في مقدمة الطبعة الفرنسيّة .
ومن الراجح بأنّه لو ترجم النص الأصليّ ترجمة دقيقة وحرفيّة، لأدّى ذلك ، من غير شكّ، لاستغراب القارئ الفرنسيّ عند كثير من فصول الكتاب ، ممّا يضر حتماً بالمضمون .
يتضح من هذه الأمثلة السريعة أن المترجم ليس هو هذا الناقل الحرفيّ ، وإنّما هو أيضاً مبدع وخلاّق بمعنى من المعاني . واللغة في هذا كله ـ كلّ لغة ـ ليست وسيلة للتخاطب بين الناس فحسب ـ فهذا معناها العاديّ والعام ـ وإنّما هي أيضاً وفي الأساس تعبير ، عن حاصل الشخصيّة الثقافيّة والنفسيّة والحضاريّة لشعب من الشعوب ، في مرّ العصور والأزمنة . فلكلّ لغة بنيتها الخاصة ونمط تفكيرها الخاص الذي تعبّر فيه ، فقط ، عن عبقريتها الخاصة .
* * *
هذه هي بعض قضايا الترجمة في لبنان ، طرحناها في خطوطها العامة العريضة . وهي من غير شكّ بحاجة إلى توضيح وتعميق أكثر . وطرحنا لها في هذه العجالة إنّما قصدنا به في الدرجة الأولى إثارة الاهتمام حولها ولفت الانتباه إلى خطورتها في حياتنا الثقافيّة العامة .
* * *
ثمة إجماع من أصحاب دور النشر على أن اللبنانيّ واللبنانيّ المتعلم لا يقرأ . وإذا قرأ ، فإنّ قراءته تقتصر عموماً على بعض الصحف والمجلات أو تصفح هذه الصحف والمجلات بشكل سريع . هذه ظاهرة خطيرة في معانيها ونتائجها . وهي أن دلّت على شيء فإنّما تدل على مدى السطحيّة في معرفة ما يدور حولنا من أحداث .
يعزو بعضهم ظاهرة عدم انتشار القراءة بين الأجيال الطالعة في لبنان إلى أن المتعلم إذا كان يتقن لغة أجنبيّة فإنّه يفضل أن يقرأ فيها تاركاً جانباً الكتاب العربيّ . ولكن هذا التفسير يجب أن يؤخذ بتحفظ ، وهو يرى جانباً من المشكلة ولا يفسر أسبابها الحقيقيّة . ذلك لأنّه ليس هناك من دليل على أنّ كلّ من يتقن لغة أجنبيّة يقرأ فيها وليس كلّ من تطلق عليه صفة المثقّف في لبنان يتقن لغة أجنبيّة اتقاناً جيداً .
ويذهب البعض الآخر إلى أنّ عدم قراءة المتعلمين في لبنان تعود إلى انتشار وطغيان وسائل الإعلام والترفيه والتسلية والمرح طغياناً كبيراً تغريهم وتصرفهم عن الكتاب . وهذا أيضاً تفسير ظاهريّ . إذ لو كان الأمر كذلك لما وجدنا الشعوب في المجتمعات المتطوّرة تقرأ كثيراً ، مع أنّه من المسلم فيه أنّ هذه الوسائل وغيرها هي أكثر انتشاراً في هذه البلدان منها في لبنان .
في الحقيقة ، إنّ القراءة هي حاجة أو عادة اجتماعيّة . وهي لا تخلق مع الإنسان بقدر ما يكتسبها مباشرة من البيئة التربويّة والثقافيّة التي يعيش فيها . فإذا لم يشعر الفرد بهذه الحاجة الماسة إلى القراءة التي يفرضها عليه الوسط الاجتماعيّ الذي هو جزء منه ، فهو لا يقرأ . ولماذا يقرأ إذا لم يدفعه ويحثه ، بطريقة أو بأخرى ، من يحيط به ـ في البيت والمدرسة والمجتمع ـ على أن يكون على معرفة صحيحة بمجرى الأحداث في مجتمعه وفي العالم الذي يعيش فيه ، وبآخر كتاب ظهر بأحد ميادين العلم والأدب والثقافة ...
والفرد في الأساس هو نتاج وسطه الاجتماعيّ الخاص وابن طبقته التي ينتمي إليها . وهو لهذا يخضع خضوعاً مباشراً للشروط الثقافيّة والاقتصاديّة والسياسيّة التي يوجد فيها . وهذا ما يحدّد بالتالي ، صفاته النفسيّة العامة وسلوكه وردات فعله ويعطيه عالماً جاهزاً من الأفكار والعادات والمفاهيم الخاصة .
فاللبنانيّ ، كلّ لبنانيّ على وجه العموم ، يقع إذن في حياته العامة والخاصة تحت سيطرة وطغيان ما يمكن تسميته بالأيديولوجيّة اللبنانيّة السائدة . واستعمال الأيديولوجيّة هنا بمعناها الاجتماعيّ العام . وهي مجموعة من المفاهيم والأفكار والمعتقدات والأساطير ، إلخ ... التي تخص مجتمع ما أو حزب أو طبقة أو فئة اجتماعيّة بمرحلة تاريخيّة معيّنة . وإحدى الصفات البارزة لهذه الأيديولوجيّة اللبنانيّة السائدة . إلى جانب الطائفيّة ، هي العقليّة التجاريّة المسيطرة والربح . هذا ما يطغى على اللبنانيّ عموماً ويصبغ حياته حتى في أدقّ دوافعه السلوكيّة وتصرفاته وعلاقاته .
والمثقّف وحتى الثوريّ لا يستثنى من ذلك . فهو متشبع بهذه الأيديولوجيّة السائدة أيضاً وغارق في دوامة النظام الجارفة ومفاهيمه ولم يستطع أن ينفصل عنه . فهو يركض وراء الربح ، وراء تأمين المركز الاجتماعيّ المرموق والحياة الماديّة المرفهة ، مستخدماً من أجل ذلك كلّ ما يعطيه له مجتمعه السياسيّ من علاقات نفوذ وفرص طائفيّة وغيرها . فاندماج المتعلم أو المثقّف اللبنانيّ هو اندماج كلي يسمّى حديثاً بمجتمع الاستهلاك . مجتمع الرفاهيّة الظاهرة ، وافتعال الرغبات والحاجات التي هي ، في الحقيقة ، ليست بعد ضرورة حياتيّة على الأقلّ بالنسبة لمجتمعنا : المسكن الفخم والسيارة الفخمة والملبس المتأنق الغالي أيّ الاهتمام الكلي بالمظهر الخارجيّ ...
إنّ هناك تناقضاً بين التوجه الكليّ نحو الربح وكسب المال ـ وأحياناً بأيّة طريقة كانت ـ لسد حاجات اجتماعيّة مفتعلة فرضها النظام اللبنانيّ من جهة . وبين الانكباب الكلي على الثقافة والقراءة من جهة ثانية . فيجب الاختيار في النهاية ، بالنسبة إلى المثقّف ، بين هذا وذاك . فباختيار الأوّل يفقد المثقّف صفته الأساسيّة كمثقّف حقيقيّ ، وباختيار الثاني بوعي يؤدّي به حتماً إلى رفض النظام بكلّ مفاهيمه والانقضاض عليه ، وفي نهاية التحليل ، إلى الثورة بكلّ أبعادها الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة .
من هو المثقّف ؟... هو ذلك الإنسان الذي تنعقد بينه وبين الثقافة والقراءة علاقة " عشق " كلي وداخليّ ، بالمعنى التصوفيّ للكلمة . وهو أيضاً وخاصة الذي يلتصق عضوياً بواقعه المتحرك لفهمه في ماضيه وحاضره ، لا ليقبله كما هو وإنّما لاستشراف آفاق المستقبل فيه .
في ظروفنا الراهنة ، ثمّة حلقة مفقودة في ثقافتنا ووجودنا . وهذه الحلقة هي عدم وعينا وعياً حقيقياً لحضارتنا ولتاريخنا العربيّ حتى الحديث منه ، أي بتعبير آخر عدم وعينا لذواتنا ولهويتنا . وهنا يمكن أحد أسباب التخبط والانسحاق والأذمة الثقافيّة والسياسيّة والنفسيّة العامة التي نعيش فيها .