نظرة في واقع الجمعيات الثقافية في الجنوب اللبناني
نظرة في واقع الجمعيات الثقافية
في الجنوب اللبناني(*)
* * *
السـؤال الأول
1) النوادي والمراكز الثقافية في لبنان، صورة عن الواقع السياسي وفي الوقت نفسه، صورة عن الواقع الثقافي، فهل تقوم هذه المراكز بدورها على هذا الصعيد؟! وهل تحاول تخطي سلبيات الواقع الثقافي واحتضان المثقَّف والعمل الثقافي والسياسي؟ وكيف؟
2) يلاحظ البعض أن بعض المراكز الثقافية يصبّ عملها في اللعبة السياسية والثقافية التقليدية، دون أن نستطيـع الانتقـال إلى تأسيس ثقافـة جادَّة، وسياسية وقويَّة بنَّاءة؟ فيما هـو رأيكـم؟
3) هل تعتقد أن المراكز الثقافية هي على هامش الحياة السياسية والثقافية في لبنان، مبعدة عن المشاركة في صنع القرار؟ ولماذا؟
* * *
في الحديث عن واقع الجمعيات والمراكز والمؤسسـات الثقافيـة في الجنوب اللبناني. وعن أوضاعها العامة والظروف السياسية التي تنشط فيها، لا بدّ بادئ ذي بَدء، ومن الناحية المنهجية، من محاولة توضيح المصطلحات المستخدمة: الجمعيات الثقافية، المؤسسات الثقافية وبالتالي التوقف قليلاً أمام مفاهيم الثقافة والمثقف والمثقيين، المستخدمـة في الآونة الأخيرة في أدبياتنا بكثرة مُلفتة للنظر. وإن عدم تحديدها قد أدّى، وهو يؤدي فـي الواقع إلى التباس كبير وشائع، ذلك أن هناك مجمّعات ومؤسسات قد أنشئت بكثرة في السنين الأخيرة، وجميعها جرياً على العادة الجديدة المنتشرة، تُطلق على نفسها صفة "الثقافة"، وتحمل أسماء سياسيين في السلطة أو في خارجها، وهي مجَّمعات ومؤسسات حديثة نسبياً ولديها إمكانيات مالية وأجهزة تقنية وطاقات بشرية، أدبية أو تربوية، جديدة، بل وأكاد أقول غريبة على الجنوب… وذات نفوذ وسيطرة سياسية واجتماعية، فهل يمكننا إدخال تلك المؤسسات التي تطلق على نفسها صفة "الثقافية"، في "سلة" الأندية الثقافية وفي جملة الجمعيات الثقافيـة أو الاجتماعية أو الشبابيـة، الطوْعية القائمـة والمنتشـرة هنا وهناك في الجنوب اللبناني؟!…
كذلك، وفي هذا المنحى أيضاً، هناك جمعيات وجمعيات، وأندية ثقافية واجتماعية ورياضية منتشرة انتشاراً واسعاً، وأكاد أقول في كلّ قرية وبلدة ومدينة… ولكن، واقعياً وما يجري على الأرض، أغلبها يخضع بشكل أو بآخر ويقع تحت تأثير النفوذ السياسي المحلي، لهذه القوة السياسية "الحركية" أو لتلك الهيمنة السياسية وضغوطاتها: ترهيباً أو ترغيباً، أو بكلمة، لا تستطيع أيّ مجموعة "ثقافية"أن تنتقد علناً أو أن ترفض صراحة عمليات القمع المباشرة أو غير المباشرة. لا شك في أنّ هناك، على الرُّغم من هذا الواقع، جمعيات ثقافية تتخذ شكل المعارض مع كثير من الحذر والتورية، أو تعتمد المواربة وأحياناً الانتهازية المقنَّعة.
وهذا ما يدعو إلى القول بأنّ هذه التجمعات الثقافية تعيش في الأوضاع الراهنة في أزْمة، بل وفي مأزِق حقيقي، عضوي وفكر تقليدي متقلّب: كلّ ذلك، طالما أن الديمقراطية غير متوافرة عندنا، وحرية الرأي والتعبير مفقودة، ولا وجود لهما في الممارسة والعمل… هناك هامش من التحرك "الثقافيّ"، عام في طروحاته ومواقفه وملتبس، لا تستطيع أية جمعية في أغلب الأحيان أن تتجاوزه أو أن تقفز فوقه، خصوصاً في تلك القرى والبلدات وبعض المدن الجنوبية، التي تدخل ضمن "حظيرة" نفوذ القوى السياسية المسيطرة، هنا أو هناك.
هذا طبعاً إذا استثنينا عدداً قليلاً من المؤسسات الثقافية، الديمقراطية، الحقيقية في صيدا أو في غير صيدا…. مثلاً، في مدينة صيدا، إنّ ما يتمّ على الأرض منذ سنوات عديدة إنما هو الهيمنة التدريجية المركَّزة والسيطرة التامة بأيّ وسيلة كانت، خصوصاً استخدام سلاح المال كأداة إغراء، كأداة ترغيب أو ترهيب أيضاً، واحتواء ما هو موجود حديثاً أو قديماً عريقاً من جمعيات ثقافية واجتماعية ـ خيرية وغيرها وآخرها رياضية.
يضاف إلى ذلك، وهو ما يلاحظه أيّ مراقب، تسرّع بعض الجمعيات الناشئة حديثاً من أجل الحصول على "علم وخبر" من وزارة الداخلية عن طريق هذا الزعيم السياسي أو ذاك أو للوصول بأسهل الطرق إلى لعب دور اجتماعي أو سياسيَّ. لذلك نجدها تسعى بكل جهد ووسيلة إلى إرساء صلات من العلاقات السياسية، واستجداء المساعدات المالية الكبيرة من متمولين وسياسيين على حدٍ سواء، لعقد هذا المؤتمر أو ذاك الاحتفال التكريمي…. أو في أحسن الحالات، مراعاة القوى السياسية المهيمنة في المنطقـة، وإدخال ممالأة "ممثلين عنها في هيئاتها الإدارية أو رئاستها…
… فهل نستطيع في هذه الحالة أن نتحدث، بموضوعية، عن دور لمثل جمعيات أو مجمَّعات ثقافية كهذه وقيامها بمسؤولية وتحمل رعاية النشاط الثقافي و"احتضان المثقف": وأيّ مثقف، كما ورد في السؤال؟!… الثقافة في مفهومها الحقيقي وكما أتصورها ودون الدخول في التفاصيل والتعريفات، هي الثقافة الاعتراضية في النظرية وفي الممارسة، الثقافة النقدية للواقع السياسي والاجتماعي، والدعوة والعمل في آن، لتغييره ولمصلحة الإنسان وأوسع طبقات الشعب الكادحة والمحرومة والمقهورة.
والمثقف بهذا المعنى أيضاً هو المثقف الجذريّ، الملتزم بقضايا الشعب والناس والمجتمع والإنسان، والمعبّر كتابة أو شفاهة، عن طريق الإنتاج الفكري أو في الممارسة العملية أو في كليهما، عن مصالح الجماهير التي لا صوت لها، وتوضيح وعيها المتكامل: ففي هذا المعنى، وفي هذا المعنى فقط، هناك دور للمثقف الملتزم، الجذريَّ يجب عليه أن يلعبه، ولا يمكن لغيره أن يلعبه في الظرف الراهن…
وأما التمييز، برأيي، بين ما هو سياسيّ وما هو ثقافيّ، فإنما هو تمييز وهميّ، اعتباطيّ، شكليّ: فكل ما هو ثقافيّ حقيقيّ هو سياسيّ في نهاية التحليل، وبالمعنى الإيجابي للكلمة… وكلّ ما هو سياسيّ هو ثقافيّ أيضاً، بمعنى فكريّ في المنطلقات وفي المواقف العملية، ووعي حقيقي وواقعي ونظري وفي الممارسة لظروف المجتمع، من أجل تغيير هذا الواقع السياسي ولمصلحة الإنسان….
ولكن، في هذا السياق العام، تلتبس أيضاً مفاهيم الثقافة المنتشرة حالياً وتضطرب وتتناقض في ما بينها ويصيبها الغموض والضياع، وتختلط الأمور. فلا يستطيع الرأي العام التمييز في "مواجهة التطبيع" مثلاً أو دعم المقاومة أو رفض مفاوضات الاستسلام والخنوع التي تجري حالياً بين الدول العربية والدولة العبرية، فيلتبس التمييز والتفريق ـ أقول ـ من قِبَل المواطن بين مَن هو من الموالات، ومَن هو من المعارضة، فيختلط الحابل بالنابل في الذهن… فهنا تكمن، في ما أرى، الخطورة الكبرى وصعوبة المرحلة الانتقالية وغموضها…
ولكن، من هنا أيضاً، أرى دور المثقف الجذريّ، والثقافة الملتزمة، لتوضيح بين ما هو حقيقي وما هو مزيّف، بين ما هو وطني ديمقراطي وما هو انتهازيّ. لذلك، فلا يجوز في هذه الحالة وفي مرحلة التراجع بالذات أن يستقيل المثقف الملتزم أو أن تنكفئ الثقافة الجذرية، على الرُّغم من جميع الصعاب، وهي كثيرة، التي تكتنف عملهما: فلا شىء يدوم، كما علمنا التاريخ، وإنما في مرحلة الأزمات والهزائم والتراجعات، يجب أن تتكوَّن وفي هذا الظرف بالذات نواة التغيير، قوى التغيير المستقبلية، انطلاقاً من الثقافة، وأن تنبثق من بؤس هذا الواقع السياسي والفكري المهزوم، وفي الوقت نفسه من نقد التجربة أو التجارب السياسية السابقة من أجل استشراف آفاق المستقبل…
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (*) ـ حديث للدكتور مصطفى دندشلي، ضمن إطار الجامعة اللبنانية ـ صيدا، مع إحدى المجلات اللبنانية، بتاريخ تشرين الأول 1992.