حوار مع المهندس رهيف فيّاض - نظرة عامة حول مشاريع صيدا العمرانية
نظرة عامة حول مشاريع صيدا العمرانية
والصحية والبيئية: رؤية مستقبلية(1)
حوار مع
المهندس رهيف فيّاض
الدكتور مصطفى دندشلي: … أستاذ رهيف (فيّاض)، لقد أحبَبْتُ أن أجريَ معك هذه المقابلة حول ما جرى في مدينة صيدا من مشاريع عمرانية كانت قد أُنجزت أو هي في مرحلة التَّنفيذ. وأنت طبعاً ليس فقط من المهتمّين بهذه المدينة التاريخيَّة، وإنما أيضاً كنت قد شاركت فيما كان يُخطّط لها من إنشاءات، وبخاصة من مشاريع الواجهة البحرية، علمياً ودراسة ومتابعة وكمدينة تاريخيَّة تراثيَّة ومن الناحية المعمارية تحديداً. وأنت كنت قد زرت مدينة صيدا مرّات ومرّات وتعرفها جيداً من هذه الناحية، وهذا هو اختصاصك بالذات. وأنت تعرف المدينة القديمة بزواريبها وشوارعها وحاراتها وساحاتها العامة وأزقَّتها الضيّقة. وقد كنت أكثر من ذلك، بل وفوق ذلك، مقرِّراً لَجنة التحكيم في المباراة التي أُجريت لاختيار من بين المشاريع المقدَّمة، أفضل مشروع واجهة صيدا البحرية…
من هنا، فيما أرى، الأهمية في معرفة وجهة نظرك في هذه المشاريع الإنشائية التي نُفِّذت أو التي لم تُنفَّذ بعد، وأن تُجيبني عن بعض الأسئلة المطروحة علينا والتي سأطرحها بدوري عليك ومناقشتها، حتى أُلحقها في الجزء الثالث من ملفِّنا الضَّخم وعنوانه: مشاريع صيدا العمرانية، ما لها وما عليها، ماضياً وحاضراً…
السؤال الأول الذي أطرحه عليك ويهمّني أن أعرف وجهة نظرك فيه، يتعلق بمشروع إزالة مكبّ النِّفايات في خليج اسكندر….
المهندس رهيف فيّاض: … أولاً، أشكر لك المقدمة. وأنا أهتمّ بصيدا منذ زمن بعيد، لأسباب عديدة أهمّها: موقعها في الحياة الوطنية العامة. وهي مدينة تاريخيّة، إحدى المدن التاريخيّة الأساسيّة على الشاطىء. ولربما لا يتناسب دورها الحالي مع دورها التاريخيّ. ولكن، دورها في الظرف الراهن لا ينفي حضورها المعماريّ وحضورها التاريخيّ. والاهتمام بمدينة صيدا هي قضيَّة وطنيَّة وثقافيّة في آن.
إن النِّفايات في خليج اسكندر تخلق إشكاليّة كبرى في موضوع الواجهة البحرية من جهة جنوبي مدينة صيدا. وهذه الإشكاليّة تتجدّد، وأساءت بشكل بالغ إلى خليج اسكندر، أي إلى الواجهة البحرية أو إلى جزء كبير من الواجهة البحرية لمدينة صيدا.
لقد قرأنا في الصحف أن اتِّفاقاً كان قد حصل بين بلدية صيدا ومؤسسة الأمير الوليد بن طلال الإنسانية (تشرين الأول عام 2004) لإزالة مكبّ النّفايات في صيدا. الاتِّفاق مبدئياً جيِّد، وإزالة النِّفايات جيِّدة أيضاً، بما معناه تنظيف خليج اسكندر من تراكُم النّفايات فيه وإبعاد التلوُّث عن أحياء المدينة وإعادة الخليج إلى قيمته التاريخيّة والطبيعيّة. وكل هذه البادرة تصبّ في إيجابيَّته. ونحن لا نشجِّعها فقط، بل نتمنّى أن تُنفَّذ بسرعة ومن أي طرف كان، ونرحِّب من موقع المهتمّ من الجانب الثقافيّ بهذه القضيَّة بأن يكون الأمير الوليد بن طلال هو المعنيُّ بهذا الشأن.
ولكن يبقى موضوع معالجته، السؤال الأول هو أن الاتِّفاق لم يوَضِّح ـ أو أنا لا أعرف حتى الآن ـ كيف ستُزال هذه النِّفايات، بمعنى كيف ستُنقل؟… وإذا نُقلت إلى مكان آخر، هل ستحلّ مشكلة مَن، لنستبدلها بمشكلة أخرى في مكان آخر؟!… أم أن هناك حلولاً حقيقية؟… وأنا أقصد هنا النِّفايات المنزليَّة الصلبة الموجودة في المكبّ الحالي في خليج اسكندر. هذا الجبل من النِّفايات، أين سيُنقل وماذا سيحدث؟…
في الواقع اللبناني اليوم، هناك طريقتان: الطريقة الأولى هي الفرز، فرز النِّفايات واستخلاص منها ما يمكن تدويره من بلاستيك وحديد وزجاج، إلخ… ومن ثمَّ فرز منه المواد العضوية الأخرى. والمواد العضوية الأخرى تُنقل إلى مطامر صحيَّة رسميّة محدَّدة، بحيث إنها تُطمر بموافقة المعنيّين سواءً كان على مستوى المكان المختار أم على مستوى البيئي العام. فما هي الطريقة التي ستُعتمد في نقل هذه النِّفايات في صيدا؟… الطَّمر، أين سيحل وفي أيِّ مكان؟.. هل ستحصل عملية الفرز وفقاً للأسس العلمية المعروفة بحيث يتمّ تدوير ما يمكن نقله وتدويره؟… هذا سؤال أو بالأحرى هما سؤالان. والسؤال الثالث: في حال أزلنا هذا الجبل من النِّفايات الآن، أين ستُكبُّ بعد ذلك نفايات صيدا؟!…
س: …. الآن يجري تنفيذ بناء معمل لمعالجة النِّفايات المنزلية الصلبـة ويُنْجز أعماله ويبدأ مباشرة التشغيل ـ كما يقول المتعهِّد ـ في تموز 2007.
ج: … عال، هذا يعني أنه يحلّ مشكلاً قائماً……. وفي كل الأحوال أعتقد أن هذا عمل جيَّد، وتبقى واضحة مشكلة معالجة النِّفايات المنزلية الصلبة لاحقاً، وما يُطمر أين سيُطمر؟.. فليس هناك من معايير كاملة….
س: … يبدو أن عمليات الفرز، كما هو ملحوظ، ستتمّ في المكان نفسه، أي في مكبّ النِّفايات. ولكن أين ستُطمر المواد الأخرى من أتربة وخلافـه، فهذه مشكلة أخرى لا حلّ لها حتى الآن؟!…
ج: … يمكن أن يجعلوا من المواد العضوية أسمدة، وبالتالي فنحن نصبح في هذه الحالة، في قمة معالجة النِّفايات في العالم، ذلك أنها أسمدة نادرة وقليلة. [….].
س: … ما أودّ أن أعرفه وبحسب معلوماتك، هل يوجد محطّاط تكرير مياه الصَّرف الصِّحّي في لبنان؟
ج: … صدر قرار منذ زمن بإنشاء ثماني أو تسع محطّات تكرير على طول الشاطىء اللبناني… ولكن كل المحطّات التي أنشئت لم تُفِ بأن تكون محطّات من الدرجة الأولى على الطريقة التي ستُنفَّذ في مدينة صيدا. أنا لا أقول بأن هذا سيِّىء، لا!.. هذا جيِّد وضروري ويمكن أن يُبعد التلوُّث إلى داخل البحر والقسطل بطول 1500م وما أكثر من ذلك، إنما هو ضروري لإبعاد المياه الملوِّثة. ولكن، ليس هو الأسلوب النَّاجع، بل هو الدرجة الأولى من درجات المعالجة في موضعها الأدنى والأقل كلفة والذي من الممكن تعميمه عبر الوسائل المادية المتوافرة بين الدولة اللبنانية وهذه الكلفة الغالية غير المتوافرة عادة في الوقت الحاضر. ولكن علينا أن نسلِّط الضَّوْء على قيمتها التِّقنيّة الحقيقيّة.
س: … هنا يُطرح السؤال ـ وهو سؤال خاص ـ حول مساحة الأرض المردومة: فالأرض المردومة تبلغ نحو 38.000م2 (أي 38 دونماً والدونم الواحد يساوي 1000م2). فتكون مساحتها نحو 3.8 هكتار مربع، أي نحو 4.2/1 من مساحة مدينة مدينة صيدا القديمة التي هي ـ كما أسلفنا ـ 17 هكتاراً مربعاً….
ومهما يكن، فالسؤال المطروح الآن هو حول مِكلية الأرض المردومة: فهي تعود لمن: لبلدية صيدا كأملاك عامة، أم للشركة صاحبة المشروع؟!…
ج: … حسب الاتِّفاق بين الفريقَيْن: الدولة (وهنا البلدية) والشركة.
س: … هل يحقّ للشركة أن تتملَّك؟!…
ج: … إلاّ إذا تمّ الاتِّفاق بين الدولة والشركة بالتملُّك. كيف تملَّكت شركة "سوليدير" في بيروت؟.. لقد تملَّكت شركة "سوليدير" الأرض المردومة انطلاقاً من اتّفاق وُقِّع بين الدولة اللبنانية و"السوليدير" على أن تدفع الشركة أربعماية (400) مليون دولار كلفة البِنى التحتية في وسط بيروت، وتتملَّك مقابل ذلك الأرض المردومة. والرَّدم، لم يكن بصورة آلية مِلكاً للشركة الرادمة، وإنما تأخذه الشركة الرادمة أو تأخذ جزءاً منه، وفق اتِّفاق يحصل بين أصحاب الأملاك العامة المردومة، وهي الدولة، وبين الشركة التي تردم. وهذا ليس اتِّفاقاً خاضعاً لقواعد ثابتة، وإنما هذه اتّفاقيات استنسابيَّة تعود لكل مشروع وفق موازين القوى بين الدولة والرّادم. فليس هناك من قاعـدة في هذا الموضوع. لكن القاعدة العامة هي أن الشركة أو الجهة الرّادمة لا تملك. غير أنها تملك وفق اتِّفاق توقِّعه مع أصحاب الأملاك، أي هنا مع الدولة…
س: … السؤال المحدَّد والمطروح هنا هو حول الاتِّفاق الذي تمّ مبدئياً بين شركة I.B.C. وبلدية صيدا واتحاد بلديات الزهراني، على أن تقوم الشركة ببناء معمل لمعالجة النِّفايات المنزلية الصلبة في مدينة صيدا مجاناً لمدة عشرين (20) سنة، مقابل ذلك تتملَّك الأرض التي رُدمت. هل يحقّ لها ذلك من الناحية القانونية؟…
ج: … لقد وُضع قانون لهذا الاتِّفاق.. وهذا اتّفاق خاص ـ وأنا لا أعرف إذا كان يحقّ ذلك أم لا من الناحية الدستورية ـ ولكن هذا اتّفاق خاص بين فريقَيْن. والاتِّفاق هو بمثابة عَقْد بين المتعاقدين، وهو خاضع للرضى وليس للإكراه. فالشركة تقوم بالرَّدم ومعالجة النِّفايات المنزلية وبعد عشرين (20) سنة، تصبح الأرض المردومة مِلكها.. فهذا نوع من B.O.T.….
وهذا ما أعرفه وهو أن الرَّدم هو ناتج في كل ما يحصل الآن في لبنان من جوزيف خوري في ضبيَّة إلى "سوليدير" في بيروت، إلى عملية الرَّدم لمعالجة النِّفايات المنزلية الصلبة في صيدا، إلى كل مكان يجري فيه الرَّدم، هناك قانون أساسي ينصّ على أن الأملاك العامة البحريَّة هي مِلك الدولة. وما يُردم فيها هو مِلك للمالك أي للدولة. تدفع الدولة إلى الرّادم، باعتباره مقاولاً، ثمناً مقابل قيامه بأعمال الرَّدم. فما هو هذا الثَّمن؟!… وكيف تتقاسم الدولة والرّادم الأراضي التي ردمتها؟،… فهذه تخضع لاتّفاقيَّة خاصة، موقَّعة بأشكال مختلفة بين الدولة والرّادم، دون أن أستطيع أنا شخصياً أن أرى فيها أين يتمّ تجاوز القوانين ومواد الدستور وغير ذلك. إنما ما هو واضح أن المردوم هو مِلك الدولة. والدولة تتنازل عن جزء من هذه المِلكيّة وفق اتِّفاق معيَّن، لأن الرّادم دفع مالاً لأعمال الرَّدم. وليس هناك قوانين تُحدِّد بشكل آليّ اتِّفاقاً معيَّناً واضحاً، بدليل أن الاتِّفاقيات في ضبيَّة شىء وفي صيدا شىء آخر وفي أماكن أخرى أشياء مختلفة. وعادة ما تكون الدولة في هذه الحالة مظلومة ومتخليَّة عن حقوقها لصالح الشركات والرّادمين الكبار، ذلك أنهم دائماً وأبداً يكونون من أصحاب النُّفوذ. وهذا ما يحصل عندنا على الدَّوام.
إذن، فليست المسألة مسألة قانونيّة، وإنما هذا اتِّفاق بين المتعاقدين، هو عَقْد… في هذه الحالة، يحق للدولة أن تتنازل أو تتخلّى عن جزء من حقّها ضمن شروط، إذا كان الثَّمن عادلاً. بمعنى: أن الرَّدم، إذا كانت كِلْفتُه أموالاً وتعود مِلكيَّته كلها للدولة، فإما أن تدفع الدولة مالاً ثمن الرَّدم، وإما أن تدفع للرّادم جزءاً من الأرض. لأن مَن يقوم بعمليَّة الرّدم، لا يفعل ذلك إحساناً أو عملاً خيرياً، ولا الدولة جمعيَّة خيريَّة أيضاً. الدولة تملك والرّادم يقوم بناءً على طلب الدولة بردم مثلاً مساحة أربعين (40) ألف م2 من مياه البحر. المِلكية هي للدولة، ولكن الرّادم يريد أتعابه… ومقابـل أتعاب الرّادم، وهو هنا شركـة I.B.C، ستُعفى بلديـة صيـدا من دفع أيِّ شىء لمدة عشرين (20) سنة..
هنا، أصبحت القضيَّة تخضع لطبيعة الاتّفاق: هل هو عادل، هل هو مُجحف بحق البلدية، هل هو ضمن القوانين مرعيَّة الإجراء، هل هو مخالف لها، إلخ…؟!…. كل ذلك إنما هو خاضع لطبيعة الاتِّفاق. لكل اتِّفاق يحدِّد عائدات الرّادم بطريقة معيَّنة. وسيجدون لهذا الاتِّفاق مبرِّرات طويلة عريضة…. المثل على ذلك ما قالت الدولة لشركة "سوليدير": نحن ليس لدينا أموال كي ندفع أربعماية (400) مليون دولار ثمن كِلْفة عمليات الرّدم، وبالتالي نعطي "سوليدير" الأملاك المردومة مقابل ما قامت به (أي لقاء الأربعماية (400) مليون دولار). هنا ظهرت أصوات معترضة عديدة، ومن هذه الأصوات صوتي، تقول: لندفع للرّادم، أي لشركة "سوليدير" سندات خزينة بقيمة أربعماية (400) مليون دولار، ونسترجع أعمال الرَّدم كلّها. وفي هذه الحال، نغيِّر طبيعة المِلكيَّة في "سوليدير" كلِّها، إذ تصبح الدولة هي أكبر مالك داخل "سوليدير". وهذا كلام أنا كنت قد كتبته ونشرته.
إذن، "القصَّة" تخضع لطبيعة الاتِّفاق بين المتعاقدين…. ولكن الناحية الأساس تبقى توضيح كيفيَّة المعالجة، معالجة النِّفايات، ذلك أن كلمة: معالجة، إنما هي كلمة واسعة ولها أصول وشروط والكيفيَّة التي تتمّ بها. أنطوان معوشي، يمكنه أن يوضِّح كل هذه الأشياء، وهو اختصاصي في الموضوع، وهو لا يعمل إلا في أعمال السُّدود من أجل مياه الريّ ومعالجة النِّفايات الصلبة….. فهو يستطيع أن يقول لك أيَّ جانب من هذا المشروع هو علميّ أو غير علميّ، يصلح تنفيذه عندنا أو لا يصلح تنفيذه، ملائم للتِّقنيات المعاصرة أو خارجها، كلفته مقارنة بغيره إلى آخر ما هنالك. فهذا الموضوع معقّد جداً…. ولفهمه يجب وضعه في سياق الاتِّفاق: يعني، هل التكاليف التي تدفعها شركة I.B.C. لمدة عشرين (20) سنة، مع ردم مياه البحر مساحة 38 ألف م2، توازي في النهاية تملُّكها الأرض المردومة بعد المدة المتَّفق عليها؟!…[…….].
س: … هذا هو السؤال… السؤال الآن حول ما يُسمَّى الأوتوستراد أو الكورنيش البحريّ: هل سيكون عملياً وفعلاً طريقاً سريعاً، أم بطيئاً؟… وهل سيسمح لمرور الشاحنات الثقيلة فيه؟… وهل سيبقى كما هو حاصل الآن مرآباً لجميع السيارات من كلّ نوع؟… وهل سيكون ممرّاً وطريقاً للجنوب اللبناني؟… أسئلة كثيرة تُطرح في هذا النِّطاق…
ج: … بالنسبة إليّ، هذا الموضوع لا يسمح بطرح أسئلة. ولا يمكن معالجته عن طريق طرح الأسئلة. هذا الطريق هو أوتوستراد حالياً. الجواب واضح. وهو يُستعمل للنَّقل الثَّقيل وهذا واضح أيضاً. وما المانع من أن يكون طريقاً سريعاً، وماذا يمنع سرعته؟… إن تحديد سرعة السَّير تكون عادة في أوَّل الأوتوستراد…. والقضيَّة أيضاً ليست قضيَّة سرعة، بل هي قضيَّة وزن، وزن الشاحنة، وما تحمل الشاحنة…
فجوابي عن هذه الأسئلة، أنا كإنسان مراقب خارجي، زار مدينة صيدا في مناسبات عديدة، ولي علاقة مباشرة بمشروع واجهة صيدا البحرية، أرى أن المشكلة الأساسيَّة للواجهة البحريَّة في مدينة صيدا القديمة هي الأوتوستراد: هو المشكلة الكبرى والأساس وهو المرض العُضال وهو المشكل الفظيع الذي فصل المدينة عن بحرها والذي يحمل بالإيجاب كل الأجوبة عن الأسئلة المطروحة أعلاه. هل سيسمح الأوتوستراد (أو الكورنيش البحري) بمرور الشاحنات الثقيلة؟!.. نعم!… هل سيكون للسَّير السَّريع؟.. نعم!… هذا كلّه واضح. هل سيبقى كما هو الآن مرآباً لجميع أنواع السيارات؟… نعم!!… لأنه لم تُلحظ ولا بشكل علميّ مدروس مواقفٌ للسيارات، بما يُجنِّبها أن تكون موقوفة الآن على جانبَيْ الأوتوستراد. فهذا غير مدروس علميّاً…
س: … ملحوظ في التَّخطيط العام موقف للسيارات بمحاذاة الجامع العمري الكبير من الجهة الغربية لواجهة صيدا البحرية في مساحة من الأرض تتّسع لأكثر من ألف سيارة…
ج: … أنا أعرف ذلك: سيُقام حائط تتوقّف خلفه السيارات. وهذا الحائط أسوء من أن تتوقّف السيارات على جانبَي الأوتوستراد، أي أن تتجمّع السيارات بأعداد كبيرة في الساحة خلف الجدار، في واجهة صيدا البحريَّة، وكأننا نكون قد حوّلنا ساحة الجامع السفلى لجهة البحر إلى مرآب للسيارات. فكلّ الموضوع المتعلِّق بسير السيارات والأوتوستراد ومكانه في المنطقة هو غير مدروس بطريقة صحيحة. وكل المسارات الملحوظة الآن يجب أن يُعاد النَّظر فيها: مسارات واسعة في مدينة مساحتها الإدارية ضيِّقة، تَفْرَحُ بمرور السيارات الواسعة والشاحنات، عليهـا أن تُضيَّق، وأن تقبل الوسطيَّة الداخلية. ويمكن بالوسطيَّة الداخلية أن نلحظ مواقف سيارات موقَّتة للزوّار وليس للشاحنات، على أن نبحث عن جيوب داخل المنطقة لمواقف السيارات العادية.
أنا كتبت، وأجوبتي حول هذا الموضوع موجودة في ما كتبت. وهو منشور حول الواجهة البحريَّة لمدينة صيدا، وخصوصاً حول المشروع الأخير الذي قدّمه راسم بدران. (أنظر النصّ في الجزء الثالث من هذا الكتاب ص ). لقد عالجتُ كلّ هذه المواضيع في البحث الذي نشرته وتكلمتُ عنها، بمعنى لقد أبديت وجهة نظري فيها. وجوابي عن الأسئلة التي طرحتها عليّ، تأتي في اتجاه التأكيد على تخوُّفاتك. وكلّ تخوُّفاتك صحيحة.
س: … نأتي الآن إلى طرح السؤال حول الواجهة البحرية لمدينة صيدا القديمة….
ج: … (مقاطعاً).. هنا السؤال المطروح هو سؤال قانونيّ…. وأنا مشكلتي أن الدراسة الأخيرة التي أُعدَّت للواجهة البحريَّة هي دراسة سيِّئة….
س: … هذه المشاريع حول الواجهة البحريَّة التي أُقرَّت وأقرَّتها لجنة التحكيم، هل ستُنفَّذ؟.. هل أُدخل عليها تعديلات؟.. ما رأيك في المنهج الذي أُتُّبع والأسلوب الذي اُعتمد، وما حصل حتى الآن واقعاً بعد مضي عشر (10) سنوات، هل هذه المشاريع أو غيرها يمكن أن تكون قابلة للتنفيذ في الظروف الحاليَّة؟… هناك كثير وكثير جداً من التَّساؤلات المحيِّرة والتي لا جواب عنها حول هذا الموضوع.
ج: … هناك سؤال أساسي أنت لم تطرحه، السؤال الأساسي هو التالي: هل المشروع الأخير الذي أعدّه راسم بدران، المشروع المعدَّل الذي لم يحترم المشروع التَّمهيدي الذي تمَّت الموافقة عليه من قِبَل لَجنة التحكيم، هل هذا المشروع الأخير المعدَّل للواجهة البحريَّة لمدينة صيدا، هو مشروع جيِّد أم هو مشروع سيِّىء؟!… جوابي: إن هذا المشروع هو مشروع سيِّىء…. لماذا؟.. فقد قلت في البحث الذي نشرتُه وأشرتُ إليه، إن المشروع لم يُعِدْ خياطة الواجهة البحريَّة لمدينة صيدا. كان عليه أن يُخيِّط ـ إذا شئت ـ الواجهة البحريَّة للمدينة، أن يملأ فراغاتها ويعيدها إلى ما كانت عليه من تماسك وأن يبنيَ المهدَّم فيها بحيث يُكْمِلْها. وهو لم يلحظ ذلك. فهو أكبر السَّاحات أمامها وأصبحت ساحات هائلة أكبر من المدينة، وماذا تستفيد مدينة صغيرة من كلِّ هذه المساحات الواسعة؟… إنه وضع مواقف السيّارات على الواجهة البحريَّة للمدينة ـ كما قلنا ـ دون أن يحاول إيجاد مواقف فيها شيء من الخَفَر، لنقل، فيها شىء من البُعْد عن العين النَّاظرة مباشرة ليحميَ المنظر الطبيعيّ للمدينة، وكأننا نبني المدنية للسيّارة وليس السيّارة للمدينة. علينا أن نبنيَ المدينة والسيارة في خدمتها، وليس العكس. ولا يتوهَّمَنَّ أحد أن المدينة تعيش إذا أغرقناها بالسيّارات من كلّ جانب. حياة المدينة ليست بإغراقها بالسيّارات وبالمواقف. تكلمنا هذا الكلام في أكثر من مرّة، وما كنا نُخفي ذلك. وإلى الآن، في هذا الحقل، هو مناقض للحلول الصحيحة.
أما من حيث علاقة مدينة صيدا القديمة بالبحر، فقد تعطّلت هذه العلاقة وعطّلها الأوتوستراد. كان ثمة محاولة ـ في المشروع التَّمهيدي ـ لإعادة ربط المدينة بالبحر عَبْر البناء على بعض الصخور الشماليَّة وإيجاد بعض الجسور فوق الطرقات مما يعيد ربط المدينة مع البحر وإيجاد ممرّات وتضييق مسارات الأوتوستراد وبالتالي تضييق مساحات الفصل، كلّ هذا حصل عكسه. وبالنتيجة يمكننا أن نقول: إن الناس سيتوهَّمون بأنهم بحالة جيِّدة، عندما ينزلون إلى الأرصفة المبلَّطة ويسيرون عليها وينظرون إلى البحر. فأصبح البحر أمامهم مشهَدِيّاً، لا علاقة لهم به. لا يستطيعون أن ينزلوا إلى مياهه: هو قضيَّة بصريَّة، مَثَله كمثَل البحر في الرَّوشة، بينما البحر في صيدا، لم يكن، في يوم من الأيام، قضيَّة بصريَّة، وإنما قد كان قضيَّة يوميَّة في حياة الناس: بحر الصيْد، وبحر العيد، وبحر النَّشاط، وبحر الاستجمام، وبحر النُّزهة. لكنه أصبح البحر اليوم مثل كلِّ بحر في ما يسمى: التقاليد التي أوصلتنا إليها الحداثة. بوليفار عريض نتمشّى عليه، نضع كرسيّاً وندخِّن نرجيلة وننظر إلى البحر. وإذا كانت كلُّ هذه الأشياءغارقة بالسيّارات في الوقت نفسه، فأين صيدا، وأين بحرها…؟!…
أما مشروع المرفأ التجاري، فله قصَّة كبيرة جداً. المرفأ لم يكن مُوافَقاً عليه، فهو غير مُوافَقٍ عليه في موقعه، غير موافَقٍ عليه في مساحته. مساحته، كانت توازي تقريباً ضعفَيْ (2) مساحة مدينة صيدا القديمة من حيث امتداده.(1*) لذلك لم يكن موافَقٌ عليه بحجم التَّلوَّث في البحر الناتج عن الرَّدم والذي سيمتدّ ربما إلى حدود مصر البعيدة وعلى الشاطىء الشرقيّ للبحر المتوسط كافة، ناهيك عن الموضوع الذي أثرْتَه بداية، أي الاتِّفاقيّات المرتبطة بقضيَّة الرَّدم، ومَن هو المستفيد ومَن سيستثمر، وناهيك أيضاً بالأهداف الاقتصاديَّة للمشروع: هو مرفأ لمّن؟… وسيخدم مَن تحديداً؟… هل نستطيع فعلاً أن نجعل من صيدا أكبر مرفأ للحاويات على البحر الأبيض المتوسط؟… أين أصبحت بيروت، وأين أصبحت اللاذقيّة، وأين أصبحت المرافيء الأخرى، المشابهة والموجودة في أماكن أخرى؟…
كان في المشروع وهمٌ لدورٍ لصيدا تمّ تخيُّله أو تمّ الاختباء وراءه، لطرح مشروعٍ لا يتلاءم مع حجم صيدا، ولا مع قدراتها الاقتصاديَّة ولا مع أهدافها الحقيقيَّة أيضاً. كانت أوهامٌ تخفي أوهاماً….. لهذا كلِّه، فقد كان من الواجب نقلُه إلى مكان آخر، تصغيرٌ حجمه، تحديدُ نتائج التَّلوُّث، إيجادُ وسائل نقل أفضل، عدم وجوده في هذا المكان، اختيار أماكن طبيعيَّة أكثر ملاءمة، عدم اللُّجوء إلى هذا الطريق المفتعل.
س: … إلى هنا، لننتقل الآن إلى بحث مشروع المسار الثَّقافي والإرث التُّراثي داخل مدينة صيدا القديمة، الذي يتعهّده مجلس الإنماء والإعمار عَبر تمويل البنك الدولي، ما هي أهميِّته من الناحية المعماريَّة وما هي، في المنحى ذاته ومن وجهة نظرك، فائدته التُّراثيّة وبالتالي السياحيّة ومردوده الاقتصادي والاجتماعي للمدينة، وهل سيكون نموذجاً لمسارات تراثيَّة أخرى شبيهة في مدينة صيدا؟…
ج: … [..] المشروع في مضمونه يريد أن يُستعمل كعنوان كبير اسمه: الإرث الثَّقافي والتَّنمية المدينيَّة، والرَّبط بين الإرث الثَّقافي والتَّنمية المدينيَّة هو ربط جيِّد، ومضمون المشروع إذن هو مضمون جيِّد أيضاً، أي أن يُستعمل التُّراث الثَّقافي في إعادة إحياء المدينة بكاملها recréer la ville، هذا جيِّد، أن نضرب عصفورَيْن بحجر واحد: المحافظة على الإرث الثَّقافي واستعماله في أداة تنمويَّة في آن. وأنا لا أتصوَّر أن يكون أحدٌ ضدّ مشروع من هذا النَّوع، من حيث إن مضمونه واضح وجيِّد.
ومن هذا المضمون، هناك علاقات تفصيليَّة دائماً بين البلديات معنيَّة التَّنفيذ وبين الجهة المنفِّذة. فأحياناً هم على وفاق وأحياناً أخرى هم على خلاف في تفاصيل التَّنفيذ وفي مسارات المشروع وفي بعض النَّظرة إلى جزء من التُّراث، وخصوصاً في طريقة التَّرميم، إذ غالباً ما تأخذ البلديات على المرمِّمين أخطاءً فنيَّة كبيرة تُسيىء، من وجهة نظرهم، إلى ما يُرمَّم. فالتَّرميم له أصول. وإذا أنت رمَّمت دون احترام هذه الأصول، فإنما تُسيىء إلى ما ترمِّمه، دون أن تُبرز قيمته الحقيقية. فأيضاً ما يحدث بين البلديات والهيئات المنتخبة ومجلس الإنماء والإعمار وغيره حول مواضيع مثل أهمية ما يُرمَّم وكيفيَّة ترميمه وكيفيَّة استعماله أو كيفيَّة إعادته إلى ما كان عليه…
بالطبع، إن هذه الخلافات، عليها أن تُحسم دائماً لصالح الخيار الأفضل…. ولكن هذا لم يحصل…. أما مضمون التَّرميم فهو إعادة استعمال ما يُرمَّم. أما الكَيْف، فهناك قضيّتان: أولاً هناك المسار، وهناك ثانياً التُّراث الثَّقافي. وإذا كنا نتحدَّث عن الإرث الثقافي، فإننا نجد أنفسنا نتحدَّث عن كلِّ المباني التاريخيَّة الموجودة في المدينة. ومدينة صيدا القديمة كلُّها تاريخيَّة. هذه المساحة من 17 هكتاراً كلُّها تاريخيَّة. إن المشروع الذي يُنفَّذ، إنما هو مسار، بمعنى هناك نوع من الطريق التي يمرّ بها السوّاح في مدينة صيدا القديمة: من مقهى باب السراي، إلى مقهى "الزجاج" (الإزاز)، إلى الشوارع الضيِّقة ومنها باتجاه القلعة البريّة. وهذا ما نسمِّيه: مسار سياحي عادي، تفرضه عادة الناس في مسارها داخل المدينة وتفرضه بعض المشاهدات التاريخيَّة المعروفة، كما تفرضه في كثير من الأحوال الرؤية التصميميَّة للواقع.[…].
أن يتمّ إحياءُ مسارٍ تراثيٍّ بشكلٍ كيفيّ سينعكس على جيرانه: يعني إذا رمَّمت دكاناً هنا وساحة هناك وتوقَّفت في مكان آخر، فهذا سيساعد تطوَّر المنطقة بكاملها، هل هو كافٍ؟… بالتأكيد لا!!… وهل هو مفيد؟.. بالتأكيد نعم!!… إذن، المسار هو اختيار طريق تُرمِّم فيه، أحياناً نوحِّد الأبواب الخشبيَّة، والشبابيك، والجدران، وأحياناً نمنع التغيير، وأحياناً نُلغي الألمنيوم لأنه مادة دخيلة، ونُغيِّر الحديد أو الخشب. هذه كلُّها تفاصيل في موضوع التَّرميم وإعادة الأمور إلى قيمتها الحقيقية.
وهناك أيضاً قيمة الساحة، تبليطها والمرور فيها، وكيف نعبرها، وكيف نستعملها، وهل يمكن استعمال الساحة كمقهى؟.. وهل استعمال الساحة مقهى هو لصالح الناس؟!… كل هذه الأمور هي من مكوِّنات المسار. وبصورة عامة، أنا أنظر إليه بشكل إيجابيّ. لا أعرف مواصفاته (هذا المسار) التفصيليَّة ولم أدرس الخرائط. طبعاً، هناك مسارات تراثيَّة مشابهة في المدينة. وهذا المسار الثقافي التُّراثي قد يكون نموذجاً لمسارات تراثيَّة أخرى شبيهة في المدينة، ربما، لما لا، لأن هناك أيضاً مسارات أخرى.
وكل الأعمال التَّرميميَّة في المدن التاريخيَّة تقوم أساساً على تحديد نوع من المسارات ويُترك إلى المالكين إكمال عملية الإحياء، بعد أن تكون وُضعت اللُبْنة الأولى للعمليّة قبل معالجة التَّرميم…… وهنا، يمكن أن تحدث في كثير من الحالات تدخّلات وعندما تتدخَّل القوى الكبرى، تُغيِّر كلَّ شىء.
س: … هناك أيضاً أسئلة كثيرة أخرى من الأهمية طرحها ومناقشتها ربما في مناسبة لاحقة، ولكن الآن في هذا السياق مناقشة، على سبيل المثال فقط، وضع الملعب البلدي الذي أنشىء في عهد رياض الصلح رئيس الوزراء في الأربعينات من القرن العشرين، وتحوّل أخيراً تحت اسم المدينة الرياضيَّة في صيدا: ولكنها للأسف لم تَعُدْ حتى الآن مدينة ولا هي رياضيَّة. فما هو وضعها الحالي وكيف ستكون عليه في المستقبل القريب والبعيد كي تؤدّي وظيفتها وتُلبّي حاجة المدينة في تنشيط الحركة الرياضيَّة والثَّقافيَّة، إلخ..؟!…
ج: … إن الملعب البلدي في صيدا، قد كان لنا منه موقفٌ قديمٌ. وهذا أسوأ ما حصل في تاريخ المدينة. أولاً لقد ردموا البحر لإقامة هذا "الجبل" فيه. الرياضة ليست بحاجة إلى بحر، ولماذا البحر في الظرف الحاضر: هذه منطقة سياحيَّة ولا يمكن أن تنشأ فيها حركة رياضية. ولقد كان فيها فندق، فندق صيدون قديم. فأقمنا مدينة رياضية في هذه المنطقة، لماذا هذا الإسراع؟!… أُدخلوا إلى الشرق وإلى الأراضي المحيطة، واختاروا قطعة أرض مناسبة. فلا حاجة إلى البحر. من البلاهة بمكان أن يُنشأ مُدرَّجات وتُسقف والبحر خلفها. فكان من الأجدى إلغاؤها في هذا المكان….
لقد كتبتُ كثيراً في هذا الموضوع… أعود وأكرَّر: أسوء ما حصل في تاريخ صيدا هو إنشاء المدينة الرياضية في مكانها الحالي: ردماً واستعمالاً وإلغاءً للمنطقة السياحيَّة وإيجاد "عمارة" بمقياسٍ تطغى على ما بجوارها بشكل فظيع وكأنها مارد وبجانبه أرنب.
س: … في موضوع الحدائق في صيدا، هل من الممكن داخل المدينة القديمة إنشاء حدائق عامة؟…
ج: … بالطبع لا!… ليس هناك من إمكانية، أبداً… كل المدن العربية ـ الإسلامية هي ملحوظة خدمة سكنيَّة كي تكون الحديقة والساحة داخل المنزل. فليس هناك حدائق عامة في المدينة العربيّة الإسلاميَّة، ولا علاقة لها في أماكن السكن. أما خارج المدينة القديمة، فلا مشكلة في ذلك…. أما داخل المدينة، فهذا غير معمول به، مستحيل… فهذا اسمه: النَّسيج المتضامّ، المغلق على الخارج والمنفتح على الداخل. المسكن في الداخل فيه شجر وماء ونوافير، وكل ذلك له صفة خاصة وليس له صفة عامة.
س: … من خلال تجربتك وخبرتك ومعرفتك لمدينة صيدا، ما هو تصوُّرك، كي نختم به حديثنا، تصوُّرك المستقبلي لهذه المدينة، بعد هذا الانتقال من مدينة مشهورة ببساتينها الخضراء ومياهها الجارية، إلى ما هو حاصل الآن من انتشارٍ وكثافة أبنية الباطون فيها…
ج: … إن تطوُّر المدينة وتوسُّعها قد تعاملت بسوء مع الحضارات وتعاملت مع المباني المرتفعة، وكل هذا التنظيم للمدينة هو خاطىء، إنه خاطىء، وغيَّر طبيعة المنطقة بالكامل. لقد كان ممكناً أن نستعمل الهضاب لتوسُّع المدينة، ولكن على شكل المدينة ـ الحديقة، بمعنى أبنية منخفضة ذات طابقَيْن أو ثلاثة طوابق، بعيدة عن تجمعات، أحياء تفصل بينها مساحات واضحة، لا ترتفع إلى الأعلى، بل تبقى في نفس الجبل المنخفض، إلخ.. فكل ما حصل هناك، هو نوع من بيع وشراء عقار…
س: … ما هو تصوُّرك لمدينة صيدا من خلال تجربتك العملية وليس انطلاقاً من تصوّر نظري، وإنما من خلال معرفتك الشخصية والعلمية والتاريخية والهندسية المعمارية في مدة عشر أو خمس عشرة سنة متواصلة عملياً وفنياً، هل أنت متفائل بتطوّرها المستقبلي؟…
ج: … لا، أبداً… إذا بقيت الأمور على هذا النحو، فليس هناك أيُّ تفاؤل. يجب أن يتوقّف الناس توقُّفاً حقيقياً بهيئاتهم المحلية وأن يكونوا حريصين على وحدة المدينة وحريصين على توجيه تطوُّرها باتجاه مدينـة بعيدة عن البيع العقاري وعن الرأسمالية الكبيرة وباتجاه التطوُّر المديني الإنساني. وهذا لا يأتـي لوحـده، وإنما يأتي بأن تؤلِّف البلدية حولها لَجنة فنيَّة موحَّدة مؤهَّلة معرفياً ومؤهَّلـة أخلاقياً، أخلاقيـاً كي لا تخضع لضغوط رأس المال، ومعرفياً كي تختار الحلول الملائمـة لمفاهيم العقـل لتنمية المدن ووحدتها. أن تجمع (هذه اللجنة الفنيَّة) ما بين نوعَين من التأهيـل: التأهيل الأخلاقي والتأهيل المعرفي، لتصوغ رؤية شاملة لتطوُّر المدينة خلال العشرين سنة المقبلة، بدءاً من إحصاءٍ لعدد السكان ولعدد النازحين من أطراف أخرى من الجنوب ولموقعها الاقتصادي على طريق دمشق عَبرْ جزين ولموقعها على الشاطىء البحري أيضاً في ظلِّ استمرار الحرب الإسرائيليـة علينا. وأنا لا أعتقد أن الحرب الإسرائيلية ستتوقَّف.
علينا أن ننظر إلى مدينة صيدا من كل هذه الزوايا مرة واحدة بعقل علميّ وبعقل معرفيّ وبالتزام وطنيّ وأخلاقيّ. وهذه الأمور تقع على عاتق الهيئات المنتخبة. على البلدية أن تحيط نفسها بمثل هذه الهيئة الاستشارية التي تعمل على تطوُّر المدينة. وهذا من حق البلدية أن تفعل ذلك…
كذلك أتصوَّر أنه من الممكن أن تكون مدينة صيدا التاريخية والأثرية موقعاً سياحياً ممتازاً. وهذا ممكن على أن تحصل تحسينات على الواجهة البحرية للمدينة، حيث أُنشىء فندق مؤخراً، شكله جميل. وتنشط المقاهي على الرصيف المقابل للمرفأ القديم. وكل ما هو مطلوب هو إعادة الحياة إلى الواجهة البحرية، وترميمها بصورة صحيحة، وتخطيط وجوه الاستعمالات في الطابق الأرضي على الشاطىء لجهة البحر، وتنوُّع هذه الاستعمالات والتخلُّص من الإضافات السيئة على الواجهة واتخاذ القرار بهدم بعض الإضافات المسيئة واستبدالها بما هو ملائم لطبيعة المدينة وتاريخها.
ففي هذه الواجهة البحرية وداخل المدينة القديمة ثروة سياحية حقيقية، داخلية وخارجية أيضاً. فلنأخذ على محمل الجدّ السياحة الداخلية التي تطوَّرت في المناسبات داخلها وخارجها. ولنأخذ على محمل الجدّ أيضاً تعريف العالم بالمدينة المملوكيَّة التي لا تزال قائمة إلى الآن وهي ذات الطابع العريق ويمكن الاستفادة منها.
علينا، في هذه الأحوال، أن نبحث موضوع السكان. بمعنى أن لا تتحوّل المدينة إلى متحف. أن نحاول حلّ معادلة صعبة بين تطوير السياحة من جهة وإبقاء السكان حيث هم من جهة أخرى. هذه المعادلة صعبة، نرى نقيضها في البترون الآن، مثلاً: تحويل الشارع القديم كله والبترون القديمة إلى "شارع مونو". وبما أنك لا تستطيع في طرابلس أن "تخلق" "شارع مونو"، فباتت البترون "مونو" طرابلس…
أما في ما يتعلق بالاستراحة السياحية في صيدا، فأنا من أنصار إزاحتها ونقلها إلى مكان آخر، شرط أن تُكشف القلعة البحرية. غير أنها الآن لا تشكل أولوَّية أو أنها تشكل ضرراً. فممكن أن تبقى لأنها مصدر نزهة ومصدر ترفيه في المدينة يكاد يكون الوحيد المقبول الآن. فهي ليست من المواضيع المطروحة على بساط البحث بإلحاح حتى نزيلها ونتخلَّص منها. لنهتم قبل كل شىء بمدينة صيدا القديمة، فهذا هو الأهم والملح، لا الاستراحة التي هي قضية نظرية وليست قضية عملية في الوقت الحاضر….
* * *
اقتراح: وفي الختام تقدم الأستاذ رهيف فيّاض باقتراح في نهاية هذا الحديث، ينبغي العمل مستقبلاً على تحقيقه وتنفيذه عملياً ملخصه:
…. كل هذه المواضيع التي أتينا على ذكرها في هذا الحديث وغيرها أيضاً كثير، يمكننا أن نجريَ حولها حواراً في المركز الثقافي في صيدا، حواراً عفوياً، ضمن أسئلة وأجوبة، أمام جمهور يشارك في النقاش وطرح الأسئلة….
د. مصطفى دندشلي: … موافق، موافق بحماس. فينبغي مستقبلاً أن نحدِّد الزمان ونحدِّد تنوّع الأسئلة وشموليتها….
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) ـ مقابلة مع المهندس المعماري رهيف فيّاض، صباح الإثنين الواقع فيه 22 كانون الثاني (يناير) 2007، نظرة عامة حول مشاريع صيدا العمرانية والصحية والبيئية: رؤية مستقبلية، أجرى المقابلة الدكتور مصطفى دندشلي. وهنا نصّ الحديث الحرفيّ، وهو حديث عفويّ، تلقائيّ، غير مُحضّر له مُسْبقاً، وذلك للإجابة عن أسئلة محدَّدة وموضوعة سابقاً… وقد حافظنا على جوِّ الحديث العفويّ وعلى لغته العربية المحكيّة وعلى تعبيراته وأسلوبه مع بعض التنقيح الضروريّ توضيحاً وإبرازاً للمضمون والمعنى المقصود. من هنا، النَّظر إلى هذا الحديث وقراءته على هذا الأساس…. ولقد أعاد الأستاذ فيّاض قراءته ووافق على نشره كما هو أو مقتطفات أساسيّة منه، إذا اقتضى الأمر لذلك…
(1*) ـ بتاريخ 9/8/1996 صدر المرسوم رقم 8938 العائد لإنشاء شركة عقارية مغفلة لبنانية ش.م.ل. باسم "الشركة العقارية لتطوير ساحل مدينة صيدا"، وتصديق نظامها الأساسي بُغية إنشاء المرفأ الحديث. وقد أُعدِّت دراسة من قِبَل المجموعة الاستشارية: دار الهندسة (شاعر)، ومرفأ هامبورغ للاستشارات، وخلصت الدراسة إلى إنشاء المرفأ الحديث جنوب المدينة على مساحة من الرَّدم تبلغ 120هكتاراً وبسطح مائيّ يبلغ 70 هكتاراً. (أنظر، صيدا، 1873 ـ 2001) إعداد وإشراف، عن لجنة تنسيق أعمال النَّدوة الدولية، المهندس أحمد الكلش، (رئيس بلدية صيدا السابق). فتكون مساحة المرفأ الإجمالية أكثر من أحد عشر (11) ضعف مساحة مدينة صيدا القديمة التاريخيَّة والتراثيَّة.