حزب البعث العربي الاشتراكي النشأة والتكوين
نبذه عن نشأة وتكوين حزب البعث
________________________________________
حزب البعث العربي الاشتراكي
النشأة والتكوين
مروان حبش/عضو قيادة قطرية - وزير أسبق المقدمة:إن ما يراود المتتبع لنشأة حزب البعث العربي الاشتراكي، وما يملك عليه مشاعره كلها عندما يسير مع هذه النشأة خطوة خطوة ويتحرى معالمها منذ البداية يشعر أعمق الشعور أن هذه الحركة تغرف من نبع أصيل ومن ماء طبيعي، إنها دفقة كاملة من دفقات الحياة، فيها منذ غرفتها الأولى جميع قسمات الحياة، جميع قسمات القوة، جميع أعضاء المخلوق الجديد.
إن حركة البعث منذ نشأتها حركة عميقة باقية، حركة كان لا بد وأن يتردد صداها في التاريخ وأن تخط كلمتها في الحياة وتثير ملامحها الأنظار، وترسي بخطاها الجبارة الموعودة وهي ما تزال تحبو، إنها تحبو أصيلة أصالة الحياة، أصالة القوة القادرة على تجديد الحياة، أصالة الصبوة العميقة إلى المثل الأعلى، تدرك مدها الجبار منذ قطراتها الأولى وتشعر مع تباشير فجرها أنها حركة لا كالحركات وأنها تملك من القدرة على دفع الحياة مثل ما في الحياة نفسها من دفع.
لم تبدأ حركة البعث العربي عملا سياسيا اصطنعه عدد من الأشخاص وأخذوا يملؤونه بالمحتوى والأهداف وإنما بدأت صبوة إلى الانقلاب وانطلاقة نحو الثورة وإدراكا لمصير أمة ثم أوجدت لهذا كله أطره القادرة على حمله وتنظيمه السياسي الذي يقلبه إلى واقع ووجود ولم يأتمر أفراد الحركة من أجل إيجاد حزب سياسي أو حركة سياسية يتداول في أمرها العديد من الأشخاص ذوي الاتجاهات المتباينة ويبنون أهدافها بناء هندسيا جامدا بل تجسدت الفكرة التي يجأر بها الوجود العربي وينتظر من يستخرجها.
تجسدت الفكرة في أفراد قلائل واندست في جوارحهم ووعيهم وأخذت تقلقهم وتحرضهم وتشع رويدا رويدا لتستقطب حولهم جميع أولئك الذين خلقوا ليفهموا الكلمة التي يقولها الوجود العربي وليحملوا الرسالة التي يناديهم إليها هذا الوجود، وهكذا بدأت الحركة من الحياة، حياة الأمة العربية ومعاني وجودها ومستقبلها وأخذت تلف حولها كل من اتصل بهذه الحياة وكل من يهيؤه تكوينه لحمل قدرها، ولم تكن الحركة تجميعا لأشخاص قرروا أن يخوضوا غمار السياسة ولا كانت من صنع أفراد أرادوا أن يقودوا العمل السياسي وإنما كانت تعبيرا عن وجود، عن براكين تعصف في أعماق النفس العربية، عن ثورة تستعر لتحطم الزيف والفساد وتخلق الكيان السليم، أما مبدعوها فهم كل الذين استطاعوا أن يدركوا المعاني العميقة لذلك الوجود وكل الذين ثارت نفوسهم على الواقع الفاسد المريض.
لقد وجدت حركة البعث ليكون خالقها كل جماهير الشعب العربي التي تفتحت على الغد العربي الكبير، لقد عبر، من خلالها، أفراد قلائل في البداية عن مطامح الأمة بأسرها وعن إرادة الشعب العربي بكامله، وعن صبوات الغد المشرق، ولم يكن هؤلاء الأفراد سوى مترجمين لمشاعر الملايين وممثلين للعدد الكبير، لقد كانوا منذ البداية، وهم قلة قليلة، رسل الملايين يشعرون أنهم يحملون مسؤولياتهم الجسيمة، لقد كانوا يشعرون أنهم رسل التاريخ العربي وأن التاريخ العربي هو الذي يتكلم على لسانهم وأن المصير العربي هو الذي ينطقهم ويحركهم، من هنا كان عمل الحركة في بدايتها عمل تعرف وجذب، تعرف على النواة القادرة على الاتصال العميق بجوهر الرسالة التي يلح عليها الوجود العربي، وأخذت هذه النواة تتكون شيئا بعد شيء، والتفت، حول نداء الأمة العربية، الطليعة التي تملك من عمق الوعي العربي وباس العقيدة وسمو الخلق ما يجعلها جديرة بأن تقتحم ساحة العمل السياسي بسلاحها الفكري وسلوكها النضالي متميزة عن القوة الوسطية التي رانت على الوجود العربي بعد عهود طويلة من التخلف والاستعمار، ٍوما لبثت هذه النواة حتى أدركت أن حركتها الصامدة لا تستطيع أن تبلغ أهدافها البعيدة وتكمل نضالها الشاق الطويل إلا عن طريق تنظيم سياسي جدير بفكرتها وقادر أن ينقل عقيدتها إلى عمل منظم وأن يوجد الإرادة الشعبية السليمة، المنظمة والهادية لإيمانها العميق، لذا قررت منذ البداية أن الفكرة القومية: فكرة الحياة والواقع، لا بد أن تنقلب إلى عمل في الحياة والواقع وأن العقيدة الناضجة تحتاج إلى أداة منظمة لإنجازها، وهكذا انطلقت في التنظيم الح*** ليكون هذا التنظيم هو الفكرة وقد انقلبت إلى واقع،وهو العقيدة وقد ملكت أقنيتها التي تحيلها إلى قوة وتحفظ جهودها وتعبىء طاقاتها تعبئة منتجة.
إن حزب البعث العربي الاشتراكي يقف كواحد من القلة التي تستحق تسميتها من بين العديد من الأحزاب السياسية التي انتشرت في الوطن العربي المعاصر وذلك بسبب عقيدته وتنظيمه وفعاليته، بينما تدور أكثر الأحزاب الأخرى في فلك الشخصيات وهي على استعداد دائم للمساومة وقبول التسويات فإن البعث يؤكد كمدرسة للفكر على تأصيل مبادئه في العروبة والإسلام مع الاستعانة بالمصادر الاشتراكية الإنسانية
نشأة وتكون حزب البعث العربي الاشتراكي
إن حزب البعث لم يكن مفاجأة للعرب من حيث المبادئ ومن حيث الفلسفة القومية و السلوك لأن هناك منظمات وأحزاب وجمعيات سبقته، فجاء هو يحاول استدراك ما فات تلك المنظمات والأحزاب والجمعيات وأشير باختصار إلى أهمها:
1 - في العهد العثماني نظم العرب جمعيات تهدف إلى الدفاع عن حقوقهم أو استقلالهم الذاتي أو الكامل وكانت الموجة القومية قد هب نسيمها على الدولة العثمانية التي كان اكبر وأهم شعب من شعوبها هو الشعب العربي وكان رد الفعل عند العرب شديدا من سلوك الأتراك، مما دفع بعض المفكرين والسياسيين والنواب العرب في مجلس النواب التركي إلى تأسيس جمعيات سرية كان هدفها الدفاع عن الوجود العربي، ثم عن استقلال العرب وحقوقهم، وكانت (جمعية الفتاة العربية) أبرز المنظمات وأنشطها لهذا التحرك، وفي الحرب العالمية الأولى، تآمرا لحلفاء على العرب وثورة الشريف حسين بعد أن وعدوا بدعم أهداف الثورة التي أعلنت استقلال العرب ووحدتهم وخاصة وحدة الحجاز ونجد وبلاد الشام وإعادة مجد الأمة العربية، الأساس الذي بنيت عليه الثورة التي انضم إليها وقادها العديد من الضباط العرب والمثقفين خريجي المدارس العليا وبعض شيوخ القبائل العربية، ولكن الحلفاء كانوا قد تأمروا وقسموا البلاد العربية حسب اتفاقية سايكس- بيكو ثم استعمروها.
2 - وكانت سورية من أبرز البلاد العربية من ناحية الفكر السياسي والعمل القومي، وقد قام بها إبان فترة الاستعمار ائتلاف لمجموعة من المنظمات الكبيرة والصغيرة القديمة والحديثة تحت اسم الكتلة الوطنية وهذه الكتلة قادت النضال ضد الاحتلال الفرنسي في سبيل الاستقلال القطري - أي استقلال سورية - وما كانت تحركاتها بعيدة عن الفكرة القومية والوحدة العربية لكن لم يكن مجال لبحث المسألة مع الدولة المستعمرة (فرنسا) فارتدى نضال الكتلة رداء القطرية أو الإقليمية، ولم يكن للكتلة الوطنية برنامج اقتصادي أو اجتماعي أو عقائدي وإنما كان لها برنامج غير مسطور حفظه الشعب كله هو الاستقلال التام ثم الوحدة السورية اللبنانية في أول الأمر وبعد ذلك حصل تنازل عن الوحدة مع لبنان واقتصر الشعار على الاستقلال للقطر السوري.
إن كفاح هذه الكتلة كان عنيفا ضد الفرنسيين حتى أنها لم تعط فرصة للهدوء والراحة لهم ولكن حصل بعض الفتور في نضالها مما دفع بمجموعة من أعضائها، وخاصة الشباب منهم، إلى الانشقاق عنها، واجتمعوا عام 1933 في بلدة قرنايل في لبنان وأعلنوا تأسيس حركة سياسية أطلقوا عليها اسم (عصبة العمل القومي).
عصبة العمل القومي
لما لم تحقق الكتلة الوطنية مرامي المد العربي الذي لم يكن يقبل الوقوف، كان لا بد من حركة جديدة هي (عصبة العمل القومي)، وهذا هو الأساس في نشوء العصبة ولم يطلقوا على حركتهم اسم حزب، وكانوا بحسب بيانهم، قد ضاقوا ذرعا بعقلية التخلف والإقطاع وبالشعارات السياسية الغائمة والارتجال وبالمواقف الفردية والانتهازية التي كان يمارسها زعماء الكتلة الوطنية.
لقد كان العنصر البشري في العصبة من فئات ذات مراكز اجتماعية وسياسية ذات وجاهة وغنى ونفوذ، أي أن العصبة كانت (حزبا) أرستقراطيا إلى حد بعيد ومقتصرا على الوجهاء والمتنفذين والمثقفين، وكانت قيادتها، إجمالا، من رجال الدرجة الثانية في منظمة الكتلة الوطنية ومنزلتهم كانت بسبب مرحلتهم الزمنية وصغر سنهم.
إن المنظمات تقوم على دعائم ثلاث: الهدف والأسلوب والعنصر البشري الذي ينفذ الأسلوب لتحقيق الهدف. واعتبرت العصبة أن القضية العربية كلا لا يتجزأ وعملت على تحقيق الوحدة العربية ثم كان ميثاقها واضحا من تحديد الوطن العربي واعتبار العرب هم كل الذين يتكلمون اللغة العربية ثم دمج المغرب العربي في عداد الأمة العربية.
ولقد دعت العصبة إلى النضال وتفجير طاقات الأمة العربية كاملة ومحاربة الاستعمار في كل الميادين.
تميز أعضاء العصبة، من ناحية الأسلوب، بعمل سياسي قومي منطلق من مبادئ محددة، ودستور للعمل، ونظام داخلي يسلك وفقه الأعضاء.
أما من ناحية الفكر فقد اعتبروا القومية قضية مسلما بها والعروبة هوية لكل عربي، واتخذوا من جملة (تحيا العروبة) شعارا لتحيتهم.
لم تعط (عصبة العمل القومي) لمفهوم القومية أي مضمون موضوعي وعرضوه بتزمت، واعتبروا الديمقراطية هي الهدف الثاني، أما مفهوم العدالة الاجتماعية فكان غامضا عندهم رغم أنهم لامسوا إلى حد كبير حاجات الشعب العامة وضمنوا للمواطن، في إعلانهم، الحد الأدنى من العيش الكريم وتسهيل سبل التعليم والصحة والحياة الكريمة.
انفرط عقد العصبة بعد مصرع رئيسها عبد الرزاق الدندشي الذي كان ملتهب الحماسة وعامرا بالحيوية والإخلاص، وبدأ الانشقاق بين أعضائها وانصرف البعض عنها، كما أن البعض من قادتها كصبري العسلي وغيره لجأ إلى أسلوب المساومات مع (الكتلة الوطنية) وعادوا إلى صفوفها بعد أن نالوا ما يمكن أن يسمى (الترفيع)، إذ حصل عدد منهم على مقاعد نيابية أو وزارية أو عضوية في مجلس الكتلة أو ما هو شبيه بذلك، وتحول من بقي منهم إلى تجمع سياسي بين أشخاص، وتهيأت الظروف لظهور حركات وتجمعات أكثر جذرية وجدية منها.
4 - الحزب القومي العربي:
بعد انفراط عقد العصبة قام حزب سياسي ضخم وسري وقد ضم عددا كبيرا من رجالات العرب وخاصة الشباب منهم اسمه (الحزب القومي العربي) ومن حيث أنه سري فإن جماهير الشعب لم تنضو تحت لوائه. لكن أعضاءه كانوا يدخلون في كل المنظمات ويلجون كل الميادين لتحقيق أهداف الحزب. إن المحتوى الاشتراكي لهذا الحزب كان شبيها بمفهومه عند حزب العصبة وكذلك فهو حزب قد بدأ (من فوق) أي أنه اعتمد على شخصيات كالعصبة أيضا. وكان له نشاط في الحركات السياسية المهمة. تأسس (الحزب القومي العربي) (السري) في مؤتمر سري عقد في منزل محمد علي حمادة في بيروت عام 1934، للعمل(دون ضجيج، على تحرير أقطار الوطن العربي وتوحيدها بدولة واحدة من المحيط إلى الخليج) وكانت خطة عمل الحزب أن ينتسب أعضاؤه إلى الأحزاب والهيئات العلنية، على أن يبقى ولاؤهم الأول للحزب القومي العربي، وأن يعملوا بكل جهدهم على توجيه نشاط هذه الأحزاب والهيئات لخدمة أهداف ومبادئ حزبهم.
إن تحديد الحزب لبلاد العرب وتعريفه للعربي ولأمة العرب متفق مع التعريف العام لعصبة العمل القومي وللبعث العربي فيما بعد.
كان أعضاء الحزب أكثر صلة بالعروبة العفوية العاطفية، كما أن انتشار أعضائه في كثير من المؤسسات القومية والحكومية كان سبباً في توضيح معاني العروبة والقومية في أوساط كثيرة من المجتمع العربي التي كان ميدانا لنشاطهم.
انتشر (الحزب القومي العربي) (السري) - وفق أدبياته - في سورية ولبنان والعراق وفلسطين وشرقي الأردن والكويت، ومن مؤسسيه (عبد الرحمن الجوخدار وفهمي المحايري وكانا عضوين في اللجنة العليا لعصبة العمل القومي، ومسلم الحافظ ومنير الريس من مكتب الشباب الوطني الذي كان تابعا للكتلة الوطنية، وفخري البارودي، عثمان الحوراني، جلال السيد، سعيد فتاح الإمام، د. فريد زين الدين، د. عزة الطرابلسي، ،علي عبد الكريم الدندشي، أسعد محفل، فرحان الجندلي، أسعد هارون، عدنان الأزهري، ظافر الرفاعي، جمال علي أديب، هاني الصلح وغيرهم من سورية، ود. قسطنطين زريق، اكرم زعيتر، درويش المقدادي.. من فلسطين، وصديق شنشل، صبحي العمري، سعيد الحاج ثابت، عبد الرزاق شبيب، العقيد عبد الرزاق الصباغ، العقيد كامل شبيب، العقيد محمود سلمان، العقيد فهمي السعيد (وهؤلاء العقداء عرفوا بالمربع الذهبي) من العراق، وتقي الدين الصلح، عادل عسيران، سليمان المعصراني، ميشيل جحا، محمد علي حمادة.. من لبنان.
وحسب أدبيات هذا الحزب، فأنه هو الذي أسس (النادي العربي) في دمشق، وأنشأ العديد من المخيمات الكشفية، وأسس في دمشق (مكتب الإعلام العربي)، كما أنه هو الذي خطط ونفذ ثورة رشيد عالي الكيلاني في أيار 1941.
ولأسباب وصفت في أدبياتهم بالانتهازية، انشق عن الحزب مجموعة من شباب حلب بقيادة ظافر الرفاعي ورمزي الألاجاتي، وأسسوا حزبا علنيا أطلقوا عليه، أيضا، اسم (الحزب القومي).
إن عام 1938 كان عاماً حاسماً بالنسبة للشخصيات التي ارتبط اسمها بتأسيس حركة (البعث العربي) ولقد شهدت تلك المرحلة سلسلة من الفشل (الفشل في عقد اتفاقية فرنسية - سورية وفشل نظام الكتلة الوطنية وانتهت بإلحاق لواء الإسكندرونة بتركية نتيجة لمساومات الدولة المستعمرة "فرنسا" مع نظام أتاتورك التركي وقد أدى ذلك بالطبع إلى إثارة أقوى مشاعر النقمة والسخط لدى الشعب العربي وخاصة في سورية وساد جو من الغليان الوطني خصوصا في أوساط المثقفين. واضطرم الشعور العربي إلى أقصى الحدود.
وقبل مؤامرة فصل لواء الاسكندرونة عن سورية بعام تقريبا وبعد أن أصاب التفكك (عصبة العمل القومي) أسرع فرعها الذي كان أمين سره زكي الأرسوزي إلى الابتعاد عنها وتحول في إنطاكية عام 1937 إلى تجمع سياسي يحمل اسم (نادي العروبة) وأنشئت في هذا النادي مكتبة أطلق عليها اسم (البعث العربي) وحملت الصحيفة التي أصدرها النادي اسم (العروبة).
لقد كانت هذه المجموعة المنظمة إلى حد ما والتي كان على رأسها زكي الأرسوزي تعتبر من قبل السكان، الناطق باسم الرأي العام العربي خصوصا في منطقة أنطاكية وكانت تنظم المظاهرات الشعبية وتقف ضد الاحتلال الفرنسي والمطامع التركية في اللواء وتندد بالضعف المهين لحكومات الكتلة الوطنية، وبعد مؤامرة ضم اللواء إلى تركية غادر الأرسوزي والعديد من العرب في نهاية عام 1938 مدينة أنطاكية متوجهين نحو دمشق، يحملون معاناة (الجرح) في كرامتهم الوطنية والشعور العميق بالمرارة والغضب.
وفي دمشق وقبل الحرب العالمية الثانية بقليل وفي أثناء هذه الحرب لعب الأرسوزي دورا بالغ الأهمية في الحركة القومية وفي التيار الفكري، وخصوصا بين الشباب والجيل الجديد، هذا الجيل الذي قدر له أن يدخل فيما بعد المسرح السياسي، والتفت حوله حلقة من الطلاب والمثقفين الذين أصبحوا فيما بعد من المؤسسين الأول في حركة البعث.
أما الأستاذان ميشيل عفلق وصلاح البيطار، وكلاهما كزكي الأرسوزي أنهيا دراستهما الجامعية في باريس وهنالك نما بالفعل تكوينهما الفكري ووعيهما السياسي.
يقول الأستاذان عفلق والبيطار أنه في عام 1928 عندما كانا تلميذين في الصفوف الثانوية كانت لديهما فكرة بسيطة للغاية عن المشكلة السياسية السورية وكانت القضية الوطنية بالنسبة لهما تطرح من خلال نضال الأمة ضد الاستعمار، فالذين كانوا يتعاونون مع سلطة الانتداب، أفرادا كانوا أم حكومات ،تطلق عليهم صفات الرجعية والخيانة، والذين كانوا يقودون حركة الاستقلال كانوا يعرفون بالوطنيين. وعندما سافرا إلى فرنسة لاحظا أن التعاطف مع قضية بلدهما كانت تأتي أحيانا، فقط، من جانب الشيوعيين وبعض النواب الاشتراكيين في البرلمان الفرنسي.
دأب طالبا السوربون (عفلق والبيطار) على قراءة بعض كتب كبار الكتاب والمفكرين الذين عرفوا بصدق ونبل أفكارهم، وباكتشافهما الاشتراكية وجدا نفسيهما أمام تفسير جديد، كامل وأخاذ لجميع المشكلات السياسية والاجتماعية التي كان يعاني منها العالم بشكل عام والعرب بشكل خاص، وتوصل عفلق والبيطار من خلال قراءتهما إلى تحديد مشكلات بلدهما في مشكلتين اثنتين: مشكلة قومية ناتجة عن السيطرة الأجنبية ومشكلة اجتماعية متأتية من خضوع المجتمع للاستغلال والجهل والمرض، ولقد عادا إلى الوطن يحملان فكرة الاشتراكية كتعبير عن الغايتين اللتين أوقفا أنفسهما على تحقيقهما: مكافحة الاستعمار الأجنبي ومكافحة الرجعية الداخلية بكل أشكالها، وأن النضال ضد المستعمر لن يكون صادقا شاملا مجديا إلا إذا كان نضالا شعبيا وكذلك فإن النضال مرتبط أيضا أوثق الارتباط بحالة الأمة الفكرية والأخلاقية وأنه لنجوع النضال ضد المستعمر لا بد من تهيئة انقلاب فكري يغير المفاهيم القديمة العقيمة ويهز النفوس إلى الأعماق.. ويخلق لها نظرة أخلاقية جديدة وجدية.
وكان الأرسوزي قبلهما قد درس في السوريون أيضا، ونال منها إجازة في الفلسفة وكان يولي أيضا عناية خاصة لدراسة التاريخ وفقه اللغة العربية، وقد قرأ أعمال الفيلسوف الفرنسي (برغسون) وذكر في كتبه (نيتشه)، و(فخته) الألمانيين بعبارات تنطوي على شيء من المديح، ويبدو أنه تأثر بـ (فخته) واستقى منه مفهومه للأمة العربية الذي تحظى اللغة عنده بالأهمية الأولى وتكمن أصالة الأرسوزي (رغم طوباويته) في كونه وضع نفسه فلسفيا على أرض الثقافة العربية ولقد كان يضع الأمة العربية في المركز الأول في فكره (وتبدو الأمة في الحدث العربي كوجدان قومي تصدر عنه المثل العليا وتقدر بالنسبة إليه قيم الأشياء) ويصرح الأرسوزي بـ"أن العرب هم المجموعة البشرية الوحيدة الباقية أمينة على القيم الروحية التي أورثنا إياها أبو البشر آدم"، وعنده فإن "رسالة الأمة العربية هي رسالة إشعاع الإنسانية بأنوار الروح".
في تلك المرحلة أي في أواخر 1938 التي شهدت تحولا ملحوظا في الاختيارات والتوجهات السياسية لميشيل عفلق وصلاح البيطار (باكتشافهما) طريق العروبة وتعرفهما على القومي زكي الأرسوزي، وكان هنالك نوع من التقارب بين مفهومهم للأمة العربية، وفي هذا الجو بدأوا الدخول إلى أوساط المثقفين العرب وتتابعت بينهم وبين بعض المثقفين المناقشات واللقاءات وجرت عدة محاولات، لم تكلل بالنجاح، بغية إيجاد حركة سياسية موحدة، كان أهمها اجتماع عقده الأساتذة ميشيل قوزما، ميشيل عفلق، صلاح البيطار، شاكر العاص، أليس قندلفت.... استقر الرأي فيه على إنشاء منظمة ما لبثت أن انتهت بعد الاجتماع الأول في عام 1939.
ونتيجة إخفاق هذه اللقاءات بين هؤلاء القادة القوميين، وبخاصة بين الارسوزي وعفلق -البيطار يمكن القول أن الخلافات الشخصية والأمزجة المتعارضة ووجهات النظر المتضاربة بينهم، لم تكن لتحول، بعد فترة وجيزة من اللقاء، من تأسيس حركة واحدة أي دمج الحركتين اللتين أسسهما كل من الأرسوزي وعفلق-البيطار.
في العام 1939 أسس زكي الارسوزي في دمشق - وقبل سفره إلى العراق للتدريس هناك - حزبا بزعامته أطلق عليه اسم (الحزب القومي العربي)، ولم تمتد حياة هذا الحزب إلا أسابيع قليلة. وهذا الحزب لا يمت بأية صلة إلى الحزب(السري)، وكانت مبادىء هذا الحزب هي نفسها مبادئ (حزب البعث العربي) الذي أسسه الارسوزي، بعد عودته، في السنة التالية، من العراق الذي كان قد أطلق عليه اسم (بروسيا العرب)، وكان الطلاب الذين هاجروا من لواء الاسكندرونة - بعد مؤامرة إلحاقه بتركيا - بمثابة نواة حزبه الذي كان قيد التأسيس وحدد الاجتماع التأسيسي في يوم الذكرى الثانية لسلخ اللواء أي في 29 تشرين الثاني 1940، وقال الارسوزي في خطابه في هذا الاجتماع (أرى أن نؤسس حزبا ونسميه البعث العربي وأقترح أن يقسم التنظيم إلى قسمين سياسي وثقافي).
ومن أبرز مبادئ هذا الحزب التي لم تكن أكثر من أسطر معدودات:
أ - العرب أمة واحدة
ب - الوطن العربي واحد
ج - العروبة وجداننا القومي مهد المقدسات عنها تنبثق المثل العليا وبالنسبة إليها تقد ر قيم الأشياء
د - العربي سيد القدر
هـ - الزعامة العربية زعيمها عربي واحد
كانت هذه (المبادئ - الشعارات) أشبه بصرخة عنيفة ترفض الواقع الذي كان الأرسوزي وتلاميذه يعيشونه، رفضا مطلقا لأن حياتهم الواقعية بعد الظلم الفادح الذي وقع عليهم لم يكن فيها إشراقة ضوء واحدة فلا غرو أن يصنعوا من خيالهم واقعا أخر يكون بمثابة بارقة أمل في المستقبل، ولم يكن لدى الأرسوزي أية نظرة إلى الاشتراكية بصورتها الاقتصادية.
أما عفلق والبيطار فلقد أنشأ ندوة صغيرة يغلب عليها الطابع الثقافي أطلق عليها اسم (شباب الإحياء العربي)، كانت تستهدف هذه الندوة تكوين نخبة من المثقفين تستطيع يوما أن تحدث النهضة العربية.
ولكن سرعان ما اندلعت الحرب العالمية الثانية وضرب الحظر على جميع النشاطات السياسية والثقافية في سورية، وبقيام حركة رشيد عالي الكيلاني عام 1941 في العراق ضد الاحتلال الإنكليزي والأسرة الهاشمية وتردد صداها العميق في سورية وأثارت على الفور حركة وطنية عامة، وخلال هذه الأحداث اندمجت مجموعة ندوة عفلق - البيطار ومجموعة الارسوزي - باستثناء الارسوزي نفسه الذي لم يشترك في هذه الحركة - في حركة واحدة هي (حركة نصرة العراق) والحقيقة أن عمل هذا التجمع الجديد من المثقفين والطلاب كان يقتصر على تنظيم المظاهرات الطلابية لدعم الانتفاضة في العراق وعلى الرغم من أن هذه الانتفاضة لم تعمر طويلا فقد استمر عفلق والبيطار بعدها في ممارسة نشاطهما السياسي ضمن هذا التجمع العابر أو المؤقت.
وفي عام 1943 قدم الأستاذان استقالتهما من التعليم، احتجاجا على القمع الذي كانت تمارسه سلطات المستعمر الفرنسي ضد طلابهم، وفي الواقع فإن السنة التي أعقبت هذه الاستقالة كانت نقطة الانطلاق لتأسيس (حركة البعث).
وفي تلك الفترة كان الحلفاء الإنكليز والفرنسيون الأحرار يحتلون سورية ولبنان وكانت جيوشهم معسكرة في مختلف أنحاء المشرق العربي. وكانت الكتلة الوطنية على رأس الكتلة المنادية بالاستقلال دون أن يكون لها مرتكزات سياسية وتنظيمية وكان إلى جانبها على الساحة السياسية السورية أحزاب عقائدية أهمها:
- (الحزب الشيوعي السوري) وكان في هذه الفترة في أوج انتشاره وكانت سلطات المستعمر تغض الطرف عن نشاطه، ولكن هذا الحزب لم يكن يمثل الطموحات العربية لأمرين: أولهما كونه حزبا ينادي بالأممية ويرى في القومية طرحا برجوازيا تجاوزته التطورات التاريخية، وثانيهما ارتباطه في سياسته وطروحاته بالمركز الأممي وبالتالي فإنه ينفذ ويأتمر بتعليمات مركز الأممية بغض النظر عن توافقها مع مصلحة الشعب والوطن، كما أن أيديولوجية هذا الحزب لا تنبع من مثل وقيم الشعب العربي ولم ير الشباب العربي فيها ما يمثل طموحاتهم لذا بقي محدود الانتشار ولم يستطع أن ينتشر إلا بصعوبة وفي أوساط معينة وخاصة الأقليات الاثنية والدينية.
- - (الحزب السوري القومي الاجتماعي) كان هذا الحزب على الرغم من الحظر الاجتماعي المضروب عليه يقوم بنشاط سياسي واسع وينادي بوحدة ما أسماه الأمة السورية التي تعيش في مناطق ما عرف بسورية الطبيعة، وبعد ذلك، العراق، وكان مؤسس الحزب أنطون سعادة قد استمد كثيرا من أفكاره وخاصة البنية التنظيمية من الأحزاب الفاشية التي كانت تنشط في أوروبا.
- - (حركة الأخوان المسلمين) كانت على وشك التأسيس على يد الشيخ مصطفى السباعي وكانت هذه الحركة قد استمدت أفكارها من (حركة الإخوان المسلمين في مصر) وكانت تحاول باستمرار إدانة النضال الوطني والأفكار التقدمية والقومية. وتعمل وفق إيديولوجيتها على إقامة التعارض بينها وبين الانتماء القومي في محاولة للعودة إلى إيديولوجية الخلافة التي سقطت فكريا وسياسيا بعد تحرر الأقطار العربية وانفصالها عن الدولة العثمانية، وأخذت تدعو إلى محاربة كل فكر قومي وعلماني.
- في هذه الظروف تكونت (الحلقة) السياسة الجديدة وأطلق عليها (شباب البعث العربي) التي كان من أبرز وجوهها عفلق والبيطار وجلال السيد ومدحت البيطار، وقد اتخذ الأربعة المذكورون من أنفسهم لجنة تنفيذية لـ(حزب البعث العربي) وأعلنوا المباشرة بالتنظيم وقبول المنتسبين وأعلن عفلق والبيطار في بيان أصدراه (ولادة الحزب)، وفي هذه السنة 1942 تقدمت هذه المجموعة بطلب إلى السلطة للحصول على ترخيص بإصدار صحيفة خاصة بها ولكنها لم توفق في ذلك واقتصرت النشاطات الرئيسية للحركة في ذلك الوقت على الدعوة للفكرة العربية من خلال تنظيم الاجتماعات الصغيرة العدد وبإصدار البيانات المعادية للاحتلال الفرنسي والمطالبة بالاستقلال الكامل لسورية.
- كان البعثيون الأوائل يفضلون دائما استخدام عبارتي (الشباب) و(الحركة) وكانت هذه الأخيرة تعني لهم تعبئة وتوعية شباب الأمة العربية، ووجدت هذه الحركة الفتية مناسبة تساعدها على رص صفوفها وتوضيح هويتها ولفت الانتباه إلى وجودها في انتخابات تموز 1943 التي خاضتها بشخص الأستاذ ميشيل عفلق كمرشح استقلال ولم يكن الهدف هو الحصول على مقعد في البرلمان بقدر ما كان همها التعريف بالاتجاهات القومية والسياسة لحركتهم وكان البرنامج الانتخابي بمثابة المحاولة الأولى لبلورة بعض الاتجاهات السياسية التي تمخضت عنها إيديولوجية (حزب البعث العربي)، وفي هذه المناسبة أطلق لأول مرة الشعار البعثي (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة ) وفي بيانه إلى الشعب قال عفلق مرشح الشعب (ندخل الانتخابات لا باسم طائفة ولا مدينة ولا مصالح قريبة أو ظروف سياسية عاجلة بل باسم فلسفة قومية نريد أن تكون إفصاحا صادقا عن الحياة العربية في حقيقتها الخالدة:
- - نمثل الروح العربية ضد الشيوعية المادية.
- - نمثل التاريخ العربي الحي ضد الرجعية الميتة والتقدم المصطنع.
- - نمثل القومية التامة المعبرة عن حاصل الشخصية ضد القومية اللفظية التي لا تتعدى اللسان ويناقضها مجموعة السلوك.
- - نمثل رسالة العروبة ضد حرفة السياسة.
- - نمثل الجيل العربي الجديد.
- وفي المناسبة نفسها وجه عفلق نداء إلى إخوانه المسيحيين داعيا إياهم إلى الانخراط في حركة القومية العربية وإلى اعتبار الإسلام ثقافة قومية مرتبطة ببيئتهم الطبيعية وتاريخهم واعتبار حياة الرسول العربي الكريم خلاصة لحياة العرب.. وهي الممثلة للنفس العربية في حقيقتها المطلقة.
- كان الارسوزي طموحا إلى أن يقود بنفسه كفاح العرب ويرى بعينه تحقيق أهدافهم كما يقول وهيب الغانم ثم يستأنف كلامه قائلا: (أخذ انقطاع الأرسوزي عن الواقع يشتد يوما بعد يوم وأخذت الشكوك والوساوس تحتل مكانا أوسع في نفسه، لقد تعب سياسيا، قاومه الاستعمار بضراوة، كافحوه على جميع المستويات ماديا ومعنويا، بدأ يعيش حياة خيالية فيما يتعلق بالواقع من شدة بؤس هذا الواقع وبدأ يزداد حساسية، فكان يكفي أن يرى أحد تلامذته يتلكأ عن اجتماع واحد حتى يشك بسلوكيته ووطنيته، وهذا التعب المتواصل أبعده كثيرا عن أية إمكانية لقيادة سياسة....) أمام هذا الواقع بدأ (بعث) الأرسوزي يتلاشى منذ العام 1942 وانفض تلاميذه من حوله على صعيد السياسة العملية بل لقد خرجوا على طاعته واعتبرهم أنهم تخلوا عنه لأنهم بدؤوا ينتقلون من بعث الأرسوزي إلى البعث الثاني الذي أصبح المعبر الوحيد عن فكرة القومية العربية في دمشق وأخذت الطليعة تنضم إليه وهو يشق طريقه.
كان وهيب الغانم أحد تلامذة الأرسوزي يرى أن (حزب البعث) هو "أداة الثورة العربية"، ولا بد أن يستمر رغم تعب ويأس الأرسوزي الذي لم يعد قادرا على قيادة النضال السياسي حسب رأيه، وحتى لو لم يكن زكي الأرسوزي على رأسه، لذا أنشأ حزبا جديدا في اللاذقية باسم (البعث العربي) كان استمرارا لبعث الأرسوزي من جهة ومختلفا عنه من جهة ثانية وإن غلب عليه طابع بعث الأرسوزي ولكن بدون الأرسوزي.
- لقد مر نشوء (بعث) وهيب الغانم في اللاذقية بثلاث مراحل تمهيدية أو استطلاعية حتى صيف 1943، مرحلة النشوء والانطلاق وامتدت حتى أواخر 1945، ومرحلة الانتشار الواسع في محافظة اللاذقية، وقد استغرقت عام 1946 بكامله والربع الأول من العام 1947، حتى انعقاد المؤتمر التأسيسي لـ(حزب البعث العربي) في 4 نيسان 1947 في دمشق.
- ومن خصائص مرحلة تأسيس البعث وخاصة بعد أن أصبح (البعث) بعثا واحدا أنه كان يرى أن العبء الأكبر في النضال ضد الاستعمار الافرنسي والرجعية المتعاونة معه قد تحمله الطلاب الذين كانوا في ذلك الوقت يشكلون القوى الحية والمناضلة في سورية، ويكونون أيضا العنصر المحرك للعمل القومي.
- هذا الجانب الذي رافق تأسيس (حركة البعث العربي) كان له عميق الأثر في البنية النهائية للحركة سواء على الصعيد السياسي أم على الصعيد الإيديولوجي ولسوف يطبع هذا الأثر المرتبط بظروف النشأة والتكوين مجمل حياة الحزب فيما بعد.
- إن تكوين الحركة من فئة الطلاب والمثقفين كان وسيبقى إلى فترة طويلة من السمات المميزة لهذه الحركة وكان مجال عملها وتأثيرها واسعا وفعالا في المدارس الثانوية والجامعة السورية منبت الزعماء السياسيين ومعقل العروبة وموئل المعارضة ضد الاحتلال الأجنبي والقوى السياسية التقليدية، كما يقول رئيس المؤتمر التأسيسي لحزب البعث العربي جلال السيد.
وفوق كل ذلك كانت العفوية والحماس من أبرز مظاهر الحركة ولم تعط إلا قدرا يسيرا من الأهمية لبنيتها الفكرية والتنظيمية، أو هي لم تول هذه الناحية أي قدر من الأهمية، لذا لم يتم بناء جهاز ح*** صلب ولسوف يترك ذلك أثاره لفترة طويلة على الحزب خصوصا في سورية.
- لقد أرسيت القواعد الإيديولوجية الأساسية لحركة البعث أثناء المرحلة الأولى من تأسيسها ما بين 1943 - 1944 ومن خلال خوض معارك متعددة، سواء على الصعيد السياسي أم على الصعيد الإيديولوجي ضد جميع القوى السياسية التي كانت موجودة بدون استثناء: من الشيوعيين إلى الأخوان المسلمين، إلى القوميين السوريين مرورا بالكتلة الوطنية وقوة الاحتلال.
- معارك ونضال حركة البعث:
- لقد خاضت (حركة البعث) قبل مؤتمرها التأسيسي وإنشاء (حزب البعث العربي) في 7 نيسان 1947 معارك عديدة على الصعيدين السياسي والإيديولوجي، من بينها:
- أولا - على الصعيد السياسي:
- أ - معركة الجيش والاستقلال، أصدر مكتب (البعث العربي) بيانا مؤرخا في 4 شباط 1945 هاجم فيه سياسة الحكمة واللباقة التي تتبعها حكومة الكتلة الوطنية في مواجهة السلطات الاستعمارية الفرنسية. ومما ورد في هذا البيان "أن الحكومة استمرت في تطبيق أسلوبها المتقن في المفاوضات العقيمة.. وكانت الحكومة تعلل خلالها الشعب بالآمال الكاذبة ولا يتورع رئيسها عن التصريح في مجلس النواب تارة بأنه استلم الجيش وتارة بأنه استلم بعض مصفحاته، وتارة أخرى بأن المفاوضات تتقدم في سبيل استلامه ولقد طالب البيان باستلام "جميع كتائب الجيش" وبتشكيل حكومة إنقاذ قومية دستورية"، فما كان من الحكومة إلا أن عمدت إلى زج صلاح البيطار في السجن، وإحالته إلى القضاء.
ب - الحملة على شكري القوتلي: في بيان أصدره (مكتب البعث العربي) في 8 آذار 1945، بعنوان (حول خطاب فخامة رئيس الجمهورية) ومما جاء فيه: "إن رئيس الجمهورية يدلي بتصريحات لا تعبر كلها عن رغبات الشعب، ولا تمثل إرادته القومية.. ويعطي لنفسه حقوقا أكثر من التي يسمح له الدستور بها"، وكانت مناسبة البيان أن القوتلي ألقى خطابا في المجلس النيابي تناول فيه موضوع الوحدة العربية وكشف عن دخوله في محور مع الملك عبد العزيز آل سعود والملك فاروق لمحاربة الوحدة العربية، بحجة محاربة مشروع سورية الكبرى ورغبته في عقد معاهدة مع فرنسا عملا بنصيحة (تشرشل) رئيس الوزراء البريطاني.
ولقد مارست السلطة الوطنية، بعد هذا البيان العنف ضد الحركة البعثية وقام وزير داخلية سلطة الاستقلال بتقليد ممارسات الفرنسيين، فاعتقل صلاح الدين البيطار ونفاه إلى مدينة الميادين ضاربا بعرض الحائط بنصوص الدستور.
ج - كانت المعركة الكبرى التي خاضتها (حركة البعث) هي تعبئة قواها كلها للإسهام في النضال ضد الاستعمار الفرنسي لإنجاز الاستقلال التام والتصدي لعدوان القوات الفرنسية على دمشق، ولقد تجددت هذه المعركة القديمة منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها.
1 - أصدر (مكتب البعث العربي) في 16 أيار 1945 بيانا وكان أبرز ما جاء فيه: نكوث فرنسا بعهدها الانسحاب من سورية وتآمرها على الاستقلال بإرسالها جيوشا جديدة (إلى أرضنا بدلا من تسليمنا جيشنا ومن إجلاء مالها من قوى عسكرية)، سكوت الفئة الحاكمة عن مماطلة الفرنسيين وخداعهم بدافع الجهل والنفعية، وطالب السلطة الحاكمة أن تنهي المفاوضات مع الفرنسيين.. في سبيل استلام الجيش السوري من دون الارتباط بأية معاهدة.
ورأى البيان في اشتراك الشيوعيين السوريين مع الفرنسيين في جميع أنحاء سورية باحتفالات النصر على ألمانيا، رأى في هذه الاحتفالات تحديا واضحا وقويا للاستقلال والكرامة القومية.
2 - وفي 20 أيار 1945 أصدر (مكتب البعث) بيانا دعا فيه الوقوف صفا واحدا في وجه العدوان الفرنسي وتأييد الحكومة الدستورية ما دامت قد "أفاقت من غفوتها وغفلتها"، وأخذت تسلك طريق الصواب في مقاومة العدوان الفرنسي بالحزم، وأعلن البيان عن تشكيل حركة (فرق الجهاد الوطني) من بين أعضائها، كما أشار إلى جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر وتونس ومراكش فضلاً عن جرائمه في سورية.
3 - وأصدر (البعث) بياناً في 9 حزيران 1945 بعد قصف الفرنسيين مدينة دمشق وامتداد عدوانهم إلى بقية الأصقاع السورية واستهل البيان بعبارة (لن يعودوا) وطالب بتشكيل (حكومة قومية) تقوم سياستها على برنامج يتلخص في رفض التعاقد مع فرنسا وقطع كل صلة معها وإجلاء قواتها عن سورية ولبنان جلاء تاماً والشروع حالاً بتشكيل الجيش الوطني والتعبئة الشعبية لصيانة استقلال سورية التام واعتبار قضية سورية ولبنان قضية واحدة والمطالبة بمحاكمة الفرنسيين المسؤولين عن العدوان.
4 – وفي 24 آب 1945 صدر بيان وضح فيه (البعث) "أن الأزمة القائمة في البلاد ليست أزمة وزارية في جوهرها وإنما هي أزمة نظام الحكم بكامله".
5 - هاجم (البعث) اتفاق بيفن - بيدو ورفضه رفضاً قاطعاً، وذلك في بيان أصدره بتاريخ 26 كانون الأول 1945، ورأى في هذا الاتفاق البريطاني - الفرنسي الاستعماري التفافا على استقلال سورية ولبنان.
6 - أصدر (البعث) في 4 آذار 1946 بياناً أعلن فيه "أن العرب في جميع أقطارهم يؤيدون مصر العربية في نضالها الصلب من أجل استقلالها ووحدتها وجلاء الإنكليز عن أرضها".
7 - أرسل (مكتب البعث العربي) بتاريخ 6 نيسان 1946 برقية موجهة إلى أمين الجامعة العربية والحكومات العربية احتجاجاً على عقد (المعاهدة الأردنية – البريطانية) لأن أسوأ ما فيها أنها "تضمن للصهيونية الآثمة تحقيق أغراضها في فلسطين".
8 - دعا (البعث) في بيانه بتاريخ 2 أيار 1946 إلى إضراب عام شامل، في يوم الجمعة الثالث من أيار، احتجاجاً على قدوم اللجنة التي عينتها حكومتا بريطانية والولايات المتحدة إلى فلسطين، والتي أعلنت مقترحاتها طالبة إرسال مائة ألف يهودي إلى فلسطين في الحال، وإباحة الهجرة الصهيونية المطلقة، وإعادة حرية بيع الأراضي لليهود، ورفض قيام حكومة عربية في فلسطين.
9 - وفي 24 أيلول 1946 وجه (البعث العربي) برقية إلى الأمانة العامة للجامعة العربية بالقاهرة يطلب فيها "تدخلها السريع لوضع حد لعدوان فرنسا ولنصرة عرب المغرب نصرة فعالة".
ثانياً - على الصعيد الإيديولوجي:
كانت عقيدة الحركة قد تبلورت وصدرت في كراسة في العام 1943 تحمل عنوان (أهداف وغايات) وكانت تعبيراً دقيقاً عن مستوى النمو الفكري الذي بلغته الحركة في تلك المرحلة المبكرة في البدايات. والأسس التي أرسيت في تلك المرحلة هي:
- عقيدة البعث بالضرورة عقيدة شعبية.
- - عقيدة الحزب عقيدة ثورية انقلابية، لا تؤمن إلا بالحلول الجذرية.
- عقيدة الحزب قبل هذا كله وفوق هذا كله عقيدة عربية، هدفها الأول بناء الوطن العربي الواحد والقضاء على داء التجزئة الدخيل.
- والنظرة الأولى التي أطل منها البعث هي النظرة العربية الشاملة، النظرة إلى واقع الأمة ومستقبلها، والتطلع من خلالها إلى الغد العربي الجديد، الغد الموحد القوي.
ثالثاً - على الصعيد التنظيمي:
- كان لا بد للتنظيم أن يعبر ويجسد النواحي الأيديولوجية، ولذا فإن التنظيم يجب أن يكون:
- تنظيماً شعبيا، يعتمد الجماهير الكبيرة المحرومة.
- - تنظيما ثورياً انقلابياً، يقوم على العناصر الثورية المناضلة الصلبة.
- تنظيماً ديمقراطياً لا مجال فيه للتفرد، تنظيما ينطلق من القاعدة إلى القمة، وتقوده قيادة جماعية منتخبة.
- تنظيماً عربياً شاملاً، لا تنظيمياً قطرياً محلياً، وهذا التنظيم العربي الشامل هو أول تطبيق عملي لمعنى الوحدة وأول السير المنظم في سبيلها.
- صدور جريدة البعث
لقد شهدت تلك المرحلة الغنية بالخطوات الإيجابية في حياة (حركة البعث) وفي نضالها السياسي، ونمو تنظيمها وانتشارها بين الجماهير، حدثاً عظيماً وانتصاراً كبيراً بفوزها الحصول على ترخيص بإصدار صحيفة يومية تنطق باسمها، ثم بالنجاح في إصدار العدد الأول من الجريدة بتاريخ 3 تموز 1946، وهي جريدة (البعث) التي أصبحت منذ ذلك اليوم لسان حال البعث والناطق باسمه، سواء على صعيد المواقف السياسية. أو على الصعيد العقائدي.
ولقد عملت الحكومات، على منع (حركة البعث) من إصدار جريدة ناطقة باسمها مدة ثلاث سنوات، بعد أن أصرت الحكومة على أن لا تسمى الجريدة (البعث العربي).
المؤتمر التأسيسي 4 - 6 نيسان 1947
في سنة 1947 كان الحزب قد نما في سورية، وخصوصاً في الفئات المثقفة، وكان جل أعضائه من الشباب دون الثلاثين، وكان قد كسب سمعة بارزة في سورية وصلت سمعته إلى أقطار مجاورة: الأردن، لبنان، العراق.
وسار الزمن سيرته وخاضت (حركة البعث)، خلال ما يقارب السنوات السبع، أي منذ ظهورها، صراعاً سياسياً يومياً ضد الاحتلال الأجنبي والحكومات المتعاقبة للكتلة الوطنية والقوى السياسية الأخرى، ولقد انتهت هذه المرحلة الأولى من تكون البعث بعقد المؤتمر التأسيسي الأول في مقهى الرشيد في دمشق ما بين الرابع والسادس من نيسان 1947، وساد الاجتماع جواً من الغبطة والارتياح، وكان الاجتماع مفتوحا لكل عضو عربي في الحزب ومن أي قطر عربي كان، وبلغ عدد الحاضرين ما يربو على مئة عضو، ولقد أقر المؤتمر خلال انعقاده:
- دستور الحزب الذي عرف حزب البعث العربي بأنه حركة قومية شعبية انقلابية تناضل في سبيل الوحدة العربية والحرية والاشتراكية وتضمن المبادئ الأساسية:
المبدأ الأول: وحدة الأمة العربية وحريتها.
المبدأ الثاني: شخصية الأمة العربية.
المبدأ الثالث: رسالة الأمة العربية.
وكذلك تضمن المبادئ العامة، ومنهاج الحزب في سياسته الداخلية والاقتصادية والاجتماعية وفي
لتربية والتعليم.
اعتبر البعث أن المبادئ التي وردت في دستوره أنها وحدها المستقاة من واقع العرب والقادرة على إنقاذهم، وأن هذه المبادئ هي مسألة بقاء أو لا بقاء لهم، وأن الدارس لدستور البعث يدرس به مبادئ الكفاح العربي وأهدافه.
كان ميلاد البعث بدستوره إيذانا بقيام حركة تقدمية ثورية وطموحا إلى يقظة حضارية سيحققها العرب في جميع نواحي الحياة، وستظل هذه الأهداف منارة إلى جميع المناضلين الشرفاء وجماهير الأمة العربية ونبراس الأجيال تنير أمامهم طريق الكفاح القومي لتحقيق الواقع التاريخي الموعود للأمة العربية.
ولا بد من القول أن منطق الحياة يتطلب من الشعوب أن تبحث عما ينقصها ولا تستطيع الاستمرار بدونه، وأن المبادئ والقيم التي تفجر طاقاتها هي التي تنبثق عن التفاعل الحي بين هذه الشعوب وبين واقعها من ناحية، وبين ما تصبو إليه من ناحية أخرى، ومن هنا فقط تأتي الأهمية التاريخية للحركات والأحزاب التي تتبنى تلك المبادئ ومن هنا يأتي استمرارها وتواصلها مع شعبها حاملة مهمة إيضاح أهدافها وحمايتها من أي انحراف أو تزييف.
إن حزب البعث لبى نداء الشعب والواقع، وارتفع إلى مستوى استطاع معه أن يضطلع بمسؤولياته تجاه أمته.
إن البعثي الذي يتمثل قيم البعث، هو الذي يذود عن حياض وطنه، ويقف إلى جانب شعبه يقاسمه قدره وآلامه ومصاعبه، ويفكر بأمانة وجدية في مصيره، ولا يوفر تضحية مهما غلت في سبيل ذلك، وهو الذي يجند كل طاقاته مع الجماهير المنتجة لا مع المستغلين، أو في سبيل تحقيق مصالحه الشخصية على حساب المصلحة العامة. وما زال مناضلو البعث أوفياء لكل قيم ومبادئ حزبهم وأمتهم، وهم أول من امتلأت بهم زنازين السجون وتوسدوا رطوبة أرضها والتحفوا بعفونة هوائها، وتلقت أجسادهم سياط الجلاد، وقضوا نحبهم أو زهرة شبابهم في المعتقلات.
ويذكر التاريخ، أن حركات ثورية عديدة تعرضت، ولأكثر من مرة، للفشل ولكن أهدافها ظلت في أعماق الشعب صامدة ولا تراجع عنها، لأنها وحدها العلاج الموضوعي لواقعه الأليم، ووحدها تستطيع أن تظل غاية راسخة تواصل الجماهير نضالها في سبيل تحقيقها.