نبذة تاريخية عن الهجرة اليمنية
نبذة تاريخية عن الهجرة اليمنية وعواملها السياسية
والاجتماعية والاقتصادية ومراكز الثقل بالعالم
على الرغم من عدم الوصول إلى تفاهم كامل بين الباحثين حول تعريف شامل للهجرة وذلك اعتمادا على طبيعة العملية.
من جهة وعلى الغرض من دراستها من جهة أخرى، إلا اننا مع ذلك يمكننا أن نعرف الهجرة لغرض هذه الورقة بأنها تعني بصورة عامة تغيير محل الإقامة بصورة دائمة أو شبه دائمة دونما علاقة كبيرة بمسافة حركة الانتقال. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه لابد من وجود منطقة أصلية ينطلق منها المهاجرون ومنطقة جغرافية أخرى يقصدونها، وتتضح هذه أحيانا على شكل حزمة من الدوافع للجذب، وحزمة أخرى من عوامل الطرد الذاتي ٍSelf RHGRepulision، وتعد هجرة الإنسان من مكان لآخر ومن بيئة اجتماعية إلى أخرى ظاهرة فردية وجماعية عرفت في التاريخ القديم والحديث، وستظل ظاهرة سارية ما وجد الإنسان، حيث شهدت المجتمعات البشرية منذ القدم العديد من الهجرات البشرية الاجتماعية التي كانت سببا في إعمار أجزاء عديدة من العالم، وهذه الحركة السكانية لم تنقطع بل استمرت حتى الآن، وستستمر في المستقبل بسبب الزيادة المطردة والهائلة في السكان التي شهدها العالم؛ ولاسيما بعد التطورات الاقتصادية والاجتماعية والصحية التي ساعدت على تحسين مستوى معيشة الأفراد فانخفضت نسبة الوفيات وازدادت معدلات المواليد، كما أسهمت وأدت التقنية الجديدة والتطور التكنولوجي في وسائط النقل والمواصلات دوراً، فالدول الغنية بطبيعة الحال تجذب إليها المهاجرين والدول الفقيرة تطردهم منها وبطبيعة الحال فان هذه العوامل مجتمعة ساعدت وسهلت هذه الحركة أي حركة السكان واطرادها في وقتنا الحاضر.
اعداد / د . عبدالجليل الصوفي - د/فهمي البنـا
ويمكننا القول بصورة عامة بان هذه العوامل وبالاتجاهين منطقة الأصل ومنطقة الوصول لا ينظر إليها المهاجر أو من يفكر بالهجرة إليها في المستقبل نظرة متشابهة ومتساوية ولكن من المؤكد بان هناك فئات من السكان يتأثرون بطريقة متشابهة بالعوامل الطاردة والجاذبة في كل الموطنين .
وفي حالة اليمن قد يرى بعض المهاجرين ان عوامل الطرد الذاتي اكبر من عوامل الجذب وهي وجهة نظر تبدو صحيحة استنادا إلى الواقع الاقتصادي والديموغرافي والاجتماعي المحفزة للهجرة. الأمر الذي يؤكد ان ظاهرة الهجرة في المجتمع اليمني مشكلة بالغة التعقيد والتشابك وقد أثرت على كافة نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية، ويفهم كل المهتمين بقضايا المجتمع اليمني ان قضية التحديث تشكل أحد المحاور الرئيسية في أية خطة مستقبلية للتنمية . ولما كان لهجرة وانتقال العمالة اليمنية جوانبها السلبية فينبغي علينا أيضا ألا نخفي حقيقة إضافية تتبلور في ان الكثير من جوانب التحديث والتغير في المجتمع اليمني قد ارتبط بالهجرة والمهاجرين اليمنيين إلى حد كبير. كما ان المتتبع لتاريخ شبه الجزيرة العربية يجدها حظيت بشخصية متميزة حيث تعد اليمن عمودها الفقري لمجمل محاورها السياسية والاقتصادية وظلت مستوعبة وحاضنة لتيارات الهجرة الوافدة من شمال الجزيرة منطلقا بها إلى جنوبها والعكس تبعا للمحفزات البيئية والاجتماعية من جانب مع الشعور بفكرة الترحال للمناطق الخصبة والأكثر جاذبية من جانب آخر. كما ينبغي الإشارة إلى أن لتجاور اليمن مع القارة الأفريقية قد اكسبها بان تكون نقطة وصل هامة بين آسيا وأفريقيا ونحن هنا لن نزيد عما كتبه المؤرخون في مؤلفاتهم بأن لليمن علاقة وطيدة بالساحل الأفريقي منذ مملكة اوسان وما تلاها في عهد مملكة سبا التي وصلت علاقتها التجارية بالمنطقة الآنفة الذكر التي تؤكدها كثير من النقوش والشواهد الانثروبولوجية والاثنولوجية.
وتواترت تلك الهجرات اليمنية إلى الساحل الشرقي من القارة الأفريقية والقرن الأفريقي بعد ظهور الإسلام حيث دخل المهاجرون الأوائل بلاد الحبشة من ميناء مصوع وقد ساهم اليمنيون مع إخوانهم من عرب الجزيرة في التوغل إلى ارتيريا وميناء مصوع عبر أرخبيل جزر دهلك وعلى وجه الدقة ما اقترن بالفتوحات الإسلامية من عهد الخلافة الراشدة.أما في التاريخ الحديث والمعاصر فقد كانت وجهة حركية اليمنيين والهجرة اليمنية إلى منطقة الجزيرة والخليج العربي وكذا إلى شرق أفريقيا في العقود الأولى من القرن العشرين وبخاصة إلى المملكة العربية السعودية جراء ما شهدته المنطقة من طفرة نفطية صارخة على إثرها تم التدفق لملايين اليمنيين إلى بقية أقطار الخليج وخاصة دولة الكويت كما تزامن ذلك مع توجه اليمنيين إلى عدد من أقطار القارة الأوروبية وعلى وجه الدقة إلى بريطانيا وكذا الحال نفسه إلى الولايات المتحدة الأمريكية، كل ذلك بفعل دوافع اقتصادية واجتماعية وسياسية، وتجدر الإشارة إلى انه قد ترتب على انتقال القوى العاملة للعمل في الخارج آثار مهمة على سوق العمل، وقد أدى النقص الحاد في قوة العمل نتيجة الهجرة إلى استخدام الأطفال وبشكل خاص في قطاع الخدمات في المناطق الحضرية وفي بعض الأعمال الزراعية في الأرياف الأمر الذي ترك أثرا سلبيا على مستوى مهارة العمالة التي تميزت معظمها بانخفاض مستوى التعليم لديها .
وستتوزع الورقة على المحاور الآتية:
أولا: التحقيب العام للهجرة اليمنية.
ثانيا: الأنماط العامة للهجرة اليمنية.
ثالثا: دوافع ومحفزات الهجرة الخارجية اليمنية.
رابعا: التركز الجغرافي للمهاجرين اليمنيين.
خامسا: الخاتمة والمقترحات والتوصيات.
وسوف تتم مناقشة هذه المحاور وعلى النحو الآتي :
أولا: التحقيب العام للهجرة اليمنية:
عكف المهتمون بشئون اليمن إلى تشخيص حالة الهجرة اليمنية، فذهبوا بذلك إلى مدى العلاقة والارتباط بين متغير الهجرة ومتغيرات الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي شهدها المجتمع اليمني ماضيا وحاضرا، ولم يكن من المعقول في هذه الورقة ان تسترجع تاريخ الهجرة اليمنية بشكل غير منقوص ولكن الأهم في ذلك محاولتها تتبع ما أمكن لها من مصادر أن تضع تحقيبا سريعا لما قد ذكر سابقا. فالهجرة إذن سمة لازمت اليمنيين واشتهروا بها تاريخياً منذ أقدم العصور حيث وصلوا إلى بقاع شتى من المعمورة سواء كانت في قارات العالم القديم آسيا وأفريقيا وأوروبا أو في قارات العالم الحديث أمريكا الشمالية والجنوبية وهذا ليس بخافٍ على احد، ومن هنا تجدر الإشارة إلى إن جغرافية اليمن كان لها دور أساسي في صناعة تاريخ الهجرة لشعبها وأقوامها، واقصد هنا كل المتغيرات الجغرافية البشرية منها والاقتصادية والطبيعية، مما شهدت البلاد من اضطرابات سياسية عبر حقب زمنية متعاقبة تارة وبين موجات الجفاف ونوبات القحط التي قلصت المساحات الزراعية تارة أخرى، والأدبيات الجغرافية والتاريخية التي تناولت مثل تلك الأحداث قد رصدت ووثقت كثيرا من تلك الشواهد التي مرت على اليمن وجاء من رصد تلك الشواهد التي أضحت مكرورة في كثير من تلك المصادر وفي متناول كل المهتمين المتتبعين لزمنية الهجرة الخارجية بالنسبة لليمن واليمنيين. ما قد وثق من دراسات حديثة ومعاصرة عن مسار الهجرة اليمنية فقد تبين ان الرصد التاريخي لتلك الظاهرة ما هي إلا لتضافر عوامل ايكولوجية واجتماعية معينة قد أوجدت على الدوام وضعاً اجتماعيا واقتصادياً وسياسيا وايديولوجيا يكون في مصلحة فئات من المجتمع، وضد مصلحة فئات أخرى، وهذا ما يؤكد ما قد ذهبنا إليه بان هناك عوامل متعددة وقفت وراء اتخاذ قرار الهجرة ويأتي في طليعة تلك العوامل العامل الاقتصادي، إن مكمن الأهمية للمتغير الاقتصادي كمحصلة نهائية لمتخذ قرار الهجرة لا يمكن بحثه بلغة الأرقام فقط بين عوامل الطرد وعوامل الجذب - وإنما يدرس ضمن الإحاطة بالمضامين الاجتماعية والسياسية والثقافية والايديولوجية التي تحيط بتلك الأرقام والتي بالأصوب أن تتحرى من خلاله عن إنسان ما ترك أرضه ووطنه وفارق أهله ليرحل إلى مستقر مجهول، ولنسترسل في تزمين لملف الهجرة اليمنية الحديثة والمعاصرة بشكل كبير قد ظهر في عشرينات القرن الماضي متوجاً بتيارين إلى أهم قطرين صناعيين هما أمريكا وبريطانيا، ويعزى ذلك لتغلغل النمط الإنتاجي الرأسمالي والذي كان له انعكاسات بينة على عملية الهجرة في اليمن، من حيث غزو السلع الأجنبية، والتي أفضت إلى تراجع وتدهور في واقع الصناعات الحرفية اليمنية، وألقت بآلاف الحرفيين إلى مربع البطالة مع غياب البديل الوطني، لذا كان من المنطقي ان يتجه التفكير إلى البحث عن بديل خارج حدود اليمن، ومن الواضح ان ذهنية المواطن اليمني لم تتوقف ولم تتراجع بعد ثورة 26 سبتمبر 1962 عن التفكير بالهجرة الخارجية بل إن مجالها قد توسع على الرغم من مزامنة ظهور قطاع حديث في عدد من المدن اليمنية الرئيسية، لكن ظل هذا القطاع غير مستساغ بحكم انه قطاع خدمي بصورة قوية من جهة، وقطاع كان تحت هيمنة الرساميل الخاصة من جهة ثانية، والذي كان آنذاك قدرته على استيعاب العمالة المحلية الوطنية محدودا للغاية. بل في المقابل كان لظهور الثورة النفطية في دول الجوار الجغرافي من اليمن أي دول الخليج العربي عامة والسعودية خاصة في منتصف العقد السابع من القرن المنصرم دور في الحفاظ على الميل القوي للهجرة الخارجية في اليمن، الأمر الذي واكبه زيادة أعداد المهاجرين بالارتفاع كما هو موضح في الأرقام الآتية :
جدول رقم (1) يبين أعداد المهاجرين اليمنيين بين عامي 75-1986م
العام أعداد المهاجرين اليمنيين بالأرقام
1975-1234000
1981-1394778
1986-1668199
المصدر: محمد الزعبي، الكتاب المرجعي في الثقافة السكانية، مركز البحوث والدراسات اليمني، صنعاء، 1994، ص 293.
وبمعطى آخر تتيح لنا الفرصة رسم صورة للهجرة الخارجية ضمن خمس مراحل غلب عليها في ذلك أن أعطت تحقيبا اقتصاديا لمجمل المهاجرين العرب واليمنيين من ضمنهم، فضلا عن المتغير السياسي الذي ساهم جنبا إلى جنب مع المتغير الاقتصادي في تجسيد الصورة الشاملة لتلك المراحل، وهي كما يلي:-
أ - مرحلة ما قبل الطفرة النفطية
وتمتد هذه المرحلة من 1940 وحتى 1973، وكان الاتجاه العام لحركتها هي توافد العمالة نحو الأقطار النفطية، في حركة تعكس إلى حد ما تفاعلات العرض والطلب في كل من بلدان الإرسال والاستقبال أي الأصل والوصول . لقد كان أهم ما يميز بلدان الإرسال في هذه المرحلة هو ندرة الموارد ووفرة السكان وعنصر العمل، وهذا الحال ينسحب على بلد كاليمن تماما، فيما تميزت بلدان الاستقبال بوفرة الموارد وندرة السكان وقوة العمل، ونتيجة لتفاعل عناصر الدفع في دول الإرسال، من ضيق ذات اليد، وارتفاع معدلات البطالة وشحه واضحة لفرص العمل، وعوامل الجذب في دول الاستقبال من فرص العمل والأجور المختلفة، والوظائف المناسبة لمستوى التعليم والتأهيل.
ب - مرحلة الطفرة النفطية
شهدت هذه المرحلة مناسبتين تم خلالهما ما أصطلح على تسميته ( تصحيح أسعار النفط) الأولى مع حرب أكتوبر1973م، والثانية عام 1979م. وأدى تصحيح الأسعار إلى ثورة في أسواق النفط العالمية حيث قفزت مداخيل الدول العربية من الصادرات النفطية إلى ما يقارب 208 بلايين دولار من بداية عام 1980 . وقد دفعت هذه العائدات الضخمة للدول للخليجية إلى تبني برامج وخطط تنموية طموحة تنطوي على استثمارات ضخمة في مجال البنى التحتية. فقد بدأ طبيعيا جو من انسياب وتدفق هائل لفائض قوة العمل إلى مكامن الطلب عليها في دول الخليج العربي. وشهدت هذه المرحلة التي امتدت بين عامي 1973- 1982 نشاطاً كثيفاً لحركة انتقال العمالة، وهذا ما عاشته اليمن من تحويلات اقتصادية من عوائد المغتربين اليمنيين إلى الداخل، والتي بها انتعشت الحياة الاقتصادية في البلاد بشكل ملموس.