ميشيل عفلق والفكر العربي الوحدوي
د. مصطفى دندشلي
ميشيل عفلق والفكر العربي الوحدوي *
مقدمات منهجية
ليس من السهولة بمكان الحديث عن فكر الأستاذ ميشيل عفلق العربي، في فترة من الوقت محدَّدة وضيّقة، هذا الفكر القومي الشمولي والممتد على مرحلة زمنية طويلة تتجاوز النصف قرن من الزمن. إنّ الرهبة التي تُصيبنا عند محاولتنا طرح الموضوع ومناقشته تتأتّى من أننا نجد أنفسنا دفعة أمام تاريخنا العربي الحديث برمّته، وأمام مصير وطننا العربي الكبير... فالفكر أيُّ فكر هو في الحقيقة ابن بيئته الثقافية والاجتماعية ونتاج مرحلته التاريخية. فلا نستطيع، لِفهمه، الفصل بينهما، وإلاّ وقعنا في متاهات من التجريد والعموميات والغيبية.
وكمقدمة لهذه المداخلة السريعة أودّ أن أبديَ بعض الصعوبات التي يواجهها الباحث في فكر الأستاذ عفلق القومي وأن أُقدّم بعض الملاحظات المنهجية. وسأحاول أن تكون جميع هذه النقاط مقتضبة وهي مقدّمة للنقاش والحوار.
صعوبات البحث
يمكن تكثيف صعوبات البحث في النقاط التالية:
1)- فكر الأستاذ ميشيل عفلق القومي لم يظهر دفعة واحدة وفي ظرف زمني محصور وضيّق، بل نما وتطوّر وتكامل في خضمّ مرحلة من العمل القومي والنضال السياسي والتجربة القومية الحيّة والممارسة اليومية... فهو ليس فكراً مجرّداً، بعيداً عن الواقع القومي الحَدَثيّ، والسياسي، النظري والعملي.. لذلك من أجل فهمه ينبغي:
من جهة وضعه في سياقه التاريخي وفي سياق تطوّر الحركة القومية العربية الصاعدة منذ الحرب العالمية الأولي في سوريا والمشرق العربي والوطن العربي الكبير، وفي سياق تطوّر حركة التحرّر الوطني في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. ومن جهة أخرى يجب ربطه، من أجل فهمه من الداخل، بواقعه الفكري والسياسي الخاص والنظر إليه من خلال تطوّر حركة البعث العربي الاشتراكي في مراحلها المختلفة.
وهنا لابدّ من إبداء ملاحظة خاطفة لنقول إنّ تاريخ حزب البعث العربي الاشتراكي السياسي وتطوّره الإيديولوجي، يتداخل تداخلاً متفاعلاً بشخصية ميشيل عفلق الفكرية والإيديولوجية، إلى درجة عميقة ومؤثرة ومتفاعلة، وذلك إلى الحدّ الذي يصعب علينا معه الفصل بين الفكرَيْن، أقلّه حتى قبل استلام الحزب السلطة السياسية في شباط وآذار عام 1963 في العراق وسوريا... فهناك تأثير وتأثّر وتفاعل بينهما.. وإذا أردت استخدام هذا الاصطلاح الفلسفي، ثمة علاقة جدليّة واضحة بين فكر الأستاذ ميشيل عفلق وتطوّر البعث الإيديولوجي الأمر الذي لا يمكن نكرانه سواءً كنّا من المؤيّدين أم كنّا من المعارضين.
فأرى، من هذا المنظور ومن الناحية المنهجية، أنه ينبغي مقاربة الإيديولوجيّتيْن أو النظر إلى الفِكرَيْن معاً كفِكر واحد ذي وجهَيْن، وليس بمعزل الفِكر الواحد عن الآخر..
2)- ثمَّ إنّ فكر الأستاذ عفلق هو فكر "حَدَثيّ"، إن صحّ التعبير، بمعنى أنه نابع من الحدث السياسي القومي العربي، مستجيب له ومتفاعل معه، سلباً أو إيجاباً. فكلّ مقال له أو حديث، إنما هو في الواقع نقدٌ أو إعلانُ موقفٍ من تيار فكري معيّن، أو من حدث قومي معيّن.. فإنّ فهم هذا الفكر من الداخل يستلزم مسبقاً استيعاب هذا "الحدث" بظرفيَّته وواقعيَّته وماديَّته.
3)- ثُمَّ هناك صعوبة أخرى في فهم فكر الأستاذ عفلق القومي ــــــ من الأهمية الإشارة إليها في هذا السياق ـــــ وهي أنّ كتاباته، خصوصاً الكتابات الأخيرة، كتابات السبعينات والثمانينات، لم تُوزّع حسب ما نعلم أو تُنشر، خارج نِطاق الحزب والحزبيّين، ولم تصل على أيّ حال إلى الجمهور العربي المثقّف الواسع، وبالتالي لم تحصل على حظّ وافر من النقاش والحوار في الصحف والدوريات والمؤلفات.
يضاف إلى ذلك أنه لم يُكتب حتى الآن عن مؤسّس حزب البعث العربي الاشتراكي وفكره الغنيّ والمتشعّب، طوال نصف قرن من الزمن، كتابةً نقديّةً تقويميةً وبمنهج موضوعي، وتاريخي، وتكاملي... كما لم يُكتب بعدُ في لُغتنا العربية كتاباتٍ موضوعية، تاريخية اجتماعية وافية من غير الحزبيّين عن تجربة حزب البعث، بما يتناسب مع أهمية هذه التجربة القومية الغنية ــــــ والتي أرى أن يُنظر إليها على هذا الأساس، سواءً أكُنّا من المؤيّدين لها أم من المعارضين ــــــ ذلك أنّ هذه التجربة السياسية والقومية ـــــ على صعيد الفكر والممارسة ــــــ قد أصبحت جزءاً لا يتجزّأ من التاريخ القومي العربي الحديث وتحتل جانباً كبيراً ومهماً فيه..
فما كُتب في لغتنا العربية حتى الآن، فيما أعلم، عن فكر الأستاذ ميشيل عفلق القومي أو عن تاريخ حزب البعث العربي الاشتراكي ونشوئه وتطوّره في أرجاء الوطن العربي، إنّما هي كتابات، لا تزال تفتقد إلى العمق والشمول والجهد المطلوب والنّفاذ إلى داخل الحركة وربطها بالواقع السياسي وتطوّره.
كما أنّ الأستاذ ميشيل عفلق نفسه لم يعمد إلى الكتابة أو التأليف بمعناه المعروف وإلى البحث المتكامل لتوضيح أفكاره ومفاهيمه القومية والسياسية في مراحل زمنية متتالية ومتباينة، ذلك أنه لم يكن كاتباً "أكاديمياً" منهجياً ذا نَفَسٍ طويل، وإنما كان ميْلَه، وهو ما يتلاءم مع طبعه ومزاجه، أن يدلي بأفكاره وآرائه حسب المناسبات السياسية والظروف القومية العربية، عَبْر مقالات قصيرة أو أحاديث شفهية طابعها العام العفوية والتلقائية..
4)- ومما يزيد الأمر صعوبة هو أن الأستاذ ميشيل عفلق هنا أيضاً لم يسعَ إلى كتابات توضيحية لما خفيَ من أمور الحزب السياسية ومواقفه الغامضة، أو بعبارة أوضح، إلى كتابة نوع من "سيرة ذاتية" مفصّلة عن حياته السياسية والفكرية والإيديولوجية ومواقفه وممارساته العملية في هذا الظرف أو ذاك، لم يعمد، هو أو غيره من المقربين إليه، إلى توضيح ما غمض منها أو ما هو مختلف فيها وهو كثيرٌ كثير.... بل ترك ذلك كله إلى شرّاحه كي يتدبروا الأمر في حياته أو من بعده...
أما مصادر مؤسس حركة البعث الفكرية أو الإيديولوجية أو الأدبية أو الفلسفية، فهو لم يتحدث عنها إلاّ حديثاً عابراً مقتضباً. فهو لم يتطرّق بشيء من التفصيل إلى الكتّاب الذين قرأ لهم وتأثّر بهم، ولم يعمد إلى الإشارة الواضحة إلى الجوانب الفكرية أو الأدبية التي مارست عليه تأثيراً، من هذا الكاتب أو ذاك.. فهو كذلك في هذه الناحية، لم يساعد قارءه أو كاتب سيرة حياته الفكرية والإيديولوجية، بل تركه عرضة لتأويلات وتفسيرات شتّى..
كنا نأمل في أن يتدارك الأمر أخيراً ويعمد إلى كتابة سيرته الذاتية بكثير من التفصيل والتوضيح، في مقدّمة "أعماله الكاملة" التي أخذت تصدُر تباعاً ابتداء من العام 1985. ولكنه هنا أيضاً لم يقم بشيء من ذلك على الإطلاق. فقد ترك الأمر لنا، وهذه مَهمة ليست باليسيرة أو السهلة بالنسبة للكاتب والمؤرّخ العربي على حدّ سواء...
هذا من جهة الصعوبة أو الصعوبات التي لابد إلاّ وأن يواجهها الباحث الجِدّي عند دراسة فكر الأستاذ ميشيل عفلق. ومن الجانب الآخر هنالك أيضاً تساؤل كبير يُطرح في هذا الإطار حول الجديد في فكره القومي العربي الوحدوي: ما هي معالمه وكيف يمكن تحديده؟..
في الواقع، إذا قمنا بعملية بسيطة وعمدنا إلى تحليل فكر مؤسس البعث وإرجاعه إلى عناصره الأساسية وإلى جزئياته التفصيلية من جوانبه المختلفة في القومية والوحدة العربية، والحرية والاستقلال، ومفاهيم العدالة الاجتماعية والاشتراكية، فإننا ربما وجدنا بأنه لم يأتِ بما هو جديد في الفكر القومي العربي، وأنّ أيّ جانب من جوانب الفكر القومي كان قد تحدّث فيها الكتّاب القوميون قبله منذ مطلع القرن العشرين وقد يكون ذلك بكثير من التفصيل لم يفعله الأستاذ عفلق نفسه. أقول ذلك وفي ذهني على سبيل المثال فقط ساطع الحصري وقسطنطين زريق وعبدالله العلايلي أو الكُتّاب الاشتراكيّين في المشرق العربي أو في مصر..
الجديد في فكر الأستاذ عفلق ليس في أنه آمن بالوَحدة العربية وعمل لها فكراً وعملاً أو أنه طرح مختلف القضايا الفكرية ومفاهيم القومية في الوحدة والحرية والاشتراكية... بل إنما الطرافة والجِدّة والإبداع، فيما أرى، إنما هو في جمعه هذه المفاهيم والقضايا القومية في بوتقة فكرية واحدة متفاعلة ولغة بلاغية مميّزة، وأسلوب خاص ومنهج فكري له طابعه الشخصي ومنحاه الذاتي.
الجِدّة في فكر الأستاذ ميشيل عفلق القومي هي أن لا نَنظر إليه في تفصيلياته الجزئية، وإنما أن نَقترب منه ونأخذه كوَحدة موحّدة ونلتمس فيه التوتر الوجداني الداخلي والنزوع الروحي الإنساني والمنحى الرومانسي التصوّفي...
الجِدّة تبرز أيضاً في أنه ليس مفكراً قومياً عربياً نظرياً فحسب، وإنما، وهنا الأهمية، في أنه قَرَن الفكر بالممارسة السياسية، النظرية القومية العربية بالعمل السياسي اليومي، وفي إعطائه الفكرَ القومي العربي مضموناً اجتماعياً معبّراً عنه بتلازم القومية والاشتراكية وتفاعلهما، وهذا ما لم يسبقه إليه أحد من المفكّرين القوميّين، فيما نعتقد...
الجِدّة الحقيقية، أولاً وأخيراً، تبرز في أنه لم يكن مفكراً قومياً وحسب، وإنما أنشأ حزباً، فكان مع صديقه الأستاذ صلاح الدين البيطار، مؤسّسه ومفكرّه والحارس اليقظ لإيديولوجيته القومية.
لهذا كله أرى أنه من الخطأ المنهجي في فهم فكر الأستاذ ميشيل عفلق القومي، النظر إليه وبحثه في تفصيلياته الجزئية، أو النظر إلى مؤسس البعث ككاتب يكتب في الموضوع القومي كتابة أكاديمية منهجية متكاملة، أو كمؤرخ يبحث في التأريخ، فهو لم يكتب تاريخاً بالمفهوم الاصطلاحي للكلمة، ولم يدع إلى ذلك على أيّ حال، أو مقاربته كفيلسوف، وهو قد نفى عن نفسه صفة الفيلسوف.
إنّ ما كان يقوله الأستاذ عفلق كتابة أو شفاهة، وإنما يجب أن يُنظر إليه كَفِكر صادر من مثقفٍ ومناضلٍ قومي هدفه:
إعادة الثقة إلى النفس العربية، والعمل على بناء الشخصية العربية الموحَّدة، وبلْوَرة صورة تفاؤلية للمستقبل العربي.
لذلك من الأهمية لاستيعابه وإدراكه، التوقف أمام:
مضمون فكره لا الشكل، أمام "الجوهر" لا العَرض، أمام الغاية والهدف لا عند التفصيلات والمتغيّرات.
واليوم وبمناسبة مرور سنة على وفاة الأستاذ ميشيل عفلق، فلا يسعنا إلاّ أن نقف أمام ذكراه بكل احترام وتقدير. لقد أصبح الآن فكره ونضاله مِلكاً للتاريخ ومِلكاً للتاريخ العربي بصورة خاصة، فلا يُقتصر فقط على حزبه، مهما كانت علاقة هذا الحزب به علاقة حميمة، وإنما تخصّ الأمة العربية جمعاء..
فنحن ننظر إليه على هذا الأساس، وعلى هذا الأساس نعطيه الأهمية، في تاريخنا الفكري والقومي الحديث، سواءٌ فيما أصاب أو فيما أخطأ...
ونحن الآن وبعد انقضاء أكثر من نصف قرن من الزمن على هذا النشاط القومي العربي المعطاء، على صعيد الفكر والممارسة، وبهذه المناسبة الجليلة. لا أرى أجدر منّا نحن هنا جميعاً للقيام بدراسة فكره القومي دراسة علمية ونقده نقداً موضوعياً، بالمعنى الحقيقي لكلمة نقد.... وكيف يمكننا أن نفعل ذلك وأن نحكم على فكر قومي بهذا الغنى والشمول، إذا لم ننفذ إليه من الداخل ونجعله يتحدّث هو عن نفسه وينطق بمكنونها، قبل أن نطلق نحن حُكمنا عليه...
ويبدو لي في هذا المجال أنّ أبسط قاعدة منهجية حتى نفهم أيّ فكر بإطلاق، والفكر القومي العربي لدى الأستاذ ميشيل عفلق على وجه الخصوص ولدى حزب البعث العربي الاشتراكي بشكل أخصّ، وذلك من أجل أن يتسنّى لنا أن نحكم له أو عليه حكماً نزيهاً صادقاً موضوعياً، لابد أولاً من أن ندخل إليه ونفهمه في ظرفه وفي عمقه وأن ندرسه من الداخل، ثم نعود ثانياً لنخرج منه، ونلتقي به مرة أخرى عن طريق الدرس والبحث. فنحكم عليه حينئذ من وجهة نظر نقدية خارجية متسلّحة في ذلك بالمعرفة العلمية والمنهجية الواقعية في آن واحد..
وكيف يمكننا أن نفعل ذلك، إذا لم نحاول أولاً أن نبحث عن مصادر مؤسس حزب البعث الفكرية والفلسفية وأن نُحدّد المحوَر النظري الذي صدرت عنه مواقفه الإيديولوجية وآراءه القومية...؟!.
فليس غرضي إذن بهذه المداخلة السريعة أن أقدِّم عرضاً وافياً متكاملاً لِفكر الأستاذ ميشيل عفلق القومي الوَحدوي، بقدر ما سأسعى إلى أن أُظهر المنهج الفكري الذي سار عليه والروحية التي انطلق منها والإطار الذي وضع فيه القضية القومية والأسلوب الذي عبّر به عنها...
ثم أخيراً وليس آخراً، هل من الممكن دراسة هذا الفكر القومي المثالي والوجداني والروحاني والرومانسي في آن، من باحث اجتماعي يعتمد منهجاً آخر في المعرفة مختلفاً، هذا إذا لم نقل مناقضاً له؟!... أعتقد أن ذلك ممكن، إذا اعتمدنا منهج الفهم من الداخل طريقاً، وسلكنا سبيل النفاذ إليه في عمقه وتسلّحنا بالموضوعية العلمية الصارمة كمُنطلق وغاية... أعتقد بأن ذلك سيكون أغنى وأجدى وأقرب إلى الحقيقة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* - قُدِّمت هذه المداخلة إلى "النَّدوة القومية"، في بغداد، حول فكر الأستاذ ميشيل عفلق، بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لغيابه، وذلك بتاريخ 23 -26 حزيران (يونيو) 1990.