كلمة المناضل - ليس أول اتفاق منفرد فهل سيكون آخر اتفاق ؟
كلمة المناضل العدد 262 أيلول ـ ت 1 1993
ليس أول اتفاق منفرد فهل سيكون آخر اتفاق ؟
الدكتور . فواز الصياغ
رئيس هيئـة التحرير
منذ تأسيس الكيان الصهيوني في فلسطين العربية عام 1947 وحتى توقيع الاتفاق الفلسطيني ـ الإسرائيلي في 13 أيلول 1993 كان الهدف الصهيوني هو الوصول إلى اتفاقات ثنائية منفردة مع العرب ، وكانت الجهود الإسرائيلية المبذولة في هذا المضمار لا تترك مناسبة تمر إلا وتحاول استغلالها ووضعها في خدمة هذا الهدف سواء كانت في المجال العسكري أو السياسي أو الاقتصادي أو غيره .
لقد وعت حركة التحرر العربي عموماً وحزب البعث العربي الاشتراكي خصوصاً طبيعة الهدف الصهيوني الآنف الذكر ، واتجهت الجهود لمقاومته وعرقلة تنفيذه باعتبار أن الصراع في المنطقة هو صراع قومي بين الأمة العربية من جهة ، والحركة الصهيونية التي تستهدف الوجود والحضارة والمستقبل العربي من جهة أخرى ، وأن تجزئة الصراع يضر بالأمة العربية ومسيرة تقدمها ووجودها ويضر أول ما يضر القضية الفلسطينية التي هي جوهر وأساس ، ذلك الصراع . وعليه فقد اتجهت مسيرة النضال القومي اتجاها عاماً ووحدوياً ، وكانت القضية الفلسطينية تعالج وفق المفهوم القومي وتغليب المصلحة القومية العليا على المصالح القطرية الضيقة خلال العقود السابقة ، وكان هذا سبباً في تماسك العرب ووحدتهم حول القضية المركزية قضية فلسطين .
وبعد التحولات التي حدثت في العالم إثر انهيار الاتحاد السوفييتي وبروز الولايات المتحدة المساندة لإسرائيل قوة وحيدة في العالم تهيمن على السياسة الدولية وتخطط لتشكيل العالم وفق معايير تخدم أهدافها ومصالحها ، بعد ذلك استغلت الدوائر الصهيونية هذا الأمر وسعت نحو تحقيق هدفها الدائم وهو تحويل مسار الصراع من صراع عربي إسرائيلي إلى صراع بين إسرائيل وجاراتها الدول العربية مستفردة في كل دولة على حدة مستغلة الظروف والأوضاع السياسية والعسكرية التي شكلت بعد التحولات الجديدة في العالم .
ومنذ انعقاد مؤتمر مدريد كان الهدف الصهيوني واضحاً أمام سورية وقيادتها وسعت جهدها أمام العرب لتبيان مخاطر تجزئة الصراع ، وكشفت محاولات الاستفراد بكل دولة عربية على حدة لتمرير أهدافها وبالتالي فرض الهيمنة والاستسلام عليها ..
لقد قاومت سورية بقيادة الحزب وأمينه العام الرفيق حافظ الأسد رئيس الجمهورية كافة المحاولات التي هدفت إلى تجزئة الحل ، ومن ثم تجزئة العرب وتقسيمهم والانفراد بهم منذ أن ظهرت أول بادرة عملية على ذلك وهي اتفاقات كامب ديفيد التي سعت إسرائيل من ورائها إلى الاستفراد بأكبر دولة عربية وإخراجها من ساحة الصراع آنذاك، ثم قاومت سورية اتفاق 17 أيار التي حاولت إسرائيل فرضه على لبنان والاستفراد به بعد احتلال جنوبه عام 1982 . وقاومت سورية كذلك جميع المحاولات التي هدفت بعد مؤتمر مدريد إلى تجزئة العرب سواء كان ذلك في أماكن اجتماعات الوفود أو في أساليب عملها أو مسارات المفاوضات ، وقدرت سورية وحزبها وقيادتها أن المسارات العربية في المفاوضات قد تتيح حرية للوفود العربية وتعطي بعض المسائل المطروحة للمفاوضات خصوصية قطرية تتوجب مناقشتها أولاً ، لكن ذلك كله يجب أن يكون في السياق العام للمفاوضات العربية الإسرائيلية ، مؤكدة على أن أي تقدم في أي مسار يجب أن يوضع في خدمة المسارات العربية الأخرى ليدفعها إلى الأمام وفي النهاية الوصول معاً إلى خط النهاية فيما إذا حدث اتفاق عام على أساس المبادئ التي انعقد في ضوئها مؤتمر مدريد وهي الأرض مقابل السلام وتطبيق قراري مجلس الأمن الدولي 242 و 338 في الجبهات العربية جميعها .
لقد شكل الاتفاق الإسرائيلي الفلسطيني خروجاً على صيغة مدريد وخروجاً فاضحاً على الإجماع العربي ونكسة ألحقت الأذى الكبير في جوهر الصراع وأساسه . وأفقد العرب ورقة هامة من أوراق الحل العادل والشامل وأربك مسارات التفاوض الأخرى وربما أحرج البعض منها . وجعل هناك مجالا لمن تردد من العرب سابقاً في مواقفه القومية جعل أمامه مجالاً وفتح له بابا للتنصل من التزامه القومي تجاه الصراع العربي الإسرائيلي بل ودفع البعض منهم إلى التهافت على الاتصال بإسرائيل والمطالبة برفع المقاطعة عنها تحت حجج ومبررات أفسحها أمامه الاتفاق الفلسطيني ـ الإسرائيلي ، الذي هو في حقيقة الأمر اتفاق بين بعض الفلسطينيين في قيادة منظمة التحرير وبعض الإسرائيليين في قيادة الدولة الصهيونية .
لقد أظهرت ردود الفعل الأولى على الاتفاق وما تلاها في المواقف الفلسطينية والعربية وحتى بعض المواقف الدولية العادلة أظهرت معارضة تامة لما جرى في السر، وبدأت تتضح أكثر فأكثر مع مرور الوقت أن حياة هذا الاتفاق مرهونة أساساً بالالتزام بتطبيق ما تم الاتفاق عليه في مدريد وإقرار تطبيق قراري مجلس الأمن الدولي 242 ، 338 وإقرار إسرائيل بالحقوق الثابتة للعرب في أرضهم وترابهم على مختلف الجبهات في لبنان وسورية والأردن وفلسطين .
لقد أوضحت سورية وحزبها وقيادتها وعلى لسان رئيسها مرات عدة بعد توقيع الاتفاق أن محاولات الاستفراد بالعرب ستفشل كما فشلت في الماضي ومحاولات استلاب حقوقهم وأرضهم مصيرها الفشل وإننا لن نتنازل عن أي جزء من الأرض مهما كان السبب ، وإذا أراد الإسرائيليون السلام فعليهم إعادة كل الأراضي التي احتلوها وان الاتفاق في هذا المجال يجب أن يتم مع كل العرب وليس مع طرف أو جزء منهم .
إن المبررات التي تطرحها إسرائيل اليوم وتدعمها الولايات المتحدة الأميركية منها وهي إن إسرائيل لا تتحمل اتفاقيتين في وقت واحد مبررات واهية يقصد منها التخلص من الالتزام بتطبيق مبادئ الشرعية الدولية ويقصد منها تدجين العرب وتعويدهم على الخضوع للسياسة الإسرائيلية التي تسعى إلى انتهاب أرضهم وحضارتهم وثقافتهم ، وإلا فمن يمكن أن يقتنع بأن إسرائيل تتحمل احتلال أراضي أربع دول عربية في آن واحد ولا تستطيع التخلي عنها هذا إذا تخلت في أوقات زمنية طويلة تقررها هي دون أي ضابط أو رقيب أو غير ذلك ، وأي اتفاقية تعقدها إسرائيل هل تعني أنها تريد تقديم رشوة باتفاق آخر لإحدى الدول العربية ؟؟.
أن الرد الذي أظهرته الجماهير العربية في مقاومة الاتفاق مع إسرائيل وبعض أطراف منظمة التحرير الفلسطينية وتصاعد هذا الرفض الذي أخذ بعداً جديداً داخل الأرض المحتلة على الرغم من خروج عناصر مهمة في الصراع منه وتحييدها بل وقوف بعضها إلى جانب سلطات الاحتلال في محاولة قمع الانتفاضة كما نصت بعض بنود الاتفاق المذكور ، هذه المقاومة وما يتبعها من مواقف لدى الجماهير العربية الرافضة لشكل الاتفاق وبنوده تظهر يومياً أن حياة الاتفاق في خطر ومصيره ليس أفضل من مصير الاتفاقات المنفردة التي سبقته ، ويجب أن تعي الولايات المتحدة وإسرائيل أن الطريق الذي يقود إلى السلام هو الطريق الذي أجمعت عليه جماهير الأمة العربية وأقرته المواثيق الدولية وانعقد على أساسه مؤتمر مدريد ، وليس طريق التفاوض السري والاتفاقات السرية التي تخبئ للجماهير من المفاجآت السلبية أكثر ما توفره من الحقوق والضمانات والأمن والسلام .
إن الوعود المادية التي أطلقتها الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل وبعض الدول الحليفة لهما لبعض الفلسطينيين والعرب الذين يتاجرون بالسياسة بعد توقيع الاتفاق ليست أفضل من تلك الوعود التي أعطيت لبعض قادة الدول في الاتحاد السوفييتي السابق عندما بدأت في اتخاذ مواقف خاصة عندما بدأ تفكك عقد ذلك الاتحاد ، وها نحن نراها وفي مقدمتها روسيا الاتحادية تعاني من عدم تنفيذ تلك الوعود على الرغم من وجود فوارق جوهرية بين وجهي المقارنة .
إن موقفاً ثابتاً صلباً أمام حالة الانهيار التي تمر بها المنطقة وأمام الضعف والتخاذل الذي تمر به القضية الفلسطينية وبعض رموزها القيادية ، موقفاً يتسم بتمثل التاريخ العربي وحضارته وتطلع أبنائه وأجيالهم نحو حياة كرامة وعزة ووحدة وتقدم ، موقفاً كالذي مثلته وتمثله سورية بقيادة حزبها حزب البعث العربي الاشتراكي وأمينه العام الرئيس حافظ الأسد ، مثل هذا الموقف كفيل أن يكون مرتكزاً لكافة العرب وقواهم المناضلة وقياداتهم التي تسعى للانطلاق نحو مستقبل أفضل ، موقف يوفر القاعدة المادية والمعنوية لكافة الرافضين للهيمنة والاستكانة والتخاذل ، موقف يشكل قاعدة حقيقية للصمود العربي ويشكل نقطة واحدة مضيئة ومشعة في وسط الظلام الذي تحاول قوى الاستغلال والسيطرة والاحتلال فرضه على العرب ، هذا الموقف كفيل له أن يتقدم ويتعمق ويضرب جذوره بعيداً في أرجاء الوطن ويجد له من يسانده في العالم الذي لا تتوانى قوى الخير فيه أن تقول له نعم ، يكبر يوما فيوم يرسخ جذوره يصلب عودة حتى لا تقوى قدرة على انتزاعه من الوطن العربي .