نظرة عامة على تطور الوضع لحزب البعث العربي الاشتراكي في صيدا
نظرة عامة على تطور الوضع
لحزب البعث العربي الاشتراكي في صيدا (*)
* * *
مقدمة: حالة الحزب العامة
أولاً: الوضع الإداري
أ ـ عدد الحزبيين العاملين والمتدربين: عدد الحلقات.
ب ـ التركيب الاجتماعي: طلاب، حرفيون وعمال، موظفون.
ج ـ التنظيم ومدى الانضباط الحزبي أو عدمه: التفرُّغ.
د ـ العقبات التي يواجهها الحزب من الناحية الإدارية: (اعتبار الحزبيين جميعهم عاملين بصورة استثنائية، إن أمكن، لضرورة استمرار العمل).
هـ ـ وضع خطة عملية إدارية لهذه الدورة.
ثانياً: الوضع المالي
أ ـ ميزانية المنظمة في صيدا وانتظامها.
ب ـ تطبيق النِّسَب المالية المئوية: مدى تطبيقها أم لا؟!…
ج ـ العقبات المالية لجهة الجباية ومن جهة الدخل والصرف…
د ـ وضع خطة مالية لهذه الدورة.
ثالثاً: التوسع والانتشار الحزبي
أ ـ عدد حلقات الأنصار
ب ـ منشأهم الاجتماعي: طلاب، حرفيين ـ عمال، موظفين.
ج ـ تجاوبهم مع الحزب
د ـ وضع خطة توسعية لهذه الدورة: وبخاصة نحو الجهاز الفلسطيني.
هـ ـ المشاكـل الفكريـة والأيديـولوجيـة (العقائديـة) التي يعانـي منها الأعضاء الحزبيون.
رابعاً: الوضع الثقافي
أ ـ الحزبيون ومستواهم الثقافي العام: حداثة عهدهم بالحزب عموماً وبخاصة من الناحية التنظيمية العملية..
ب ـ الثغرات الفكرية أو الغموض الأيدويولوجي (العقائدي): أسبابه…
ج ـ إنقطاع الرابطة الفكرية بشكل خاص بين القيادة والقاعدة: مؤتمر الملوك والرؤساء العرب).
د ـ ملاحظات المنظمة حول حوادث العراق المؤسفة.
هـ ـ ملاحظات حول المؤتمر القطري السوري الأخير: مخاوف المنظمة في صيدا من هذا التحوُّل الخطير واليميني.
و ـ محاولة لوضع برنامج عمل فكري وأيديولوجي (عقائدي) وسياسي.
خامساً: الواقع الصيداوي، الاقتصادي والسياسي:
صيدا منطقة زراعية تعتمد على الحمضيات في الدرجة الأولى.
أ ـ إرتباط مصلحة صيدا الاقتصادية بالوضع السياسي في سوريا.
ب ـ التيارات السياسية المحلية والاستعدادات للمعركة الانتخابية المقبلة. لا يزال الغموض هو السائد إلى الآن.
ج ـ التيار الناصري في صيدا.
د ـ الأحزاب السياسية الأخرى: الشيوعيون والقوميون العرب.
هـ ـ المنشقون وخطتهم في المستقبل القريب ومجالهم السياسي.
* * *
حالة الحزب العامـة
مرَّ حزب البعث على وجه العموم وعلى فترات متقطعة، بأزمات عديدة حادَّة: سياسية وعقائدية (أيديولوجية). وهذه الأزمات مجتمعة، وإن لم تكن قاتلة، إلا أنها كانت معيقة له في نموِّه الطبيعي وتماسكه وتوسُّعه في مناطق مختلفة من الوطن العربي.
لسنا هنا، بطبيعة الحال، في مجال مناقشة وتحليل بشكل تفصيلي أسباب هذه الهزّات السياسية والعقائدية التي عانى ولا يزال يعاني منها الحزب الشيء الكثير، وإنما الذي يهمنا في هذه العُجالة فقط أن نتطرق بصورة عامة إلى واحدة منها، لصلتها بواقعنا الصيداوي وتأثيرها المباشر فيه، نعني بها انشقاق بعض الحزبيين الذين حاولوا هدم وتخريب الحزب من الخارج، بعد أن فشلوا في عملهم هذا من الداخل. وهم الذين عادة يُطلق عليهم خطأ تارة "القيادة القطرية". وتارة أخرى "جماعة الشميطلي".
إن قوة المنشقين، إن كان لهم من قوة فعلية، وأثرهم المباشر في عرقلة الحزب في مسيرته وتماسكه، ولو لفترة وجيزة، تنحصر في صيدا. ولهذا أسبابه وظروفه الخاصة. وإذا كان المجال لا يسمح لنا بمناقشة ذلك تفصيلياً، فإنه لا بد لنا من إيراد بعض الملاحظات السريعة.
الملاحظة الأولى: إن الوجوه القيادية في صيدا، والتي كان للحزب الفضل الأول والأخير في إبرازهـا وظهورها على الصعيد السياسـي المحلـي، إن هذه الوجـوه القياديـة ـ نقول ـ هي نفسها التي شاركـت، بل ولعبـت الدور الأول في محاولة تحطيم الحزب من الداخل وتهديمـه.
الملاحظة الثانية: وهي لا تقل أهمية عن الأولى، مفادها أنه لم تكن للحزب سياسة واضحة في تلك الفترة الحرجة التي مرَّ بها الوطن العربي: سياسة موضوعية واقعية نابعة من عقيدة قومية ووطنية واضحة ونظريـة سليمـة معبِّرة عن واقع (لبنان)، له ظروفه وخصائصه، ممّا أدّى ذلك إلى بلبلة فكرية وسياسية في نفوس جميع الرفاق، مما سمح بالتالي لهذه الفئة المنحرفة أن تبعث سمومها وتصرِّح عن حقدها تحت شعارات برّاقة وتعابير طنانة، خادعة بذلك أكثر الرفاق الطيِّبين الذين لم يشكوّا في الماضي لحظة في أن في الحزب كل الإمكانيات الثورية التي يستطيع من خلالها أن يتجاوز أعنف الأزمات ويبعد عن صفوفه كل الانتهازيين والمراوغين.
من أجل ذلك ولهذا السبب، فقد كان للانشقاق الأثر السيِّىء في صيدا، وذلك في عزل القاعدة الحزبية عن القيادة، مما عاق الحزب ومنعه من مجابهة الخصوم في الداخل وردّ التَّحدّي ومن مختلف الفئات والقطاعات، في وقت كان في أشد الحاجة إلى التماسك والترابط وتجاوز الصراع الشخصي، أو بمعنى آخر، بعد هذه الأزْمة، لا يمكننا أن نقول بأنه كان هناك وجود لحـزب قائم، وإن بقيَ بعض الرفـاق القلائل يحاولـون بجرأة وشجاعة جمع الشتات وإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
ولكن، لم يستطـع، للأسف، هؤلاء الرفاق القلائـل، لظروفهم السياسية والاجتماعية الخاصة بهم، أن يتابعوا نشاطهم وعملهم الحزبي بصورة متواصلة، وإن بقيَ إيمانهم وحبهم للحزب لم يتأثرا قط.
وهكذا بقي وضع الحزب على هذه الصورة (أي 1961 ـ 1963) من التمزُّق والجمود والغياب إلى أواسط الصيف الماضي (أي صيف 1963)، إذ عادَ من جديد ودخل في صفوفه عناصر فتيَّة وصديقة برهنت في أوقات كثيرة ومن خلال مواقف مختلفة عن وجودها وجهادها وإيمانها بالحزب وبذل التضحيات من أجله. ومنذ ذلك الحين، يمكننا أن نقول بأن دماً جديداً عاد يجري في عروق حزبنا في صيدا، كفيل بأن يدفعه خطوات واسعة إلى الأمام.
غير أننا لا نعنى بكلامنا هذا أنه لم يعد هناك من مشاكل داخلية أو خارجية خطيرة تواجه الحزب وتهدّده، بل إن هذه المشاكل أصبحت من نوع آخر ومن طبيعة مختلفة، مما يستدعي منا اهتماماً أكثر ومجابهة صريحة وواقعيَّة لمعالجتها وإيجاد الحلول لها.
ولإعطاء صورة واضحة ـ قدر ما هو ممكن ـ عن وضعنا الحزبي في صيدا، تشمل مختلف نشاطنا وعملنا والمشاكل السياسية والعقائدية التي تواجهنا، والمخاوف الكثيرة التي تسيطر على أذهاننا من جراء الغموض والتخبط اللذين يكتنفان عمل وسياسة وعقيدة حزبنا على الصعيد العربي والحلول التي ترتئيها منظمتنا ضمن حدود المعلومات المتوفرة لديها…. لا يسعنا من أجل ذلك، إلاّ أن نعالج ونتطرق إلى أهم النقاط التي وردت في رسالة ق.ق.م (القيادة القطرية الموقتة) مقسمين تقريرنا إلى خمس نقاط أساسية:
1 ـ الوضـع الإداري ـ التنظيمـي. 2 ـ الوضع المالي. 3 ـ التوسُّع والانتشار الحزبي. 4 ـ الوضع الثقافي. 5 ـ الواقع الحزبي، التنظيمي ـ الصيداوي.
أولاً: الوضع الإداري التنظيمي.
وكما أشرنا في كلامنا أعلاه، فإن معظم الرفاق الحزبيين المنتسبين حالياً في صيدا، هم من الرفاق الحزبيين الذين لم يمض على انتساب بعضهم إلى الحزب ستة أو سبعة أشهر على أكثر تعديل، والبعض الآخر أسابيع عدة، وهم:
الحزبيون العاملون، مصطفى دندشلي، محمد باشو، عفيف أبو زينب، خليل أمبريس، رامز الصلح، محمد بديع (حرفيّ) مصطفى ظافر (حرفيّ)، أحمد حريري (حرفيّ).
الحزبيون المتدربون: وفيق النوام، زياد لطفي، عدنان حبلي، غسان سكاف، سعد الدين حجازي، قاسم القادري، أحمد باشو، عبد القادر الروّاس (حرفيّ).
وقد جرى أخيراً تنظيمهم في ثلاث حلقات، مراعين في ذلك تجانسهم وتقاربهم الفكري والثقافي، والرفاق الحرفيين و"العمال" في حلقة خاصة بهم، وتكليف مسؤول عن كل حلقة. في حين أنه من الصعوبة بمكان الحديث عن بنية الحزب الاجتماعية في مدينة صيدا، وذلك بشكل تفصيلي ودقيق من الناحية العلمية، إذ إننا لا ندري إلى أيِّ مدى تصحَّ كلمة أو صفة "عمال" مثلاً على الذين نطلق عليهم عادة هذه التسمية. ومع ذلك، فإن استعمالنا لها، إنما المقصود منها فقط التوضيح والإشارة وإبراز الفوارق الاجتماعية لا أكثر.
أما ما يمكن تسميتهم بـ "العمال" أو "الحرفيين" في جهازنا الحزبي، فنسبتهم ضئيلة جداً في حزب اشتراكي من المفروض أن تكون دعامته الأساسيـة العمال والفلاحين. ولهذا، من غير شك، أسبابه الكامنة في الحزب نفسه في عقيدته وتركيبه الاجتماعي العام. فالحزب في تاريخه الطويل، لم يكن في سياسته وفي نظريته معبِّراً بوعي عن الجماهير الكادحة من العمال والفلاحين، وإن كان يؤثر فيها ويتجاوب معها في فترات متقطعة، إلا أنه كان يبقى ذلك سطحياً، غير عميق الجذور ويفتقد إلى الجهاز التنظيمـي القوي. فلا يلبث والحالة هذه أن يفتر وتنقطع هذه الصلة. فلم يقدِّم الحزب حلولاً عملية وواقعية لطبقـة العمال والفلاحين، تجعلهم يلتفـون حوله ولا يبتعدون عنه حتى في أشد الأزمات.
إن الصفة العامة التي يمكننا أن نطلقها على أكثر الرفاق الحزبيين الذين يتكون منهم جهازنا الحزبي في صيدا، هي أنهم ينتمون إلى الطبقة (أو الطبقات) الوسطى بغض النظر عن الفروقات الاجتماعية من حيث المنبت والنشأة الاجتماعية، كما أن هذه الصفة هي التي تُسمِّى غالباً أيضاً بالبرجوازية الصغيـرة، وتضمُّ في أغلبيتها، كما هو واضح أعلاه، إما أستـاذة أو طلاباً الذين لا يزالون يواصلون تحصيلهم العلمي، وفي الوقت نفسه يبحثون عن وظيفة، وإما موظفين في مؤسسات وبنوك، وإما أصحاب مهن حرَّة.
من هنا وفي هذا التركيب الاجتماعي الخاص لحزبنا، تكمن المشكلة الأساسية التي لأزمته منذ نشوئه حتى الآن. وهي بدورها تنعكس بصورة ظاهرة واضحة على عقيدته وسياسته في مختلف المراحل التي مرَّ بها. فالبرجوازي الصغير بطبيعته عادة وبحكم وسطه الاجتماعي غير مبال في الغالب وبشكل جدي وحازم إلى تغيير مجتمعه تغييراً جذرياً ـ لأنه بتكوينه محافظ ـ إذ إنه ليس له مصلحة كلية في ذلك، أو في أن يربط مصلحته الخاصة بمصلحة الجماهير الشعبية الكادحة، على وجه العموم.. من هنا، فهو يتصف عادة بالكسل السياسي وعدم الانضباط والالتزام وقِصَر النَّفَس النِّضالي. بالإضافة إلى ذلك، فإن اهتم بالعمل الجماهيري الثوري الحزبي، فإنما يكون ذلك لفترة قصيرة، ضيِّقة ومحدودة، أو لبلوغ مركز اجتماعي مرموق.
هذا من جهة ومن جهة أخرى، فإن تنظيمنا الحزبي في صيدا إنما يسير ببطء وعلى شكل غير مرضٍ. كما أن انضباطية الرفاق هنا ووعيهم للمسؤولية الملقاة على عاتقهم، تبدوان في كثير من الأحيان معدومة الأثر. لهذا أسابه أبرزها:
1 ـ عدم إمكانية وجود مقرّ أو مكان دائم للاجتماعات الحزبية ولحلقات الأنصار، مما يضمن الاستمرار والتواصل والمواظبة في العمل.
2 ـ التخبط السياسي العام والغموض الفكري والعقائدي الذي يعانيه الحزب على الصعيد القومي والوطني، مما يبعث اليأس والملل واللامبالاة في نفوس الرفاق.
3 ـ شعورهم بعدم وجود وفاعليـة القيـادات العليا، وفقدان الرابطـة الفكرية التي تجمعهم بها، وبالتالي عدم توضيح مواقف الحزب وتعليلها من بعض الأحداث التي تجري في الوطن العربـي.
4 ـ كما أن هناك عقبة أخرى يواجهها حزبنا في صيدا من حيث الالتزام الحرفي بالنظام الداخلي، وهي تتعلق بناحية تقسيم الرفاق إلى عاملين ومتدربين. فإن ذلك التقسيم ضروري وصحيح في الظروف العادية، إلاّ أنه في صيدا ينبغي أن يكون على مستوى آخر وحسب تقدير مختلف وبخاصة في هذا الظرف الاستثنائي بالذات وأن يكون على أساس النشاط والعمل والتفرُّغ الذاتي، بغض النظر عن كونه حزبياً عاملاً أم متدرِّباً.
بالإضافة إلى ما تقدم، يهمنا الآن أن نشير إلى الجوانب التالية:
1 ـ الاهتمام الكلي والتوجُّه إلى رفع واقع "العمال" والحرفيين من الناحية السياسيـة والفكرية، وذلك بفسح المجال لتثقيفهم ضمن برنامج ثقافـي يتناسب مع مستواهم ليستطيعـوا بالتالي أن يتبوَّأوا مراكز قيادية.
2 ـ جعل الرفاق يشعرون بكامل المسؤولية الحزبية، وذلك بتكليفهم تحمُّل المهام الحزبية…
3 ـ عدم التهاون مع أيِّ رفيق لا يبدي اهتماماً أو عدم مبالاة بالشؤون الحزبية.
ثانياً: إن المال ـ كما نعلم ـ عصب حسّاس لكل نشاط حزبي ولنموّ الحركات السياسية وانتشارها. فبدونه تصاب بالإرباك والتعثُّر في أحسن الحالات، أو تندفع بحثاً عنه في الارتماء في أحضان الانتهازية والانحراف وبيع النَّفْس إلى مَن يدفع. والحركات النضالية الحقيقية إنما هي التي تتمسك وتحافظ على استقلالها الذاتي، في كل الظروف والأحوال، وبالتالي هي التي تعتمد في الدرجة الأولى والأخيرة في ميزانيتها على ما تجبيه من أعضائها أو أصدقائها من اشتراكات أو تبرعات. ذلك أنه ليس هناك مَن يُعطي دون أن يفكر في أن يأخذ بالمقابل ولو بعد حين. بالإضافة إلى أن الاشتراك الشهري يشعر العضو الحزبي بالارتباط المادي بالحركة السياسية والفكرية التي ينضوي تحت لوائها. فالارتباط السياسي والفكري والعقائدي يقوى ويزداد بارتباط ماديّ من نوع آخر، خصوصاً إذا كان ذلك يدفعه إلى حرمانه ولو قليلاً جداً من بعض كمالياته.
هذه الناحية البديهيَّة كثيراً ما تكون خافية عن إدراك بعض الرفاق وعدم وعيهم لها، مما يدفعهم إلى التهاون والكسل واللامبالاة في تسديد ما يترتب عليهم من اشتراكات شهرية. وليس غريباً في هذه الحالة أن ترى بعض الرفاق لم يسدِّدوا اشتراكاتهم عن أشهر عديدة مضت.
وهذا ما هو حاصل في منظمتنا في صيدا. كثيرون هم الذين لم يعوا هذه الناحية، فيهملون ويتكاسلون في تسديد ما يترتب عليهم من اشتراكات، حتى إذا تجمَّعت على الواحد عدد من الأشهر لم يسدِّدوها، يشعر بالضيق تارة والتهرّب تارة أخرى في تسديدها دفعة واحدة. وهذا ما يستوجب على المسؤول المالي في المنظمة أن يلاحق الرفاق باستمرار ويحثهم على دفع اشتراكاتهم، مما ينتج عن ذلك تهرُّب من المسؤول المالي وكره له.
ومن ناحية أخرى، فإن تطبيق النِّسَب المئوية فاشلة بصورة عامة وشاملة. فليس هناك مَن يقول أو مَن يعلن صدقاً عن مدخوله الشهري، في حين أن البعض الآخر يبالغون جداً في تحمُّل مسؤولياتهم العائلية. والمقصود من ذلك طبعاً هو التهرُّب من تسديد ما يجب تسديده من اشتراكات. هذا لا يمنع طبعاً من وجود بعض الرفاق الذين يواظبـون في ما هو متوجب عليهـم ويسدِّدون ما عليهم قبل نهاية الشهر أو يقدِّمون تبرعات للحزب أو يبدون استعدادهم لتقديم تبرعاتهم للحزب بين فترة وأخرى.
وخطتنا المالية لهذه الدورة تقوم على:
1 ـ جمع كل ما هو متخلف من اشتراكات من بعض الرفاق.
2 ـ محاولة جمع الاشتراكات الشهرية بانتظام وعدم السماح بأي تأخر أو إهمال.
3 ـ جمع التبرعات من بعض الأصدقاء للحزب الذين لا يتأخرون أبداً عن مساعدته.
ثالثاً: التوسُّع والانتشار
لا شك في أن للأصدقاء والأنصار أهمية كبرى في العمل السياسي الجماهيري، التقدمي والثوري. فمنهم يتكون احتياطي "الجيش" الطليعي الذي يتحمَّل مسؤولية القيام بتنفيذ الثـورة الشعبيـة وتغيير أسس المجتمع المتخلف. إذ ليس من الممكن أن يدخل وينتمي إلى الحزب كل الجماهير، الشعبية منها والكادحة، أو أفراد الشعب، لأن ظروف ونفسية كل واحد منهم يختلف عن الآخر. من هنا كان اهتمام كل الأحزاب والحركات السياسية في كسب الأصدقاء والانصار. وهم بالتالي لا يقلون أهمية من حيث القوة السياسية والدعم المعنوي عن الأعضاء الحزبيين العاملين. فمن بينهم عادة ينتقي الحزب عناصره وأعضاءه الذين يكونون في الغالب أكثر اندفاعاً ونشاطاً وأكثر تقدمية من غيرهم. ليس شرطاً أيضاً أن يكون هؤلاء الأصدقاء والأنصار من فئة اجتماعية واحدة أو من ظروف وأوضاع متشابهة، بل ربما يكونون من بيئات وأوضاع مختلفة أشد الاختلاف، وإنما القاسم المشترك في تفكيرهم وسلوكهم السياسي هو تبنّيهم سياسة الحزب وتأييدهم لها في مختلف المراحل التي مرَ بها، ولأفكاره ومبادئه. وهذا ما يتطلب وعياً خاصاً من الحزب وإدراكاً صحيحاً للمراحل التي يجتازها وسيطرة تامة على أعضائه وجماهيره.
مرَّ حزبنا في صيدا بفترة كان فيها معزولاً عن الجماهير وأوساط الشعب المختلفة. وليس منا مَن يجهل الآن أسباب هذه العزلة بين مختلف طبقات الشعب. فذلك يعود في الدرجة الأولى إلى مرحلة معينة ومعروفة، وأوج الصراع وحدّته مع الناصرية ونظام عبد الناصر مما أدت إلى المشكلة التي تكاد تكون مزمنة، نعني بها: التخبط والغموض والارتجال والتقلُّب السياسي والفكري في مرحلة كان الحزب في أشد الحاجة إلى الرجوع إلى ذاته وواقعه ليكون واضحاً في سياسته وأسلوب عمله.
ومنذ إعادة تنظيمنا الحزبي من جديد في صيدا، وجَّهنا اهتمامنا الكلي وجهدنا لكسب أصدقاء وأنصار جدد. ولشد ما كانت دهشة الحزبيين هنا، هو هذا الإقبال الشديد من مختلف الفئات والأوساط للالتفاف حول الحزب. فالأصدقاء أنفسهم كانوا يتصلون بالحزبيين ويطلبون منهم تنظيمهم في حلقات. طبعاً هذا الحماس والاندفاع نحو الحزب في فترة ما، يفتر ويهمد في فترة أخرى، بقدر ما يتأثر الوضع الحزبي العام أو يصاب بأزمة حادة في بلد عربي آخر. ومن جهة أخرى فإن عدم وجود مكان للاجتماع يزيد في مشكلة تنظيمهم في حلقات تعقيداً، ويفقد الحزب هذه الرابطة بعناصر هو في أشد الحاجة إليها.
ومع ذلك، ومع كل العقبات التي تواجه جهازنا الحزبي من أجل التوسُّع والانتشار في صيدا، والتي نحاول ضمن إمكانياتنا المحدودة أن نتغلب عليها، فإننا استطعنا أن نقوم بتنظيم أصدقائنا في الحلقات التالية: الحلقة الطلابية، المسؤول عنها (مصطفى دندشلي) وتتكون من:
حلقة (1)، حلقة طلابية: إبراهيم عبود، حمزة عبود، أحمد إبراهيم، علي متَيْرك، حسن وهبي، وجميعهم من منطقة عدلون (جنوبي صيدا) ووجودهم في صيدا لمتابعة دراستهم الثانوية.. وهي حلقة نشيطة وتتكون من عناصر ممتازة وتجاوبهم مع الحزب كلي وجميعهم من الطبقة الوسطى الريفية النامية.
حلقة (2)، المسؤول عنها وفيق النوام وهي تتألف من: أحمد بلولي، رضا القطب، باسل باشو، عبد المنعم رحيِّل. وهي حلقة حديثة وسيتم عقد اجتماعها في القريب العاجل. وهم أيضاً ينتمون إلى الطبقة الوسطى.
حلقة (3)، المسؤول عنها……… وتتكون من: قاسم سهيل، عباس سهيل، غالب مكاري، نظير خالد، أكرم خالد، هشام عون، وجميعهم من منطقة ……… ووجودهم في صيدا لمتابعة دراستهم الثانوية. نشاطهم ……. وهم ينتمون إلى الطبقة الوسطى.
حلقة الحرفيين "والعمال": سوف نأتي على ذكر أسماء الأصدقاء والحرفيين و"العمال" في الاجتماع العام، بعد مناقشة وضعهم.
الجهاز الحزبي اللبناني والعلاقة بالجهاز الفلسطيني
كما أن تنظيم جهازنا بين الفلسطينيين يعطينا قوة ومجالاً لتنفيذ شعاراتنا بينهم.
هناك مشكلة لا بدّ من التطرق إليها في هذا المجال، وذلك لوضع الحلول المناسبة لها، وهي مشكلة العلاقة بين جهازنا الحزبي اللبناني بالجهاز الحزبي الفلسطيني. فمنذ استلام الحزب الحكم في سوريا والعراق، والقضية الفلسطينية تطرح سواءٌ من جانب الحزب أو من جهات سياسية أخرى، على الرأي العام العربي، لمناقشتها وطرح الحلول الجذرية لها. وقد رفع الحزب في مناسبات عديدة، سواءٌ في تصريحات المسؤولين الحزبيين الداخلية، أو على صفحات الجرائد، شعارات ومواقف ترسم الخطوط العامة العريضة لإيجاد حلّ جذري للقضية الفلسطينية. ولكننا لم نلمس حتى الآن عملياً الخطوات الضرورية لوضع هذه الشعارات موضع التنفيذ. ولا يسعنا الآن مناقشة ذلك لعدم وجود لدينا المعلومات الكافية والإيضاحات الضرورية التي يمكننا على أساسها إبداء وجهة نظرنا. إلا أن ما يهمنا هو إبداء بعض الملاحظات حول علاقة جهاز حزبنا بالحزبيين الفلسطينيين (ضمن جبهة تحرير فلسطين) أو ما تبقى لنا من الأصدقاء والأنصار الفلسطينيين.
إن في صيدا ما لا يقل عن عشرة أصدقاء لنا من الشباب الفلسطينيين. وهذا العدد يمكن أن يزداد فيما لو وجَّهنا جهدنا واهتمامنا لهم وجدَّدنا علاقاتنا بهم، خصوصاً في هذا الظرف بالذات. وبفضل اتجاه الحزب القومي، إذ يكثر الحديث عن تنظيم الفلسطينيين أنفسهم، ليتحملوا المسؤولية الأولى في إنقاذهم وتخليصهم، هم أنفسهم، من السيطرة الاستعمارية الصهيونية. ولا يمكننا أن نكسب المؤيدين لوجهة نظرنا ولأسلوبنا في العمل السياسي والعربي، إذا لم يكن لنا وجود يذكر بين الفلسطينيين وجهاز حزبي قائم بذاته، ينظم الشباب الفلسطيني ويضمهم إليه. ولفقدان هذه الصلة والرابطة التنظيمية بين الشباب الفلسطيني، دعا بعضهم إلى عدم الثقة بحزبنا وعدم المبالاة بقضيتهم الأساسية التي كانوا إلى وقت قريب من أشد المتحمسين إليها.
ونحن هنا لا ندري ماذا نفعل لعدم وجود شىء واضح من قِبَل القيادة القطرية: هل نتركهم وشأنهم، أم نضمهم إلى جهاز الأنصار؟… وإنه لا يسعنا في هذا النطاق إلاّ أن نبديَ رأينا لجهة تقصير القيادة القطرية في هذه الناحية المهمة والخطيرة. أما أن يكون هناك بعض العقبات، فلتوضّح لنا، كي نتخذ أسلوباً موقتاً ينظم هذه العلاقة بيننا، ريثما يوجد حل نهائي لها.
رابعاً: الوضع الثقافـي
إن معظم الرفاق الحزبيين الذين يتكون منهم جهازنا الحزبي في صيدا، كما ذكرنا ذلك سابقاً، هم من الرفاق المتدرِّبين، ولم يمض على وجودهم في الحزب مدة طويلة كافية ليعيشوا بعمق عقيدة الحزب ونظريته عملياً. ولكن، وهنا سؤال يطرح: ما هو المقياس النظري والعملي للحزب، الذي يجري على أساسه تحديد المستوى الثقافي للرفيق الحزبي، أو تحديد مَن هو الذي يتمتع بالصفات الحزبية؟.. وإننا في الواقع لا ندري كيف نستطيع أن نتحدث عن مستوى الرفاق الحزبيين الفكري والثقافي، إذا لم يكن للحزب نفسه نظرية واضحة تجيب عن شتى التساؤلات الفكرية والسياسية التي تتبادر إلى الأذهان؟… وإنه كيف يمكننا أن نتحدث عن ناحية فرعية: المستوى الثقافي للأعضاء، تاركين جانباً الأصل: وهو أيديولوجية الحزب.
ورغم ذلك كله، فإن مستوى الرفاق الثقافي هنا في صيدا لا بأس به نسبياً. واطلاعهم الثقافي ـ السياسي العام حسن إجمالاً. فهم معتمدون عملياً في ذلك على مجهودهم الشخصي وقراءاتهم الخاصة. فليس بمستغرب في هذه الحالة، إذا لم نجد الوحدة الفكرية تربطهم ولمسنا التناقضات النظرية في آرائهم، حتى أصبح من نافلة القول التحدث عن نظرية أو أيديولوجية لحزبنا، واحدة موحِّدة ومتكاملة في آن.
والكل يعرف، ولا فرق بين منطقة وأخرى، أن الحزب يعيش الآن في فراغ فكري ونظري رهيب، وبالتالي يهيم في تخبط سياسي واضح وتردُّد على الصعيد العملي التطبيقي، أقل ما يمكن أن يُقال في ذلك، أنه يهدِّد الحزب ككل في وجوده وكيانه وتنظيمه. لذلك لسنا بحاجة إلى التوقف طويلاً عند هذه الناحية، فالكل يشعر بهذه الأزمة الحزبية الداخلية وبوجودها وبثقلها على سلوكه السياسي اليومي. وليس بمستغرب أبداً، إذا كان هذا الغموض السياسي، الفكري والنظري، ينعكس كلياً وبصورة مخيفة على تفكير وثقافة الرفاق الحزبيين والأنصار: القاعدة الحزبية تنتظر، وهي تنتظر منذ وقت بعيد، حتى أصبحت حالتها، كحالة المؤمن الذي ينتظر الفرج يهبط عليه من السماء.
القيادات العليا، القطرية أو القومية، مربكة، ولا تفعل شيئاً، أو هكذا يخيَّل للجميع، من أجل الخروج من هذه الأزمة الداخلية وهي في الوقت نفسه لا تطلق العنان للقاعدة الحزبية أن تعمل. وكل من يحاول الخروج من هذه الحلقة المفرغة، باجتهاد شخصي أو بمشاركة مع الآخرين، أصبح اتهامه سهلاً وبسيطاً: بالانحراف أو "بالمروق".
هذا إذا نظرنا إلى المشكلة نظرة سطحية عامة، خارجية بعيدة عن التدقيق العملي، مع أنها، من وجهة نظرنا، أعمق بكثير مما قد يتصور البعض. ولا يمكن فهمها (هذه الأزمة الداخلية، النظرية والسياسية) إلا بالرجوع إلى الحزب نفسه، في تركيبه الاجتماعي وفي تاريخه الفكري منذ وجوده حتى الآن. ولسنا الآن، طبعاً، في مجال تقييم الحزب تاريخياً، فكرياً ونظرياً وتنظيمياً، من خلال سياسته المديدة ومواقفه القومية والوطنية.. وإنما الذي يهمنا فقط هو إبراز هذه الملاحظة السريعة والمهمة والذي يستطيع أن يتحقق منها كل متابع ومدقق يعود إلى كل ما كتبه حزب البعث.
إن حزبنا، حزب البعث العربي الاشتراكي، منذ نشوئه ومن خلال تطوره التاريخي وعلى الصعيد الفكري والسياسي، هو في الأساس حزب قومي عربي بكل ما تحمل هذه الكلمة من عمق وتقدمية. وهو مثالي في نظرتـه إلى الفرد والمجتمع والكون. وكل مَن يتصفَّح نشراته وكتبه، القديمة منها خصوصاً، يلمس ذلك بوضوح ظاهر. ولتدليل على ذلك، نذكر ما يرد عَرضاً في ذهننا، وهو بعض المقالات ذات العناوين التالية: فكرتنا مطلقة، فكرتنا حية، فكرتنا حيَّة مطلقة، ومن ثمَّ المقالات المجموعة في كتاب في سبيـل البعث. أما تبنّيه للاشتراكية ورفعه شعارها، فإنما كان ذلك كمضمون للفكر القومي الوحدوي ويجري تطبيقها في المجتمع العربي الموحَّد: من هنا، جاءت هذه التسمية: الاشتراكية العربية. ونتيجة للتفاعلات الداخلية الهائلة ولنموّ الحزب السياسي والاجتماعي السريع وللاحتكاك والانفتاح نحو الخارج ولتأثير الثورات الوطنية والتيارات الاشتراكية في آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية، نتيجة لكل ذلك ـ نقول ـ أخذ التيار الاشتراكي الذي اتخذ الصفة العلمية في الحزب، يزداد ويقوى وينمو من خلال تحسسه طريقه وممارساته النضالية، ومن خلال التساؤلات التي يطرحها واقعه وواقع المجتمع العربي. ويمكننا أن نقول إن الانطلاقة الأولى كانت محاضرة الدكتور منيف الرزّاز: لماذا الاشتراكية الآن؟
ولكن، وبصورة مختصرة، لم يستطع التيار الاشتراكي أن يوضِّح بعمق وشمول ما الذي يريد ولم يبيِّن أيضاً ويشرح بأسلوب علمي، جدي ورزين، أفكاره الاشتراكية العلمية التي ينادي بها. كما أن الاتجاه القومي العربي المسيطر في تاريخ الحزب، لم يستطع أن يدرك هذا التطور الواقع داخله وفي المجتمع العربي الذي يعيش فيه، ولم يحاول أن يتوافق وينسجم جذرياً وانقلابياً في الظروف الجديدة التي حدثت في الوطن العربي، ويتلاءم معها ويكون معبِّراً عنها.
وهكذا بقيت الحالة على هذه الصورة من التعايش بين الاتجاهيْن ـ إذا جاز التعبير ـ القومي والاشتراكي. وفي كل مرة يطرح الموضوع للنقاش، كان يتمّ تأجيل البتّ في هذه الأمور الملحَّة وتحديد موقف واضح من التطورات الداخلية والأحداث الضاغطة، نتيجة للمعارك السياسية التي كان يخوضها الحزب، والتي كانت تستدعي منه التماسك ووحدة الصف، خوفاً من دخول خصومه وتمزيقه من الداخل.
ومن جهة أخرى، لا بد هنا من الإشارة إلى ضعف القيادات العليا وتردُّدها وتناقضاتها وترك الأمور الداخلية تجري على غاربها داخل الحزب، دون اتخاذ موقف حازم منها، قبل وعند وبُعَيْد استلام الحزب الحكم في بلدَيْن عربيَّيْن: العراق وسوريا، فهو أولاً ليس لديه أيُّ مخطط عملي أو برنامج سياسي ينفِّذه أو يباشر في تنفيذه، حتى إنه قد خُيِّل أن الحكم قد فُرض عليه دون أن يكون مستعداً له، أو أن الحكم كان غاية في ذاته وليس وسيلة لتطبيق مبادئه وتنفيذ برنامجه.
وفي هذا السياق العام، فإن التناقضات بين التيارَيْن (القومي والاشتراكي) كان قد وصل إلى الذُّروة. فلا بدَّ والحالة هذه من الانفجار داخلياً، أو، وهذا ما حصل، من اندفاع وتسرُّع الحزب في التحرُّك للتنفيذ، أو تهديده بالانهيار والزوال. فكان الحكم هو المرجع الأول والأخير للخروج من هذا الصراع الداخلي. ولتبنّي سياسة وخطة للعمل يلتزم بها الحزب ككل ديمقراطياً، وهي القاعدة متمثلة بمندوبين موفدين ومنتخبين ديمقراطياً إلى المؤتمر الحزبي.
من هنا، وفي هذا السياق العام، فقد استطاع المؤتمر القومي السادس المنعقد في تشرين الأول 1963، أن يحلّ هذا التناقض العام وأن يجد حلاً جذرياً لهذا الصراع، ذلك أنه في تلك الظروف السائدة آنذاك، لم يعد المجال متسعاً للتأجيل والتسويف وإرجاء إيجاد حلول للمشاكل الداخلية لنظامَيْ الحكم في العراق وسوريا إلى آجال لاحقة. وكانت قرارات المؤتمر وتوصياته بعد ما يقرب من شهر من اجتماعات متواصلة، تعبيراً عن واقع الحزب القومي الحالي وجواباً عن كل التساؤلات الكثيرة والعالقة والشائكة التي كان يطرحها الرفاق والقيادات في القطرين: العراق وسوريا. ولا نذيع سرّاً إذا قلنا إن قرارات المؤتمر القومي السادس كانت قد قوبلت بارتياح وتفاؤل كبيريْن من قبل القيادات والقواعد اليسارية في الحزب وزادت الثقة في نفوس الحزبيين.
ولكن القرارات الثورية إنما هي بحاجة إلى قيادات ثورية لتطبيقها وإخراجها إلى حيِّز التنفيذ. ولا يخطر في بالنا أن الاتجاه القومي الذي خسر الجولة الأولى سوف يُلقى سلاحه ويسلِّم للطريقة الديمقراطية. التي جرى عليها المؤتمر السادس وانتهى إليها، بل حصل نوع من التحوُّل في أسلوبه وعمله، يمكننا معه أن نطلق عليه صفة: الاتجاه اليميني المحافظ وهو يتحيَّن الفرص، بما له من نفوذ باق في قيادات الحزب العليا على الصعيد القومي، لوقف عملية التطور ومنع إنزال القرارات إلى صفوف القاعدة والمباشرة الفعلية في تنفيذها.
ففي هذا السياق العام، لا يمكننا أن نفهم نكسة الحزب في العراق (في تشرين 1963) والردَّة الرجعية التي ابتدأت في داخل قيادته القطرية، ومن ثمَّ انتهت بعزله وأخيراً بضربه، لا يمكننا أن نفهم ذلك إلاّ على أساس هذا الصراع والتناقش الداخلي بين اليمين القومي واليسار الاشتراكي في الحزب.
في الحقيقة، إن هزيمة الحزب في العراق وسقوطه لم تقيَّم بعد ولم تحدَّد المسؤوليات رسمياً. كثيرون من الرفاق لم يستطيعوا أن يستوعبوا وأن يفهموا أسبابها الحقيقية ودوافعها الجوهرية بشكل علميّ، ليروا بوضوح ما حدث وليتجنَّبوا في المستقبل إعادتها مرة أخرى.
ولكننا نستطيع أن نؤكد صحة تحليلنا، استناداً إلى بيان صادر عن حزب البعث العربي الاشتراكي يوم 8 شباط 1964. ومما جاء فيه: "أن الحزب قاد ثورة الجماهير الكادحة في الرابع عشر من رمضان، (8 شباط 1963). إلا أن عناصر الانحراف اليمني في الحزب بالتعاون مع جميع الخونة والمغامرين والارتكاز إلى قوى الإقطاع والبرجوازية الرجعية بمختلف فصائلها، قد عملت جميعها منذ الأيام الأولى للثورة على وضع العراقيل بوجهها وإيجاد السبل للحيلولة دون انطلاقتها وإجهاضها في مهدها".
ثم يقول في مكان آخر: "لقد عملت عناصر الانحراف اليميني ـ داخل الحزب وخارجه ـ وأغلبها ممَّن يتربعون اليوم على كراسي الحكم، على الوقوف بوجه الجماهير ومصالحها المشروعة…". ويتابع التقرير: "إن المؤامرة الرجعية في 18 تشرين الثاني (1963) التي قادتها عناصر الانحراف والتآمر على ثورة الجماهير الاشتراكية، لم يكن مبعثها الأخطاء التي وقعت بها الثورة، وإنما الدفاع عن المصالح البرجوازية والإقطاعية المهدَّدة وإجهاض القرارات الثورية التي أصدرها المؤتمر القومي السادس للحزب في إجراء التحويل الاشتراكي وتحقيق مصالح الجماهير الكادحة. فلقد جاءت المؤامرة بعد ثلاثة أسابيع من صدور تلك القرارات، مما يوضِّح بكل جلاء حقيقة الدوافع التي تكمن خلفها".
وفي مذكرة أخرى في غاية الأهميـة صادرة عن "لجنـة تنظيم القطر في العراق" في كانون الثاني 1964، نقرأ التحليل التالي وتقييم أزمة الحزب الحقيقية في العراق من خلال التركيز على بعض الفقرات الخاصة بأسباب الانتكاسة التي وقعت في القطر العراقي. وبعد أن تشير المذكرة في صفحة (11) إلى أن البرجوازية لا تُلقي سلاحها وتستسلم بسهولة، بل تحاول أن تجد لها موطئ قدم في حزب الثورة الحاكم، فهـي تضيـف: "وبالمقابـل فإن اليمين في داخل الحزب ـ أي حزب البعث ـ إذ يعمل جهده لإخضاع الحزب لمنطقه المناقض لمصالح الجماهير الكادحة، فإنه يجد في قوة ومصالح البرجوازية والإقطاع مرتكزات أساسية لدعم تياره. ولقد أكدت مؤامرة 11 من تشرين هذه الحقيقة وأظهرتها بما لا يدع مجالاً للشك والالتباس حيث اتجه اليمين بكل قوته، بعد أن فشل في خداع الحزب وجرِّه إلى مخططه، للالتقاء بالقوى اليمينية خارج الحزب. فبدأ يتآمر معها لضرب اتجاهه الاشتراكي والسيطرة عليه بالقوة واستخدامه أداة لتحقيـق أغراضه، وانتهت بمؤامرة 11 تشريـن، حين تمَّ احتلال المؤتمر القطـري للحزب وفُرضت عليه قيادة قطرية جديدة".
وتتابع المذكرة، وهي تتهم في مكان آخر دون ذكر الأسماء وتلميحاً واضحاً، القيادة القومية بتردّدها، إذ تقول: "لقد كان من الممكن أن تحقق الانتفاضة (انتفاضة 13 تشرين) كل أهدافها، لو استمرت في خطِّها باتجاه تعزيز مواقعها وتطوير انتصاراتها واستنفار جماهير الشعب للدفاع عن مصالحها المهدَّدة. غير أن عقلية التسويات الوسطية وروح التَّردُّد التي أدَّت إلى تجميد الانتفاضة والقبول بمبدأ مفاوضة اليمين وإعطائه الفرصة لتنظيم صفوفه وتجميع قواه وقوى حلفائه، ووجَّه ضربة يوم الثامن عشر من تشرين، مسلماً الحكم بأيدي عناصر رجعية فاشستية، قانعاً ببعض مناصب وزارية، تسحب منه يوماً بعد يوم".
وتتابع الحوادث وتلاحقها لم تبق عند هذا الحدّ، بل انتقلت هذه المرة إلى ميدان آخر، مكانه سوريا، حيث تنشّط اليمين وحاول أن يدخل جولته الثانية. فنتائج المؤتمر القطري السوري، لا يمكن فهمها إلا على هذا الأساس وأنها ردَّة يمينية محافظة داخل الحزب في سوريا، لعرقلة التحويل الاشتراكي وتنفيذ قرارات المؤتمر القومي السادس. من أجل ذلك، قوبلت نتائجه من قِبَل الرفاق الحزبيين والأنصار بسخط وعدم رضى، مما قد يؤدي حتماً إلى فقدان الثقة وقتل الروح الثورية في نفوسهم.
هذا من جهة ومن جهة أخرى، لا يسعنا في هذا المجال إلاّ أن نبديَ بعض الملاحظات حول العلاقة بين القاعدة والقيادة. هناك رأي يؤكد أن المسؤولية الأولى والأخيرة في هذا التخبط الداخلي والغموض السياسي إنما يقع على عاتق القيادة، وأن القيادة أو القيادات ما هي إلاّ صورة مكبَّرة عن وضع القاعدة وحالتها النفسية والفكرية، وأن القاعدة لو كانت تتصف بالحيوية والوعي لانتخبت بواسطة المؤتمرات الدورية قيادات على مستوى القضية. وبالمقابل، هناك رأي مضاد وكثير الانتشار بين الرفاق الحزبيين في القاعدة يُلقي المسؤولية كلياً على كاهل القيادة والقيادة القومية على وجه التحديد، ويصفها بالضعف والتقصير والغموض وعدم المقدرة أو الجرأة على التنفيذ ما يتخذ من قرارات. وإننا نعتقد أن كلاً من الرأيين مبالغ فيه. وليس المقصود من ذلك سوى التهرُّب من المسؤولية وإلقائها على الجهات الأخرى. أو بمعنى آخر، إن كلاً من القاعدة والقيادة مسؤول كل ضمن حدوده وصلاحياته. وإنما المسؤولية الأولى تقع من غير شك على عاتق القيادة، لوجود الصلاحيات الكبرى واتخاذ القرارات الأساسية بين يديها. ولكنها كثيراً في حالة حزبنا ما تتقاعس عن سدّ الثغرات من سياسية وفكرية وتنظيمية، التي تدخل جميعها ضمن مسؤولياتها. وقد برهنت القيادة في مراحل ومناسبات عديدة عدم جدارتها ومقدرتها، بغض النَّظر عن احترام الرفاق الأعضاء الذين تتكون منهم. ونتيجة ذلك، قد ساد فقدان السيطرة على القاعدة وتوجيهها، مما أدى إلى هيمنة جوٌّ من التعثُّر والتخبط والضياع، وسمح للآراء الشخصية والمواقف الفردية أن تظهر والتكتلات والأجنحة أن تبرز والاجتهادات الأيديولوجية أن تعبِّر عن نفسها.
وليس أدل على ذلك من هذا الحدث العربي الهام الذي جمع في القاهرة ملوك ورؤساء الدول العربية، فإنه إلى الآن لم يصدر عن القيادة القطرية أيُّ توضيح أو بيان خاص بالأعضاء، تشرح فيه وجهة نظر الحزب ورأيها رسمياً في هذا المؤتمر. وما هي سياسة هذا المؤتمر بالنسبة إلى تحويل مجرى نهر الأردن. وما هو تكتيكه وخطة عمله في حالة التحويل، وبالتالي تحديد مسؤولية الحزب، قيادة وقاعدة، تجاه هذا الأمر.
هذا بشكل عام وجهة نظرنا في الحالة العامة التي يوجد فيها حزبنا في هذا الظرف الحاضر، وفي المشاكل والأزمات التي عانى ولا يزال يعاني منها الشئ الكثير، عرضناها بكل صراحة ووضوح، ضمن المعلومات المتوافرة لدينا، قاصدين من وراء ذلك خدمة الحزب وتحمُّل مسؤولياتنا كاملة والمشاركـة الجديـة ـ ضمن إمكاناتنا ـ لتجاوز حزبنا هذه الأزمة منتصراً، قوياً، وليزداد التفاف الجماهير الكادحة الثورية حوله.
وخطتنا العملية ضمن برنامجنا الثقافي لهذه الدورة والخاص بالرفاق والأنصار، تتلخص في ثلاثة مواضيع كبرى:
1 ـ الناحية السياسية
أ ـ الأحزاب والاختلافات الموضوعية في نشوئها وتطورها. مفهوم الأحزاب الثورية ومرتكزاتها.
ب ـ الدولة: نشؤوها وتطوّرها. علاقة الحزب الثوري بالدولة.
ج ـ الديمقراطية: مفهومها التقليدي والثوري.
2 ـ الناحية الاقتصادية
أهميـة الاقتصـاد والبنية الاقتصاديـة في تطور المجتمع، ونشوئه وأثره في البنية السياسيـة.
3 ـ الناحية الاجتماعية
أ ـ الطبقات الاجتماعية: مفهومها ونشؤوها
ب ـ المشاكل الاجتماعية التي تواجه البلاد المتخلفة، ومن جملتها البلاد العربية
ج ـ محاولة شرح بعض التعابير والمفاهيم الشائعة: إشتراكية، برجوازية، بروقراطية، دكتاتورية، فاشستية، إلخ…
الواقع الصيداوي
إن صيدا منطقة زراعية، تعتمد في نشاطها الاقتصادي، في الدرجة الأولى، على الحمضيات. والسوق الطبيعي والحيوي بالنسبة إلى تصريف إنتاجها هو سوريا. من أجل ذلك، فإن مصلحة صيدا الاقتصادية ترتبط إلى حد كبير بالوضع السياسي العام في سوريا، باستقراره من جهة، وبانفتاحه ووضوحه في علاقاته مع لبنان من جهة أخرى. وإن استمرار الحركة الاقتصادية بين لبنان وسوريا له مردوده المادي وأثره الاجتماعي في مختلف طبقات الشعب الصيداوي بصورة عامة: من المالك إلى "الفاعل" (الشغيل)، مروراً بالضامن والمستأجر وأصحاب الشاحنات والسائقين والعمال.
لهذا فإن سياسة سوريا الاقتصادية وعلاقاتها بلبنان، تستطيع بوضوحها وتقديرها للظروف والأوضاع المحيطة بها، أن تكسب تأييد أكبر عدد ممكن من فئات مختلفة من الشعب من جهة، وأن يكون بيدها ورقة تضغط بواسطتها على سياسة لبنان العامة، فيما لو حاولت هذه السياسة اللبنانية أن تنحرف وتشكل ضغطاً على سوريا من جهة أخرى. فلا نندهش حين نسمع في لبنان هجوماً على سياسة عبد الناصر تجاه سوريا في بعض الأحيان، أو عندما تهدِّد سوريا بقطع العلاقات مع لبنان أو تأييداً وتصريحاً بالدعم للأوضاع هناك.
أما الوضع السياسي بصورة عامة في صيدا، فهو يتَّصف بالغموض وعدم الوضوح: التيار الشعبي من غير شك ناصري، ولكنه ناصري بدون وعي سياسي أو قومي، وتحت تأثير الانفعالات العاطفية. كثيرون بأقوالهم ناصريون، وإنما تصرفاتهم وارتباطاتهم السياسية المحلية هم مناوئون للناصرية ولسياسة عبد الناصر في لبنان.
وإذا أردنا أن نقدِّم صورة عن التكتلات السياسية المحليـة، فإنه يمكننـا أن نقسِّمها إلى اتجاهين كبيرين: أحدهما يتزعمه النائب الحالي معروف سعد، والاتجاه السياسي الآخر يتزعمه الدكتور نزيه البزري.. وكل اتجاه يحوي تناقضاً وخليطاً متنافراً من المصالح. وكل منهما له في ذلك دعائمه ومرتكزاتـه الشعبيـة التي يقوم عليها في عملـه السياسي المحلـي. فالاتجاه الذي يتزعمه الدكتور نزيه البزري يضمُّ أصحاب المصالح المحلية الكبرى من فئات برجوازية تجارية وزراعية وعائلية، مضافاً إلى ذلك قاعدة شعبية فقيرة. وهذه القاعدة الشعبية الفقيرة إما متعلقة عاطفياً بشخص نزيه البزري كطبيب، وإما مصلحياً ومؤثراً عليها بحكم وضعها المادي وظروف عملها..
والاتجاه الثاني، فمع وجود بعض أصحاب المصالح الكبرى التي لا تقل أهمية وتأثيراً عن الأول، إلا أن الصفة العامة لهذا الاتجاه هي الصفة الشعبية التي تضم مختلف الفئات الفقيرة. وسبب ذلك، نشأة معروف سعد الوطنية ووضعه الشعبي الخاص، مضافاً إلى ذلك سياسته الناصرية القومية التي تضرب على وتر عاطفي قومي شعبي حساس. فهو على الصعيد الصيداوي المحلي: ناصري، مسلم، مؤمن، وعلى الصعيد اللبناني شهابي (نسبة إلى رئيس الجمهورية اللواء فؤاد شهاب). وهذا الاتجاه لا يترك مناسبة إلاّ ويسبِّح بحمد الأمير اللواء وشكره، وعلى الصعيد العالمي ينتمي إلى جمعية أنصار السلم العالمي ويدعم الحزب الشيوعي اللبناني والاتحاد السوفياتي في سياسته الدولية والعربية……..
___________________________________________________________________________________ (*) ـ يبدو أن هذا التقرير كان قد كُتب صيف ـ خريف عام 1964 تقريباً، بعد المؤتمر القومي السادس (أكتوبر 1963) وخروج مجموعة من البعثيين من الحزب تحت اسم: حزب البعث العربي الاشتراكي اليساري…