مرور 23 سنة على وفاة الرئيس عبد الناصر
المركـز الثقافـي
للبحوث والتوثيق
صيـدا
*افتتاح الموســم الثقافـي لهـذا الفصـل
مع إقامة معرض المركز الثاني لكتاب الفكر العربي
وبمناسبة مرور ثلاث وعشرين سنة على وفاة
الزعيم العربي الراحل الرئيس عبدالناصر
الزمـان: الخامسـة من مسـاء الإربعـاء 29 أيلـول 1993
المكـان: فـي قاعــة محاضـرات المركـز.
كلمـة التقديـم
د. مصطفى دندشلي.
أرحب بالأصدقاء وبجمهورنا الكريم باسم المركز الثقافي للبحوث والتوثيق، وباسمي الشخصي. ويسرّنا أن نلتقي مجدداً مع افتتاح موسمنا الثقافي لهذا الفصل، ومعاودة نشاطنا الثقافي، بعد استراحة الصيف. ولقد أحببنا أن يكون مع افتتاح معرض الكتاب العربي الثاني، مع بعض التأخير، وهو معرض متخصص بالفكر العربي، كما يدل على ذلك عنوانه وأهم ما صدر في لبنان حول هذا الموضوع....
وهنا، اسمحوا لي أن أنوّه وأن أشير الى أهمية مركز دراسات الوحدة العربية في لبنان في هذا المجال... وتعاوننا الكلي معه في هذا المعرض كما في غيره من المعارض السابقة، إنما المقصود من ذلك الإشارة، الإشارة الرمزية، لما هناك من توافق كلي في الفكر، الفكر النقدي، ومنهجية العمل والطموح المستقبلي، كل ذلك من أجل مراجعة تجربتنا، تجربتنا القومية الماضية، مراجعة نقدية، علمية، حوارية، منفتحة على كل التيارات الفكرية دون استثناء...
ولكن الفارق بيننا وبين مركز دراسات الوحدة العربية هو أن مجاله هو المجال القومي العربي الواسع والوطن العربي الكبير وإمكانياته أكبر وأشمل وأهم، في حين أننا نحن، بكثير من التواضع ولضعف الإمكانيات، نحصر عملنا واهتماماتنا الثقافية والفكرية والوطنية بلبنان انطلاقاً من الجنوب اللبناني وصيدا بالذات، وصولاً إلى القضايا العربية والعالمية العامة.
نحن نعتقد بأهمية مراجعة التجربة، تجربتنا العروبية العامة، وذلك بالعودة إلى الواقع. فالمعرفة الحقيقية هي المعرفة التي تنطلق من الواقع من أجل تغييره نحو الأفضل ولمصلحة الإنسان...
هذا، وإننا أحببنا أيضاً أن نفتتح موسمنا الثقافي لهذا الفصل ومعرض الكتاب العربي الثاني بمناسبة عربية جليلة، تحمل من المشاعر والتفكير والتأمل الشيء الكثير، أعني بها مناسبة مرور ثلاث وعشرين سنة على وفاة الزعيم الراحل الرئيس جمال عبدالناصر... فهذه الإشارة من جهتنا هي إشارة أيضاً رمزية، إشارة وفاء وتقدير عميق لإنسان قائد أعطى، بكليته، بعقله وقلبه وضميره، أصاب أم أخطأ، إنما أعطى أحسن ما يمكن أن يعطيه، مستلهماً في كل ذلك مصالح شعبه ووطنه ومصالح وطموحات الشعب العربي من مشرقه إلى مغربه.
النــدوة
الأربعاء: السادسة مساءً
فــي: 29/9/1993
كلمـة التقديـم: د.مصطفـى دندشلـي.
أيها الأخوة الأعزاء،
يسرّنا أن نفتتح موسمنا الثقافي لهذا الفصل بسلسلة من الندوات والمحاضرات، لها علاقة بحدث خطير وتاريخي ومصيري وسيكون له انعكاسات بالغة التأثير والعمق والشمول في حياتنا المجتمعية، في حياتنا السياسية والثقافية، بل وإننا نستطيع أن نقول بأن الاتفاق الذي وُقِّع بين منظمة التحرير الفلسطينية بقياداتها الرسمية وبين رئيس وزراء الدولة الإسرائيلية، سيكون لهذا الحدث انعطاف عميق، بل ربما يكون تاريخاً يؤرّخ لما قبل هذا الحدث ولما بعده.
ويخطر ببالي في هذا السياق بأنه قد يكون له من الأهمية التاريخية، أو حتى الخطورة ما كان لحملة نابليون بونابرت على مصر في أواخر القرن الثامن عشر (1798).. فكانت هذه الحملة البونابرتية الاجتياحية للمنطقة عن طريق مصر، قد كوّنت منعطفاً تاريخياً خطيراً في حياتنا.
فأعتقد بأن التوقيع على هذه الاتفاقية ينهي مرحلة سياسية وذهنية فكرية وسلوكية وحضارية، وتبتدئ مرحلة جديدة بأبعاد جديدة ورؤى جديدة.. وقد تكون هذه المرحلة الجديدة أكثر خطورة وأشد صعوبة وعنفاً، حضارياً، ثقافياً وسياسياً، من المرحلة السابقة.
فقد انتهت المعركة العسكرية النضالية المباشرة والآن برأيي تبتدئ معركة من نوعية أخرى معركة حضارية بين "الحضارة العبرية التوراتية وبين الحضارة العربية الإسلامية"، معركة فكرية أيديولوجية سياسية شاملة: نكون أو لا نكون..
لذلك نحن في المركز الثقافي سننظّم سلسلة من الندوات والمحاضرات حول هذا الحدث التاريخي وانعكاساته في مجتمعنا اللبناني والعربي على الصعيد الاقتصادي والسياسي والثقافي، إلخ... وغداً سوف يحاضر هنا في هذه القاعة الدكتور جورج ديب حول "إتفاقية غزة أريحا وانعكاسها السياسي على لبنان والبلاد العربية".. ويوم السبت مع الأستاذ جهاد الزين والدكتور ساسين عسّاف.
واليوم، نبتدئ هذه السلسلة من المحاضرات مع صديقنا سماحة السيّد محمد حسن الأمين، لمعالجة موضوع أعتقد بأنه من أخطر أو لا يقل خطورة عن المواضيع الأخرى، المواضيع الاقتصادية أو السياسية، وهو موضوع الثقافة. فالسؤال المطروح: ما هو تأثير توقيع الاتفاقية على أوضاعنا الثقافية بشكل عام، في ما يتعلق بالتربية والتعليم ومناهج الجامعات، والصحافة والإعلام والحركة الفنية والأدبية والفكرية، بل وأوضاعنا ومعتقداتنا الدينية. هذا الموضوع موضوع كبير وسنحاول أن نعالجه في ندواتنا المقبلة... الآن سأترك الحديث لسماحة السيّد محمد حسن الأمين، فليتفضّل...
* أيهـا الأخـوة الأعـزاء،
أرحب بكم جميعاً، كما أرحب بالمحاضرَين الكريمَين. وإنني في هذه المناسبة أشكر الأصدقاء الذين ألحّوا علينا إلحاحاً كبيراً بإقامة هذه الندوة القومية العربية في مناسبة ذكرى رحيل الزعيم الكبير جمال عبد الناصر. فلا يُعقل ، برأيهم ورأيي، وليس من الوفاء السياسي والقومي أن تمر هذه الذكرى دون الإشارة إليها والتذكير بها واستخلاص العِبر السياسية والقومية منها في مدينة صيدا وهي المدينة التي كانت في وقتٍ من الأوقات ولربما لا تزال في الأعماق، مدينةً ناصرية، مدينةً عروبية نهضوية: هويةً وانتماءً ووجوداً.
ثمانٍ وعشرون عاماً يكون الآن قد مضى على غياب جمال عبدالناصر، ولقد كان من المفترض أن نعقد هذه الندوة في أواخر الشهر الماضي، في تلك الذكرى، ذكرى الوفاة المبكرة والأليمة على الصعيد السياسي والعربي، ولكن ظروف الاستحقاق الرئاسي والانتخابات الرئاسية التي أعقبته حتَّمت علينا تأخير ذلك، إذ إنه لم تكن الأجواء مناسبة لطرح هذا الموضوع، وهو موضوع بهذه الأهمية القومية والفكرية والسياسية والاجتماعية في آنٍ معاً. فأن يأتيَ طرحه متأخراً بعض الشيء خيرٌ من أن لا يأتي أبداً.
في الحقيقة وعلى الرغم من مضي ما يقرب من ثلاثة عقود، لا يزال حتى الآن الوهج السياسي والفكر القومي، وهج عبدالناصر كقائدٍ وزعيمٍ عربي، لايزال هذا الوهج برّاقاً مضيئاً ومحدِّداً المرحلة التاريخية ما قبل عبدالناصر وثورة يوليو الناصرية وما بعدها.
فمنذ ربيع عام 1955 مع عقد صفقة الأسلحة المصرية التشيكية ، وتموز 1956 مع تأميم قناة السويس وما أعقبه من اعتداء ثلاثي على مصر، وشتاء 1958 وقيام الوحدة السورية المصرية، مع هذه الأحداث التاريخية وغيرها أيضاً وأيضاً، كانت الظروف والأجواء العامة آنذاك مهيأة لدخول الجماهير العربية مسرح التاريخ السياسي العربي الحديث: الانتفاضات الجماهيرية في كل مكانٍ ومنطقةٍ وبلدٍ في الوطن العربي الكبير، حتى وصلت إلى القارات الثلاث، فحركّت جماهير وشعوب أفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا مع قيام منظمة الحياد الإيجابي على الصعيد العالمي بقيادة نهرو وتيتو وجمال عبدالناصر.
فكانت الجماهير الثائرة والانتفاضات الشعبية الهادفة إلى الاستقلال والحرية والكرامة الإنسانية في كل مكانٍ: من العراق الهاشمي إلى الأردن الملكي، إلى فلسطين المحتلة، مروراً بجماهير سوريا ولبنان وليبيا ووصولاً إلى نجاح الثورة الجزائرية في المغرب العربي الكبير، والثورة الكوبية بقيادة كاسترو وتشي غيفارا، فكانت تلك الأحداث مشهداً من المشاهد الثورية التاريخية والتي قلّ نظيرها في التاريخ السياسي الحديث، بهذا الشمول العام وبهذا الاتساع الكبير وبهذا العمق التاريخي البعيد.
أيها الأخوة الأعزاء، أودّ هنا أن أتوقف قليلاً لأُشير إلى أن الأجيال العربية التي عاشت تلك الأحداث وأشير بالمناسبة إلى جيلي، جيل الخمسينات والستينات الذي هو أيضاً عاش تلك الأحداث بعمقٍ وبوعيٍ وبحماسٍ واندفاعٍ رومانسي ثوري يذكرنا ذلك كله ومن جميع الوجوه بالمراحل الثورية الكبرى في التاريخ العالمي... فقد كان جيلي هو جيل الطموح الوطني الاستقلالي والوحدوي، جيل الأمل وإرهاصات النهضة العربية الكبرى.
لقد تحدَّدت أمراضنا الاجتماعية آنذاك في هذا الثالوث الجرثومي الخطير: الفقر والجهل والمرض، ومعه الاستغلال الاقتصادي والسياسي، وتبلورت أهدافنا وتحددت آنذاك في الوحدة والحرية والاشتراكية. أما أعداؤنا فقد تعينوا هم أيضاً في هذه الأقانيم الثلاثة: الرجعية العربية، والصهيونية العالمية، والأمبريالية الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية.
... ولكن لم تستمر هذه النهضة القومية العربية الشاملة في صعودها. فقد تتابعت وتلاحقت بعد هذه المرحلة التاريخية النهضوية المضيئة، تتالت الهزائم والانهيارات الوطنية والسياسية على الصعيد القومي، كما على الصعيد القطري، إلى أن وصلنا إلى الانحدار الكبير والهوة السحيقة وإلى حالةٍ من العجز والإحباط وفقدان الأمل، حتى أنني قد أطلقت على هذه المرحلة التي نعيش أو بالأحرى على جيلي: جيل السقوط، جيل الهزائم، جيل الخيبة.
لماذا؟ ذلك أن الرجعية العربية قد عادت وبشراسةٍ كاسرة وفي كل مكانٍ تقريباً، عادت أقوى مما كانت عليه في السابق. وإسرائيل ومعها الصهيونية العالمية قد استطاعتا أن تفرضا قوتهما الباغية وجبروتهما القاهر في كل مكان حتى أصبحت إسرائيل كقوةٍ استيطانيةٍ وكجزءٍ من سياسة الأمبريالية العالمية في منطقتنا التي تسمّى الآن "منطقة الشرق الأوسط"، أصبحت دولة معترفاً بها من الأنظمة العربية جميعها. أما الأمبريالية الأميركية بعد أن كانت عدونا الأكبر فقد أصبحت هي الراعي الأكبر لمصالحنا ولمصالحها على حد سواء. فهي المَحْكمة العليا، صاحبة القرار الأول والأخير سياسياً اقتصادياً إستراتيجياً للبتِّ في مصالحنا ومصيرنا وشؤوننا الداخلية والإقليمية والدولية.
لذلك يُطرح هنا السؤال علينا وبإلحاح كبير: لماذا وصلنا إلى هذه الحالة من السقوط والتراجع؟!... وأين هي الآن في الواقع تلك الجماهير الثائرة الغاضبة الطموحة التي كانت ساحتها السياسية تمتد من المحيط الهادرِ إلى الخليج الثائر؟!.. هذا هو السؤال المطروح علينا في هذه الأمسية لمناقشته بكل صراحة ووضوح وحرية.