كلمة المناضل - عددان - نظرة معاصرة لمعركة تاريخية
كلمة المناضل العددان 208ـ 209 أيار ـ حزيران 1987
نظرة معاصرة لمعركة تاريخية
الدكتور . فواز الصياغ
رئيس هيئـة التحرير
في مطلع شهر تموز هذا العام تمر بالأمة العربية ذكرى مرور ثمانمئة عام على معركة حطين العظيمة تلك المعركة التي كانت بداية تحول هام في تاريخ الوطن العربي والعالم المعروف آنذاك ، فهي رغم أنها لم تحرر الأرض العربية من الغزوة الصليبية لكنها كانت بداية انحسار لتلك الغزوة وبداية التراجع الصليبي في المنطقة العربية عامة وفلسطين خاصة .
وكما هو حال الوطن العربي اليوم وبعد مرور أربعين عاماً على الغزوة الصهيونية وعشرين عاماً على احتلال كامل فلسطين وأجزاء أخرى من الوطن العربي كان حال الأمة العربية قبل ثمانمئة عام من الانقسام والتضارب والولايات المتناحرة والتشتت القومي الذي يبعث على اليأس أحياناً ويدفع بذوي القلوب الضعيفة والنفوس المريضة وقصيري النظر إلى عقد الاتفاقات وتوقيع المعاهدات مع الأعداء ، فنذكر وقائع الحروب الصليبية وتاريخ الإمارات الصليبية في الوطن العربي فنذكر كذلك ضعف الولاة والقادة والحكام المهزومين أمام تلك الغزوة الذين استسلموا لإرادة الغزاة ، وعقدوا معهم الصلح والمعاهدات والمواثيق ، وتعاملوا تماما كما يتعامل بعضهم اليوم مع الغزاة الصهاينة ويعقدون معهم الصفقات والمعاهدات المشبوهة والمدانة ، وكما هو حال بعضهم الآخر الذين يستقبلون قادة العدو أو يلتقون معهم خفية وعلانية كان حال بعضهم منذ أكثر من ثمانمئة عام . وكما هو حال دولة الغزاة اليوم التي تتلقى الدعم من العالم الغربي بمعظمه كان حال إمارات وممالك الصليبيين بالأمس حيث كانوا يتلقون الدعم والمساندة بالمال والرجال من دول العالم الغربي بمعظمها في تلك الأيام .
وكما أن دولة الاحتلال باستقدامها المهاجرين من جميع أجزاء العالم اليوم ، لتعزيز قدراتها البشرية والمادية كان حال ممالك الصليبيين بالأمس .
وقد كان حال الوطن العربي آنذاك كحالة اليوم فبعد ضعف الدول المركزية القوية تشتت الولايات والحكام وعملت القوى الخارجية على استقطاب بعضهم ومما زاد في التمزق تماما كما هي الحال اليوم .
بعدما استطاع الاستعمار تجزئة الوطن واستقطاب عدد من دويلاته .
إن الادعاءات الراهنة لدولة الصهاينة بالحق التاريخي وأرض الميعاد ومن النيل إلى الفرات وضرورة تحريرها من " الاحتلال العربي" يذكرنا تماماً بادعاء صليبيو الأمس بالأرض المقدسة وضرورة تخليصها من " الاحتلال الإسلامي " .
وبنظرة فاحصة إلى الأهداف التي ذكرها البابا اربان الثاني عندما دعى إلى الاجتماع العام لرجال الدولة والكنيسة في مجمع كلير مونت في نهاية عام 1095 والتي بنتائجها اتخذ قرار بدء الحروب الصليبية توضح لنا أن من أبرز تلك الأهداف لها هي السياسية والاقتصادية وذلك لتوسيع رقعة الممالك والإمارات الأوروبية التي كان حكامها يتنازعون على الأرض والسيادة والموارد الاقتصادية التي تتبع ذلك حيث قال لهم البابا في خطابه الشهير آنذاك " ليس بوسعكم أن تدبروا في هذه البلاد الطعام للسكان ، وهذا السر في أنكم تستهلكون سلعها ، وتشنون فيما بينكم حروباً لا نهاية لها " .
لهذا وفي بداية الحروب الصليبية كان لا بد للحملات الأولى أن توقع الخراب والدمار وتشن الحملات على إمارات مسيحية أخرى في أوروبا وأن تشتبك مع الإمبراطورية البيزنطية بحروب قاسية بسبب النزعات والأهداف التي ذكرتها قبل أن تصل إلى الأرض الفلسطينية المقدسة . كما أن بعضاً من الحملات الصليبية توجهت إلى مناطق لم تكن تقرب من فلسطين وأقامت فيها دويلات صليبية كالرها وشمال سورية ومصر وغيرها حتى أن بعضها توجه إلى مناطق غير عربية كقبرص مثلا لإنشاء دويلاتهم هناك .
كما أن نظرة كاملة إلى الأهداف الصهيونية التي أرساها المؤتمر الصهيوني الأول في بال عام 1897 وما قبله خصوصاً دعوات الاستعمار الاستيطاني الصهيوني وجلب المهاجرين من أنحاء العالم المختلفة للاستيطان في فلسطين بواسطة عناصر أجنبية غربية عن المنطقة وتاريخها وسكانها تبين لنا بوضوح تام التماثل الكبير بين أهداف الحملة الصليبية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأهداف الصهيونية التي ذكرها مؤسسو الحركة الصهيونية . كما أن تاريخ الغزوة الصهيونية للوطن العربي لم يقتصر على حروبها مع العرب بل امتدت إلى قتال غيرهم كإنجليز مثلا أبان الانتداب البريطاني على فلسطين على الرغم من تعاونهم معهم ومنحهم وعد بلفور الشهير بإقامة وطن قومي للصهاينة في فلسطين .
كما أن أعمال القتل والذبح والبطش والتنكيل التي اقترفها الصليبيون خصوصاً مذابح بيت المقدس عن الاستيلاء عليها عام 1099 م لا تتغير في أسلوبها وغاياتها وعناصرها الأساسية عما ارتكبته عصابات الغزو الصهيوني في فلسطين أعوام 1948 وعام 1956 وعام 1967 وكذلك عندما غزت لبنان عام 1982 ومذابح صبرا وشاتيلا والمناطق الجنوبية الأخرى شاهدة على ذلك .
إننا بذكرنا تلك الاستشهادات التاريخية وتقديم هذه الأمثلة المقارنة لأهداف الحملة الصليبية السابقة وأهداف الصليبية الصهيونية الجديدة واستعراض سريع لواقع الوطن العربي آنذاك من حيث التجزئة والتناحر وسيطرة بعض العناصر الشعوبية وغير العربية واختلاف أهداف حكامه ، وحال الوطن اليوم الذي يشهد واقعاً مماثلاً تقريبا والنتائج التي انتهت إليها الحروب الصليبية بعد معركة حطين كما ذكرنا بأنها كانت بداية انحسار تلك الغزوة وانهيارها أخيراً أننا بذلك نؤكد أن معركة واحدة مهمة وحاسمة لدولة الغزو الصليبي الصهيوني المعاصر كفيلة أن توحد الأمة وتعيد جمع شتاتها وتنعش في نفوس أبنائها العزم والثقة بحتمية الانتصار .
وتدلنا كذلك على الحكام المعاصرين الذين وقعوا اتفاقات المذلة مع العدو كأنما لم يقرأوا تاريخ أمتهم ولم يتعظوا من النتائج التي أكدتها المواثيق القديمة مع الصليبيين ولا نتائج الحملات الصليبية المختلفة .
أن قيادة واعية مخلصة بعيدة النظر مستلهمة لأهداف الجماهير وتطلعاتها ، آخذة تاريخها بعين الاعتبار ، مسترشدة به ، وواضعة نصب عينها الأهداف البعيدة لتلك الأمة متمسكة بالحق التاريخي والقومي والشرعي مثل تلك القيادة كفيلة بدحر ما يحيط بهذه الأمة من ظلام التقاعس والتشتت والانهيار والتنافر ، لأن هذه الحالة لا تمثل مطمح الجماهير بل تمثل ضعف نفوس الأنظمة والحكام الذين ابتعدوا عن أهداف الأمة وآمالها وطموحها الذي تمثله قيادة تاريخية واعية كما ذكرنا .
لذلك فعندما يقف حزب البعث العربي الاشتراكي الموقف المبدئي والثابت فيما يتعلق بالصراع العربي الصهيوني فإنما يمثل بذلك طموح أوسع الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج مستلهما التاريخ ، والحضارة ، والآمال .
ومستشرقا المستقبل وبما يحمله لأبناء هذه الأمة .
لقد ربط الحزب قضية الوحدة العربية وأولويتها بقضية كفاح الجماهير من أجل التحرير لكامل التراب العربي ربطاً محكما لإيمانه بأن الوحدة وتحقيقها كفيلان بحل أية مشكلة يمكن أن تواجه الأمة العربية بما فيها مشكلة الاحتلال الاستيطاني لفلسطين . أن مقولة النضال من أجل الوحدة هو نضال من أجل التحرر مقولة صحيحة أثبتتها وقائع التاريخ كما تثبتها وقائع الحياة المعاصرة اليوم . أن واقعاً كالذي نعيشه والذي يبدو لبعض المتخاذلين أنه قدر لا مفر منه هو في نظر الحزب ومناضليه واقع مهزوز لا يستطيع أن يقاوم عزم الجماهير ومقدرتها على تجاوزه عندما تتوافر لها القيادة التاريخية وهذا ما يحاول الحزب بقيادة الرفيق الأمين العام ترسيخه وتحقيقه .
أن ذكرى معركة حطين وما تمثله بمقدماتها ونتائجها لا يبتعد كثيراً عما نحن فيه اليوم .