رسالة الى الاصدقاء في الحركة الثقافية- انطلياس
رسالة
الى الاصدقاء
في الحركة الثقافية- انطلياس
الدكتور مصطفى دندشلي
الحركة الثقافية- انطلياس من الحركات الرائدة في لبنان. وأهميتها على صعيد الفكر والثقافة تأتي من مواقفها الديمقراطية والوطنية التوحيدية. وتأثيرها لا ينحصر في الوسط الذي تنشط فيه ثقافياً وإنما يمتد ليشمل لبنان قاطبة. فهي تؤثر وتتأثر بدورها بكل الحركات الثقافية الأخرى وتتفاعل معها تفاعلاً كاملاً حرّاً صادقاً منفتحاً ، من أجل بناء لبنان، عصريّ المنطلقات، ديمقراطيّ المحتوى،عربيّ الانتماء، مستقل الإرادة والاتجاه.
على هذا الأساس، يهمنا كل ما يصدر عن الحركة من بيانات ومواقف. فهي لا تعبّر فيها عن وجهة نظرها فحسب، وإنما وبكثير من المعاني، عن جميع القوى المثقفة الحيّة، التي لها رؤية وطنية ديمقراطية متقدمة في هذا البلد.... ويهمنا أن نشير في هذا السياق إلى بيانها الموجّه إلى السيد الأخضر الإبراهيمي بتاريخ 22/9/1989، والذي تعبّر فيه أصدق تعبير، في الشكل والمضمون، عن توجهات مختلف فئات الشعب اللبناني الوطنية، دون تفرقة طائفية أومذهبية.... ذلك أنّ ما جاء فيه إنما هو نتيجة تفاعل وحوار مع الهيئات الثقافية الناشطة في لبنان.
لذلك وانطلاقاً من هذا الاهتمام بكل ما تنشره الحركة الثقافية في أنطلياس، اطلعنا بشيء من الاستغراب على بيانها الأخير المؤرّخ في 1/12/1989. وقد نشرت الصحف في حينه مقتطفات واسعة عنه، حيث عرضت وجهة نظرها في التظاهرات الجماهيرية الشعبية التي عمّت مؤخراً المنطقة الشرقية وأمّت القصر الجمهوري في بعبدا.
وإيماناً منا_ هذا الإيمان العميق الذي لا يتزعزع _ بأهمية الحوار الديمقراطي والنقاش المفتوح والمعمّق بين مثقفين وهيئات ثقافية ذوي الأهداف الواحدة والطموح المستقبلي الواحد من أجل إعادة الإعتبار في لبنان إلى الإنسان وإلى إنسانية الإنسان.... ايماناً منا بكل ذلك، أردنا نحن في المركز الثقافي في صيدا أن نجري حواراً مع رفاقنا، رفاق الدرب الطويل، في الحركة الثقافية-أنطلياس، وأن نبديَ ملاحظاتنا المبدئية وانطباعتنا الأولية حول بيانها الأخير...
ترى الحركة بادئ ذي بدء، في ما يجري في المنطقة الشرقية" تحولاً نوعياً"... لقد استوقفنا تعبير "تحوّلاً نوعيّاً"... ماذا يعني ذلك في المضمون؟هل يعني أنّ المنطقة الشرقية، منطقة كسروان والمتن وسواهما على وجه الخصوص لا تعرف سابقا هذا النوع من التظاهرات الشعبية، فكان ظهورها الآن يعتبر "حدثاً" جديداً يجب أن ُيبارك ويُحيّا؟!! وهل لمجرد ظهور هذه الحشود المحتشدة من الناس، خاصة من ذوي الأعمار الشابة- طلاب مدارس وجامعات.. بهذه الكثافة وهذا الحماس قد بَهرتنا وهزَّت فينا المشاعر والعواطف... فيجب علينا أن تؤيدها وأن نعطيها من المعاني والقِيَم والمُثُل والتفاسير، ربما أكثر بكثير مما تحمل وتعنيه، كل ذلك دون أن نتوقف، بكثير من التأمل والتفكّر، ونبحث عن أسبابها الآنيّة والدفينة، ونبحث عن أهدافها وأبعادها القريبة والبعيدة، خاصة وأننا كمثقفين نحمل المناهج الفكرية وأدوات البحث العلمي الهادئ الرصين ونميّز أنفسنا عن "السياسي المحترف" وعن مواقف ردات الفعل العاطفية والإنفعالية.....
يجب أن نعترف أننا من حيث المبدأ نحترم ونقدّر كل حركة جماهيرية شعبية ونرفض رفضاً قاطعاً الإستخفاف بها أو التقليل من شأنها بل نسعى ونعمل على فهمها واستيعابها في مقدماتها ونتائجها. فلا يجوز أن يُنظر إليها كحدث مفاجئ، "هبط هكذا من السماء" بل هي تعبير عن شيء موجود، عن واقع موضوعيّ، له مقدماته كما له نتائجه وهذا ما يجب أن نبحث عنه ونقف عنده ونحاول أن نفهمه ونستوعبه.
إنّ أسباب هذه الحركة الجماهيرية القريبة أو البعيدة، الظاهرة أو المضمرة، قد تكون غير واعية، عاطفية إنفعالية وتحمل رواسب دفينة، هذا إذا لم نقل أحياناً غرائزية، وهذه هي بصورة عامة طبيعة الحركات الجماهيرية غير المؤطّرة سياسياً ونقابياً، في مجتمعاتنا كما في المجتمعات الأخرى.
يقول جوزف أبو خليل في هذا الصدد:" إنّ تيار الرفض المتمثل في هذه الحشود هو تيار قديم عمره عمر الاستقلال، بل عمر الكيان اللبناني بالذات. وقد كان دائماً ضد كل التسويات السياسية التي تقتضيها طبيعة هذا الكيان وموقعه في وسط الكيانات العربية- الإسلامية على أنواعها، تارة يسقطها وطوراً يمشي فيها مرغماً(...) وهذا التيار لا يحتاج إلى مَن يحركه من وقت إلى آخر ويستثيره ويحرّضه على محيطه أو على التيارات الأخرى(...) وإذا صح أنّ هذا التيار يختزن جملة قيم روحية وإنسانية ويضجّ بمشاعر العنفوان والكرامة، إلا أن ّ الصحيح أيضاً أنّ العقلانية فيه ليست في مستوى هذه المشاعر ولا في حرارتها...بكلام آخر، الصوفية فيه-إن صح القول- تتفوق على العقل السياسي وتحجبه أحياناً وتعطّله في كثير من الأحيان..... (جريدة الحياة 15/12/89).
وهنا يُطرح السؤال: ما مدى تأثير وسائل الإعلام المتنوعة في هذه الحركة الجماهيرية الواسعة في المنطقة الشرقية؟ وهل هناك أجهزة أخرى، لعبت دوراً في ظهورها وفي تأليب هذه الحشود المحتشدة وتنظيمها وتوجيهها؟ مَن هي؟ وهل الإعلان عن وثيقة الطائف الوفاقية كان" الحدث" المُفجّر والمُحرّك المباشر لخروج هذه الجماهير إلى الشارع وسيرها إلى القصر الجمهوري في بعبدا، معبّرة بذلك عن رفضها ومعارضتها واستنكارها لما حصل ولما فيه من إمتهان لكرامتها وطعنٍ بسيادتها ونقصٍ لاستقلالها؟؟ هل فُسح لها المجال إعلامياً لمناقشة وثيقة الوفاق الوطني الصادرة عن مؤتمر النوّاب اللبنانيين في الطائف حتى أدركت مدى خطورة التساهل في مسألة السيادة والاستقلال ممّا لا يجوز التفريط بهما بأيّ ثمن حتى لو أدّى ذلك إلى الموت؟ ثمّ ماذا تعني كلمة" سيادة" في وعي هذه الجماهير؟؟ وهل كانت السيادة مصونة منذ العام 1943 حتى يومنا هذا، فجاءت وثيقة الطائف لتنتهكها وتطرحها أرضاً؟! من السهل أن نرفض ولكن من الأهمية والصعوبة بمكان أن نقدّم البديل الواقعي والمقبول، إلاّ إذا اعتبرت هذه الجماهير أن العماد عون كما يقول هو نفسه، هو" البديل" و "القائد" و"المصير".
هناك سؤال مُلحٌ يُطرح في هذا المجال وإن الجواب عنه لا يقل إلحاحاً وقلقاً: ما مدى تأثير عوامل "الخوف" الدفينة" وأسطورة" الخطر الداهم في لا وعي هذه الجماهير الطيّبة والعاطفية، والتي تظهر بين الحين والآخر وتؤججها وتُحركها بحسب مصلحة القيادات السياسية التقليدية أو المستحدثة أو كليهما معاً، كي تصبح هذه الجماهير ورقة سياسية رابحة في المفاوضات؟!.
إننا نعلم الآن مع تطور الأبحاث والدراسات التاريخية والاجتماعية، مدى تأثير مفهوم "الخوف" في مشاعر ومواقف وردات فعل الجماهير المسيحية، والجماهير المارونية منها على وجه الخصوص. ويزداد ذلك ويتسع أكثر فأكثر مع تطور أجهزة الإعلام وتفننّها وانتشارها. فقد تبدّى الخطر في وقت ما وتجسّد في "المسلم" ثم بعد ذلك في القومي العربي، حتى ظهر لاحقاً في الناصريّ ثم تبعه الفلسطيني والآن وبتركيز ملحوظ كالسابق، في السوريّ، وجميعهم يمثلون" المحيط الإسلامي". والمجال لا يتسع لكي نقدم أمثلة تاريخية موثقة. فيجب أن لا نغفل هذا العامل الدفين في فهمنا لهذه الإنتفاضات الجماهيرية المسيحية في ظروفنا الراهنة...
أمّا أنّ هذه الظاهرة الجماهيرية، كما تقول الحركة، وبالشكل الذي تمت فيه، سوف يكون لها " آثار عميقة على مستقبل الأوضاع السياسية في لبنان"، فهذا ما نعتقده بكل أسف. ذلك أنها عملياً وواقعياً، بوعي أو بدون وعي، كرّست فكرة المجتمع الطائفي أو "الكانتون" الطائفي أو الفرز السكاني الذي يجب العمل مستقبلاً على إعطائه شكلاً قانونياً- دستورياً.... بمعنى آخر، لقد أظهرت هذه الحشود الشعبية وبصورة واقعية كما نقول، ما يسمى" المجتمع المسيحي" الماروني تحديداً. فكرّست واقعاً تقسيماً طائفياً- مسيحياً مارونياً- يعتمد على مدٍّ جماهيري واسع، له جذوره في الأرض لا يمكن نكرانها أو الإستخفاف بها. وهذا في واقع الحال ما يخدم خدمة جلّى المشاريع التقسيمية التي تُطبخ وتُحضّر من قِبل بعض أجهزة الدول الكبرى المختلفة. السيناريوهات قد تكون جاهزة والعمدة الآن على الظروف المناسبة للتنفيذ!!
هذا من جهة ومن جهة ثانية، أليس من المبالغة القسرية والمفتعلة والتضخيمية النظرة إلى هذه الحركة الجماهيرية في المنطقة الشرقية واعتبارها كإمتداد للتحركات الوطنية الشعبية المختلفة، لا سيما منها التحرك النقابي الواسع الذي جرى في 9 تشرين الثاني 1987؟ أليس هذا الموقف فيه كثير من الإقحام أو التصور الذاتي أو الرغبة الذاتية في أن نكون هذه الظاهرة في المنطقة الشرقية كتلك؟!! وهل يمكن المقارنة بين تحرك الاتحاد العمالي العام الذي كان يعبّر شمولياً عن طموحات الشعب اللبناني في إنهاء الحرب، (دون أن نعلم كيف واقعياً)، والتخلص من المليشيات وأمراء الحرب، وإيجاد مخرج للمأزق المعيشي والإجتماعي، وتوحيد المناطق اللبنانية دون إعتبار لطائفة أو دين، أن نقارن ذلك مع هذه الظاهرة الجماهيرية العاطفية والانفعالية والمحصورة في منطقة محددة والتي تضع كل ثقتها" في القائد الفرد"،"والمنقذ الملهم" "حامي حمى السيادة والاستقلال؟!!"
لا شك في أن هذه "الظاهرة" الجماهيرية في المنطقة الشرقية قد أتت لتدعم طروحات العماد ميشال عون وتقدم تأييداً عزَّ نظيره لسياسة قائد الجيش السابق الذي استولى على السلطة عملياً وواقعياً_لنضع القضايا القانونية والدستورية جانباً- عن طريق إنقلاب عسكري أبيض دون إراقة دماء. وقد أصبح بنظر هذه الجماهير التي يستحوذ عليها التطرف، هو قائدها ومنقذها، مع كل ماقد يظهر من إلتباس ومفارقة بين الشعارات الظاهرة ومضامينها الواقعية، بين ما يقال وما يجري على أرض الواقع.
وكذلك أصبحت هذه الظاهرة الجماهيرية بنظر المجتمع الدولي كأمر واقع يجب أخذه في الحسبان. وقد لا يستبعد إذا إستمرت الأمور على ماهي عليه أن لا يكون حل دون إدخاله في الاعتبار.... ولا يهم كثيراً إذا كان ذلك يتمّ بصورة شرعية أم غير شرعية، ذلك أنّ الشرعيّة في بلادنا تؤخذ بالقوة ولا تعطى بحسب نصوص الدستور الحرفية.... هكذا كان دائماً في السابق ونأمل أن لا يستمر...
إنّ المقارنة التي نسوقها في هذا السياق وقد تكون صحيحة في كثير من الوجوه، مع الفارق في الظروف السياسية الداخلية، هي مقارنة الظاهرة الجماهيرية المسيحية في المنطقة الشرقية بتلك الظاهرة الشعبية الفلاحية التي لم تعرفها في السابق قرى الجنوب المسيحية، وذلك عندما طلب الجيش الإسرائيلي المحتل من القوات اللبنانية آنذاك، مع مطلع عام 1985، إخلاء ثكناتها العسكرية في المنطقة في مدة محددّة. فهبّت القرى المسيحية ومدنها في الجنوب، طيلة أكثر من أسبوع، تؤم ثكنات القوات اللبنانية وتقيم فيها وتنظم المهرجانات الشعبية.... فكانت مشاهد عاطفية مثيرة: فتأتي الجموع الشعبية الغفيرة والشيوخ والنساء والأطفال من أماكن نائية، كي تكون حماية بشرية للقوات اللبنانية وعامل ضغط على الجيش الإسرائيلي لإبقائه على ثكناتها... ولكن القرار الإسرائيلي كان قد اتخذ بإخلاء القوات ثكناتها وتهجير المسيحيين من شرق صيدا... وهكذا كان في الأشهر القليلة اللاحقة.
ثمة سؤال مقلق بالنسبة إلينا نطرحه على رفاقنا في الحركة الثقافية- أنطلياس: لماذا الجماهير في لبنان لا تشارك تظاهرات المنطقة الشرقية في تحركها؟! لماذا لا يتعاطف معها ما يسمى"بالرأي العام الصامت" الذي هو أيضاً يريد ويبحث عن الخلاص في تحقيق وجوده مستقلاً، موّحداً وسيّداً؟ فهل لأن حرية التعبير عن رأيه وطموحاته غير مسموح به، في حين حرية التعبير في المنطقة الشرقية متوافرة؟!
وهناك سؤال آخر نطرحه ويجب أن نتأمله ونفسّره، لا للإقرار به وأنّما لإيجاد السُّبل السليمة والعقلية لتجاوزه، ألا وهو: كيف نفسّر تعاطف مع تظاهرات المنطقة الشرقية، مجمل الرأي العام المسيحي في مناطق لبنان المختلفة وفي مناطقنا الجنوبية أيضاً، بينما أثارت ولا تزال تثير ردّات فعل معادية ومعارضة وعكسية في المناطق الوطنية الإسلامية الأخرى؟! فإذا كانت هذه الحركة الجماهيرية في المنطقة الشرقية ضد الحرب وضدّ أمراء الحرب والميليشيات، ومع وحدة لبنان واستقلاله وسيادته، وتوق إلى الحرية والسلام واحترام حقوق الإنسان، وهي في الواقع طروحات ومطالب جماهير الشعب اللبناني قاطبة... إذا كان الأمر كذلك فلماذا لم تستطع أن تستقطب تأييدها وتستأثر بدعمها وتكون لها حافزاً للعمل والتحرك؟!
أليس هذا الإنقسام يبرهن عن واقع يجب تغييره أو عن خلل يجب إصلاحه؟ أوليس الوحدة اللبنانية يجب أن تقوم من جديد على أكتاف الوحدويين أنفسهم، لا الطموحين أو المرتبطين بمآرب أخرى؟ فكيف يمكن توظيف هذه الظاهرة الجماهيرية في المنطقة الشرقية والتي تأخذ في الواقع طابعاً طائفياً مسيحياً ومارونياً تحديداً... كيف يمكن توظيفها لمصلحة مجموع الشعب اللبناني في مختلف مناطقه وطوائفه؟ ألسنا نطلب الشيء ونقيضه في آن؟
ثم ماذا يعني "التعامل مع هذه الظاهرة الجماهيرية من قِبَل كل أفرقاء الصراع بالموضوعية المطلوبة تعزيزاً لمبدأ:
1- احترام إرادة الشعب في تقرير مصيره.
2- وحقه الطبيعي في التعبير عن رأيه"؟!
إنّ ما يعني وما يتبادر إلى الذهن مباشرة، هو الإقرار بواقع الأمر وبوجود "مجتمع مسيحي" عملياً وعلى الأرض.. إنّ مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها مبدأ سليم صحيح ديمقراطي، ومطلب ترفعه الشعوب في وجه مستعمريها المتعاونين معهم من الحكام في الداخل.... أمّا أن يُرفع في هذا السياق، وفي سياق ما يجري في المنطقة المسيحية الشرقية، ويُدعا إلى تطبيقه في هذه الحالة، فهو يعني ضمناً الدعوة إلى وجود وإلى قيام "مجتمع مسيحي" ماروني، يجب الإعتراف به وإقراره، بعد ما جرى "الإستفتاء" عليه جماهيرياً وبصورة، كما يُقال،" أدهشت العالم". والإقرار مبدئياً بوجود المجتمع المسيحي المحدد كيانياً، يعني في الوقت ذاته الإقرار بفكرة الكانتونات الطائفية التي تقوم على أساس فيدرالية الطوائف... وهذا مالا نشك أبداً في أننا نرفضه جميعاً رفضاً قاطعاً..
في الحقيقة هذه الحركة الجماهيرية الشعبية التي انطلقت من مجتمع مسيحي له خصوصيته وأيديولوجيته، والتي امتدت واتخذت لها مسرحاً القصر الجمهوري في بعبدا، لا شك في أنها قد أعطت قوة إلى السلطة العسكرية السياسية الجديدة على الأرض، وهي سلطة العماد ميشال عون وطروحاته وطموحاته وقد أصبحت الآن تعتمد على تأييد جماهيري واسع، بعد ما كانت في السابق تعتمد عملياً وواقعياً على حركة عسكرية تحالفت مع حزب الكتائب والقوات اللبنانية. حِلفَ الأخوة- الأعداء في صراعهم على السلطة والنفوذ في المنطقة..
والعماد عون رجل صريح صادقٌٌ في ما يقول ويعرف على الأقل ما يريد، إنه يريد كما يقول أحد السياسيين" القصر أو القبر"ولا يهم بعد ذلك إذا يقي لبنان أم لا؟ فنادراً على أية حال ما كانت تطرح الأمور على هذه الصورة من الوضوح والصراحة سابقاً في لبنان....
وهذه السلطة الجديدة في المنطقة الشرقية، سلطة العماد عون، فكانت تعتمد بالإضافة إلى ذلك على قوى سياسية عسكرية كوّنت الأطر القيادية والتنظيمية لحركة الجماهير الشعبية، وهي تتألف من أعضاء الجبهة اللبنانية البارزين: حزب الوطنيين الأحرار وحرّاس الأرز وحزب التنظيم، جميعهم لهم خبرة في عملية التهييج الجماهيري" agit-prosh، ومعروفة علاقاتهم طويلة الأمد بدولة إسرائيل.... يضاف إلى ذلك أو فوق ذلك كلّه مؤسسات الكسليك وقطاع لا يستهان به من الرهبان المتطرفين، الآباتي بولس نعمان في مقدمهم، الذين يريدون أن يقيموا" أصولية مارونية مسيحية"، لمواجهة الأصولية الإسلامية... فالقداويس التي تقام في القصر الجمهوري في ساحاته العامة، كثيرون نظروا إليها من هذا المنظار في المناطق اللبنانية الأخرى...
وهناك أيضاً رؤساء جمهورية سابقين: شارك حلو المقرّب من أوساط بكركي والفاتيكان، وأمين الجميل وما تبقى له من قوى لا تزال تدين له بالولاء... يضاف إلى هذه الصورة أخيراً وليس آخراً دخول الشعر والأدب: سعيد عقل وميّ المرّ، والفن والمسرح والأغنية والزجل، في هذا " الكرنفال" الجماهيري الشعبي.. وغير ذلك كثير مما لا يحضرنا الآن ذكره..
ولا يمكننا ختاماً إلاّ أنّه نكون مع رفاقنا في الحركة الثقافية- أنطلياس في دعوتهم المثقفين الطليعيّن لصياغة المشروع السياسي الوطني من أجل بناء لبنان جديد موحّد ديمقراطي سيّد مستقل عربي علماني... فنحن كمثقفين وكهيئات ثقافية ناشطة نتحمل مسؤليتنا الكبرى، ويجب أن نقول ذلك علناً، في عدم وجود حتى الآن هذا المشروع الوطني... والمركز الثقافي في صيدا كان قد أشار في بياناته السابقة إلى أن الانتليجانسيا الوطنية اللبنانية تتحمل قسطاً وافراً من هذا التقصير، بل هي تتحمل مسؤولية هذا التقصير بكامله، على الصعيد النظري والفكري..
فلا نزال حتى الآن نحوم حول الطروحات العامة والشعارات التي تعبّر أكثر ما تعبّر عن النوايا الطيبة والرغبات الحسنة... إنّنا نؤمن بشعارات نطلقها وهي لا تثير في الأغلب الأعمّ أي خلاف. بل بالعكس إجماع قطاعات واسعة من اليمين الليبرالي وحتى اليساري، وهي شعارات الديمقراطية والحرية والاستقلال والسيادة والعلمنة. والآن الانتماء إلى البيئة العربية.. وهي مفاهيم كلية وطروحات تحدد مبادئ عامة، من الأهمية القصوى في المرحلة الراهنة ومن مسؤولية المثقفين الطليعيين الوطنيين، أن يعطوها مضامينها الفكرية والعملية، النظرية والتطبيقية. بكلام آخر، يجب على الانتليجانيا الوطنية أن تعطي لهذه المفاهيم المتداولة معانيها الواضحة وأن تتحدث فيما بينها أولاً "لغة" مشتركة واحدة أو موحّدة من حيث المحتوى ومن حيث الرؤية العملية، الرؤية الإجتماعية الثقافية التاريخية.....
من هنا نرى الفائدة الكبرى في ظروفنا الراهنة في إجراء الحوار الديمقراطي وفي عقد لقاءات ثقافية دورية بين المثقفين أنفسهم، وبين الحركات الثقافية اللبنانية فيما بينها، حتى نوضّح هذه المفاهيم ونعمل على بلورتها وصياغتها من جديد.. ذلك أن أهمية هذا العمل تأتى من كوننا مثقفين، لا سياسيين لهم مصالح سياسية أو طائفية ضيّقة أو خلافها...
فمنطلقاتنا هي منطلقات تأخذ مجموع الشعب اللبناني بمجمله... وغاياتنا هي غايات بناء المجتمع الأفضل ولمصلحة الإنسان، كل إنسان... من هنا على الأقل قد يكون عملنا تاريخيّاً....
صيدا 18 كانون الأوّل 1989م المركز الثقافي للبحوث والتوثيق في صيدا