كلمة المناضل - نظـــــرة علـــــى عـــــام
كلمة المناضل العدد 61 كانون أول 1973
نظـــــرة علـــــى عـــــام
الدكتور . فواز الصياغ
رئيس هيئـة التحرير
بهذا العدد من المناضل نودع عاما حافلا بالأحداث ، وقبل أن نقف على أبواب العام الجديد ، يجدر بنا أن نعيد النظر في تلك المرحلة المهمة من مسيرة حزبنا خاصة ، وشعبنا العربي وحركة التحرر العالمية عموما ، لنستشف آفاق المستقبل المتطور أمامنا، ولنتعرف على المعالم الرئيسية للمرحلة المقبلة من مسيرتنا النضالية الطويلة .
فعلى صعيد الحزب :
كان عام 1973 عام تعزيز الوحدة الفكرية والتنظيمية للحزب استطاعت فيه القيادة وقيادات المنظمات الحزبية في الوطن العربي والخارج ، أن تحقق إلى حد جيد مزيدا من التفاف القواعد الحزبية حول القيادة ، وان تعمق من وعيها لطبيعة الظروف التاريخية الراهنة لحركة الثورة العربية .
وكان للنشاطات المتواصلة والنجاحات التي حققتها قيادة الحزب القومية وسلطته الثورية في القطر العربي السوري ، آثار إيجابية كبيرة في تحريك الجمود العقائدي والفكري الذي اتسمت به في الماضي مواقف بعض منظمات وأعضاء الحزب إزاء مختلف جوانب النضال السياسية والاقتصادية والاجتماعية .
ولقد ساعد هذا التجاوب بين القيادات والقواعد على أن يتصدى حزبنا بجدارة لترسيخ قواعد الحكم الثوري في القطر العربي السوري . والقيام بدوره الطليعي في قيادة النضال العربي .
ففي القطر العربي السوري : تمكنت قيادة الحزب من إقامة المؤسسات التشريعية والتنظيمية اللازمة لاستكمال أسس الديمقراطية الشعبية والجبهة الوطنية التقدمية . في الوقت نفسه الذي أقامت فيه بعض الصروح الاقتصادية الكبرى وفي مقدمتها إنجاز سد الفرات . وعززت قدرة القوات العربية المسلحة وأهلتها لخوض معارك الشرف والبطولة في السادس من تشرين الأول الماضي .
وفي الوطن العربي : فقد ناضل الرفيق الأمين العام للحزب من أجل تطوير العمل العربي بكسر طوق العزلة بين الأشقاء العرب والقضاء على حالة التشرذم في المواقف السياسية العربية إزاء القضايا القومية المصيرية ، ومن خلال إقامة علاقات إيجابية مع الأنظمة والقوى العربية القادرة على الإسهام في معركة التحدي التي تخوضها الأمة العربية ضد الكيان الصهيوني العربي ، وضد الإمبريالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية باعتبارها حامية هذا الكيان المصطنع .
وقد تجسدت النتائج الإيجابية لتلك الجهود المخلصة عندما استطاع العرب لأول مرة في تاريخهم الحديث وبشكل شبه جماعي . أن يجسدوا حقيقة وحدة المصير العربي في موقفهم الموحد اثر حرب تشرين التحريرية . وان يحولوا شعار بترول العرب للعرب إلى حدث واقعي تجاوبت أصداؤه في شتى أنحاء المعمورة .
فعلى الصعيد العالمي جاءت حرب تشرين العربية حلقة متممة في سلسلة الانتصارات التي حققتها الشعوب المناضلة في الهند الصينية وأفريقيا وأميركا اللاتينية وكذلك فيما حققته القوى التقدمية والمحبة للسلام في القارة الأوروبية باعتبارها إحدى بؤر التوتر في العالم .
وفي ضوء هذه التحركات والمواقف الإيجابية وبدعم من الحزب والقوى التقدمية العربية والعالمية . استطاعت المقاومة الفلسطينية أن تصمد لتحديات العدو الصهيوني وللهجمة الرجعية التآمرية الشرسة التي واجهتها في الأردن ولبنان . ولقد توج صمودها هذا باعتراف مؤتمر القمة العربي الأخير في الجزائر . بمنظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد للشعب العربي الفلسطيني .
بهذه النظرة الخاطفة يمكن أن نميز بوضوح وبرغم بعض الانعكاسات والترديات . أن ميزان القوى في العالم تحول عام 1973 . لصالح الشعوب المناضلة في سبيل تحريرها وتأكيد سيادتنا وتحقيق تقدمها . وان في مقدمة هذه الشعوب كانت الأمة العربية التي أثبتت في معارك تشرين التحريرية قدرتها على مواجهة التحدي وانتزاع احترام العالم لها بعد تجهل دام حقبا طويلة . وانتقل بذلك الصراع العربي مع الصهيونية العالمية وإسرائيل إلى صراع عالمي بين الشعوب المناضلة وقواها الوطنية والتقدمية من جهة . وبين القوى الإمبريالية العالمية المعتدية المستغلة من جهة ثانية .
لقد حدثت هذه المتغيرات العربية والدولية نتيجة النضال الشاق الذي خاضته جماهيرنا العربية وحركات التحرر الوطني العالمية وبالتعاون مع الأنظمة الاشتراكية والتقدمية والصديقة كافة ، هذا في الوقت الذي ازدادت فيه بالمقابل حدة الهجمة الإمبريالية وفق أحداث أساليب القمع والتآمر والخداع السياسي وفي المجالات المختلفة من اجل تطويق الحركات التحررية وإجهاض الانتصارات والمكتسبات التي تحققها الشعوب بكفاحها وتضحياتها الجسيمة .
ومن هنا يبرز جليا موقف حزبنا ، ممثلا بالسلطة الثورية في القطر العربي السوري ، من مؤتمر جنيف ، فقد قاطعنا المؤتمر المذكور لأنه لم يأت وفق تلك المعطيات الإيجابية ، ولم ينعقد بحسب الترتيب الذي نص عليه قرار مجلس الأمن ذو الرقم 338 والذي يقضي بإيقاف إطلاق النار أولا ثم بتطبيق القرار 242 لعام 1967 القاضي بانسحاب العدو إلى حدود ما قبل 5 حزيران 1967 ، ثم يتلو ذلك عقد ((مؤتمر السلام)) الذي كان ينبغي أن يحضره ممثلون عن سورية ومصر والأردن والفلسطينيون وممثلو العدو وبرعاية مناسبة من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية وهيئة الأمم المتحدة ، تكفل تحقيق الغاية من المؤتمر .
والواقع أن التواطؤ الأميركي الإسرائيلي . حول قرارات مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة عن غاياتها ومسارها الصحيح . وبدلا من التقيد بالترتيب الزمني والمنطقي للقرار 338 جاءت مفاوضات الكيلو متر 101 بين مصر والعدو ، ثم تعثرت تلك المفاوضات نتيجة حتمية للتواطؤ المشار إليه ، ومن اجل تزوير مؤتمر جنيف لمصلحة العدو الذي ما يزال يخاتل ويخادع لتأكيد إصراره على احتلال الأرض العربية وتنفيذ مخططاته التوسعية على حساب التضحيات التي قدمها شعبنا طيلة ربع قرن وفي الوقت الذي تمكنت فيه قواتنا العربية المسلحة من تلقين العدو دروسا قاسية حطمت غروره وأحدثت في مجتمعه هزات عنيفة كان لها آثار سلبية عميقة ، خلقت جوا من القلق والصراع والخوف في صفوفه ، سيكون لها نتائج خطيرة على مستقبله برمته .
ومن هنا يمكن أن نؤكد أننا لسنا ضد مؤتمر جنيف عندما يتضح انه يحقق انسحاب العدو إلى ما قبل حدود 5 حزيران 1967 ويضمن الحقوق المشروعة للشعب العربي الفلسطيني ، ولكن المؤتمر المذكور جاء استمرارا للمحادثات الفاشلة في الكيلو متر 101 وتغطية للحلول الجزئية المطروحة موضوع فصل القوات على الجبهة الغربية والانسحاب الجزئي وفتح قناة السويس .
أن هذه الطروحات مرفوضة لأنها تتجاهل الأسباب الأساسية لحقيقة الصراع بين العرب والصهيونية ، كما تتجاهل الحقوق المشروعة للشعب العربي الفلسطيني ، وتتنكر للدوافع الوطنية الثورية التي خضنا حرب تشرين من اجلها وقدمنا فيها تضحيات كبيرة على حساب تقدم ومستقبل جماهيرنا العربية المحرومة الصابرة .
وهي في الوقت نفسه من شأنها أن تجمد القضية ، وتفسح للعدو المجال للتفرغ لتعزيز قدراته العدوانية وتوطين المهاجرين اليهود في أراضينا المغتصبة والمحتلة ، وتجعله في الوقت نفسه قادرا على ممارسة الضغط على القطر العربي السوري بعد أن يسحب قواته من الجبهة الغربية فيسرح الاحتياطي منها ليعيده إلى مصانعه ، فيما يزج بالباقي في مواجهة القطر العربي السوري وفي ملاحقته المقاومة الفلسطينية جنوب لبنان وفي الضفة الغربية للأردن .
لقد أكد أصدقاؤنا السوفييت وأشقاؤنا المصريون وبعض الأطراف العربية التي كانت خلال المعارك على صلة بالولايات المتحدة الأميركية ، أكدوا جميعا أن انسحاب العدو سوف يتم قبل عيد الميلاد وان حقوق الشعب العربي الفلسطيني المشروعة مكفولة .ولهذا رأينا حينذاك انه من الممكن حضور مؤتمر جنيف .
وعندما تبين لنا أن الانسحاب لم يتم وتجاهلت الإمبريالية موضوع الفلسطينيين وحضورهم وان المؤتمر لن يكون افضل من محادثات الكيلو متر 101 ، وان التواطؤ الأميركي الإسرائيلي اخذ يتفاقم ويمتد محاولا ضرب التضامن العربي وتطويق المكتسبات التي حققها استخدام سلاح البترول ، أن هذا كله جعلنا نرفض حضور المؤتمر وسنبقى على موقفنا هذا حتى نحبط تلك المؤامرة التي تستهدف أولا تحقيق حلول جزئية ومنفردة بين الجهات العربية المعنية وبين العدو ، ثم زعزعة ثقة العرب بأنفسهم وبإمكانياتهم وتصفية القضية من أساسها .
في الوقت نفسه الذي تواصل فيه الولايات المتحدة الأميركية تزويد دولة العدوان بالأسلحة المتطورة والمعونات الضخمة .
فيما تمارس الضغط على الأردن لسحب قواته من الجبهة الشمالية بحجة الحشود المزعومة على الضفة الغربية . لذلك كله نرفض أن تتكرر تجربة فييتنام في بلادنا ، فقد مضى على مؤتمر السلام في باريس مدة طويلة وما تزال المعارك على اشدها بين الشعب الفيتنامي والمعتدين الأميركيين وأعوانهم الذين يناورون لكسب الوقت وتكبيد الفييتناميين مزيدا من التضحيات والمآسي أملا في فرض الحلول الاستسلامية عليهم .
إن هذه المرحلة من النضال السياسي مرحلة صعبة وحرجة تتطلب منا مزيدا من الوعي والشعور بالمسؤولية والصبر والصمود ، كما تفرض على الجهات العربية المعنية قدرا اكبر من الحزم والتضحية والمعرفة باستخدام الأسلحة العربية القوية من اجل تصعيد التضامن العربي وتقويته والمحافظة على صداقة ودعم الدول والقوى التقدمية والشعوب التي وقفت إلى جانب حقنا العربي بعد أن أثبتنا للعالم بأننا قادرون على الدفاع عن هذا الحق بشجاعة واخلاص .
(( إن الموقف من القضايا التحررية للامة العربية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية يشكل علامة بارزة في تاريخ حزبنا وفي نضاله وفي مجمل مواقفه ، وعلى الدوام لم يكن ولن يكون تفريط بحقوق شعبنا . ولم يكن ولن يكون ثمة تنازل عن هذه الحقوق ، ولا مساومة عليها ، ومن هذا المنطلق المبدئي ينظر حزبنا إلى قضايا شعبنا وامتنا ، ويصوغ خططه ، ويضع في كل مرحلة استراتيجيته وتكتيكه ويحدد أهدافه المرحلية ، في ضوء الظروف الموضوعية والذاتية لهذه المرحلة ، وهو يعتقد أن هذه المراحل المتعاقبة جميعها لابد أن تكون سلسلة متصلة الحلقات تقود بالنهاية ، مهما طال الزمن آو قصر ، ومهما تكن العراقيل ، إلى تحقيق أهدافه الاستراتيجية الكبرى في الوحدة والحرية والاشتراكية ، وبناء المجتمع العربي الاشتراكي الموحد )).