دفاعاً عن المثقّفين
دفاعــاً عـن المثقّفــين
كـاتب وكتـاب
الكاتب: جان-بول سارتر
الكتاب: دفاعاً عن المثقّفين
المترجم: الدكتور مصطفى دندشلي
حلقة دراسية ضيّقة لمناقشة هذا الكتاب
الساعة الرابعة من بعد ظهر يوم السبت الواقع فيه 10 شباط 2001
في قاعة محاضرات المركز الثقافي للبحوث والتوثيق – صيدا.
***************
د. مصطفى دندشلي: … أهلاً وسهلاً بكم… لقد أحببنا أن تكون هذه الحلقة الدراسيّة ضيّقةً، وذلك حتى يتيسّر لنا بفسحة من الوقت، تبادلُ وُجهات النّظر، ومناقشةُ موضوع المثقّف ودوره ووظيفته، انطلاقاً من كتـاب "جان-بول سارتر" بعنوان "دفاعاً عن المثقّفين"، وهو عنوان فيه شيء من الاستفزاز، في الوقت الذي تكثر فيه الانتقادات العنيفة وتوجّه للمثقّفين في العالم والبلاد العربية عموماً، وعندنا في لبنان على وجه التحديد.
لقد وُجّهت الدّعوة إلى عدد محصور لا يتجاوز العشرين شخصيّة ثقافيّة من الجامعة اللبنانية بفروعها الثلاثة: معهد العلوم الاجتماعيّة، كلية الحقوق، كلية الآداب، وبعض المؤسسات والمنابر الثقافيّة في الجنوب: منتدى صور الثّقافي، المنتدى الثّقافيّ والاجتماعيّ في الزهرانيّ، نادي الشقيف في النبطية…
إنّني لن أتوسّع كثيراً في الكلام، وإنّما كتمهيد للنّقاش أودّ أن أركّز حديثي على نقطتيْن: الأولى، كما لاحظتم، أنّ الترجمة وهي موزّعة عليكم، مخطوطةٌ أوليّةٌ كانت قد طُبعت ونُشرت في شهر شباط من العام 1977، أي منذ أربع سنوات من الآن بالتمام. ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم، أقمنا نَدوات متعدّدة، حلقات ضيّقة كهذه الحلقة، حول هذا الموضوع، في مختلف المناطق اللبنانية. ففي صيدا، مثلاً، هذه هي الحلقة الثالثة، بعد أن عقدنا حلقتيْن سابقتيْن، وحلقة أخرى في البقاع الغربي (الرفيد) في مركز صلاح الدين، وبعدها حلقة في زحلة تبعتها حلقتان أخريان في جبيل في الملتقى الثقافي، وفي طرابلس في الرابطة الثقافية، وبينهما ندوة في بيروت بمشاركة الحزب الديمقراطي العلماني في "ندوة العمل الوطني"، أي أنّنا كنّا قد عقدنا سبع حلقات دراسيّة سابقة وهذه هي الحلقة الثامنة وسيتبعها حلقة تاسعة وأخيرة في بيروت في "ندوة العمل الوطني".
إنّ الهدف المتوخّى من وراء عقد هذه الحلقات، هو حتى نرى ونقف على وجهة نظر وآراء وانتقادات وملاحظات واقتراحات مختلف المثقّفين من شتّى التيارات الفكريّة والثقافيّة والسياسيّة في المناطق اللبنانية، في هذا الموضوع المهمّ: المثقّف ودوره ووظيفته في الظروف الراهنة… مَن هو المثقّف، وما هو تعريفه أو تعريفاته؟… وهل له من وظيفة ينبغي عليه أن يقوم بها؟… أم أنّه ما زال حتى الآن، في مجتمعاتنا، دوره هامشيّاً، غير مؤثّر وغير فاعل؟
ومن ثمّ، وهذه النقطة الثانية، نقد مفهوم "سارتر" للمثقّف ومناقشته. وانطلاقاً من هذا النّقد لمفهوم "سارتر" للمثقّف، طرح السؤال: ما هو مفهومنا الخاص، نحن كلبنانيين، للمثقّف وللثقافة؟!… هل بحثنا مطولاً وناقشنا هذا المفهوم وبالعمق المطلوب؟!… هل "اشتغلنا" عليه تاريخيّاً من حيث النّشوء والتطوّر، اجتماعيّاً وأنتروبولوجيّاً من حيث المضمون والمحتوى، سياسيّاً من حيث دوره وفاعليته في مختلف العهود والمراحل، أدبيّاً وفنّياً من حيث تأثيره وتفاعله مع الحركة الفكريّة في نشوئها ونموّها وتطوّرها؟!
هذا هو باختصار شديد المحوريْن الأساسييْن اللذين أتمنى أن يتركز النّقاش والحوار حولهما. بعد ذلك، بعد عقد هذه النّدوات الحوارية والاختصاصيّة، سأجمع هذه المداخلات والكلمات والمناقشات العامة، وسأقوم بتلخيصها وتنقيحها جميعاً، وأرفقها كملاحق عند نشر الكتاب في صيغته النهائية. وسوف تكون، فيما أرى، تعبيراً حقيقياً وشاملاً عن وجهة نظر مختلف التيارات الثّقافية اللبنانية المشاركة حول موضوع المثقّف والثّقافة، وهو في الواقع موضوع الساعة…
طبعاً، لقد تعدّلت كثيراً النسخة الأولى للمخطوطة (شباط 1997) منذ ذلك الحين، أي من أربع سنوات حتى الآن، وتنقّحت وتصحّحت مرات عديدة… وهذه المخطوطة التي وزّعت عليكم الآن، وهي الأخيرة، فيها إضافات وشروحات وحواشٍ كثيرة، وسوف أضيف عليها أيضاً بعض الهوامش لتفسير بعض المصطلحات الفلسفية التِّقنيّة الخاصة، كلّ ذلك آخذاً بالاقتراحات أو الانتقادات التي وُجّهت إلى هذه الترجمة، خلال النّدوات المتنوّعة التي شارك فيها، كما قلت، مثقّفون من اختصاصات علميّة وتيارات سياسيّة وفكريّة مختلفة. فأخذتُ بكثير من هذه الملاحظات والاقتراحات التي وجدتها صائبة ومفيدة. وأدركت في الوقت عينه بفضل هذه الحوارات الغنية، أنّ هذا النصّ ليس سهلاً ولا يُقرأ "كشربة ماء" –كما نقول. فكما احتاج هذا الكتاب من المؤلِّف "سارتر"، كتابةً ونشراً، أكثر من سبع سنوات، بعد أن أدخل عليه تعديلات، كما هو واضح من كثافة الأفكار والجمل الاعتراضيّة الكثيرة فيه، فهو يحتاج أيضاً من المترجم، لا شك في ذلك، إلى جهد كبير لوضع هذا النصّ الفلسفيّ -الوجوديّ الماركسيّ، الأدبيّ، في صيغة عربية سليمة وفي أسلوب واضح ومقروء- فهو كذلك وبخاصة يحتاج من القارئ أن يبذل، هو أيضاً، جهداً ضرورياً لاستيعابه وأن يكون بالتالي ناقداً مبدعاً وخلاّقاً للنصّ من جديد…
لذلك فقد أدركت، حتى يُفهم هذا النصّ فهماً صحيحاً، خصوصاً المحاضرة الثالثة، أنّ ثمة صعوبة –لا شك في ذلك- فحاولت لمزيد في التوضيح أن أضيف بعض الحواشي من أجل شرح الألفاظ أو الجمل أو المقاطع وتفسير بعض التعبيرات والمصطلحات.
بالإضافة إلى ذلك أنّ "سارتر" كفيلسوف ليس سهلاً على الإطلاق. وهذا ما هو معروف. لقد كتب الفيلسوف الفرنسي "فولكيه" "Foulquié" في كتابه "الوجودية" "l’Existentialisme" أنّ كتاب "سارتر" الوجود والعدم "l’Être et le Néant" لم يقرأه في فرنسا سوى قلة، وقلة القلة فهمته، والكثرة لم تفهم ماذا كان يريد "سارتر" أن يقول، وبعضهم لم يتجاوز في قراءتهم له أكثر من ثلاثين صفحة. ويضيف "فولكيه" : "الوجود والعدم"، كتاب ضخم مكوّن من 724 صفحة. وهو عبارة عن نصّ مكثّف وعمل فلسفيّ يتوجّه إلى الاختصاصيين الذين هم أنفسهم يعترفون بأنَّهم غير واثقين من أنّهم قد فهموه فهماً جيداً. وإذا قال الواحد بأنّني لم أفهم، فإنّ "سارتر" يجيب: فليس ذلك غريباً أو مثيراً للدهشة: الواقع هو واقع عبثيّ".*
لذلك فقد أدركت، في أثناء عقد هذه الحلقات الدراسية المتتالية لمناقشة ترجمة هذا الكتيّب، صعوبة النّص الذي هو أمامنا "دفاعاً عن المثقّفين"، من حيث المضمون والدلالة وكثافة الأفكار الفلسفيّة والأدبيّة والسياسيّة. ذلك أنّ ما أريده من هذه الترجمة وما أطمح إليه هو أن يكون النّص واضحاً، بقدر ما يمكن أن يكون الوضوح، حتى يؤدّي الغاية التي أسعى إليها والمهمّة التي تُرجم من أجلها. فأنا لا أبغي أن أترجم لمجرّد الترجمة. بل العكس، أنا أرغب في الأساس أن يُقرأ هذا النّصّ، أن يُناقش، أن يُنتقد، أن يُرفض. ولكن، في المقابل، أن نقدّم بعد ذلك، نحن كمثقّفين لبنانيين وعرب، تعريفنا الخاص لمفهم الثقافة ولمفهوم المثقّف عندنا، انطلاقاً من خصوصيتنا الاجتماعية والتاريخية.
من هنا، فقد أدركت، خلال الترجمة، أنّ هذا النّص الذي هو بين أيدينا، ليس نصّاً سهلاً في لغته الأصلية، وبالتالي في ترجمته العربية. فهو نصٌّ فلسفيٌّ-سياسيّ-أدبيّ لا يمكن أن يُفهم بالعمق المطلوب وفي كثير من جوانبه، إلاّ إذا كان الواحد منّا لديه معرفة، في كثير أو قليل، بالوجوديّة ومفاهيم المصطلحات واصطلاحات "سارتر" الفلسفية.
لهذا وجدت نفسي، ومنذ ما يقرب من أربع سنوات ونيّف، منكباً على قراءة "سارتر" نصّاً أو ما كُتب عنه وعن فلسفته وأفكاره السياسية، ومن أقرب المقربين إليه وبخاصة "سيمون دي بوفوار"، حتى أستوعب بصورة سليمة وكمترجم، روحيّة هذا النّصّ ومضمون المصطلحات الواردة فيه… ذلك أنّني لم أكن سابقاً على معرفة تامة وعميقة بالوجودية كفلسفة، وإن كنت أنظر، أنا وجيلي، إلى مواقف "سارتر" السياسيّة النضاليّة المعادية للسياسات الاستعماريّة داخل فرنسا أو في العالم، نظرةً فيها كثير من الإعجاب والتأييد… والسبب في ذلك أنّنا كنّا ننتمي إلى تيار فكريّ أو تيارات سياسية وأيديولوجية أخرى، رافضة أصلاً للفلسفة الوجودية، وهي تيارات العروبة والاشتراكية والماركسية والتيارات الثورية على طريقة "اليسار الجديد" آنذاك.
النقطة الأخيرة التي أودّ أن أتوقّف عندها قبل أن أفتح باب النّقاش، هي أنّني، كما أشرت إلى ذلك في المقدّمة، لم أكن أعلم أنّ هذا النّصّ كان قد ترجمه إلى اللغة العربية الأستاذ جورج طرابيشي. فحاولت في حينه أن أحصل على هذه الترجمة، لم أوفّق في ذلك لكونها نافدة، حتى في الدار التي قامت بنشرها… ولكنني وجدتها أخيراً بعد بحث طويل في مكتبة جامعة بيروت العربية. فصوّرتها. وإنّما لم أطّلع عليها وأقرأها، إلاّ بعد أن انتهيت من ترجمتي نهائياً. فأقمت عندئذٍ مقارنة بين النّصّ الفرنسيّ من جهة وبين ترجمة جورج طرابيشي وترجمتي الشّخصيّة من جهة أخرى. فكان هدفي الأول هو أن لا يكون في ترجمتي لبعض المصطلحات والمفاهيم ترجمة خاطئة، ، ترجمة مخالفة للمعنى المقصود أو تشويهاً له. كان همّي الوحيد هو أن لا أخون المعنى أو أفكار "سارتر". فحصل عندي، نتيجة هذه المقارنة، شيء من الاطمئنان –إذا جاز لي القول- وتولّد لديّ نوع من الرضى عن النّهج الذي اعتمدت عليه والأسلوب في اختيار المفردات العربية لترجمة المصطلحات الأجنبية. وتوضيحاً للمعنى ولمقاطع كثيرة في النّصّ، قمت بوضع الهوامش حول بعض المصطلحات الفلسفية والعلمية والأدبية الواردة في هذا النّصّ. بيد أنني، وأقول ذلك بمنتهى الصراحة والوضوح، قد احتفظت بالنّص العربيّ كما قمت بترجمته. وهذه الترجمة موجودة ويستطيع أيّ واحد أن يقوم بالمقارنة كما فعلت. لقد احتفظت بأسلوبي وبمنهجي وبشخصيتي في التعبير…
هذه هي بعض الايضاحات، وهذا ما أردت أن أقوله في هذه العُجالة حول النّصّ… والآن أترك الحديث وأفتح باب النّقاش، وأكون سعيداً أن أستمع إلى ملاحظاتكم وانتقاداتكم واقتراحاتكم حول الترجمة من حيث المضمون أو المبنى أو الأسلوب، فهذه هي الغاية من عقد هذه الحلقة الدراسيّة الضيّقة…
وأخيراً، من الأهمية بمكان في هذا السياق أيضاً أن نعطي نحن ونقدّم مفهومنا الخاص للمثقّف وللثقافة في لبنان. بمعنى: هل اشتغلنا، نحن كمثقّفين لبنانيين، حول هذا الموضوع، معرفياً، اجتماعياً، تاريخياً؟!… هذا هو السؤال الذي أودّ أن نجيب عنه في هذا اللقاء الثقافيّ. فباب الحوار والنقاش مفتوح…
* * *
الدكتور مصطفى دندشلي: … أودّ في ختام هذه الجلسة الحوارية الممتعة والغنيّة أن أبدي بعضاً من الملاحظات وبعضاً من الأجوبة حول ما جاء في أثناء المناقشة: أولى هذه الملاحظات هي على ما قاله الدكتور مصطفى لطفي. ففي هذه المحاضرات الثلاث لـ "سارتر"، كان قد عَرَضَ بوضوحٍ تامٍ وُجهة نظره فلسفياً وسياسياً وأدبياً حول مفهومه للمثقّف ونشوئه ووظيفته ودوره في المجتمع، وذلك من وُجهة نظر خاصة ومعيّنة تحديداً: "سارتر" فيلسوف وأديب ومفكر وكاتب سياسي له بيئته ومرحلته ومجتمعه وتاريخه وثقافته، وبكلمة: له خصوصيته. إنني أشدّد كثيراً على هذا الجانب…
هذا من جهة ومن جهة ثانية، أدرك تماماً من خلال الترجمة والمناقشات التي عُقدت حول هذا الكتاب، أدرك صعوبته… وفي مقاطع عديدة وبخاصة المحاضرة الثالثة، صعوبة الترجمة إلى اللغة العربية… وقد قمت أخيراً بمقارنة ترجمتي لهذه المحاضرات مع ترجمة جورج طرابيشي. وذلك بهدف الوقوف على معرفة إن كانت ترجمتي سليمة أم إذا كان يشوبها بعض الأخطاء في المعنى أو في تعريب بعض المفردات والمصطلحات والتراكيب اللغوية. فأنا لم آخذ شيئاً منه، فلكل أسلوبه ولغته الخاصة ومنهجه في الترجمة، ولكن الشيء الوحيد الذي استفدته هو اطمئناني إلى أنني لم أقع في أيّ خطأ في ترجمة بعض المعاني والمفاهيم… وقد حاولت وبذلت جهدي في أن تكون صياغتي صياغة عربية سليمة صحيحة واضحة بقدر الإمكان. فلا يشعر القارئ بأنّ هذا النص هو نص مترجم من لغة أجنبيّة. بل العكس. لقد أحببت أن يكون النص وكأنه مكتوب مباشرة باللغة العربية، مع شيء من جمال الأسلوب ووضوح الأفكار…
لقد قرأت هذا النص منذ ترجمته الأولى، أي منذ أربع سنوات حتى الآن، أكثر من أربعين أو خمسين مرة… ففي كل مرة أقرأ هذا النص المترجم بعد تنقيحه وشرح كثير من مصطلحاته، أجد نفسي وكأنني أقرأه من جديد ولأول مرة… ومن جهة ثانية، فأنا لم أقرأ سابقاً فلسفة "سارتر" الوجودية، ولست "سارترياً"، إذا جاز التعبير، على الصعيد الفكريّ والفلسفيّ، وإن كنت قد قرأت كثيراً من رواياته ومسرحياته، وكتاباته السياسية ولا سيما في مرحلة دراستي طوال فترة الستينات.
وكما نعلم، فطِوالَ تلك المرحلة ومنذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، قد كانت مرحلة "جان-بول سارتر"… إنّ ما لفت أنظارنا إلى "سارتر"، إنما هو مواقفه السياسية الجريئة وحتى "الثوريّة" ضد الرأسمالية العالمية وخصوصاً سياسة الولايات المتحدة الأميركية في العالم، ودعماً لحركات التحرر الوطنية في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية… هذا ما جذبنا إلى مواقف "سارتر" السياسية، دون أن نُعير اهتماماً يذكر إلى فلسفته الوجودية.
عندما قمت بترجمة هذه المحاضرات الثلاث، شعرت بأنّ لديّ نقصاً في فهم فلسفة "سارتر" الوجودية. ذلك أنّه حتى نفهم هذا الكتاب من حيث المضمون الفعلي والمصطلحات والدلالات الفلسفية فهماً دقيقاً والوقوف على ما يريده "سارتر" من إيحاءٍ ومعنى بالضبط، ينبغي علينا أن نلمّ مسبقاً بمفاتيح الفلسفة الوجودية والعلاقة فيما بينها وبين الفلسفة الماركسية، وبخاصة المادية التاريخية… فأخذت أقرأ، لا أقول الفلسفة الوجودية أو كتابات "سارتر" الفلسفية ذاتها، وإنما ما كُتِب عن الفلسفة الوجودية ومنها فلسفة "سارتر" الوجودية، وما كتب أيضاً وخصوصاً عن المثقّفين والحياة الثقافية العامة في فرنسا. وهناك كتب عديدة في هذا الموضوع، سواء في اللغة العربية أم في اللغة الفرنسية صدرت حديثاً. وسأذكرها تسهيلاً لذلك ولمن يريد أن يرجع إليها. وكذلك سأضيف كثيراً من الحواشي توضيحاً وشرحاً للمفاهيم الفلسفية الواردة في هذا النص من أجل فهمه واستيعابه في مضمونه ومحتواه.
يضاف إلى ذلك أنّ لـ "سارتر" تقنيات في الأسلوب والمصطلحات والتعبيرات والاشتقاقات كثيرة، كان قد أوجدها وابتكرها. هنا تكمن إحدى الصعوبات التي واجهتني… على سبيل المثال فقط لا الحصر، لفظة، La désinformation كيف يمكن أن نترجمها إلى اللغة العربية، علماً بأنّ هذه مفردة غير موجودة في القاموس الفرنسي وهي مشتقة من الكلمة information مضافاً إليها البادئة dés، وهي تعني إعلام، إخبار، إنباء، إلخ.. ولكن désinformation ماذا تعني هذه المفردة؟!.. هنا قلت اللا-إعلام، بمعنى التمويه، التورية.. كذلك تأتي في هذا السياق لفظة: pratico-inerte، فلقد شرحتها في الهامش، بمعنى الدمج ما بين الوجودية الإنسانية الفردية والماركسية التطبيقيـة العملية.. هنـاك أيضاً تعبيرla praxis ، الذي له صدى ومعنى في اللغة الفرنسية، لست أدري إذا كنت قد استطعت أن أؤدي معناه الدقيق ودلالته في اللغة العربية. جميل صليبا في "معجمه الفلسفي"، ترك اللفظة الأجنبية على ما هي عليه مع تعريبها: "براكسيس".
هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، فإذا قرأنا بتأنٍ هذا الكتاب، فإننا نجد أنّ "سارتر" كان واضحاً تمام الوضوح ومنسجماً مع نفسه وفكره السياسي والفلسفي تمام الانسجام. أن توافقه، أو لا توافقه، هذا شيء آخر. لنا الحقّ، كلّ الحقّ في ذلك. ولكن، يجب أن لا يغيب عن أذهاننا أنّ "سارتر" هو نفسه "متناقض"، وفكره فكرَ التناقض بين الذات والموضوع، بين الخاص والعام، بين الخصوصية والشمولية. هذه نقطة جوهرية في فكر "سارتر" وفلسفته. من هنا مصدر "القلق" الوجوديّ و"القلق" الإنسانيّ من وجهة نظره.
أما في ما جاء حول البنيوية، فإننا نعلم جيداً أنّ بين "سارتر" والبنيويين في فرنسا، وخصوصاً لفي-ستراوس Lévi-strauss، هناك صراعاً فكرياً طويلاً عريضاً وسجالاً لم ينته قطّ. كان البنيويون ينتقدون "سارتر" ويهاجمونه هجوماً عنيفاً في تأكيده نزعة الممارسة ومفهوم الحريّة الفردية، وملامسة الواقع والتجربة الواقعية الملموسة، في حين أنّ البنيويين خصوصاً في ما يتعلق باللغة، يركزون على النصّ بذاته، بمعزل عمّن كتبه وبمعزل عن الواقع الذي أنتج هذا النص. وقد ثبت فشل هذه النظرية البنيوية بعد أحداث عام 1968 في فرنسا. فكانت هذه الأحداث على صعيد الفكر بمثابة رصاصة الرحمة التي وُجهت إلى الفلسفة البنيوية. ,إذا كنا نحن لا نزال في جامعاتنا ندرِّس الفلسفة البنيوية حتى الآن دون نقدها أو اعتبار أن التطور العلمي قد تجاوزها، فذلك يعني أننا دائماً متأخرون… وبعد أن أعلن الغرب موت "البنيوية" كفلسفة ومنهج، ابتدأنا نحن ندرّس البنيوية كآخر نتاج الغرب… كما أنّه ليس صحيحاً البتّة أنّ مناقشة موضوع الثقافة يبعدنا عن واقعنا وقضايانا. بل العكس هو الصحيح، في رأيي: إننا في صميم الواقع ومعالجة شؤونه ومشاكله عند طرحنا دور الثقافة والمثقّف في ظروفنا الراهنة.
وهنا أخيراً لا يسعني إلاّ أن أتوجه بالشكر إلى الأستاذ حسن غريب لهذا الجهد الذي بذله في كتابة نقده للمحاضرة الأولى وفهمها، والذي سأنشره كاملاً، وآمل أن يتابع نقده للمحاضرة الثانية والثالثة… وإنما ما أريد أن أقوله وأوضحه وأشدّد عليه هو أنّه ليس المقصود من هذه الترجمة تبني وجهة نظر "جان-بول سارتر"، في ما يتعلق بهذا الاصطلاح: المثقّف والثقافة، إطلاقاً. ذلك أنّني أعلم، وأنتم أيضاً تعلمون أنّ أيّ مصطلح، أيّ فكرة فلسفية، إنّما تعبّر عن واقع اجتماعي وتاريخي وثقافي معين. "سارتر"، كما أشرت إلى ذلك وأكرّره، ابن بيئته الفكرية، ابن المجتمع الفرنسي، ابن الثقافة الفرنسية وبالتالي الثقافة الأوروبية. فليس المطلوب منا إطلاقاً أن نتبنّى وُجهة النظر هذه. قلت ذلك مراراً وتكراراً وأقوله الآن أيضاً، ليس المقصود أن نأخذ برأي "سارتر" في هذا الموضوع.
لقد عرّف "سارتر" المثقّف بما يمكن تلخيصه بنقطتين: هو الإنسان الذي يقف موقفاً اعتراضياً ناقداً للسلطة المهيمنة، أيّ سلطة وعلى مختلف المستويات، والسلطة السياسية البرجوازية السائدة والمسيطِرة في المجتمع الرأسمالي، انطلاقاً من خصوصية ذاتية نحو شمولية كلية، وهو الذي يناضل قولاً وفكراً، ممارسة وعملاً من أجل التغيير ولمصلحة الطبقات المحرومة والمقهورة. هو التِّقني في المعرفة العلمية، الذي يتجاوز خصوصيته، بمعنى أيديولوجية الطبقة المسيطِرة، مستفيداً من شهرته وموقعه ومعرفته، للخروج على هذا الواقع الطبقي الاستغلالي، نحو رؤية شمولية إنسانية. المثقّف هو الإنسان الناقد الاعتراضي للسلطة المهيمنة انطلاقاً من تبنيه لقضايا الجماهير المحرومة.
إنّ فكرة "النَّقد"، "الاعتراض"، في الحقيقة، ليست فكرة إبداعية أو ابتكاراً من "سارتر". هي مفهوم فرنسي. ولقد أشرت في الحواشي إلى أنّ المثقّف الحديث وبهذا المعنى، نشأ في فرنسا في أثناء قضية "درايفوس" في أواخر القرن التاسع عشر. ويُعتبر المثقّف النموذج في هذه الأحداث "إميل زولا" Emile Zola. المصطلح الحديث لهذه الكلمة "مثقّف" نشأ في اللغة الفرنسية عام 1898، عند صدور "بيان المثقّفين"Le manifeste des intellectuels … كلمة intellectuel: فكريّ، ذهنيّ، عقليّ، في اللغة الفرنسية، كانت تُستخدم حتى ذلك الحين كصفة، adjectif فنقول travail intellectuel عمل ذهنيّ أو فكريّ أو عقليّ، ومقابلها travail manuel عمل يدويّ. بعد هذه الأحداث وفي أثنائها تحولت إلى substantif إلى اسم: les intellectuels, l’intellectuel المثقّف والمثقّفون.
في حين أنّ عندنا هناك إبداعاً حقيقياً وابتكاراً لافتاً، بما أنّ كلمة مثقّف إنما هي مشتقة من الثقافة. وتحمل معانيها ومضامينها ومدلولاتها وتاريخيتها، حتى بعد أن تحوّلت إلى معناها الاصطلاحي الحديث.
هذا، وما المقصود من هذه الترجمة حول: الثقافة والمثقّف؟!… لقد أشرت إلى ذلك مراراً وفي مناسبات عديدة وهو التحريض، تحريض مثقّفينا واستفزازهم، بمعنى حثهم على التفكير وطرح السؤال بإلحاح علينا جميعاً كمثقّفين لبنانيين: هل "اشتغلنا" وبحثنا ونقّبنا حول هذا المفهوم وهذا المصطلح الحديث الشائك والمُعقّد والملتبس؟!…
وهنا أيضاً ينبغي أن أشير إلى أن ليس هناك من اتفاق عام بين علماء الاجتماع والأنتربولوجيا حول هذا المفهوم الجديد: الثّقافة. يمكننا أن نحصي أكثر من ماية وستة وثلاثين (136) تعريفاً للثقافة، متداولة في السوسيولوجيا والأنتروبولوجيا. وكلّ واحد من الكتّاب، فلاسفة أو مؤرخين أو أدباء أو غيرهم، ابتكر اصطلاحاً خاصاً به، نابعاً من تجربته الشخصية، الفكرية أو التاريخية أو الاجتماعية… فليس هناك من تعريف واحد وموحّد، جامع مانع –كما نقول- للثقافة وبالتالي للمثقّف… لكل مجتمع مفهومه الخاص أو بتعبير أدقّ مفاهيمه الخاصة التي تصدر من تجربته التاريخية والاجتماعية والأنتروبولوجية الخاصة والتي تحدّد هويته وشخصيته وتميّزه إلى هذا الحدّ أو ذاك عن المجتمعات الأخرى، القريبة منه أو البعيدة.
كذلك نجد أنّ إدوار سعيد أطلق على كتابه عنواناً: "صُوَر المثقّف"، بمعنى أنّ هناك تيارات عديدة ومفاهيم مختلفة أشدّ الاختلاف حول مفهوم المثقّف والثقافة… في بريطانيا، على سبيل المثال لا الحصر، ثمة نظرة ازدراء واحتقار واستخفاف للمثقّف، حتى الحرب العالمية الثانية. وكذلك في الولايات المتحدة الأميركية، فهم يفضلون استخدام مصطلحات: التِّقني، الخبير، الفنّي، الاختصاصي، العالِم، إلخ… وفي ألمانيا اهتموا وانصبّ تفكيرهم على شؤون الفلسفة وقضاياها… أما الفرنسيون، فهم الذين أولوا عناية خاصة واهتماماً مميّزاً بمفاهيم السياسة المختلفة، الاشتراكية منها والثورية، وببلورة هذا المفهوم تحديداً: المثقّف، دور المثقّف وظيفة المثقّف، إلخ… هنا، أودّ أن أضيف- لمزيد في التوضيح- وأشير إلى أنّ إضفاء قيمة كبيرة على التعليم في المجتمعات الصناعية والتكنولوجية المتطوّرة نسبياً، في الماضي أو الحاضر، إنما ترافق ذلك جنباً إلى جنب مع العقلانيّة والإيمان الراسخ بالعلم: ذلك أن تقويم التعليم وأهميته هما سُبُل العقلانيّة وشروطها. غير أنّه من السهولة أن نلاحظ أيضاً في هذه المجتمعات الصناعية والتكنولوجية المتطوّرة تعارضاً معيناً وحَذَراً وخشية مفرطة ومبالغة من التعليم النظريّ، الفكريّ، والفلسفيّ، وبالتالي من الثقافة والمثقّف. ذلك "أننا نرتاب كثيراً ونحذر الرجل "المتعلِّم كثيراً،" ذا الأفكار المجرّدة الذي يفتقد الواقعيّة. من هنا فإنّ تعبير "المثقّفون" كثيراً ما يُستعمل في الغالب الأعمّ بمعنى سيّئ. ويمثّل الفولكلور الشعبيّ رسوماً كاريكاتوريّة للمثقّف الذي نقول عنه إنّه "ضبابيّ"، دائم الشرود، "مثاليّ". كما يوصف المثقّف في الولايات المتحدة الأميركية كهيئة "رأس البيضة" (egg head)، أي الذي ابتلع رأسُه كثيراً من المعارف، فغدا به الأمر إلى أن يأخذ شكل البيضة".
"والواقع، في مجتمع مهووس بالإنتاج، فإنّ البحث والفنّ المجرديْن، المحضيْن أو المنـزّهين عن أيّ غرض، هما دائماً بحاجة إلى أن يقدّما على الدوام البرهان "على أنّهما يمكن أن يقدّما خدمة في يوم من الأيام، ويكونا نافعيْن لشيء ما"، دون ذلك لا يكون لهما مكان في المجتمع. إنّنا نلاحظ دائماً صراعاً خفياً، وأحياناً ظاهراً، بين المنظّرين والعمليّين، بين البحّاثة والإداريّين، بين رجال الفكر ورجال الممارسة العمليّة."*
من هنا ندرك تماماً موقف "كولن باول" وزير الخارجية الأميركي، عندما سئل عن رأيه في تصريح "فدرين" وزير الخارجية الفرنسي، منتقداً السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط، فكان جوابه العفويّ والسريع: "هذا كلام المثقّفين." بمعني كلام "خيالي"، "مثالي"، غير واقعي.
* * *
لكن هنا يطرح علينا السؤال كمثقّفين لبنانيين: ما هو مفهومنا، ما هو تعريفنا نحن الخاص لهذا المصطلح "المثقّف"؟!… إنني أطرح الموضوع تخصيصاً عندنا في لبنان، لا في إطاره العربي: المثقّف العربي. إنني كثيراً ما أتجنّب طرح مفهوم الثقافة أو المثقّف في مستواه العام، في سياقه العربي أو العالمي… يمكن ذلك ولنا مطلق الحقّ… خصوصاً وأنّ المثقّفين المصريين قد اشتغلوا أكثر منّا بكثير على هذا المفهوم الثقافة أو المثقّف، ولهم كتابات، وسجالاتهم مشهورة في هذه المواضيع، منذ طه حسين، وقبله وبعده. وهناك "طبقة" –إذا جاز لي أن أستعمل هذا التعبير- طبقة واسعة وعريضة وممتدّة من المثقّفين، ناشطة، متحركة، حيويّة، وتخوض معارك فكرية وثقافية وأدبية وسياسية ذات شهرة واسعة. وكذلك المثقّفون السوريون والعراقيون وإن كان بنسبة أقل…
وإنما نحن وفي هذا الإطار، السؤال المطروح علينا –عبر مناقشة هذه الترجمة- ما هو مفهومنا، كمثقّفين لبنانيين، للثقافة والمثقّف… هذه هي الإشكالية المطروحة بإلحاح ووضوح. فيجب أن نبتكر ونبدع وبحسب تجربتنا الخاصة وواقعنا الاجتماعي والتاريخي المميّز، إلى هذا الحدّ أو ذاك: مفهومنا للثقافة وللمثقّف.
لقد طُرح فيما مضى وفي فترة زمنية معيّنة –ولربما ما زال حتى الآن ضمناً أو صراحةً- موضوع التعدّد الثقافيّ أو الحضاريّ في لبنان أو الثنائية اللغوية، العربية والفرنسية، والثلاثية الآن بإضافة الإنكليزية…فكنقطة الانطلاق لطرح هذا الموضوع الشائك والمعقّد والخلافي ومناقشته بالعمق والشمول المطلوب، كانت هذه الترجمة لكتاب "جان-بول سارتر" "دفاعاً عن المثقّفين". وهذا المفهوم حول المثقّف في هذا الكتاب -كما أشرت في ما سبق- هو مفهوم خاص بـ "سارتر". ولا يعني أبداً أنّ الفلاسفة والمثقّفين الفرنسيين جميعهم يتبنون في المطلق هذا الاصطلاح للمثقّف… وإنّما من الأهمية لي أنا وأنت وهو، ولكل واحد منا، أن يوضِّح مفهومه الخاص وكما يراه للمثقّف وللثقافة. هذا هو السؤال الإشكالي المطروح علينا عبر هذه الترجمة.
حسن غريب: … يجب علنيا بداية أن نحدّد تعريف المثقّف ودوره ونتفق على هذا التعريف قبل المناقشة، يجب الاتفاق أولاً…
د. مصطفى دندشلي: … لا، لا، الاتفاق، إذا كان ثمة اتفاق أو إذا كان من الممكن أن ينعقد اتفاق حول هذا الموضوع الإشكالي، إنما يأتي بعد المناقشة وبعد الحوار، لا قبل ذلك… أعود وأكرّر مرة أخرى: "سارتر" وكأنه يقول في هذا الكتاب: هذا هو مفهومي للمثقّف ودوره ووظيفته. هكذا "سارتر" يعرّف المثقّف. إذن، تعريفك أنت كلبناني أو كعربيّ مَن هو المثقّف من وجهة نظرك؟!… هل توافق على تعريف "سارتر" للمثقّف أو ترفضه؟… فإذا كنت ترفضه، ما هو تعريفك الخاص النابع من تجربتك الشخصية، الاجتماعية والتاريخية؟!… و "سارتر" لا يمكن أن يفرض علينا تعريفه، ولا أنا أستطيع أن أفرض عليك تعريفي، ولا أنت في استطاعتك أن تفرض عليّ تعريفك… فلا يمكن أن يتمّ الاتفاق مسبقاً على هذا الموضوع، إطلاقاً… فهذه القضية ليست هي معادلة رياضية أو فيزيائية علمية، يمكن أن يقع عليها الاتفاق أو تتمّ الموافقة بداية. ومن ثمّ ينطلق الحوار والنقاش، كما تقول… لا، لا، إطلاقاً…
حسن غريب: … ولكن، كيف تعرّف الماركسية المثقّف الإسلامي؟!… وكيف الإسلاميون يعرّفون المثقّف الماركسيّ؟… هل يمكنك أن تحدّد ذلك؟!… هل يعترف الماركسي بالإسلامي المثقّف؟… والإسلامي، هل يعترف بالمثقّف الماركسي؟… إذن، يجب أن ننطلق بداية من تعريف متفق عليه حول المثقّف حتى يجري النقاش…؟
د. مصطفى دندشلي: … هنا، لا يجوز إطلاقاً أن يكون هناك التباس. هذا الاصطلاح وكأيّ اصطلاح فكريّ، فلسفيّ، اجتماعيّ، وحتى سياسيّ، هناك اجتهادات وخلافات في وجهات النظر. هذه المفاهيم: الثقافة والمثقّف، بما أن موضوع نقاشنا الآن هو هذا، هي في الحقيقة والواقع مفاهيم خلافية لا يمكن أن يتمّ عليها الاتفاق أو التوافق، إطلاقاً… وإلاّ لكان الأمر في غاية السهولة والبساطة ولم يكن ليتطلب منا هذا الجهد. فكل مجتمع، له ثقافته الخاصة وله طابعه الثقافي الخاص، مهما كان هذا المجتمع، صغيراً كان أو كبيراً. وثقافته هذه هي التي تحدّد له هويته وتعيِّن له شخصيته المميّزة وهي التي تميّزه من المجتمعات الأخرى. كما أنّ لهذه الثقافة لونها الخاص وخصوصيتها المتفرّدة…
لقد اشتغلت في ما سبق على مفهوم أو مفاهيم الثقافة في لبنان، حتى أُظهر أنّ هناك تنوعاً ثقافياً لا يُعدّ ولا يُحصى، وذلك ضمن إطار الثقافة الواحدة الموحَّدة… هناك ثقافات نسميها اجتماعياً وأنتروبولوجياً ثقافات فرعية كثيرة جداً في مختلف مناطق لبنان ومدنه وقراه وأريافه، ضمن وَحدة ثقافية عامة شاملة… لو أخذنا مدينة من المدن اللبنانية، على سبيل المثال فقط دون الدخول في التفاصيل، فإننا نجد اجتماعياً وأنتروبولوجياً أنّ لها طابعاً معيّناً من الثقافة، خاص بها يميّزها من غيرها من المدن الأخرى، وذلك من حيث اللهجة الخاصة بها، والعلاقات والسلوك والعادات. بل وحتى في هذه المدينة الواحدة، فهناك أيضاً تنوّع ثقافي بين سكانها في أحيائها وحاراتها القديمة وسكانها في أحيائها الحديثة، بين تنوّع طبقاتها الاجتماعية من حيث مستواهم المعيشي والاقتصادي والتعليمي، ويظهر ذلك بوضوح أحياناً في الزيّ والسكن والعمل والعلاقات الاجتماعية، إلخ…
فهناك ثقافات فرعية معيّنة ولكن ضمن إطار ثقافة لبنانية واحدة وموَّحدة وموحِّدة. وهذه الثقافة اللبنانية، بدورها هي ثقافة فرعية ضمن إطار الثقافة العربية الإسلامية العامة الشاملة، بمعنى أنّ هناك خصائص وصفات كثيرة، إلى هذا الحدّ أو ذاك، مشتركة بين هاتين الثقافتين،… هناك تقارب وتوافق في كثير من الوجوه –لو أخذنا فقط
اللغة العربية المشتركة وما تعنيه اللغة- بين الثقافة اللبنانية والثقافة العربية-الإسلامية. إنّ الثقافة اللبنانية متأثرة تأثراً كبيراً وفي كثير من الوجوه بالثقافة أو –إذا أردتم- بالحضارة العربية-الإسلامية، مما دعا المطران جورج خضر إلى أن يقول في إحدى محاضراته أنّ ثقافته في الأعماق إنما هي ثقافة عربية إسلامية. هنا أضيف للتوضيح أن ليس هنا ولا في أيّ مجتمع من المجتمعات ثقافة واحدة موحَّدة، بمعنى monolothique ، وإنّما هناك تنوّع ثقافي ضمن الثقافة الواحدة…
ففي فرنسا مثلاً هناك ثقافة واحدة، لها طابعها الخاص وخصائصها وشخصيتها المميّزة، ولكن من ضمنها ثمة تنوّعاً ثقافيّاً أو ثقافات فرعية عديدة. فالطبقة البرجوازية لها ثقافتها الخاصة، سواء أكان ذلك في الأرياف أم في المدن، والطبقة العاملة لها أيضاً ثقافتها الخاصة بها، والطبقات الوسطى لها ثقافاتها والمناطق الشمالية لها ثقافاتها وكذلك المناطق الجنوبية، إلخ… إلخ… ولكن جميع هذه الثقافات الفرعية في تنوّعها، لا يمكن أن تُفهم ولا أن تُوضّح إلا عبر الثقافة العامة الشاملة ومن خلالها، التي هي تميّز هذا المجتمع عن باق المجتمعات الأخرى…
الثقافة في مفاهيم علم الاجتماع والأنتروبولوجيا، هي ثقافة الشعوب والمجتمعات الكبرى كما أنّها ثقافة المجموعات الصغرى: نادٍ، جمعيّة، نقابة، حزب، إلخ… حتى أنّ الأنتروبولوجيا تسمّت بالأنتروبولوجيا الثقافية. ولن أدخل هنا في التعريفات المتنوعة والخلافية في كثير من الأحيان. وهذه الثقافة ليست على الإطلاق جامدة، ساكنة. إنّها ثقافة دينامية متحركة ومتغيّرة دائماً وأبداً، وهي متطوّرة تبعاً لتطوّر المجتمع الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ. إنّ الثقافة الحالية في مدينة صيدا –إذا سمحتم لي أن أعطي هذا المثل- تختلف في كثير من الجوانب عن ثقافة صيدا منذ مائة عام. فهناك تطوّر ملحوظ وتغيّر واضح، مع تطوّر وتغيّر الواقع الاجتماعيّ والتاريخيّ… هذا هو، بصورة عامة وسريعة، مفهوم الثقافة بالمعنى العلميّ للكلمة، الاجتماعيّ والأنتروبولوجيّ…
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* Paul Foulquié, L’Éxistentialisme P.U.F. (Coll. Que sais-je) Paris, 1958, P. 56.
* أنظر: "غي روشيه"، مقدّمة في علم الاجتماع العام، 2- التنظيم الاجتماعيّ، (ترجمة د. مصطفى دندشلي)، ط أولى، بيروت، 2002, ص 204-205.