موضوع الحداثـة
7 ـ موضوع الحداثـة
إن نهجنا الفكري الذي يصوغ مواقفنا من الحياة وقضاياها ينطلق من القيم الكبرى التي حملتها الثقافة العربية ، كما ينطلق أيضاً من منطق العصر وحاجاته ومفاهيمه وفق منهج الربط بين الأصالة والحداثة، والعمل على وضع الفكر في صالح الحياة استناداً الى مناهج عقلية وواقعية في التفكير، تحليلاً واستنتاجاً.
وعبر التاريخ لم تستطع أمة أن تبني حضارتها وتؤسس مدنيتها بمعزل عن التعامل مع محيطها ومع العالم، فالتفاعل بين الحضارات أخذاً وعطاءً قائم منذ بداية التاريخ. والحضارة العربية مثال واضح فهي منتج لعوامل عديدة منها مساهمة الحضارات والثقافات الأخرى في نموها وإغنائها، كما أسهمت هي بدورها في إغناء الحضارات التي أتت بعدها. ولا تستطيع أمة مهما امتلكت من وسائل أن تبني نفسها بصورة منعزلة عن العالم وحتى إذا امتلكت الامكانات فإنها تجد نفسها مسوقة بحكم قوانين الحياة الى العمل على نشر مفاهيمها. وخلال عملية الانتشار يجري التفاعل ويتحقق التطور.
وإذا كانت هذه الحقيقة ماثلة منذ آلاف السنين فكيف بعالم اليوم حيث بات انتقال الأفكار والعلوم وأنماط الحياة مسألة بغاية السهولة والبساطة، وأصبح من الاستحالة البحث عن حواجز تحد من هذا الانتقال؟..
وفي عالم اليوم الذي يشهد تغييرات مثيرة في أنماط الحياة والتفكير والممارسة وفي تحديد معالم الحاضر واحتمالات المستقبل يجب أن نبحث عن السبل الكفيلة بتعزيز التطوير والتحديث بما يمكننا من توفير عوامل النهوض والتقدم..
لكن التحديث والتطوير لا يعنيان النقل واستخدام منتجات العلم، وإنما تنمية القدرة على الاسهام في تطوير العلم ومنتجاته من خلال ذهنية جديدة واعية لخطورة استمرار حالة الجمود أو حالة التطور البطيء.
والحداثة، بوجه عام، هي نهج التفكير المبني على المنهج العقلي في المعرفة، أما التحديث فهو عملية تطبيق الحداثة على أمور الحياة ومجالاتها كافة. ففي الحداثة والتحديث يتكامل الفكر مع الممارسة. وتطرح الحداثة كقاعدة أساسية للتطور، إذ أنها منطلق منهجي للإبداع والتجديد والتخلص من الجمود الذي يؤدي الى التراجع والتخلف. ومن العبث الحديث عن تحديث الدولة والمجتمع عبر استخدام آخر منتجات العلم في الوقت الذي يبقى فيه العقل حبيس الماضي وأسير الجمود.
وقد بنى الغرب حضارته المعاصرة على أساس الحداثة، لكنه في تركيزه على المنهج العقلي أهمل الجوانب الثقافية والأخلاقية والقيمية وغيرها من الجوانب الإنسانية، مما أدى إلى توجيه أفضل ما في العلم نحو إنتاج وسائل الدمار وتلوث البيئة، وبناء مجتمعات يسيطر فيها القوي على الضعيف والغني على الفقير مع امتداد ذلك الى المستوى العالمي.
وبسبب ابتعاد الحداثة الغربية عن القيم والمعايير الأخلاقية، ظهرت في الغرب تيارات (ما بعد الحداثة) التي تنتقد الاستخدام التعسفي النفعي للمنهج العقلي واستلاب إنسانية الإنسان في إطار مفاهيم السوق والنفعية المادية والمصالح الفئوية الضيقة..
إن تطلعنا نحو الحداثة يجب أن يكون مقروناً بربطها بالأصالة. فقد كانت ثقافتنا العربية، في أوج نهوضها، تعمل على التوفيق والتلازم بين المنهج العقلي ومنهج تعزيز القيم الإنسانية والأخلاق التي توجه العقل والعلم والمعرفة..
إن الربط بين الحداثة والأصالة في مشروعنا القومي معناه تفعيل البحث في كنوز الثقافة العربية في مختلف مراحل تطورها عن معالم المنهج العقلي والكيفية التي تم بها ربطه بالقيم الإنسانية والأخلاق، وتطوير منطلقات المنهج العقلي العربي وفق معطيات العصر الحديث ونتائج التقدم الذي تحقق في القرون الماضية.
وانطلاقاً من مضامين هذا الكنز الكبير يمكن التفاعل مع ما تقدمه الحضارة المعاصرة، وانتقاء ما هو إنساني في تطور العلوم والتكنولوجيا، والاشارة إلى كل ما هو خطر على البشر، سواء في تطبيقات العلم أو في تلوث البيئة، أو في النظريات الاجتماعية والسياسية كالصهيونية وجميع أشكال العنصرية، كالهيمنة والاستغلال والتسلط.
إن رسالة العرب تتلخص في إعادة الحداثة الى نسقها الطبيعي والابتعاد عن العقل النفعي، وإعادة ربط المنهج العقلي بالمعايير القيمية وبإنسانية الانسان على اعتبارها هي القيمة العليا وليس قيم السوق وأخلاقية البضاعة. وهذا يعتبر واحداً من أهم المضامين والمنطلقات الفلسفية لمشروعنا القومي العربي المعاصر.