الحوار المتمدن - من خفايا انقلاب شباط الدموي 1963 سباق المسافات الطويلة: (4-6)
عقيل الناصري
الحوار المتمدن - العدد: 3249 - 2011 / 1 / 17 المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث
راسلوا الكاتب-ة مباشرة حول الموضوع
من خفايا انقلاب شباط الدموي 1963
سباق المسافات الطويلة: (4-6)
لا يزال القطار أمريكياً:
القطار الأمريكي:
ونستطيع بكل ثقة علمية، مستقاة من التاريخ السياسي للعراق وللمنطقة، أن نضيف إليهم بعض عواصم الجوار، إن لم يكن أغلبها، والتي كانت هي الأخرى تعمل بصورة منفردة أو منسقة مع المحور الثلاثي أعلاه. إنه التلاقح المتنافر بين عديد من القوى المتضررة من ثورة 14 تموز وسلطة الزعيم عبد الكريم قاسم ومساراتها الوطنية المستقلة. وقد أكد الاستنتاج أعلاه عديد من الباحثين والأكاديمين والسياسيين وحتى ضباط المخابرات أنفسهم. نذكر منهم، على سبيل المثال لا الحصر:
*** يقول جيف سيمونز :
(... عرف العالم طباع صدام حسين قبل وقت طويل. وقد عرفه الأمريكان منذ عام 1963 عندما كان يساهم في تأسيس (جهاز حنين) ما عُرف بأداة التعليم ، وهو هيئة أمنية خاصة صُممت على غرار قوات ال ( أس أس )النازية لحماية حزب البعث العراقي باستهداف (أعداء الشعب). وتعرضت الفئات المناوئة للترهيب الوحشي وأصبح الاستخدام المنهجي للإرهاب وسيلة الوصول إلأى السلطة.
وقام الجيش العراقي، في ذلك الوقت بانقلاب ناجح ضد اللواء عبد الكريم قاسم أول رئيس في العهد الجمهوري، وهو الذي أطاح بحكم الأسرة الهاشمية المالكة في عام 1958. وحوكم قاسم محاكمة قصيرة ، ثم قيد إلى كرسي وأعدم بالرصاص. وأظهرت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية تقديرها حيال محاولة الانقلاب هذه بإبداء قدر كبير من التعاون ، وهذا الأمر الذي أعُترف به على نطاق واسع في ذلك الوقت. وأعلن وزير الداخلية في النظام الجديد علي صالح السعدي: لقد وصلنا إلى السلطة على قطار السي آي أي C.I.A* . وكانت الولايات المتحدة سعيدة بانتهاج مسار للأحداث يثبت قدمي صدام حسين على الطريق إلى السلطة ( بمعنى أن لديهم معرفة مسبقة بما يحضرونه-ع.ن) وتحججت واشنطن هنا أيضاً كما في جرائم أمريكية كثيرة ضد الإنسانية ، بالخطر الشيوعي كأحد أسبابها.
كانت واشنطن تشعر بقلق شديد من تطور الأحداث ، فقد بدأ عبد الكريم قاسم الذي أعتبر تهديداً متزايداً للمصالح الغربية، في تأميم أجزاء من شركة نفط العراق المملوكة بغالبيتها لشركات غربية ، وأحيا مِن جديد المطالبة العراقية بالكويت. وردَّ البريطانيون على تهديداته... أي بدعم تمرد كردي ضد الحكومة العراقية . وكانت ال C.I.A وسواها من هيئات التخطيط العسكري الأمريكية ، في الوقت نفسه تطور مخططاتها إسقاط القيادة العراقية. وتمثل الأسلوب الأمريكي الذي أقتبس لاحقاً من مختلف أرجاء العالم بشن هجوم كاسح على جميع الفئات السياسية المناوئة للمصالح الغربية. وشملت هذه الحملة التصفية الجسدية لأعضاء الحزب الشيوعي العراقي وجماعات متعددة أخرى.
وسارعت وكالة الاستخبارات المركزية إلى تأمين الساحة بعد الانقلاب وإعدام قاسم ونُظمت اضطرابات داخلية شارك فيها بعثيون مستاؤون ، وأصبح من الحيوي ألا يُسمح سوى للفئات التي تحظى برضى C.I.A بملء فراغ السلطة. وكان الحل الذي جُرب مراراً من قبل، بسيطاً فقد أعدت C.I.A قوائم بأسماء الأشخاص الذين يجب تصفيتهم لضمان ألا تتمكن جماعات السلطة السابقة من إعادة تنظيم صفوفها ، وأرسلت فٍرق قتل أشرفت C.I.A على تنسيق عملها لتنفيذ مهماتها الوحشية، بينما كان المخططون الأمريكين يتابعون التطورات بارتياح... ** ) ( التوكيد منا-ع.ن)
*** مايكل اوبرسكالسكي، الذي أشار إلى أنه:
[في يوم 14 تموز عام 1958، قامت مجموعة من الضباط العراقيين بقيادة العقيد (الزعيم الركن ـ
لناصري) عبد الكريم قاسم بــإسقاط النظام الملكي الحاكم في العراق. ولكن من وجهة نظر الحكومة الأمريكية، فإن قاسم بفعلته هذه قد أقدم على ارتكاب عدد من ((الجرائم)): فقد أمم صناعة النفط العراقية (أمم الأراضي غير المستغلة حسب ـ الناصري)، وأقام علاقات صداقة مع البلدان الاشتراكية، كما انسحب من حلف بغداد الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة وكانت تلك الخطوط سبباً كافياً يدفع الوكالة لأن تبدأ بوضع الخطط لاغتيال عبد الكريم قاسم، ومرة أخرى تم تكليف الخبير سيدني غوتلب باتخاذ التحضيرات اللازمة، حيث تقرر في نهاية المطاف أن يجري اغتيال قاسم عن طريق كتاب غلافه مسموم. وفي الوقت ذاته وبمساعدة الضباط العراقيين، قام جهاز الاستخبارات الأمريكية بحبك مؤامرة أطاحت فعلاً بالعقيد عبد الكريم قاسم، حيث تم إعدامه رمياً بالرصاص لاحقاً](40).
*** وحول الموضوع ذاته، أشار الباحثان الأكاديميان بينروز إلى أنه:
[كان حزب البعث العراقي القليل عدده قد انهمك في التآمر وثابر عليه. ولقلة عدده وبمساعدة أنصار له في الجيش، فقد ظل يعمل سراً وبالتعاون مع فئات مناصرة له في سوريا للتخلص من قاسم...]
[... كما ـ أكد لنا موظفون عراقيون موثوق بهم، ومن بينهم بعض البعثيين، بأن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي. آي. أي) قد تعاونت مع الانقلابيين في الإطاحة بقاسم. وكانت وجهة نظرنا وقت ذاك، والتي لم يظهر لنا ما يدعو إلى تغيرها، هي أن السفيرين الأمريكيين في هذه الفترة وهما والدمار كولمان وجون جيرنيكان، كانا رجلين مجربين وعلى جانب كبير من الصواب في أحكامهما، ولذا فهما يعرفان جيداً أن تهمة الشيوعية الملصقة بقاسم لا أساس لها من الصحة، ولكن لا يمكن أن يقال الشيء نفسه عن وكالة المخابرات الأمريكية، فقد كانت تحت إدارة آلن دلس الذي كرس جهده لمتابعة الحرب الباردة.
وبعد تلك الأحداث أخبرنا السيد هاشم جواد ـ وزير خارجية العراق على عهد قاسم، بأن وزارة الخارجية كانت على علم بوجود نوع من التواطؤ بين وكالة المخابرات الأمريكية وحزب البعث. وفي كثير من الأحيان كشفت وكالة المخابرات للبعثيين أسماء الشيوعيين العراقيين وأماكن إقامتهم، وقد تم بالفعل إلقاء القبض عليهم في بيوتهم وإعدامهم...](41).
وبعد سقوط نظام البعث غي 9 نيسان 2003 ( أكد روجر موريس الدبلوماسي الأمريكي السابق أن لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية ، يداً في انقلابين في العراق في أحلك أيام الحرب الباردة منهما انقلاب عام 1968 ووضع صدام حسين بقوة على طريق السلطة. وكان موريس موظفاً في وزارة الخارجية الأمريكية وعضواً بفريق مجلس الأمن القومي الأمريكي في إدارتي الرئيسين السابقين لندن جونسون وريتشارد نيكسون. ويقول إن وكالة المخابرات المركزية ساعدت في تدبير انقلاب دموي في العراق للإطاحة بحكومة عبد الكريم قاسم ذات التوجه السوفيتي في عام 1963، أي بعد عامين من محاولة أمريكية للإطاحة بالحكومة الكوبية.
وأضاف مشيراً إلى انقلاب في إيران أعاد الشاه إلى السلطة " مثلما كان الحال في إيران في عام 1953، كانت هناك أموال أمريكية ، بل ومشاركة أمريكية على ألرض...". وأعدم قاسم الذي سمح للشيوعيين بتولي مناصب حساسة في حكومته بعد ، بعد انقلاب 1963 وسقطت البلاد في أيدي حزب البعث حينما كان صدام حسين في ذلك الوقت عضواً في حزب البعث يدرس القانون في القاهرة. مضيفاً أن حاكم العراق السابق الذي وصفه الرئيس الأمريكي جورج بوش بأنه { أكثر المستبدين وحشية} كان يتلقى في الواقع راتباً من وكالة المخابرات المركزية في تلك الأيام.
ويضيف، أن وكالة المخابرات المركزية شجعت عناصر في حزب البعث على القيام بانقلاب قصر بعد ذلك بخمسة سنوات بقيادة أحمد حسن البكر الذي يرعى صدام منذ فترة طويلة والذي سلمه السلطة في عام 1979. وقال : " أنه نظام ولد على أيدي الولايات المتحدة بلا شك وكانت مشاركة وكالة المخابرات المركزية هناك رئيسية حقاً" . رواية موريس للتاريخ أبعدما تكون عن الخطاب الأمريكي الراهن بخصوص العراق الذي يقول مسؤولون أمريكيون كبار أنه تحرر من الطغيان ومُنح فرصة لأن يشهد مستقبلا ديمقراطياً مشرفاً دون الإشارة إلى الدور أمريكا في ولادة النظام. ويقول موريس الذي استقال من مجلس الأمن القومي في عام 1970 احتجاجاً على الغزو الأمريكي لكمبوديا ، أنه علم بتفاصيل التدخل الأمريكي السري في العراق من مسؤولين كبار في وكالة المخابرات المركزية آنذاك... *)
*** ويطرح حسن العلوي ـ الذي سبق أن كان من مؤيدي الانقلاب ـ استفهامات وتساؤلات عديدة حول الانقلاب وجوهر مضامينه والقوى الواقفة خلفه. ويتهم، بأحرف كبيرة: ذلك [الاجتماع الذي دعا إلى عقده ميشيل عفلق في ألمانيا الغربية صيف عام 1962 وفيه اتخذ قرار الثورة المضادة على حكومة 14 تموز. وسمي الاجتماع بالمؤتمر القومي الثالث، مع أنه لم يكن بمستوى مؤتمر ولم يدع إليه مندوبون من القيادات القطرية واقتصر على مجموعة صغيرة. من هنا قد نجد معلومات عن أي مؤتمر قومي إلا المؤتمر الثالث. إن ذلك كله يعطي لقرار القيادة القومية في سوريا والصادر في عام 1966 بطرد ميشيل عفلق وجناحه من الحزب مضموناً وطنياً وقومياً صائبا](42). وتأسيساً على ذلك يتساءل العلوي ذاته عن سر الصمت الذي يلف زعماء الانقلاب، إلا النزر اليسير جداً منهم.
*** وتواصلاً مع هذه التساؤلات المنطقية ربما نجد، بعضاً من أوجه الإجابة الجزئية ونستقرؤها من تصريحات فؤاد الركابي، أول أمين عام للقيادة القطرية لحزب البعث العراقي لغاية 1961، عندما أكد قائلاً: [أستطيع أن أؤكد أن بعض عناصر هذه القيادة على صلة بالاستخبارات البريطانية... وقد كتبت للقيادة في العراق راجياً أن تسمح لي بأن أضع تحت تصرف الصحافة اللبنانية ما لدينا من معلومات. وأعدكم بأنني سأفعل ذلك فور أن تصلني الموافقة.](43).
وبعد ثلاثة أيام من هذا المؤتمر الصحفي، نشرت بعض الصحف البيروتية بياناً للقيادة القومية الثورية لحزب البعث العربي، التي تزعمها عبد الله الريماوي، البعثي الانتماء والناصري التوجه، أيدت فيه ما جاء على لسان الركابي، ووصفت ميشيل عفلق بـ (عميل الاستعمار). ووجهت له ذات الاتهام قيادة حزب البعث السوري التي على أساسه حكمت عليه بالإعدام غيابياً بتهمة الخيانة العظمى والارتماء في أحضان المخابرات الانكليزية والأمريكية.
ربما من هذا المنطلق ما صرح به شاه إيران السابق ، إلى السفير البريطاني في طهران وكان يميل إلى الافتراض أن البريطانيين لابد أن يكونوا قد هندسوا لانقلاب 8 شباط 1963..*
ترى هل هذا الاتهام الخطير صدر بحق عفلق بغية نزع الثقة منه ضمن صراعات الحزب فحسب؟ أم أنه اعتمد على وقائع مادية تدين الأمين العام للقيادة القومية (ميشيل عفلق) ومجموعته، وقد صدر عن دراية ومعرفة ببواطن المسألة؟. لأنه [... قد يكون موجعاً للبعثيين، إذا ذكرنا بأن إيلي كوهين/كان صديقاً لأمين الحافظ، (أحد أقطاب مجموعة الأمين العام ـ ع.ن) وكان على وشك أن يصبح نائباً لوزير دفاعه، وليس سراً أن أموال الموساد ساهمت عن طريق كوهين في تمويل انقلاب البعث في سوريا. ولا يوجد أي ضمان بأن هذه الاموال لم تجد طريقها إلى البعث العراقي](44).
*** وحول هذا الموضوع يسلط عضو القيادة القطرية السابق، خالد علي الصالح الدليمي، بعض الضوء على دور الأميركان مع حزب البعث العراقي منذ اغتيال الزعيم قاسم بالقول:
[جاءنا طالب شبيب باستعداد إحدى الجهات لتزويد حزب البعث بالمال والسلاح، إذا كنا نسعى للتخلص من حكم عبد الكريم قاسم، وطلب فؤاد من طالب شبيب أن يقول ما عنده، فقال طالب: إلى جوار المكتب الذي يعمل فيه طالب شبيب، كمهندس والذي يقع في عمارة مرجان في الباب الشرقي، إلى جوار ذلك المكتب يوجد مكتب لمجموعة من العاملين الأميركان، وقد اتصل به (أي بطالب) أحد أولئك الأميركان العاملين في المكتب المجاور وعرض عليه استعداد أميركا لتزويد حزب البعث بالمال والسلاح.
وقد فوجئت بمثل هذا الكلام الصادر عن عضو قيادة في الحزب. ولم أترك فرصة لغيري ليقول رأيه فقلت: ليس لدينا عدو في هذه الدنيا سوى أميركا منذ اغتصاب فلسطين، ولو وافقتم على ما نقله طالب فسوف أذهب من هنا مباشرةً لعبد الكريم قاسم وأخبره بكل شيء.
وعندما انتهيت من كلامي تكلم فؤاد موجهاً كلامه لطالب شبيب، فقال إننا نرفض مثل هذا العرض وبلغ الشخص الذي اتصل بك رفضنا لعرضهم ويجب أن تقطع علاقتك بهذا الشخص. وأُغلق الموضوع.
وفي الاجتماع التالي كرر طالب شبيب ما قاله في المرة الأولى وذلك بحجة إلحاح الشخص الأميركي. وهنا قلت كلمة واحدة: إنني إذا أعيد مثل هذا الكلام في اجتماع آخر فسوف أستقيل فوراً من الحزب، ومن الهين عليّ أن أُقتل بيد أي عراقي من أن أصبح عميلاً لأميركا. وعندها تكلم فؤاد وذكر طالب شبيب بأننا قد طلبنا منه أن يقطع صلته ولا يعود للكلام في هذا الأمر مرة أخرى]. وعندما طلب شبيب السفر إلى لبنان لمعالجة زوجته [قال فؤاد والارتياح باد على وجهه أنني وافقت على كل ما طلبه مني لأنني ـ وكذلك أنتم ـ نسعى للتخلص منه، خصوصاً بعد أن اتضح لنا أمر صلته بالأميركان](45). (التوكيد من ـ ع.ن)
لكن لم يذكر لنا الدليمي لماذا هذا الاختيار، قد وقع على حزب البعث العراقي؟ ولماذا يلح طالب شبيب على طرح الأمر؟ هل هذا له صلة بعلاقة عماش مع الامريكان؟ هذه الأمور لا تسير بشكل عفوي.
***ويتذكر فيصل حبيب الخيزران، أحد قياديي البعث آنذاك، ما أحدثه من ضجة انتخاب طالب شبيب في المؤتمر القومي الرابع في آب/أغسطس 1960، إذ من [الطبيعي أنه حينما وصل علي صالح السعدي وحازم جواد قد أثارا ضجة اتهما فيها طالب شبيب بأنه عميل بريطانيا، وقالا كيف يبقى في الحزب وكيف يعيش في بيروت ولديه شقة على البحر؟ من أين له لولا أن هناك جهات تموله؟ طبعاً نحن قلنا لهم نحن الآن لدينا معركة مع فؤاد الركابي ونريد التخلص منه، أما طالب شبيب فأمره سهل، إذا تودون نرسله إلى العراق، يوافق، وإذا لم يوافق نفصله من الحزب. فعلاً كان صعود طالب شبيب للحزب غريب. جاء تواً من بريطانيا ولم يتخرج، أي لم يأخذ شهادة الهندسة وقفز سريعاً](46) (التوكيدات منا ـ ع.ن).
*** وفي الآونة الأخيرة ازداد تسليط، الأضواء الجديدة على هذه العلاقة ودور القوى الخارجية في الإطاحة بثورة 14 تموز وذبحها كواقع أو مثل يحتذى به، نورد بعضاً مما عثرنا عليه، ونقول:
( ينقل أكرم الحوراني، الشخصية القيادية البعثية في سوريا، عن لسان السفير الأمريكي في لبنان ( آرمان مايل) في إحدى الحفلات رداً على انتقادات بعض النواب اللبنانيين :" إن من حق حكومتي أن تؤيد حزب البعث الحاكم في سورية والعراق لما أظهراه من شجاعة في مكافحة الشيوعية، ولكم من حقها أيضاً ألا تدير ظهرها للرئيس عبد الناصر خوفاً من أن يضع المنطقة في الجو الشيوعي لاعتقادها أنه قادر وحده أن يفعل ذلك، إذا تخلت عن تأييدها له في بعض النواحي السياسية . ومن هنا كان اعتراف الولايات المتحدة السريع بنظام الحكم الجديد في العراق وسورية بعد الانقلابين الأخيرين وتسلم البعث في البلدين المتجاورين ودعم سياسة الحكومتين السورية والعراقية التي ترمي لمكافحة الشيوعية... *).
[وقد قيل أن الاستخبارات المركزية الأمريكية كان لها اليد الطولى في الإطاحة بعبد الكريم قاسم. وقد ذكر الصحفي مراد العماري أن دين راسك، سكرتير الدولة الأمريكية اجتمع بهاشم جواد وزير الخارجية العراقي، الذي كان يحضر دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة في خريف 1962 وبحث معه الموقف الصلب الذي اتخذه رئيس حكومة العراق في تأييد كوبا في أزمة الصواريخ وقال له ((سوف نحطم رأس زعيمكم)) وخرج هاشم جواد من الاجتماع وبعث على الفور ببرقية إلى الزعيم تضمنت استقالته دون ذكر فحوى حديث المستر راسك، لكن الزعيم رفض الاستقالة واستدعى وزير الخارجية إلى بغداد](47).
ورغم غموض نهاية النص عن مآل الحديث وخاتمته وماهية الطريقة التي سيحطمون بها (رأس الزعيم)، لكن التأكيد على هذه الرابطة التي نسجت بين القوى الغربية وقوى الانقلاب كانت صحيحة. وهذا ما اعترف به طالب شبيب نفسه في مذكراته، والاعتراف سيد الأحكام كما قيل، وإن ألقى التبعة على الآخرين، عندما قال:
[وليس من شك أن بعض المداخلات المشبوهة كانت تحصل بالقرب منا وحولنا ولكن ليس معنا إطلاقاً، وأقصد مع القيادة القطرية(47 ـ أ). وأتذكر على سبيل المثال العلاقة الودية التي كانت تجمع بين علي عبد السلام وكل من صالح مهدي عماش ورشيد مصلح التكريتي وكذلك تردده على أحمد حسن البكر وعبد السلام عارف وأعطى لنفسه (ما هو موقعه حتى يعطي لنفسه ـ ع.ن) رتبة عسكرية، لبسها ثم جُرد منها ودارت حوله قصص كثيرة من أعمال تهريب كبرى وصفقات مشبوهة وعلامات استفهام كثيرة. وبعد عام 1968 في عهد البكر ـ صدام، قتل في سياق الملاحقات لتصفية الحسابات وسد ثغرات الفضائح ووجدت جثته مقطعة...].
والمومأ إليه (علي عبد السلام) كان ضمن كتلة عُرفت بـ((كتلة بيروت)) التي ضمت: الدكتور ناصر الحاني ولطفي العبيدي، وتأسست في الأصل من أجل الإطاحة بحكم الزعيم قاسم وكانت لها صلات قوية بالقوى الغربية ومراكزها التجسسية في المنطقة، منذ محاولة انقلاب الشواف عام 1959. يُعرفنا بها طالب شبيب، مستمراً بالقول:
[... والفكرة الوحيدة التي ظلت عالقة في ذهني هي ما تم كشفه عن الاجتماعات التي عقدت في دار الحاني في بيروت وداري الملحقين الثقافيين الأمريكي والبريطاني في بيروت أيضاً برفقة عبد الرزاق النايف رئيس حكومة 17 تموز 1968، ولطفي العبيدي وربما اجتمع معهم أحد الأشخاص الثلاثة عماش أوحردان أو صدام. وقد نشر لطفي العبيدي في الصحافة اللبنانية في نهاية الستينيات صور شيكات مسلمة إلى قيادة سلطة 17 تموز 1968، مما أدى بالمخابرات العراقية إلى شن حملة اغتيالات وملاحقات شملت كتلة العبيدي ـ الحاني ـ النايف في كل مكان داخل وخارج العراق...](48). هذه العلاقة لم تأتِ من العدم بل [في سياق علاقات قديمة تربط بين العبيدي والحاني وبين عماش وتصل هذه الصلة إلى صدام حسين عندما أقام في القاهرة...](49).
من رواد القطار أمريكياً.. ايليا زغيب:
النص أعلاه يوضح بدون لبس، وبصراحة وجود مداخلات مشبوهة بالقرب من القيادة القطرية ومن حولها. أنه يصب في ذات الاتهام الشهير الذي سبق لعلي صالح السعدي أن أطلقه قبل ما يزيد عن أربعة عقود، عندما قال:
[جئنا بقطار أمريكي وخرجنا بآخر بريطاني، والذي كان من نتائجه ما نحن عليه من تداعيات وانهيارات في عدة مجالات. فبعد ثورة 14 تموز... دب الصراع داخل الصف الوطني وتغلبت التعارضات الثانوية لغياب روح التعددية الديمقراطية في البلاد، رغم كلام الجميع عن ضرورات الحوار، ولذلك بدأت عوامل الفتن والصراعات الدامية بين القوى الوطنية وذبحت من بعضها البعض أضعاف أضعاف ما تم ذبحه على يد الاقطاعية والملكية والقوى الاستعمارية، بل أضعاف ما سقط من شهداء على الجبهة الأمامية ضد التوسعية الاسرائيلية في أثناء المشاركات بحرب الدفاع عن أرض فلسطين.
هذا العامل الذاتي الأول هو الذي مكن التدخلات الاقليمية بأشكالها المتعددة وماترتب عليها من مغامرات انقلابية جديدة على حد تعبير علي صالح السعدي الأمين القطري للقيادة القطرية عام 1963 وكان نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية حين قال: أن حزبه دخل بغداد بقطار بريطاني وخرج من بغداد بقطار أمريكي](50).
وفي الموضوعة ذاتها يشير الفكيكي في مذكراته وبلغة أكثر وضوحاً وإدانة إلى حادثة لها دلالتها غير المباشرة بـارتباط بعض العناصر القيادية العسكرية والمدنية لحزب البعث (حسب وصف طالب شبيب) بالدوائر الخارجية الغربية، لكنه هنا يوجه اتهامه إلى القيادة القومية، بشخص ميشيل عفلق، عندما يقول: [وفي منتصف شباط تشكلت لجنة من المقدم محمد يوسف طه وجعفر قاسم حمودي والمقدم علي عريم لجرد محتويات جناح عبد الكريم قاسم وضبط الوثائق والملفات الرسمية هناك. وكنت مع علي السعدي في مكتبه في وزارة الداخلية حين اتصل جعفر قاسم تلفونياً ليعلمنا بعثورهم على إضبارة تخص الدكتور إيليا زغيب، الأستاذ المنتدب للتدريس في جامعة بغداد وبتوصية وتزكية من ميشيل عفلق والقيادة القومية. استخدمنا د. زغيب لسنوات في نقل بعض الرسائل بيننا وبين القيادة القومية وكان طالب شبيب هو صلة الوصل به في بغداد. وحين درسنا الملف وجدناه مليئاً بتقارير مديرية الأمن العامة والاستخبارات العسكرية التي تشير إلى علاقة زغيب بوكالة الاستخبارات الأمريكية، وتعاونه مع حزب البعث وتطلب من قاسم الموافقة على اعتقاله وإبعاده من العراق. غير أن قاسم كتب على بعضها أمره بــإبقائه ومراقبته بدقة.
اتصلنا، علي وأنا، فوراً بطالب شبيب وعرضنا عليه الأمر وأعلمته بعزمنا على اعتقال زغيب، لكنه نصح بالتريث وعدم التسرع في تصديق كل ما تدعيه دوائر الأمن والاستخبارات... في الوقت نفسه اتصلت بدوائر الأمن والسفر وطلبت إليها منع زغيب من مغادرة العراق ووضعه تحت المراقبة، غير أننا اكتشفنا مساء ذلك اليوم أنه غادر العراق عن طريق الرطبة البري](51) (التوكيد منا ـ ع.ن).
الهوامش:
* د. غسان العطية، جريدة القدس العربي- لندن، في 14 شباط 1996.
**جيف سيمونز، عراق المستقبل، السياسة الأمريكية في إعادة تشكيل الشرق الأوسط.ترجمة سعيد العظم ، ص. 296 وما بعدها، دار الساقي ، بيروت-لندن 2004.
(40) مايكل اوبرسكالسكي، نادي القتلة ـ وكالة المخابرات الامريكية، تعريب عبادة بوظر، دار الطليعة الجديدة، دمشق.
(41) أديث، وائي، أيف بينروز العراق : دراسة في علاقاته الخارجية وتطوراته الداخلية 1915-1975، ترجمة عبد المجيد القيسي ج. الأول، ص 446 و 453، العربية للموسوعات، بيروت 1979.
* دبوماسي أمريكي: المخابرات الأمريكية كانت تدفع مكافآت لصدام في القاهرة. جريدة المؤتمر، العدد 347 في 25/4/2003 .
(42) يذكر طالب شبيب أن المؤتمر الثالث انعقد في بيروت صيف 1959 قبيل محاولة اغتيال الزعيم في رأس القرية، والرابع في عام 1960. وأكد صالح حسين الجبوري، في رسالة الماجستير التي عنونها باسم (ثورة 8 شباط 1963 في العراق)، ونشرها في بغداد عام 1990 ص 117 بأن: [جاء تحرك الحزب هذا انسجاماً مع ما أقره المؤتمر القومي الرابع الذي انعقد في ايلول عام 1960، حيث حدد ضمانات في القضاء على الوضع القائم (حكم قاسم) آنذاك. ففي التوصية الثامنة أكد على: (وجود ضمانات شعبية كافية وشروط موضوعية تضمن قيام وضع جديد منسجم مع مهام الحزب السياسية]، هل أراد العلوي الإشارة إلى المؤتمر الخامس؟
(43) راجع جريدة صوت العروبة في حزيران / يونيو 1961، مستل من حسن السعيد، مصدر سابق، ص 40. كذلك مذكرات فيصل حبيب الخيزران، الحلقة السادسة، جريدة الزمان، لندن، في26 تموز/ يوليو 2001 العدد 978.
* للمزيد راجع حامد البياتي ، أسرا انقلاب 8 شباط في الوثائق السرية البريطانية ،ط.1، مؤسسة الرافد للنشر لندن 1996.
(44) د. علاء الدين الظاهر، التاريخ كما لقنه القصخون، اوراق عراقية ملحق جريدة المجرشة لعدد تموز 1997. وقد سبق أن اندس كوهين في تنظيمات جناح ميشيل عفلق عندما كان منفي في الارجنتين، ولعب كوهين دور مهماً في القيادة قبل اكتشافه بالصدفة وأعدم بعد محاكمة سرية في دمشق.
(45) خالد علي الصالح، على طريق النوايا الطيبة، دار الريس بيروت-لندن 2000 ص 101.
(46) فيصل حبيب الخيزران، جريدة الزمان، مصدر سابق، الحلقة الخامسة في 25 تموز/ أغسطس 2001 العدد 977.
*أكرم الحوراني، المذكرات ، المجلد السادس، الفقرة 162، مصدر سابق.
(47) مير بصري، اعلام السياسة في العراق الحديث، ص 243، دار الريس لندن 1987.
(47 ـ أ) يحاول شبيب إبعاد الشبهات التي حامت حوله من قبل بعض رفاقه القياديين في الحزب.
(48) د. علي كريم سعيد، مراجعات، مصدر سابق، ص 289. ويشير ذات المصدر، وإستناداً إلى محمد جمال باروت، مصدر سابق، إلى أن هذه الكتلة عرضت على قادة حركة القوميين العرب مشاركتها في انقلاب أبيض قادم، لكن الحركيين رفضوا لشكهم بارتباطات العبيدي وناصر الحاني. وبعد نجاح انقلاب تموز 1968 وطرد كتلة البكر ـ صدام لكتلة الحاني ـ النايف ـ العبيدي ـ الداود، أظهرت الاعترافات والتهم المتبادلة أسراراً كثيرة تؤكد أن الاستخبارات الامريكية نشطت في العراق ليس من قناة واحدة. ويشير عامر عبد الله في مقابلته المنشورة في مجلة أبواب، دار الساقي ، إلى: [مما رواه لي سعدون غيدان لاحقاً أنهم (يقصد غيدان والنايف والداود ـ الناصري)، عند التخطيط للانقلاب، سألوا عني، فلما قيل لهم إنني في موسكو سلموا أحمد حسن البكر رئاسة الجمهورية، والله أعلم]. ص 226، الجزء الثاني.
وقد أُشيع في بغداد آنذاك أن هذه الكتلة كانت تبحث عن قوة حزبية أو شخصية سياسية معروفة، تتعاون وإياه في إدارة دولة الانقلاب؛ وأن الإشاعة نوهت إلى أن سعدون غيدان طلب من الحزب الشيوعي التعاون معهم. لكن قيادة الحزب الموجودة في بغداد في حينه رفضت العرض لشكوكها بالمجموعة. وبهذا الصدد يقول محمد حديد في مذكراته: " وفي عداد رجال الأعمال كان لطفي العبيدي من الموصل، الذي كان على علاقات مع رجال أعمال خارجيين ، حتى قيل إن أحدهم هو روبرت أندرسون، الوزير الأمريكي السابق الذي كان يحاول الحصول على أمتياز لاستثمار الكبريت، وكان أحد الداعين للانقلاب . والمصادفة كنت قد حجزت للسفر إلى لبنان في 18/7/ 1968، وكان على متن الطائرة ، أيضا، لطفي العبيدي نفسه. وخلال السفرة جائني إلى مقعدي وسألني رأي في التغيير ... وعندما وصلنا إلى بيروت وجدت وليم ليكلاند الأمريكي الذي كان في العراق سابقاً في استقبال لطفي العبيدي مع عراقيين آخرين، مما عزز الاشتباه لدي بما قيل عن أن الانقلاب كان بتحريض وتعاون أميركيين ضمناً بامتيازات النفط والكبريت فضلا@ عن السير مع السياسة الاستراتيجية الأمريكية... ) مذكراتي، ص. 486، دار الساقي بيروت 2006، مصدر سابق.
(49) د. علي كريم سعيد، مراجعات، مصدر سابق، ص 288.
(50) تصريحات نايف حواتمة لمجلة النور، مصدر سابق، ص 21، علماً بأنه لم يكن دقيقاً في تعبيره الذي نص على أن جميع هذه القوى كانت تدعو لفظياً للحوار. أن واقع الصراع آنذاك كان عنفي ولم تجر أية محاولة جدية بين هذه القوى للتحاور، والوحيد الذي كان يغرد خارج السرب هوعبد الكريم قاسم، حيث ُرصد في خطاباته تكرار للمفاهيم الاخلاقية حول الوحدة الداخلية والتضامن وإنهاء الاحتراب. هذه القوى كانت تبحث عن الطرق السهلة عبر قطع الرؤوس وليس التحاور والسجال ثم الاقتناع بالحلول القائمة على القاسم المشترك.
(51) الفكيكي، مصدر سابق، ص 225، 269.