الحوار المتمدن - من خفايا انقلاب شباط الدموي 1963 سباق المسافات الطويلة: (3-6)
عقيل الناصري
الحوار المتمدن - العدد: 3247 - 2011 / 1 / 15
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث
راسلوا الكاتب-ة مباشرة حول الموضوع
من خفايا انقلاب شباط الدموي 1963
سباق المسافات الطويلة: (3-6)
" في التاريخ فقط تتمكن الأمة من وعي ذاتها وعيا تاماً"
شوبنهور
***أما طالب شبيب، فيعترف بالرشوة ضمنياً لكنه يوجهها إلى غيره عندما يقول:
[أما شيك المليوني دينار فقد أخفاه عبد السلام في أحد أدراج مكتبه في القصر الجمهوري، وفوراً بعد زوال سلطة البعث أثر حركة 18 تشرين 1963 جرى تمرير إشاعة مقصودة ومدبرة تلمح إلى أن البعثيين استولوا على الشك وصرفوه لمصلحة حزبهم. لكن وزراء ناصريين بينهم عبد الكريم فرحان وصبحي عبد الحميد، إضافةً إلى خير الدين حسيب محافظ البنك المركزي استطاعوا بعد جرد وتفتيش العثور على الشيك الضائع مخفياً في أحد أدراج مكتب الرئيس عارف فأخذوه وأدرجوه بــاعتباره جزءاً من الاتفاقية العراقية الكويتية...]. لكن طالب شبيب مع ذلك كان يلقي بضوء مكثف من الريبة، لا تنفي الرشوة ومشاركة بعض رفاقه عندما يقول: [بعد ارتيابي بتصرفات جماعتنا المستعجلة](31). لكنه لم يوضح لِمَ هذا الاستعجال في إبرام الاتفاقية؟ ومن هم بالتحديد((جماعتنا))، الحزبيون أم العسكريون؟ وهل هي حالة بريئة؟ أم تخوفه من الارتيابات السابقة للانقلاب والتي قدمتها حكومة الكويت لهم وبخاصةً فيما يتعلق بالإذاعة السرية والقوائم بالمراد إبادتهم؟!
*** ومن جانب آخر يشير محمد حديد إلى دور الكويت بالقول: (إلى أن قضي على عبد الكريم قاسم في 8 شباط وهو الانقلاب الذي ساهمت الكويت فيه بالتعاون مع أطراف عربية وأجنبية. ونتيجة لذلك التآمر اعترفت الحكومة العراقية الجديدة باستقلال الكويت، لقاء ثمن قيل أن الكويت قدمته إلى المسؤولين في الحكومة العراقية... وبحسب ما ذكر إسماعيل العارف فقد عقدت مفاوضات كانت خاتمتها في أثينا. في الوقت الذي كان وفد كويتي آخر يشترك مع المتآمرين في التخطيط لحركة 8 شباط التي أنهت بنجاحها ، قضية الخلاف مع الكويت.
وقد تبين من مجرى الأحداث أن الكويت قصدت من التفاوض القيام بلعبة دبلوماسية لتفويت الفرصة على عبد الكريم قاسم للقيام بأي إجراء ضدها من جانب، وصرف الأنظار من جانب آخر عن التآمر الذي كانت ضالة فيه... *) . ويبدو أنها كانت بريطانية التكوين . ويشير حديد من جهة ثانية ( قد ذكرت بعض المصادر الموثوق بها، وبينهم بعثيون ، إن جهاز المخابرات المركزية الأمريكية C.I.A ، برئاسة المستر آلن دلس، الذي كرس طاقته لمناهضة الشيوعية في فترة الحرب الباردة كان مشاركا في عملية الإطاحة بنظام قاسم/ وفي حالات غير قليلة زوّدت المخابرات الأمريكية الانقلابيين بأسماء ناشطين شيوعيين كان مصيرهم القتل... **)
لعنة النفط:
*** وفي الوقت ذاته يؤكد باتريك كوكبورن حول موضوع (سباق المسافات الطويلة) العلاقة بين قادة الانقلاب والقوى الخارجية بالقول من أن:
[الوكالة (المقصود المخابرات الأمريكية ـ الناصري) لعبت دوراً رئيسياً في إعداد قوائم بأسماء الذين تمت تصفيتهم في أعقاب الانقلاب من قبل فرق الموت التابعة لحزب البعث، ويعتقد بأن عدد ضحايا الانقلاب بلغ الآلاف، منهم 600 من أطباء ومحامين ومعلمين وأساتذة جامعيين يمثلون النخبة العراقية المثقفة... وقد جرى وضع قوائم الموت في مقرات المخابرات المركزية في بلدان الشرق الأوسط بالتعاون مع منفيين عراقيين. وفي القاهرة استعانت الوكالة بضابط مخابرات مصري حصل على معظم معلوماته من صدام حسين أثناء إقامته في العاصمة المصرية. وأن أطول قائمة وضعها أحد عناصر الوكالة وهو (وليم ماكهيل) الذي كان يعمل تحت غطاء مراسل لمجلة ((التايم)) في بيروت. وحالما وصلت قوائم المخابرات المركزية إلى بغداد كانت النتيجة مجزرة استثنائية في وحشيتها، فقد قتل شيوخ ونساء وحوامل وعذب البعض حتى الموت أمام اطفالهم... ويُؤكد أن صدام حسين الذي عاد من منفاه في مصر لينضم إلى المنتصرين، تورط شخصياً في تعذيب اليساريين في مراكز اعتقال مخصصة للفلاحين وأخرى للمثقفين(32)]. (التوكيد من ـ الناصري)
ويؤكد ذات المؤلف في أحدث كتاباته هذا الرأي بالقول:
[ففي الثامن من شباط أطاح انقلاب عسكري بقاسم، حيث لعب حزب البعث دوراً قيادياً. فقد كان الدعم للمتآمرين محدوداً، ففي الساعات الأولى من القتال كان بحوزة البعثيين تسع دبابات فقط و850 عضواً فعالاً، لكن يبدو أن قاسم تجاهل التحذيرات المتعلقة بانقلاب وشيك الحدوث، والذي أمال كفة الميزان أكثر ضده هو تورط الولايات المتحدة في هذا الانقلاب لأن قاسم أخرج العراق من حلف بغداد الذي أقيم لمحاصرة السوفييت. وفي العام 1961 هدد باحتلال الكويت وكذلك أمم جزءاً من شركة نفط العراق، المتألفة من اتحاد شركات نفط أجنبية ضخمة لاستغلال نفط العراق.
فعند إستعادة أحداث الماضي والتأمل فيها نجد أن الانقلاب العسكري كان مفضلاً ومحبذاً لوكالة المخابرات المركزية، حيث صرح جيمس كريستفيلد، الذي نصّب مؤخراً رئيساً لوكالة المخابرات المركزية في منطقة الشرق الاوسط، ((لقد غضينا الطرف عمّا كان يحدث في العراق حينها)) ويضيف ((فقد اعتبرناه أعظم نصرٍ لنا)). وقد أكد المشتركون من الضباط العراقيين في الانقلاب ما صرح به كريستفيلد من تورط الامريكيين فيه، حيث صرح علي صالح السعدي، السكرتير العام لحزب البعث والذي كان على وشك إقامة حكم إرهابي لم يسبق له مثيل في المنطقة قائلاً((لقد أتينا إلى السلطة على قطار وكالة المخابرات الأمريكية)). فقد تضمن مساعدة وكالة المخابرات المركزية وبصورة رسمية على التنسيق مع مخططي الانقلاب عن طريق مركز الوكالة في سفارة الولايات المتحدة في بغداد (كان مدير المركز وليم ليكلاند ـ الناصري) إضافة إلى محطة الراديو السرية في الكويت، وفي نهاية الأمر، نجد أن قاسم احتفظ بشعبية بعد الإطاحة به، فبعد إعدامه رفض أنصاره التصديق بأنه ميت حتى عرض قادة الانقلاب من على شاشة التلفزيون وعلى صفحات الجرائد اليومية تُظهر جسده وقد اخترقته عيارات نارية](33).
** ويجسد وزير العدل الأسبق رامزي كلارك موقف الولايات المتحدة ونشاطها السري من أجل الإطاحة بثورة 14 تموز وقيادتها بالقول : ( لقد كان العراق هدفاً لنشاط أمريكي سري منذ عام 1958 على الأقل، عندما بدأ النفوذ البريطاني على المنطقة يضعف. ففي 14 تموز من تلك السنة أطاحت ثورة شعبية قادها عبد الكريم قاسم بالنظام الملكي القائم منذ 1921. وعملت الحكومة الجديدة على إنشاء منظمة البلدان البلدان المصدرة للنفط (أوبك) التي تشكلت عام 1960 لمواجهة نفوذ احتكارات النفط الغربية، وقال قاسم : ( نحن لا نحارب شركات النفط للحصول على 7 ملايين دينار أخرى في السنة، نحن نقاتل لإدخال جمهوريتنا عصر الصناعة ولإنهاء اعتمادنا على بيع النفط الخام) . وتحدى قاسم سيطرة شركات النفط الغربية المطلقة على تسويق البترول العربي . ولم تكن الولايات المتحدة تتساهل إزاء هذا التحدي الذي يعرقل نواياها التي طال التخطيط لها للحلول محل الاستعمارين البريطاني والفرنسي كقوة وحيدة مسيطرة على الشرق الأوسط . ومنذ ذلك الحين خططت الولايات المتحدة لإضعاف العراق والسيطرة على نفطه. وبعد وقت قصير من ثورة 1958 شكلت لجنة للتآمر بهدف اغتيال عبد الكريم قاسم. وفي الوقت نفسه وضع جنرالات أميركيون في تركيا خطة عسكرية تحت أسم (عظمة المدفع) لغزو شمال العراق والاستيلاء على حقول النفط هناك. وفي عام 1963 ذُبح عبد الكريم قاسم والآلاف من مؤيديه في انقلاب دام ٍ دعمته المخابرات الأمريكية...* ).
*** وكتب ميشيل ديبرا.. حول علاقة الولايات المتحدة بانقلاب 8 شباط الدموي.. قائلاً: ( والحال أن تاريخاً أمده أربعون عاماً مضت ، يطفح بالأمثله عن تورط أشخاص غير عراقيين، منهم خمسة رؤساء أميركان وفي الأقل ثلاثة رؤساء فرنسيين وعدد من رؤساء الحكومة البريطانية وزمرة من المقاولين الغربيين، كلهم كانوا متواطئين مع الدكتاتور صدام حسين ، بل هم أحياناً شركاء جرائم ارتكبها النظام البعثي . تحت رئاسة جون كندي ابتدأت واشنطن بمساعدة المذابح في العراق. ففي عام 1963، انتاب الولايات المتحدة القلق من الرئيس العراقي عبد الكريم قاسم، لما اقترب من موسكو وهدد بتأميم نفط العراق، فقررت الولايات المتحدة عندئذ التصرف حيال ذلك. في 8 شباط من العام 1963 دعمت الانقلاب الذي نفذه حزب مناؤئ للشيوعية ، ألا وهو حزب البعث. وبهذا الصدد يؤكد السيد يمس أكنز ، وكان حينها مستشاراً سياسياً في سفارة الولايات المتحدى في بغداد بُعيد الانقلاب، ( كنا نعطي البعثيين المال ، مالا كثيراً، ونزودهم كذلك بالتجهيزات ، ولم نكن نعلن عن ذلك صراحة، إنما كان الكثير منا يعلم ذلك). وبعد إعدام الرئيس قاسم ، شرع البعثيون بتعذيب وقتل ألاف الشيوعيين والمتعاطفين مع اليسار من أطباء وقضاة وعمال: ( لم نكن نتلق إلا أمراً واحداً: إقصاء الشيوعيين). هذا ما صرح به أحد الفاعلين في المجزرة... ولطالما أنكرت واشنطن ، ولكن عدداً من منظمي الانقلاب كشفوا لأن السي آي إي لعبت دوراً فعالاً في المذبحة. وخاصةً تزويدها قوائم بأسماء الشيوعيين . وفي العام 2003 وجهت إحدى وكالات الأنباء سؤالاً لمسؤول سابق في الدبلوماسية الأميركية، فطلب عدم الكشف عن اسمه قبل أن يجيب قائلاً: ( بصراحة كنا سعداء جداً من التخلص من الشيوعيين . هل تعتقدون بأنهم كانوا يستحقون عدالة أكثر إنصافاً مما فعلناه؟؟ أنتم تمزحون طبعاً. فالقضية كانت بالغة الخطورة).
ثمة تقرير لم يكشف عنه حتى ذلك الحين يخص اجتماعاً عقد في بغداد بتاريخ 9 حزيران من العام 1963 بين الاميركان والبعثيين، يؤكد الرغبة { المشتركة لاحتواء الشيوعية في المنطقة}. كان العدد المستهدف يشمل الأكراد الذين كانوا يقاومون السلطة البعثية في شمال البلاد. إذ أكد صبحي عبد الحميد ، الذي كان يقود عمليات الجيش العراقي في ذلك الوقت ضد الأكراد، أنه تفاوض شخصياً مع الملحق الأميركي على تسلم خمسة آلاف قنبرة بغية تحطيم المقاومة ( ثم أهدى الأمريكان لنا ألف قنبرة نابالم لقصف القرى الكردية من دون أن يقدموا لنا فاتورة حسابها ). وحسبما يفيد الأكراد الذين عايشوا عمليات القصف هذه، حرق النابالم قطعان الماشية وقرى برمتها. لكنهم في ذلك الوقت كانوا يتصورون أن هذا النابالم من عمل السوفييت...**).
*** ويتطرق الكاتب العربي سعيد أبو الريش إلى الموضوع ذاته بالقول:
[كانت مؤامرة /البعث ـ C. I. A./ ضد قاسم أكثر حجماً من الاتصالات المتقطعة التي كانت قائمة مع صدام. لقد كانت خطة الإطاحة بالرئيس العراقي، تحت اشراف وليم ليكلاند المتخذ من بغداد مقراً له في السفارة الأمريكية، تمثل واحدة من أكثر عمليات C. I. A كثافةً في تاريخ منطقة الشرق الأوسط. لقد كان التعاون مع مراتب قليلة الشأن في حزب البعث جزءاً من الصورة الكبيرة لجريمة البعث ـ C. I. A.
لمشتركة. لقد كان هذا التعاون ثمرة عمل جيمس كريتشفيلد، الخبير في عمليات التخريب داخل الحركة الشيوعية، جُلب للشرق الأوسط من أجل التعامل مع تصاعد الحركة الشيوعية في العراق واحتمال استلامها زمام الأمور فيه. لقد مثل جهد المخابرات الأمريكية في إيجاد صلات مع المراتب الدنيا من حزب البعث في القاهرة عملاً إضافياً للجهد الكبير الذي قامت به المخابرات في إيجاد صلات مع عناصر مهمة من حزب البعث في دمشق وبيروت. رغم معارضة جمال الأتاسي (أحد أعضاء حكومة البعث في سوريا آنذاك). كان البعثيون العراقيين مصرين على أنه لا يمكن إسقاط عبد الكريم قاسم بدون مساعدة الأمريكان. لقد استطاع الأمريكان أن يضمنوا تعاون ناصر معهم، مع ذلك بقيت أجهزة الأمن المصرية تتابع تحرك صدام وجماعته، وهذا راجع بطبيعة الحال لسرية نشاطاتهم مع الأمريكان...].
أما بصدد المصادر التي نظمت القوائم الخاصة بالشيوعيين، والواجب تصفيتهم فيقول المؤلف ذاته:
[... إن اغتيال أناس تركوا الحزب الشيوعي، تكشف منشأ القوائم التي نظمتها المخابرات الأمريكية. لقد كان مصدرها الأولي هو وليم ماكهال، عميل المخابرات الأمريكية، اشتغل تحت غطاء مراسل لمجلة التايمس، وشقيق دون ماكهال، الذي كان في ذلك الوقت موظف رفيع المستوى في المخابرات الأمريكية في واشنطن. لقد حصل ماكهال على الأسماء في بيروت من موظف سابق في مديرية أمن العهد الملكي، وكان وكيلاً سابقاً لبهجت العطية (مدير الأمن العام في العهد الملكي الذي تم إعدامه في 1958)، بطبيعة الحال كانت معلوماته قديمة. ولكن ماكهال لم يكن المصدر الوحيد لهذه المعلومات، فقد اشترك في هذه العملية الخسيسة ضباط كبار في المخابرات المصرية، بعثيون مسيحيون في لبنان، مجموعة صدام في القاهرة... لقد كان التعاون بين وليم ليكلاند وعماش وبقية الضباط يتم على المكشوف. رغم أن مشاركة ناصر في الانقلاب كانت بسيطة، مع أنه نصح علي صالح السعدي بالحذر من ليكلاند والمخابرات الأمريكية.. لقد كان ليكلاند واحداً من رجال الاتصال مع عبد الناصر عندما أطاح بالملك فاروق عام 1952](34).
*** وقد ذكر أحمد عبد الهادي الجلبي في محاضرة له (... أما تدخل أمريكا الحقيقي الأول في العراق فبدأ في سنة 1962 حينما كلفت وكالة الاستخبارات الأمريكية ( سي آي أي) من جانب رئيس الولايات المتحدة بمجابهة الاتحاد السوفيتي والحزب الشيوعي في العراق، فعملت ال (سي آي أي) بشكل مباشر وبتحالف مع النظام المصري حينها بزعامة جمال عبد الناصر وتعاونت مع حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق، خصوصا كوادر الحزب في القاهرة ومن ضمنهم صدام حسين على تشجيع وتأهيل الحزب لتسلم الحكم. وقد ذكر لي أحد مسؤولي ال (سي آي أي) في أوربا أن ال ( سي آي أي) أصدرت بالتعاون مع البعثيين قائمة بأسماء 1700 شخص تقريباً يجب تصفيتهم لدى قيام أي حركة ضد عبد الكريم قاسم والحزب الشيوعي في العراق. وفعلا نشرت هذه الأسماء عبر إذاعة سرية للأمريكيين في منطقة الشرق الأوسط...* )
*** ( ويتحدث جيمس أيكنز الذي كان يعمل في السفارة الأمريكية في بغداد آنذاك، عن قادة حزب البعث فيقول : " عرفت كل زعماء البعث وأعجبت بهم" ويؤكد أن " المخابرات الأمريكية C.I.A لعبت دورا ً في انقلاب البعث عام 1963. لقد أعتبرنا وصول البعثيين إلى الحكموسيلة لاستبدال حكومة تؤيد الاتحاد السوفيتي بحكومة أخرى تؤيد أمريكا. إن هذه الفرصة قلما تتكرر". ويضيف أيكنز " صحيح أن بعض الناس قد اعتقلوا أو قتلوا : إلا أن معظم هؤلاء كانوا شيوعيين ولم يكن ذلك يزعجنا...**)
*** وقد نقل الصحفي ((جورج هربوز)) المبعوث الخاص لوكالة الأنباء الفرنسية في بغداد في 13 ـ 2 ـ 63 عن أوساط رسمية للنظام الجديد قولهم بشكل دائم: [لدينا قوائم بأسماء جميع الشيوعيين، ولن نترك أحداً منهم يفلت من يدنا](35).
*** ويعترف الفكيكي بهذه القوائم بعبارة مقتضبة ومخففة. عندما يقول: [وقبل ذلك صدر الأمر إلى فرق خاصة من الحرس القومي الناشيء باغتيال قاسم ووصفي طاهر وجلال الأوقاتي و المهداوي وعبد الكريم الجدة وطه الشيخ أحمد فضلاً عن قائمة بسبعين اسماً لشيوعيين بارزين وضعت لغرض اعتقالهم](36).
لكن الفكيكي عضو القيادة القطرية آنذاك لم يوضح في اعترافاته هذه، من أعد هذه القوائم وما هو مصدرها؟ وهل هي العناصر الحزبية القيادية فقط؟ أم بالتعاون مع الجهات التي أشار إليها كوابيرون وآخرون؟ وما سر التشابه بين فعل الإعداد المسبق لهذه القوائم بما تم في الانقلاب المضاد لمصدق في إيران 1952 والذي دبرته وكالة المخابرات الأمريكية، وتلك الانقلابات ذات الصبغة اليمينية التي دبرتها ذات الوكالة في أمريكا اللاتينية، ومن ثم لاحقاً في إندونيسيا 1965 ـ 1966؟ وقد ( قامت وكالة المخابرات الأمريكية بتسليم كشوفات تحتوي أسماء اليساريين إلى القائمين على تدبير انقلاب بوشنيت في تشيلي 1973, وقد أثبتت الوثائق في الفترة الأخيرة علة وجود هذه الكشوفات... *).
كما أن النص المذكور أعلاه يحاول قدر الإمكان تبرير وتخفيف واقع المسؤولية الجنائية للعناصر التي ساهمت في المجزرة التي حدثت. كذلك يحاول تلطيف الصورة الكالحة لتلك الفترة المظلمة والتي انطبعت في الوعي الشعبي الاجتماعي العراقي، كفعل ارتداد في مسيرته التطورية وارتقائه االحضاري اللذين انطلقا بصورة واقعية منذ ثورة 14 تموز 1958.
وترابطاً بالموضوع نُشير إلى أن إذاعة الانقلاب في بغداد أذاعت يوم 8 شباط وفي الساعة الثالثة وخمس وأربعون دقيقة ب. ظ.، بياناً يدعو مدير شرطة النجدة، فاضل السامرائي المُعين من قبلهم، إلى إلقاء القبض على الأشخاص المشتبه بهم والمُزود بقائمتهم. بمعنى أن القائمة كانت معدة سلفاً ولم تكن مرتبطة بمقاومة هؤلاء الاشخاص للانقلاب، كما يشير تبريراً الأغلب الأعم من أقطاب النظام آنذاك ومنهم الفكيكي وشبيب والخيزران وغيرهم. ومع كل هذه الوقائع ينشر أمين سر قطر حزب البعث العراقي آنذاك حازم جواد أن الاعتقالات ابتدأت ( من يوم العشرين من شباط/ فبراير...**). وقد سبق وأن كرر هذا الادعاء في حلقة سابقة من أوراقه حيث يقول :( ... أنه لم يجر اعتقال أي شيوعي عضواً أو مناصراً لا في يوم الثامن أو التاسع والعاشر وحتى اليوم العشرين من شباط/ فبراير...*** ).
إن هذا الادعاء لا يصمد أمام الوقائع المادية التي ساهمت آنذاك ... وتدحضهاحتى تقارير حزب البعث العراقي نفسه.. وكذلك حركة القوميين العرب الشريك الأصغر.****
*** في وصف الانقلاب، قال رئيس عمليات وكالة المخابرات المركزية في الشرق الأوسط ((جيمس كريتشفيلد)) بأنه [انتصار عظيم بالنسبة لنا]. إذ بالإضافة إلى مساهمتهم في تحقيقه، فقد رسم الانقلاب التاريخ اللاحق الجيو/سياسي للعراق والمنطقة، وفقاً للمنطوق الامريكي الذي تكرست هيمنته الأولية منذ ذلك التاريخ، والذي أصبح القوة المؤثرة فيها دون منازع يكبحه، وخاصة ما يتعلق بالثروة النفطية واستغلالها وبالقضية العربية المركزية (فلسطين) وسبل حلها، وهذا ما يثبته واقع الحال الراهن. وما تشهده القضية من تقزم يعود ببعض مسبباته، إلى ذلك الانقلاب.
واستكمالاً للموضوع المتعلق بعمق الارتباط بالعامل الخارجي نشير، كما أشار قبلنا، حسن العلوي وقبله جلال السيد وفؤاد الركابي وسامي الجندي ومصطفى الدندشلي وحسن السعيد وغيرهم، إلى أهمية هذا العامل في إنجاح الانقلاب. إذ لا يحتاج المرء إلى بذل جهد كبير من العناء للوصول إلى ذلك. لأنه من المستحيل لحزب صغير: [بلغ عدد أعضائه يوم الانقلاب 980 عضواً عاملاً](37) دون قاعدة اجتماعية واسعة؛ ينتابه الصراع الداخلي في قيادته العليا؛ وتتكون تشكيلته الدنيا من ذوي العضلات *؛ وتأثيره الضعيف في الجو الثقافي والحضور السياسي؛ ويتميز بسمة عصبوية وطائفية؛ يتنافس ويتسابق مع أجنحة التيار القومي العربي للاستيلاء على السلطة بالطريقة الانقلابية؛ ويتصارع، في الوقت نفسه، مع السلطة الوطنية والتيار اليساري، إن حزباً كهذا يستحيل أن يحقق الانقلاب بمفرده ضد نظام يتمتع ـ باعترافهم ـ بقاعدة اجتماعية واسعة لا يستهان بها، وفي بلد تصعب إدارته وغني بمكوناته الاجتماعية.
وعلى خلفية هذا الوضع، يتولد، لدى أي باحث موضوعي، اليقين بأن ما تم الكشف عنه لحد الآن من معلومات سرية عن دور العامل الخارجي حول هذا الانقلاب لا يمثل سوى النذر اليسير من خفايا الكواليس وسباق المسافات الطويلة. ومازالت الفصول المهمة منه، يلفها عالم الصمت المطبق.
كما أن أغلب (أبطال!) الانقلاب صُفّوا جسدياً بعد القدوم الثاني للسلطةعام 1968. وهنا يكمن التساؤل عن سر هذه التصفيات التي طالت عديداً من المشاركين في الانقلاب والمطلعين على دور العامل الخارجي فيه، أو تسنى لهم الاطلاع عليه فيما بعد؟ من أمثال:
عبد الكريم مصطفى نصرت؛ طاهر يحيى ؛ عبد العزيز العقيلي؛ فؤاد الركابي؛ رشيد مصلح؛ حردان التكريتي؛ صالح مهدي عماش؛ أحمد حسن البكر؛ حماد شهاب التكريتي؛ محمد المهداوي؛ عبد الرزاق النايف؛ عبد الكريم الشيخلي؛ منيف الرزاز وغيرهم الذين يقدرون بالعشرات، ناهيك عن المجاميع التي انشقت على قيادة ميشيل عفلق سواءً مجموعة السعدي أو قيادة قطر العراق (الجناح السوري)(38).
واستناداً على ذلك فـ [إننا نستطيع حصر مصادر الدعم بشكل أساس في المثلث النشط (القاهرة، بيروت، لندن) دون التقليل من أهمية دور عواصم أخرى كواشنطن التي أسندت مهماتها إلى العاصمتين العربيتين آنفتي الذكر، لقربهما من ساحة الأحداث، ولأنهما يؤديان الغرض المطلوب بوجود العملاء السريين والعلنيين والذين يتلقون التعليمات المباشرة من السفارات أو من ضباط أجهزة المخابرات الدولية على حدٍ سواء](39).
الهوامش:
(31) د. علي كريم سعيد، مراجعات، مصدر سابق، ص 239 وما بعدها.
*- محمد حديد ، المذكرات ، ص. 443، مصدر سابق.
** المصدر السابق، ص. 473.
(32) باتريك كوكبورن ـ انقلاب شباط 1963 مهد الطريق لصعود صدام حسين، مجلة رسالة العراق، العدد32، آذار، 1997، ص 27.
(33) راجع أندرو كوكبورن و باتريك كوكبورن، صدام الخارج من تحت الرماد، ولادة صدام حسين من جديد، ترجمة علي عباس، ص 136 ـ 137، مكتبة مدبولي القاهرة ودار المنتظر بيروت/ عام 2000
ميلادية 1421 هجرية
*رامزي كلارك، ص. 23، مصدر سابق.
** ميشيل ديبرا، صديقنا صدام.. أيام كانت الولايات المتحدة وفرنسا حليفتين للدكتاتورية، جريدة المدى في 8/5/2005.
(34) سعيد أبو الريش، صدام حسين ((سياسات الانتقام))، الفصل الثالث. لقد ترجم النص لنا ـ وأنا مدين له ـ الصديق الودود عزام مكي من خلال متابعته للحدث السياسي في عراق تلك المرحلة.
* جريدة المؤتمر العدد 304 في 15/8/2002، لندن. مستل من د. عبد الخالق حسين ، ثورة 14 تموز وعبد الكريم قاسم ، ص. 142، دار الحصاد دمشق 2003.
** آلان تيل( مراس الشئون الدولية في البي بي سي) عالم صدام الخاص، موقع الوكالة على الانترنيت في 17/7/ 2003، مستل من عزيز سباهي، عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي ، ج. 2، ص.2255 ، منشورات الثقافة الجديدة، دمشق2003.
(35) راجع نص التقرير مترجماً في مجلة أصوات، العدد13، مصدر سابق. ص 44. ويمكننا أن نضيف مصدر أخر لأصل هذه القوائم وهو قاعدة حزب البعث العراقي، وبخاصة في مديرية الأمن العامة و الشرطة. لكن هذه القوائم تنصب على القيادات الوسطى والدنيا من الحزب الشيوعي والقوى اليسارية. وهي تختلف عن تلك التي اعدتها المخابرات الامريكية من ناحية وجوب تصفيتهم جسدياً، لأنهم يمثلون الكادر المتقدم في الحزب. في حين ترك مصير الآخرين للقيادات الحزبية.
(36) هاني الفكيكي، أوكار الهزيمة، مصدر سابق. ص 224.
* جريدة الزمان ، العدد 1232 في 12/6/2002. لندن.
** من أوراق حازم جواد، القدس العربي في 24/2/2006
*** المصدر السابق، في 24/ 2/ 2006
**** جمال باروت، حركة القوميين العرب ، مصدر سابق.
(37) محمد جمال باروت، مصدر سابق، ص 187، كما يشير منيف الرزاز في كتابه التجربة المرة (ص.
90) إلى أن عدد الاعضاء العاملين كانوا800 عضواً. وكان عددهم قبل 17 تموز لا يتجاوز ال 70 عضواً، لكن طه الجزراوي صحح الرقم بالقول [أن العدد كان 170] راجع مقابلة عامر عبد الله في مجلة أبواب، العدد الثالث 1994، مصدر سابق ص 215
* ( إن أعضاء القيادة الذين أقترب منهم وعرفهم عن كثب ، ليسوا أعضاء قيادة مثلما كان يظن ، بل إنهم في الأغلب مجموعة من الفاشلين في الدراسة أو المطرودين من المدارس لأسباب مختلفة) ... ( وكان طبيعياً أن يطلع على خلافات وصراعات هؤلاء ، هنا أدرك صدام هشاشة أغلب أولئك القادة وانحراف بعضهم وجبن البعض الآخر منهم ...) إبراهيم الزبيدي، دولة الإذاعة، ص. 26-27. مصدر سابق.
(38) حول مصير بعثيين أخرين، زاد عددهم عن المئة شخصية، ساهم بعضهم في الانقلاب الأول والبعض الأخر في الانقلاب الثاني (1968). راجع أسماء بعضهم لدى د. علي كريم سعيد، مراجعات، ص 391 ـ 402.
كما يشير العلوي، في كتابه دولة المنظمة السرية، مصدر سابق، إلى العشرات من زعماء الصفوف الأولى والثانية لحزب البعث والتيار القومي الذين أعدموا من قبل سلطة الحزب الحاكم. ربما هنا يكمن سر التساؤل الذي نبحث عنه؟
(39) حسن السعيد، مصدر سابق، ص 113.