ناصريـة عبـدالناصـر: ماذا بقي منها؟ على صعيد الفكر والتطبيق بقلم اليـاس سحّـاب
المركـز الثقافـي
للبحوث والتوثيق
صيـدا صيدا في: 22/7/1989
ناصريـة عبـدالناصـر:
ماذا بقي منها؟
على صعيد الفكر والتطبيق
بقلم اليـاس سحّـاب
في اللحظات الأولى التي أعقبت انتشار خبر وفاة جمال عبدالناصر، كان أول قرار سياسي تمّ اتخاذه قرار أميركي أصدره الأسطول الأميركي السادس في البحر البيض المتوسط، لانتفاء الحاجة إلى مواصلة هذه المناورات. بعد ذلك بلحظات أيضاً، يدلي بتصريح علني يقول فيه: لن نسمح بعد اليوم بظهور ناصر آخر في هذه المنطقة من العالم.
من هذه الزاوية السياسية، الإستراتيجية أفضّل أن أطلّ على الناصرية، ليس فقط لأن ذلك تفضيل شخصي، بل لأن الناصرية هي في الأساس تجربة سياسية ـ اجتماعية. ومع أن لكل تجربة سياسية ـ اجتماعية في التاريخ بالضرورة أبعاداً فكرية وثقافية، نتعمق بنسبة عمق وحجم هذه التجربة، والمنطقة الجغرافية التي تشملها، فإني أرى ظلماً فادحاً لتجربة عبدالناصر حصر الأطلال عليها بالزاوية الفكرية، وهو الخطأ الذي يقع فيه إثنان: معارض للتجربة الناصرية يريد ان ينفي عنها أي بُعد فكري أو إيديولوجي، ومؤيّد للتجربة يريد ـ غالباً من منطلق ردة الفعل الدفاعية ـ إثبات أبعادها الفكرية والإيديولوجية، بدرجة غالباً ما نقع في مبالغات لا لزوم لها، لأن إثباتها لا يزيد من قيمة الناصرية في شيء، كما إن إنكارها لا يقلّل من هذه القيمة في شيء.
وبعيداً عن فتح حوار بيزنطي حول أدق وصف يمكن أن يطلق على التجربة الناصرية، فإنني أرى شبه إجماع على أن العصب الرئيسي في هذه التجربة (بغض النظر عن أبعادها وأوصافها) هو العصب السياسي ـ الاجتماعي.
عندما تقول أميركا إنها لن تسمح بعد اليوم بقيام ناصر آخر في هذه المنطقة من العالم، فإن بوسعنا أن نتوقف امام هذه العبارة البالغة التركيز والكثافة لنرى معاً ما الذي تريد أميركا منع تكراره، إنه بالضبط ما تكاتفت الامبراطورية العثمانية مع فرنسا وانجلترا في منتصف القرن التاسع عشر لمنع محمد علي من الاستمرار به أو تكراره: توحيد المنطقة العربية وتحديثها. وليس صدفة أن هناك شبه إجماع بين المؤرّخين والمفكّرين والكتّاب الجادّين على الربط بين تجربة محمد علي وجمال عبدالناصر، غير أن الاختلاف أولاً بين شخصية محمد علي (حاكم مصر الألباني الأصل) وشخصية جمال عبدالناصر (أول حاكم مصري لمصر بعد ألفي سنة من الحكام غير المصريين) ثم الاختلاف ثانياً بين ظروف التجربتين أي بين أواخر النصف الأول من القرن التاسع عشر، وأوائل النصف الثاني من القرن العشرين، إن هذين الاختلافين قد فرضا من غير شك اختلافاً ضمياً في تفاصيل التجربتين، تحت إطار التشابه الاستراتيجي العام بينهما، المستند الى عنصري التوحيد والتحديث. ولكنني أتوقف لحظة قبل الاسترسال في التفاصيل التي تشكل خصوصية التجربة الناصرية، لأوكّد على عنصر ثالث من عناصر التشابه الاستراتيجي العام بين التجربتين، وهو أن كلتاهما تجربة عربية عامة تنطلق من مصر كإقليم قاعدة. وهو العنصر الذي سنعود إليه في الحديث عن خصوصيات التجربة الناصرية.
يقول الكاتب اللبناني الدكتور جورج قرم إن القرن العشرين العربي لم يبدأ مع البداية الزمنية للقرن (أي سنة 1900)، كما لم يبدأ في العام 1918، أي مع انهيار الامبراطورية العثمانية، كما يحلو لبعض المؤرّخين أن يحددوا بداية هذا القرن، بل كانت البداية الفعلية مع النصف الثاني لهذا القرن، عام (1956) أي مع الانطلاق الكبير للتجربة الناصرية بقرار تأميم قناة السويس.
وهنا تكمن الخصوصية الكبيرة الاولى التي تميّز بين تجربتي محمد علي وجمال عبدالناصر. فتجربة محمد علي التوحيدية انطلقت باتجاه عالم عربي كان يتمتع بنوع من التماسك التوحيدي، وإن تحت السلطة العثمانية. لذلك، فإن انحسار تجربة محمد علي حرم العرب من فرصة الكيان الموحّد الخاص بهم، ولكنه أبقى الأقطار العربية في حالة من التماسك التوحيدي تحت السلطة العثمانية، وهو تماسك ستبدو أمامه حالة التفكك التي أصابت الأقطار العربية في عهودها الاستقلالية بعد ذلك، تراجعاً بينها على هذا الصعيد بالذات.
ففي أعقاب تفكك الرابطة العثمانية، كان من المؤكد ان فراغاً سياسياً هائلاً قد انفتح في المنطقة على مصراعيه، وأن بديله التاريخي المنطقي لا يمكن ان يكون إلا شكلاً من أشكال الوحدة أو الاتحاد أو التماسك الإقليمي العربي.
غير أن ما حصل بعد ذلك معروف للجميع، وهو إعادة ترتيب للمنطقة بإشراف الدول الأوربية الغازية، وباتجاه معاكس تماماً، تحقيق هدفاً معاكساً تماماً، وهو تفكيك المنطقة وترتيبها بما ينتج تبعيتها الكاملة سياسياً واقتصادياً وثقافياً للغرب المتمدد على تركة الأمبراطورية العثمانية.
وهكذا ألقيَ على عاتق التجربة الناصرية عبئ إضافي ـ مقارنة بتجربة محمد علي ـ هو الانطلاق إلى التوحيد من وضع مفكّك أولاً، وفي مواجهة مخطط عصري لتكريس هذا التفكيك وتثبيته ثانياً.
ومع التلازم الواضح بين التجربتَين في الاندفاع نحو التنمية التحديثية لإدخال مصر في إطار العصر الحديث، فإن انتماء عبد الناصر الاجتماعي، وكونه أول حاكم مصري لمصر منذ عشرين قرناً، إضافة إلى الظروف الدولية لما بعد الحرب العالمية الثانية، كل ذلك حتّم انحياز التجربة الناصرية إلى الغالبية العظمى من المصريين، أي إلى الطبقات الكادحة. ومرة أخرى كانت حرب السويس هي المدخل إلى الاتجاه الاشتراكي في التجربة الناصرية. فقد روى عبدالناصر بنفسه أنه اكتشف في مخاض تجربة السويس أن الطبقات التي اندفعت لتشتري كرامة الوطن بدمائها بغير تردّد، فكانت لا تملك من خيرات مصر شيئاً. أما القلة المتحكمة بثروات مصر والمستفيدة منها، فهي التي كانت تضغط باتجاه شراء رخائها الاقتصادي بكرامة البلد وسيادته واستقلاله، فقرر عبدالناصر بوقفها، وعلى ضوء التجربة العملية، لا على ضوء الخيارات الفكرية المسبقة، ضرورة تمليك البلد لأصحابها الحقيقيين.
ننتقل بعد ذلك إلى نقطة ثالثة هامة في خصائص التجربة الناصرية، وهي البحث عن شكل جديد للديمقراطية، فنقول بعيداً عن الفوضى في النظريات والنظريات المضادة، إن مرحلة عبدالناصر قد مرّت بلحظات غير قليلة، وغير عابرة الأهمية، كانت فيها ذروة السلطة السياسية مرآة صادقة لأحاسيس الجماهير وتوجهاتها وقراراتها السياسية العفوية. وتلك كانت أعلى ذرى التجربة الناصرية، وأعلى ذرى الديمقراطية السياسية في التاريخ العربي المعاصر، غير أن الخلل يبدأ عندما يجادل بعضنا لتجميد هذه اللحظات وتحنيطها واعتبارها نموذجاً صالحاً للتكرار في كل زمان ومكان.
فمن المؤكد بعد نكسة 1967، إن حوارات عبدالناصر السياسية على أعلى مستويات السلطة في مصر، كانت تشير إلى فلسفة وفكر العميق حول ضرورة استنباط الشكل الأمثل لتأمين الحيوية الديمقراطية الحقيقية داخل نظامه، وليس صحيحاً أن فكرة العودة إلى الحياة الحزبية كانت مبادرة سادتية في مصر. فقد كان عبدالناصر هو الوحيد الذي يصر على هذا الطرح في مرحلة ما بعد الهزيمة، بينما كان السادات ـ نفاقاً لعبد الناصرـ المعارض الشرس للفكرة على أساس أنها تمسّ ما لا يجوز أن يمسّ؟ الثقة بزعامة الزعيم.
بقيت نقطة رابعة أساسية قد تمثل في نظري روح التجربة الناصرية وهي العلاقة بالغرب. أختصرها بعبارة للدكتور إسماعيل صبري عبدالله في محاضرة ألقاها في ندوة الناصرية والنظام الدولي الجديد" بباريس عام 1980، قال فيها إن عبدالناصر كان متجاوزاً لكل عُقد النقص تجاه الغرب، مع أنه كان منفتحاً على حضارة الغرب وثقافته بلا عُقد أيضاً، إلا أن قِيمه الخلقية والحضارية والاجتماعية والسياسية كانت كلها نابعة من بيئته المحلية بلا أي عُقد تجاه الغرب".
هذه هي إذن ملامح التجربة الناصرية الأساسية:
1ـ اتجاه توحيدي عربي إنطلاقاً من مصر.
2ـ اتجاه تحديثي يهدف إلى الدخول في خضم العصر الحديث على أكتاف ولصالح الطبقات الكادحة من أبناء الشعب.
3ـ السعي لتطوير أساليب ووسائل التعبير الديمقراطي في الحياة السياسية العامة.
4ـ علاقة بالغرب تعترف بجواره الطبيعي عبر البحر الأبيض المتوسط، ولكنها لا تستسلم لعُقد النقص إزاء هذا الجوار، بل هي على العكس علاقة شديدة الحساسية إزاء عُقد النقص هذه.
وعلى طريق هذه الملامح الأربعة، عرفت التجربة الناصرية نجاحات كبيرة، وسقطات كبيرة، ولكن خط بيانها التصاعدي تاريخياً بقي في اتجاهه التصاعدي. هذا ما بقي من الناصرية رداً على السؤال الذي طرحه العنوان، وهو مصدر وفخر واعتزاز للتجربة الناصرية ولأجيال الأمة العربية، في زمن نرى فيه أعرق التجارب السياسية والإيديولوجية، مطروحة هذه الأيام لعمليات إعادة نظر شاملة وعميقة.
كلمـة إليـاس سحّـاب
... إن ارتباط هذه النشاطات الثقافية في المركز الثقافي بهذه الذكرى هو أن شعوري بأن اليوم يبدو بعيداً جداً عن الأمس ولكن اليوم يبدو أيضاً من جهة أخرى قريباً جداً من جهة الأمس. ما أبعد اليوم عن الأمس وما أقرب اليوم من الأمس. ما أبعده لأننا لو قارنا بين الوضع العربي الحالي، وبين مرحلة الخمسينات والستينات، لشعر الواحد منا كأن ما يفصل بيننا وبين تلك المرحلة يصل إلى قرن من الزمن بل يزيد ربما، خاصة في الفارق بين القِيم التي كانت تسود الحياة العربية في ذلك الوقت، والقِيم التي تسود الآن، الطموحات والأماني الكبيرة في عقديّ الخمسينات والستينات والإحباط الهائل في هذه الأيام..
ولكني أقول من جهة أخرى ما أقرب اليوم من الأمس، لأن ما نعيشه اليوم وما نتذوقه من ثمار مُرّة إنما هي الثمار التي بذرت بذورها منذ ربع مضى على أقل تقدير... مع كل التفاصيل الحافزة التي مرّت بنا في هذه الفترة، فإني لا يمكن أن أنسى عبارة حُفرت في ذهني وفي وجداني أطلقتها وزارة الخارجية الأميركية بعد ربما ساعات قليلة من وفاة عبدالناصر وكان هذا أول تعليق لأي دائرة من دوائر السياسة الغربية على الاطلاق. قال ناطق بلسان الخارجية الأميركية يومها، لا يمكن أن نسمح بقيام عبدالناصر آخر في هذه المنطقة.. وفي رأيي أن هذه العبارة لم تكن مجرد انفعال عاطفي على وفاة زعيم عربي كان مزعجاً للسياسة الأميركية، بل كانت هذه العبارة في رأيي عنواناً عاماً للمرحلة التي مرّت منذ رحيل عبدالناصر وحتى يومنا هذا، وهي المرحلة التي نقطف ثمارها.
طبعاً ممنوع ظهور عبدالناصر آخر ليس الممنوع هو ظهور شخص آخر بحجم عبدالناصر.. الممنوع هو عودة الحياة إلى التوجهات التي كانت سائدة في فترة الخمسينات والستينات. نحن اليوم وصلنا إلى المرحلة لنعترف ونقول، مرحلة نجاح الغرب ونجاح أميركا بالذات في تطبيق هذا الشعار الذي وضعته منذ ربع قرن عنواناً للمرحلة التالية ولكني أقول رداً لمشاعر الإحباط التي قد تسيطر علينا إن الصراع لن ينتهي في رأيي ولكننا نطوي صفحة من الصراع بكل ما لها وما عليها، بكل قيمها ومفاهيمها، ونفتح صفحة أخرى، في رأيي، ستكون أشدّ عمقاً وأكثر تعقيداً ولعلّ التحديات التي ستواجهنا في المرحلة القادمة تكون أكثر استفزازاً للحيوية التاريخية للأمة العربية التي كلّي إيمان وثقة بأنها ستنطلق في يوم من الأيام، كما كانت ويجب لها أن تكون...
* * *
كلمــة السيّــد:
...... بشيء من برودة العقل التي نحاول أن نسلطّه على حرارة الحدث وتداعياته شديدة الوطأة علينا جميعاً. ولعل أبرز تجليات حرارة الحدث هي تلك التي تظهر من خلال نهج تفكيرنا وأحوالنا وانطباعاتنا ونحن نقارب هذا الحدث ونؤله ونستوضحه. وفي غالب الأحيان فإنه من الملاحظ أن مقاربتنا لهذا الحدث الذي يشكل مفصلاً خطيراً في تاريخنا العربي والإسلامي، إن هذه المقاربات بشتى صورها وأشكالها وتنوعاتها تأخذ طابع الانفعال تارة وطابع اليأس والإحباط تارة أخرى.
ولكن في كلا الحالتين فإن منطقة العقل تظل حيادية وهامشية في حدث نفترض، أو في مجموعة أحداث نفترض أن العقل وحده يجب أن يكون سيّد الموقف في استنطاقها وفي تقييمها وفي صياغة الموقف منها في آن واحد. ذلك أن تجارب الانفعال العربي عبر حلقات متطاولة من الأحداث التي أدت إلى النتائج الراهنة كانت باستمرار إفرازاً لمنطقة أخرى من هيكليتنا الإنسانية. هذه المنطقة كانت منطقة الأعصاب ومنطقة الانفعال ومنطقة الغرائز في كثير من جوانبها وكثير من مصادرها أيضاً.
لا أكتمكم ونحن هنا في هذه القاعة،.... أننا نعيش بعض الحيْرة، بل كل الحيْرة. الحيْرة تجاه الخيارات المتعددة التي يمكن أن نصوغ منها موقفنا تجاه ما يجري. وتصل هذه الحيْرة أحياناً إلى درجة إتهام النفس.. فأنا أتساءل أحياناً: ترى هل مجريات هذا الواقع العربي والواقع الإقليمي والواقع الدولي، هي مجريات معقولة وذات أسباب طبيعية وأننا نحن الذين نتلقى هذه المجريات لا نملك القدرة على أن نكون واقعيين وطبيعيين لنستطيع أن نفهم منطق التاريخ ومنطق الأحداث وتداعياتها؟!... هل العيب في الواقع أم في العقلية التي تتعامل مع هذا الواقع؟.
قد يحس المرء أحياناً أنه هو وعقله ومشاعره وجميع إمكاناته في تلقي مجريات الواقع، يعيش نقصاً لا يمكنه أن يكون!! أبن هذا العصر أن يكون؟!.. أبن هذا الزمان؟ يتهم نفسه أنه ابن زمان مضى...
..... أنت مضطر لأن تراجع كل هذه الثوابت (القِيَم..). إذن أنت أمام شيء يشبه القلق الوجودي، قلق الوجود، لأن معنى أن تدخل في مراجعة مع هذا النسق من القيم أو هذه الشبكة من القيم والأفكار... أنه معنى أن تدخل في حوار وفي عملية نقدية لهذا النسق من القيم والمفاهيم التي قامت عليها حياتك وأفكارك وعلاقاتك مع الآخر.. إنك ربما تنتهي إلى ضرورة تغيير شاملة... تغيير هذا النسق، بما يعني تغيير الذات بأكملها.. وهنا قلق الوجود، الذي يخاف الإنسان، وهو في موقع المسؤولية تجاه قرار لابد أن ينعكس على مجمل أفكاره وتصوراته للحياة والكون والإنسان والتاريخ والمجتمع والسياسة في آن واحد.
أما إذا انتهيت إلى أن نسق القيم الذي تعيشه أنت والذي تحمله في ذاتك هو النسق الذي يجب