كتاب : أحداث صيدا 1975 - الياس سحاب
كتاب : أحداث صيدا 1975
الياس سحاب *
من يستطيع منا أن يخرج نفسه قليلاً من دوامة الحرب الأهلية الطاحنة . ليحاول إلقاء نظرة خارجية شاملة عليها ( إذا استطاع ) لا بد من أن تدهشه وتهوله مظاهر وظواهر كثيرة . بينها ـ من غير شك ـ تلك السهولة التي يحتفظ بها زعيم ما بزعامته ، حتى عندما ينقلب على مواقفه المبدئية انقلاباً كاملاً ، وحتى عندما يتخذ مواقف مدمرة (على المدى البعيد ، والقريب أحياناً ) لمصالح بل ومصير الجماعة التي تنصبه زعيماً عليها ، فترى الزعيم يتصرف بثقة كاملة في قدرته على أن يسير بجماعته في أي اتجاه يشاء . وهو لا يضع بين احتمالاته المستقبلية ، احتمال تقديم كشف حساب لأنصاره ، عن سلبياته وإيجابياته ، انتصاراته وهزائمه ، خطاه وصوابه.
وهذه ظاهرة معقدة وعميقة الجذور في تربيتنا الاجتماعية وتاريخنا السياسي ، لا يمكن تبسيط البحث فيها بإرجاعها إلى سبب واحد أو أسباب عديدة ظاهرية . ولكن من المؤكد إن من الأسباب العديدة اطمئنان الزعيم إلى ضعف ذاكرة الناس ، من أنصاره وخصومه . أما الآخرون من الأنصار والخصوم ، فيمكن مواجهتهم بالحقائق المشبوهة، أو الحقائق المجتزأة ، التي غالباً ما تصبح نقيضاً للحقيقة ، وليس جزءاً منها .
في مثل هذه الأجواء ، تعودت ساحة العمل السياسي الشعبي في بلادنا (وفي كل بلاد العالم ، بنسبة أو بأخرى ) على ممارسة لعبة المعلومات المجتزأة أو المعلومات المشوهة أو المعلومات الملونة ، حتى أصبحت هذه العادة تقليداً يمارسه من هو بحاجة إليه من ليس بحاجة .
فإذا كان أصحاب القضايا القائمة على الهوس العاطفي ، والمناقضة للمجرى الطبيعي للتاريخ والأحداث، إذا كان هؤلاء يستقوون على حاجتهم دائماً بكتم المعلومات، أو كتم جزء منها ، وإظهار الجزء الذي يلائمهم ، وإذا كان تصرفهم هذا طبيعياً يخدم مصالحهم ، فإن الغريب أن نرى إهمال المعلومات الدقيقة والصحيحة ، تنتقل عدواه ، وبدرجة أكبر ، إلى أصحاب القضايا الوطنية العادلة ، المنسجمة مع المجرى الطبيعي للتاريخ والأحداث . أولئك يستقوون بمعلومات محجوبة أو مشوهة ، وهؤلاء يتنازلون طوعاً عن أقوى أسلحتهم : المعلومات الدقيقة الصحيحة .
ولقد عرفت الصحافة الأوروبية المتخصصة مثل تلك التي تعنى بالتاريخ والأحداث التاريخية . عرفت عبر مجلات شهرية ، اهتماماً علمياً دقيقاً بأيام مختارة من تاريخ شعوبها، وشعوب مناطق أخرى من العالم ، مثل يوم " بيرل هابور " الشهير الذي شنت فيه طائرات يابانية انتحارية ( في الحرب العالمية الثانية ) هجوماً انتحارياً على الأسطول الأميركي الحربي في المحيط الهادي ، أو يوم إلقاء القنبلتين الذريتين على مدينتي هيروشيما ونجازاكي اليابانيتين في نهاية الحرب العالمية الثانية . وقد جاءت الدراسات ( وإن كانت كل دراسة ملونة بلون الاتجاه السياسي لكاتبها ) تجمع كل المعلومات المحيطة بذلك اليوم التاريخي المكثف ، الذي كان له ما سبقه وما تلاه . بمعنى أنه لم يكن يوماً مقطوعاً عن مسار معين للأحداث السياسية والعسكرية .
في القاهرة أيضاً ، صدر على سبيل المثال لا الحصر ، كتابان صغيران لأستاذ التاريخ المصري المعاصر الدكتور محمد أنيس ، يعرض الأول كل وقائع يوم 26 كانون الثاني (يناير) 1952. وهو يوم حريق القاهرة ، الذي كان ذا أثر مباشر في تحريك انطلاقة ثورة 23 يوليو . والثاني بعنوان " 4 فبراير "، يروي فيه كل ما يتعلق بيوم تاريخي مكثف آخر في تاريخ مصر الحديث ، عندما قامت الدبابات الإنكليزية بمحاصرة قصر الملك فاروق ، لتجبره على إسناذ رئاسة الوزارة الجديدة إلى مصطفى النحاس باشا ، زعيم حزب الوفد .
مثل هذه الكتب والدراسات ، لا تتحلى دائماً بالصدق المطلق ( وهو غير موجود في مثل هذه الدراسات ) لأن بإمكان صاحب الدراسة ، مرة أخرى ، أن يظهر معلومات معينة ، ويخفي معلومات أخرى تؤثر على صورة الحقيقة كاملة ، مهما كانت المعلومات المحجوبة ضئيلة . ولكن يبقى لهذه الدراسات ، أنها تضع بين يدي القارئ العادي المهتم بهذا الموضوع أو ذاك ، والباحث العلمي صورة تفصيلية عن وقائع تاريخية ، كان لها أكبر الأثر في تشكيل الواقع السياسي الذي نعيشه اليوم .
وتحت هذا النوع من المؤلفات الوثائقية ، يظهر نوع آخر ، يعني بالناحية المعلوماتية التوثيقية بشكل أكثر تحديداً ، بمعنى أنه يكتفي بعرض المعلومات الأساسية ، من غير أي تحليل . من هذه المؤلفات مثلاً المرجع الضخم الذي نشرته مؤخراً مؤسسة لاردس الفرنسية بعنوان " وقائع القرن العشرين " وهو يقع في ألف ومائتي صفحة . يروي يوماً بيوم ، وقائع القرن العشرين من أول يوم فيه ، حتى آخر العام 1984 ، بما في ذلك الأحداث السياسية والعسكرية والاقتصادية والرياضية والثقافية والعلمية ألخ ...
نفر من شباب صيدا ، متحلقين حول الأستاذ الجامعي الدكتور مصطفى دندشلي في المركز الثقافي للبحوث والتوثيق ، كانوا قد بدأوا نشاطاً توثيقياً يوجه اهتمامه الأساسي إلى الجنوب ، وعاصمته صيدا . ولكن فكرة استخدام هذا المجهود بشكل محدد بدأت ( وقد يبدو الأمر غريباً للوهلة الأولى ) في الأيام الأولى للاجتياح الإسرائيلي .
ومع استمرار شباب المركز الثقافي للبحوث والتوثيق في عملية جمع وفرز وتبويب المعلومات اليومية ، فقد شكل الإحتلال الإسرائيلي استفزازاً مباشراً لتدوين الفظائع التي تتم . قبل أن تتحول إلى أمر واقع جديد يستسلم له بحكم العادة ، وتجيء أجيال لا تعرف من هذا الواقع إلا أنها ولدت فوجدته حولها . ولكن ماذا بعد جمع المعلومات وفرزها وتبويبها .
المهمة الطبيعية بعد ذلك هي النشر والتعميم ، أي وضع حقائق التاريخ الغريب المعاصر بين أيدي المهتمين ، من المواطن العادي ذي الاهتمامات العامة ، إلى المواطن العامل في السياسة العامة ضمن حزب أو مؤسسة أو بشكل مستقل ، إلى المواطن الذي يعمل في البحث التاريخي الأكاديمي عبر مؤسسة أبحاث أو جامعة أو كلية .
ولكن من أين البداية ؟ وجاء الجواب طبيعياً أيضاً : لتكن البداية من نقطة البداية بالنسبة لصيدا ، يوم اتخذ النظام قراراً بمواجهة مظاهرة الصيادين في صيدا بإطلاق رصاصة على قائدها ، وقائد صيدا ، معروف سعد (26 شباط 1975). من هنا حمل الكتاب عنوانه " أحداث صيدا 75 ـ يوميات ووثائق ـ استشهاد معروف سعد ـ اندلاع الحرب الأهلية في لبنان ".
الخريطة الداخلية للكتاب
يقع الكتاب في 845 صفحة من القطع الكبير ، مبتدئاً باليوم السادس والعشرين من شباط 1975 ، يوم إطلاق الرصاصة القاتلة على معروف سعد وهو يقود مظاهرة صيادي الأسماك ضد مشروع شركة بروتين الاحتكاري الذي كان يتم لمصلحة الرئيس الأسبق كميل شمعون ، وينتهي بيوم الخامس عشر من أيار من العام نفسه ، يوم سقوط حكومة الرئيس رشيد الصلح ، مروراً بأحداث نيسان الشهيرة التي شهدت اندلاع شرارة الحرب الأهلية في لبنان ، من أوتوبيس عين الرمانة الشهير .
ويعتمد الكتاب ، الذي يدون يوماً فيوماً الأحداث المتداخلة بين صيدا ، كنقطة انطلاق الأحداث ، ولبنان ، لمسرح شامل لتفاعلات الأحداث فيما بعد . يعتمد بشكل كامل على القصاصات الصحفية ، فيقتطف منها المادة مقسمة على ثلاثة حقول :
ـ وصف الأحداث بالتفصيل (العسكرية والسياسية ، الشعبية والرسمية).
ـ تثبيت نصوص البيانات الرسمية أو القرارات الرسمية التي صدرت في ذلك اليوم .
ـ رصد أكبر عدد ممكن من التعليقات السياسية ـ الصحافية بمختلف اتجاهاتها .
ومع أن الكتاب في تسعين بالمائة من مادته ، يعتمد تدوين الأحداث بالكلام ، إلا أن الصور الوثائقية فيه لعبت دوراً بارزاً ، برغم ضيق المساحة التي أفردت لها .
فإلى جانب الصفحات الثلاثين الأخيرة التي تروي قصة حياة معروف سعد في الفتوة المبكرة ، إلى الجنازة الشعبية التي رافقته إلى المثوى الأخير ، مروراً بأيام الجهاد في فلسطين قبل قيام دولة إسرائيل ، فإن صوراً أخرى قد توزعت على باقي أقسام الكتاب تروي بالوثائق المصورة أحداثاً مفصلية في بداية الحرب الأهلية اللبنانية ، منها مشهد أوتوبيس عين الرمانة الشهير الذي اعتبر الشرارة الأولى للحرب الأهلية ، ومنها مشهد المشادة المثيرة بين الشيخ أمين الجميل (كان يومها نائباً) والأستاذ رشيد الصلح (كان يومها رئيساً لمجلس الوزراء) عندما هاجمه جسدياً على باب مجلس النواب لمنعه من مغادرة المجلس .
تقويم سريع للكتاب
من المؤكد أن كتاب " أحداث صيدا 75 " يعتبر نموذجاً لسلسلة من الكتب التي يمكن أن تؤرخ وثائقياً لفترة محددة من تاريخنا المعاصر ، انطلاقاً من نقطة معينة ، ووصولاً إلى نقطة معينة ، ومع أن مراجعة سريعة للكتاب يظهر للقارئ أن ناشري الكتاب ليسوا موضوعيين إلى درجة الحياد ، بل أن لهم وجهة نظر محددة في الأحداث اللبنانية ، واضحة في مجالات عديدة ، أهمها التعليق على الصور . ولكن تبنى وجهة نظر معينة ، واضحة ومحددة ، أثبت من هذا الكتاب الحساس ، أن صاحب وجهة النظر ، يمكن أن يكون موضوعياً بدرجة عالية ، وأنه حتى يكون الكاتب أو المؤرخ موضوعياً ، فليس من الضروري أن يكون متنازلاً عن حقه في تبني وجهة نظر معينة. فالموضوعية الواقعية هي أن لا تدع وجهة نظرك تدفعك إلى حجب حقائق أساسية في الموضوع الذي تؤرخ له . وهذا ما أثبته كتاب المركز الثقافي للبحوث والتوثيق في صيدا ، بدرجة عالية من النجاح ، الأمر الذي أكسب الكتاب قيمة لا شك فيها .
بقيت بعد ذلك ملاحظتان ، لا بد من لفت النظر إليهما ، في طبعات تالية للكتاب ، أو في أي كتاب مماثل ، حتى يستكمل هذا النوع من الكتب قيمته الكاملة كأداة توثيقية صالحة لأي عمل بحثي تاريخي جاد ، وليس فقط للاطلاع السريع العابر :
1 ـ بالنسبة للصورة من الواضح أن ناشري الكتاب قد التزموا بما أمكنهم الحصول عليه ، تبرعاً من أرشيف الصحف والمجلات الصديقة ، ولو توفر للكتاب إمكانات مادية أوسع ، لكان بوسع الناشر ، بل كان من واجبه ، أن يكون توثيقه بالصورة أكثر دقة وشمولاً ، وأكثر وضوحاً طباعياً : وهذا ما نأمل أن يتم تلافيه في طبعة ثانية للكتاب . إذا توفر له الدعم المادي الكافي .
2 ـ لعل أبرز نقائص الكتاب كمرجع وثائقي ، هو افتقاره إلى كشاف أو أكثر من كشاف في قسمه الأخير ، يجعل من السهل مراجعة الأسماء العلم ، والمواقع والموضوعات . فغياب مثل هذه الكشافات يجعل الاستعانة بالكتاب لمرجع وثائقي عملية لا تخلو من المشقة التي يعرفها جيداً الدكتور مصطفى دندشلي ، المشرف على إعداد الكتاب ، بصفته باحثاً جامعياً مجرباً .
ومع ذلك ، فإن بالإمكان ، من غير أي مبالغة ، اعتبار كتاب " أحداث صيدا 75" عملاً سياسياً راقياً ، يلفت النظر إلى أن ممارسة النشاط السياسي في عصرنا وفي ظل التحديات الواسعة الشاملة التي أصبحت تمثلها القضايا السياسية المعاصرة ، لها أكثر من حقل وأكثر من مستوى . ويكفي هذا النوع من الكتب ، في مجال العمل السياسي ، أنه يمنع الزعماء من الاعتماد على ضعف ذاكرة الناس ، ويخفف بالتالي من ثقة هؤلاء الزعماء العمياء ، بأن بوسعهم قيادة الناس وراءهم إلى حيث تهب رياح مصالحهم الخاصة.
_______________________________________________________________________________________
* ) الياس سحاب ، جريدة السفير بتاريخ 15 شباط 1986