النهار - غواية السلاح وعلاقة القبضايات بالزعماء والأجهزة الامنية والقضائية في مطلع الخمسينات
الأحد 31-10-2010
تحقيقات الأحد
غواية السلاح وعلاقة القبضايات بالزعماء والأجهزة الامنية والقضائية في مطلع الخمسينات
تروي هذه الأسطر حادثة وقعت في قرية المريجة الساحلية مطلع خمسينات القرن العشرين، وتكشف الرواية عن عوالم تكوّن القبضايات، وعلاقتهم بالزعيم والنائب الراحل هنري فرعون ومفاتيحه الانتخابية. وهي تصف ايضا كيف يجري تدبُّر الحوادث الجرمية في العلاقات الاهلية، وفي الاجهزة الامنية والقضائية.
-1-
كنت اعمل موظفاً ليلياً في سنترال المريجة العام 1949، حين اقتحم مسلحون من الحزب السوري القومي الاجتماعي السنترال ومخفر الدرك في الغبيري وغيره من المخافر في مناطق لبنانية اخرى، في محاولة فاشلة للانقلاب على نظام الحكم في لبنان، مما ادى الى اعدام زعيم الحزب انطون سعاده في العام نفسه. بعد هذه الحادثة تركت عملي الليلي في سنترال ضيعتي الساحلية، المريجة، وانصرفت الى عمل موقت ومتقطع اقرب الى الهواية، هو الاتجار المحلي ببنادق الصيد، فرحت اتردد الى دكان "قردحجي" او "حرتقجي" في لغة تلك الايام الدارجة، وهو صاحب حرفة تجمع بين فن الحدادة واعمال السمكرية. كان الرجل بارعا في اصلاح قطع السلاح، وفي تجميع بنادق الصيد من نوعي "9 ملم" و"الدك"، نسبة الى دكّ حشواتها او طلقاتها النارية من البارود والخردق، يدويا في سبطاناتها. كانت دكان "الحرتقجي" في محلة الاشرفية قرب حاووز الدحديلة، وكنت اتردد احيانا على دكان آخر في سوق الخشب في وسط بيروت يعمل صاحبه المدعو جورج حداد في الحرفة نفسها، فأشتري بنادق صيد بسعر 30 ليرة لبنانية للبندقية الواحدة، وأبيعها من شبان المريجة وبرج البراجنة، فأربح ما بين 5 و7 ليرات في كل بندقية. فصيد العصافير والطيور كان في تلك الايام هواية ومهنة ثانوية متقطعة لكثيرين من فتيان قرى ساحل المتن الجنوبي الزارعية، وشبانها، ولرجالها احيانا، الى جانب اعمالهم الحرفية والزراعية الاخرى. ثم انني كنت احب السلاح واهواه وأرغب في اقتنائه، ميلا مني الى التباهي به في ادوار القبضنة وفرض الهيبة، الى جانب القوة البدنية. وهذه كانت من مكونات الاعتداد بالنفس او الذات بين الشبان والفتيان المحليين غير المقبلين على التعليم والمنقطعين عنه الى اعمال ومهن مختلفة. هكذا اشتريت مسدسا من نوع "سمث اندوسن" بـ31 ليرة لبنانية، ورحت ابتاع له الطلقات النارية من جرجس سلمان الديب الذي يعمل في "دكّها" وتعبئتها يدويا في بيته ببرج البراجنة.
-2-
كنت آنذاك في التاسعة عشرة من عمري، واغواني دور القبضنة على مسرح الحياة المحلية بين شبان المريجة من امثال ريمون ابو زيد وابناء الطبيب البيطري ابو معروف علامة الذي كانت ساعده مقطوعة وركّب مكانها ساعدا وكفا من خشب، ويعمل في طبابة الابقار الشائعة تريبتها في كل بيت من قرى الساحل آنذاك، فتشكل موردا اساسياً في حياة الاهالي الزراعية. ابنا الطبيب، رامز وابرهيم، كانا يعملان في معمل للبلاط يملكه آل المر قرب معمل غندور في الطيونة، ويعمل معهم ايضا شاب يدعى ميشال شرابية، اللبناني المولود في مصر، حيث توفي والده ووالدته، فنشأ وتربى في ميتم للراهبات اللعازريات في القاهرة، قبل ان يأتي الى لبنان في صحبة راهبة لبنانية من آل باسيل تعهدت رعايته وتربيته في الدير القاهري.
كان التباهي بالقوة البدنية والعضلية شائعا بين الفتيان والشبان العاملين في معامل البلاط وغيرها من المهن والحرف. ليجاري اقرانه في العمل في قوتهم، اقبل ميشال شرابية على التمرين في ناد لكمال الاجسام في المريجة، مدفوعا برغبته المحمومة في الدفاع عن نفسه، ورد تحرش العمال به واستضعافه كغريب بينهم وبلا سند من عائلة واهل في المريجة، اضافة الى سخريتهم الدائمة من لهجته المصرية. بعدما أنس شرابية في نفسه وجسمه قوة ومقدرة حسب انهما تمكنانه من الانتقام من استضعافه، قام بتحدي ريمون ابو زيد وتمكن منه في مشاجرة حضرها ابنا الطبيب علامة، رفيقاه في معمل البلاد، رامز وابرهيم، اللذان لم يهن عليهما وعلى ابو زيد معهما ان يكسر شوكتهم شاب غريب وصاحب لهجة غريبة. لذا جاء الثلاثة اليّ واخبروني بما حصل، وحرضوني على تحدي شرابية المتنطح لدور القبضنة وفرض سطوته بين الشبان.
-3-
صبيحة نهار الخميس الواقع فيه اليوم الاول من تشرين الثاني 1951، غادر والدي منزلنا، واوصاني بأن اخلط التراب بالرمل الذي جلبه لنا جمّالون، وأفرشه في حديقتنا لتصير تربتها اكثر خصوبة. كانت نسوة تنقل الرمل بـ"الصوابير" (عربات صغيرة تجر يدويا) فأقوم بخلطه بالتراب وفرشه، حين وصل رامز وابرهيم علامه ومعهما ميشال شرابية الذي بادرني قائلا في لهجته المصرية: فين التقّالة دي (اي العمدة او المحدلة التي يتباهى الشبان برفعها) عاوز ارفعها. اشرت بيدي الى موضع المحدلة، فقام شرابية برفعها الى فوق رأسه متباهيا بقوته، ثم رماها ارضا، فقلت له: برافو، برافو. لكنه امعن في التحدي قائلاً: انا بكسر رأسك وبمص عظمك كمان. هل انت متأكد من كلامك؟ جاوبته متسائلا، فقال: طبعا اكيد، فتركت الرفش من يدي واندفعت مسرعا الى منزلنا. في المطبخ كانت امي تقلي اقراصا من الكبة على بابور الكاز، فسألتها اين المسدس الذي كنتُ تركته على الطاولة، فدلتني الى موضعه في الغرفة الداخلية، حيث وجدته، فحملته مع طلقاته النارية، ولبست بنطلوناً كاكياً وضعت في جيبه مبلغ الـ35 ليرة الذي كان في حوزتي، ثم لففت بعضا من اقراص الكبة في رغيفين، وخرجت الى الحديقة منادياً على شرابية إن كان لا يزال مصرّاً على أن يمصَّ عظمي؟ فقال إنه سيفعل، ثم اقترب من أحد الأخوين علامة، وحاول أن يأخذ من يده بندقية صيد "خلع" كان يحملها. خشية أن يتناول البندقية ويطلق منها النار عليّ، سارعت الى إطلاق النار عليه من مسدسي، رصاصة أولى وثانية وثالثة، فتكوّم شرابية ارضاً. حين رأيته يهوي ويتكوم، انطلقت راكضاً، فسمعت عمتي التي رأتني أطلق النار ورأت الشاب يهوي الى الارض، تصرخ مع جارة لنا تدعي تريزة: هروب يا خليل هروب، فهربت هائماً في الحقول حتى وصلت الى منزل قبضاي مشهور في المريجة، يدعى الياس الصوري، نسبة الى أصله الصوري، وكان من أزلام النائب والزعيم هنري فرعون وقبضاياته.
ولد الياس الصوري في الجميزة ونشأ في بيروت. والده يدعى بطرس يونس الذي كان ايضاً من قبضايات الجميزة، كغريمه المدعو إميل الخوري الذي سيقتل لاحقاً في مقهى يزبك في بحمدون العام 1959. أما ابنه الياس فكان يملك سيارات وشاحنات نقل، وانتقل من الجميزة الى المريجة، حيث تزوج امرأة من نسائها، فأسكنه يوسف البستاني في قصر كان سابقاً لأنطوان بيك البستاني. وسرعان ما صار الياس الصوري قبضاي المريجة الأبرز والمرهوب الجانب في حماية زعامة هنري فرعون وبطانته، فأخذ شبان الضيعة يلفون الى قصر القرميد الذي يسكنه، مما جعله صاحب عزوة وهيبة بين القبضايات المحليين الصغار، مستعملاً نفوذ فرعون في حلّ مشكلاتهم ودعاويهم القضائية في المحاكم، أيام كان نفوذ الاحزاب ضعيفاً في البلاد مقارنة بنفوذ الزعماء السياسيين وبطاناتهم من قبضايات الاحياء والمفاتيح الانتخابية.
-4-
وصلت الى منزل الياس الصوري لأختبئ عنده وأحتمي بنفوذه، فقالت لي زوجته إنه ركب سيارته وغادر. لدى عودته بعد وقت قصير، أخبرني أنه في ساحة المريجة علم بفعلتي، ثم أدخلني الى مطبخ المنزل ذي السطح القرميد العالي، وقال لي أن أصعد سلماً طويلاً الى تتخيته في جانب من المطبخ، حيث عليّ أن أختبئ، وأرفع السلم إلى التتخيتة، حيث سأجد اشخاصاً غيري يختبئون. وقال لي الصوري أيضاً إنه سيرسل لي، بعد قليل، أحد أزلامه، المدعو جريس أبو زيد. وجدت ثلاثة أشخاص مسلحين في تتخيتة المطبخ: عنتر أبو زهر، أحد قبضايات جديتا في البقاع، وابنه ابرهيم، وجوزف أيوب، صاحب محطة محروقات في القنطاري، قرب القصر الجمهوري. في مخبئنا كان أبو زهر يحمل بندقية ألمانية، وينتعل جزمة، ويعتمر كوفية وعقالاً، فيما كان ابنه ابرهيم يحمل مسدساً. الرجل وابنه كانا من أتباع زعامة هنري فرعون الكاثوليكية الممتدة من القاع ورأس بعلبك، وصولاً الى شرق صيدا، وتنافسها زعامة جوزف سكاف في زحلة التي كان أبو زهر دخل أحد مقاهيها وتشاجر مع أزلام سكاف، فقتل عدداً منهم وهرب الى المريجة للاحتماء في منزل الياس الصوري. أما جوزف أيوب، فكان تشاجر مع صديق له يعمل في إطفائية بيروت، وأطلق النار عليه، ثم هرب والتجأ ايضاً الى حماية الياس الصوري.
-5-
بعد مضي بعض الوقت من مكوثي مع الرجال الثلاثة في تتخيتة المطبخ، أرسل الصوري سيارته يقودها تابعه جريس أبو زيد، كي يخلي زوجته إيفون وأولاده من البيت، ويوصلهم الى منزل أهل الزوجة في المريجة. مضت ساعتان قبل أن تصل قوة من الدرك في شاحنة، فيطوّق رجالها المسلحون منزل الياس الصوري، بقيادة آمر فصيلة بعبدا الضابط سامي الحشيمي. فوراً هرعنا نحن المجرمون المطاردون الثلاثة الى الاختباء في التتختية مكتومي الانفاس، بعدما رفعنا سلمها الى أعلى وأخفيناه. من مخبئنا سمعنا هدير سيارة علمت أنها سيارة الصوري الذي تبينته يقف أمام بيته مع الحاج نقولا مراد وشاكر البعقليني، وسمعته يقول: نعم يا سامي أفندي حشيمي، شوفي مطوقين البيت؟! فقال الحشيمي: المجرم اللي قتل ميشال شرابية عندك، وبدنا ياه. ما عندي حدا، جاوبه الصوري، ومنعه من الدخول الى بيته. بعدما تبادلا كلمات التحدي، ركب الصوري سيارته تاركاً الحاج نقولا مراد والبعقليني أمام البيت مع الحشيمي، فأيقنت انه ذهب لإجراء اتصالات هاتفية تؤمّن انسحاب قوة الدرك.
كان الحاج نقولا مراد في كامل أناقته وإهابه المعهودين: خيزرانته في يده، يحركها ويضرب حذاءه اللماع بطرفها ضربات خفيفة. مسدسه المرخص على خصره، ومرتدياً غمبازه الذي كان يسمى ايضاً غبانة، فوق شرواله العربي الزاهي. طربوشه الاحمر على رأسه، وشارباه مفتولان ومرفوعان من طرفيهما، وذقنه حليقة. أخلاقه الدمثة وخدماته جعلته صاحب حظوة ومسموع الكلمة في الاشرفية التي كان لواؤها الانتخابي معقوداً له، فيسقط لائحة انتخابية فيها، وينجّح أخرى لصالح هنري فرعون الذي كان الحاج نقولا يدين له بالولاء والنفوذ، فشيّد بناية من اربع طبقات قرب ملعب السلام، وسكن فيها، محولاً بيته القديم سيركاً لألعاب القمار، فيما كان شاكر البعقليني تابعه مساعده الأيمن.
-6-
ما إن عاد الياس الصوري إلى منزله ودخله مع الحاج نقولا مراد والبعقليني، حتى بدأت قوة الدرك بالإنسحاب، وأخبرني الصوري بأنه إتصل هاتفياً بهنري فرعون وبوالدي المفتش العام في وزارة التربية الوطنية، فجاء الأمر بالإنسحاPب إلى قائد قوة الدرك، سامي الحشيمي، من المدعي العام في جبل لبنان، بطرس نجيم. حين سألني الحاج نقولا: كيف ولماذا أطلقتَ النار على الصبي؟ رويت له ما حدث، فتدخل البعقليني قائلا: ما إسم الصبي؟ ما أن لفظت إسم ميشال شرابية، حتى امتقع وجه البعقليني الذي لم أكن أعلم أن شرابية إبن خالته. من المطبخ، حيث رحت أحضر القهوة تلبية لطلب الصوري، سمعت الحاج نقولا يقول لتابعه البعقليني: إذا بتفتح فمك بكلمة واحدة راسك بشيلو، ولا كلمة. فيما هم يشربون القهوة، انتبهت إلى أن الصوري يكتم إضطرابه وقلقه، فأدركت أنه خائف مما ورطته فيه، إذ صار يؤوي في منزله، إضافة إلى المجرمين الثلاثة، مجرماً رابعاً هو أنا الذي قد يحاول البعقليني الإيقاع بي إنتقاماً لقريبه شرابية الذي أطلقت عليه النار.
أخيراً غادر الصوري والحاج نقولا والبعقليني المنزل، فنزل المجرمون الثلاثة عن التتخيتة، فقال لي عنتر أبو زهر: شو جابك أنت لهون، منين جيتنا وليه؟! رح نروح كلنا عَ الاعدام راكضين عَ أجرينا!
- 7 -
جرياً على سلوك أمني عثماني، جاء فصيل من فوج الدرك السيّار ورابط في بيتنا، على ما كان سارياً أيام السلطنة العثمانية، حين كان فصيل من الحوّالة يرابط في منزل من ارتكب جرماً ما، وفرَّ، ويظل مرابطاً في منزله حتى القبض عليه. كان من عادة رجال الحوّالة في العهد العثماني وأيام الإمارة الشهابية، أن ينزلوا في بيت المطلوب، ويتصرفوا على هواهم وسجيتهم، فيتسلطون على أهل البيت ويأكلون من مؤونته ما يطيب لهم، فيذبحون شاة أو خروفاً أو دجاجات، ليولم لهم أهل المطلوب ويطعموهم. بدأ هذا التدبير العثماني يفقد وجهه التسلطي في عهد الانتداب الفرنسي وعهد الاستقلال، لكن التدبير القاضي بمرابطة فصيل من فوج الدرك السيّار في منزل الفار المطلوب للعدالة، ظل سارياً حتى أواخر عهد الرئيس فؤاد شهاب الذي ألغاه. لذا رابط في منزلنا فصيل من هذا الفوج، فيما كنت أنا مختبئاً في منزل الياس الصوري. وحين جاء والدي إلى المنزل ورأى رجال الدرك عندنا، قام باتصالات هاتفية كثيرة بمعارفه، سعياً إلى تأمين إنسحابهم، فوفّق في مسعاه، بعد إتصاله بنائب قائد الدرك العقيد فيليب أبو نادر، الذي كان القائد الفعلي للدرك وفي يده الحل والربط، فيما كان القائد جميل الخطيب، ضعيف النفوذ.
فور إنسحاب فصيل الفوج السيّار من منزلنا، إنصرف والدي مجدداً إلى متابعة تطبيب ميشال شرابية في مستشفى أوتيل ديو الذي كان والدي على معرفة بأحد أطبائه الجراحين، هو الطبيب الفرنسي المدعو سيودو. كان شرابية في حاجة الى كميات وفيرة من الدم لإنقاذه من النزيف الداخلي. وجرياً على عادة شائعة في تلك الأيام كان رجال سلك الإطفاء في بيروت، الأقوياء البنية الجسمانية، يبيعون دمهم للمحتاجين إليه في المستشفيات، فإشترى والدي كثيراً من ليترات دم الإطفائيين، بسعر ليرة واحدة لكل غرام واحد. أما الشأن القضائي في جريمتي، فتولى متابعته صديق والدي المدعي العام في جبل لبنان، بطرس نجيم.
رواية خليل خالد الفغالي كتابة محمد ابي سمرا