النهار - محــور مع رمزية رحيل كامل الأسعد: علاقة الشيعة بالكيان اللبناني بين الماضي
الأحد 17-10-2010
محــور
مع رمزية رحيل كامل الأسعد: علاقة الشيعة بالكيان اللبناني بين الماضي والحاضر [13]
حول "لبنانية" الاجتماع الشيعي
بقلم علي الشامي
تأسّس لبنان الكبير على توليفة خاصة: مجتمع طوائفي تديره سلطة طائفية. وقام استقلاله اللاحق على ثنائية خاصة ايضا: عربي بوجه غربي؟ وفي حين تفسر توليفة التأسيس ازمة الدولة المعلقة بين مصالح الطوائف، تفسر ثنائية الاستقلال مأزق الهوية الملتبسة المتماهية مع "وطن" على قياس الطوائف، بمصالحها الفئوية ووجوهها المتعددة. واذا كانت الدولة المعلقة او المؤجلة نتيجة طبيعية للتنافس الطائفي على السلطة، فان الالتباس الحاصل في الهوية يرجع، بدوره، الى تعدد المعاني الخاصة بالوطن، بحيث تبقى الهوية الوطنية الجامعة اشكالية مقيمة ومتوارية خلف المنازعات الاهلية اللبنانية.
وهكذا، تختزل التباسات الهوية اشكالية راسخة في تعقل اللبنانيين لمعنى الوطن حيث تسقط كل طائفة وعيها لذاتها على صورة للهوية الوطنية، والتي تكون كذلك، اي وطنية، بقدر ما تمثل وتتماهى مع مصالح وحصص هذه الطائفة او تلك وفي نوعية علاقتها مع "خارج" يغذيها ويضمن استمرارها. ومثلما تنهل الطوائف اللبنانية من تواريخها الخاصة ثوابت هوياته، تغرف هذه الهويات من المنازعات الاهلية والولاءات الخارجية مسوغات الاشكالية التي حالت، وتحول دائما، دون اتفاق اللبنانيين على هوية وطنية جامعة.
واذ تنسحب هذه الاشكالية على الجماعات اللبنانية كلها، فان مفارقة الاجتماع الشيعي، تعقّله لذاته وهويته الوطنية، تكمن في تخصصه وحده، دون غيره، بتهمة "النقص" في لبنانيته، وهي تهمة لازمته منذ انخراطه القسري في دولة لبنان الكبير، ولم تفارقه حتى وهو يقدم الارواح والارزاق دفاعاً عن لبنان الكبير نفسه، بجماعاته ومناطقه المنتشرة والممتدة من الناقورة الى عكار، ومن بيروت الى الهرمل. وفي معزل عن صوابية هذه التهمة والغايات الكامنة في تخصيصها "الشيعي" فإن "لبنانية" الآخرين لم تسقط على وعيهم دفعة واحدة بقدر ما تدرجت وسط متغيرات داخلية وخارجية، وتوسلت صورتها في تأويلات من كل حدب وصوب.
وقبل ان يحسم اللبنانيون امرهم في "الطائف" ويتوافقون، وإن بنسب متفاوتة، على هوية عربية لوطنهم اللبناني النهائي، كانت هويتهم الجامعة معلقة وسط انتماءات شتى، تبدأ من فينيقيا وتنتهي في الغرب، او تبدأ من العروبة ولا تغادرها، او تنتقل بين مسيحية واسلام، او تنبثق كالمعجزة من اصل قائم بذاته... وبالتالي فان اشكالية الهوية لم تكن محصورة بالشيعة دون غيرهم بقدر ما كانت، ولا تزال تتعلق بمعنى الوطن عند جميع اللبنانيين، اي الوطن الذي يتجاوز حدود النشيد والعلم و بلاغة الكلام، ويتجاوز دولة المناصفة والمثالثة والحصص والحقائب والموازنات العامة، ويعلو فوق الطوائف والاشخاص والمناطق والمذاهب...
خاصية الاجتماع الشيعي
يندرج وعي الاجتماع الشيعي لهويته الوطنية في سياق تراتبية الهويات التي تعتمل في ازمات المنطقة كلها منذ اللحظة التي تمكّن فيها التدخل الاوروبي من تحويل الخلافة العثمانية الى اوطان منثورة على اعراق وطوائف وقبائل. وبالتالي فان مقاربة هذا الوعي الشيعي تظهر وثيقة الصلة بالمتغيرات التي اصابت الاجتماع الاسلامي العام، اكثر مما هو تعبير عن حاجة ذاتية لاجتماع اهلي فريد في اصله وفصله. وبعبارة اوضح، فان وعي الاجتماع الشيعي لهويته اللبنانية سوف يتعرف على خصوصيته من خلال المتغيرات التاريخية التي فرضت نتائجها عليه وعلى غيره، في لبنان وفي المنطقة كلها.
ومن المتعارف عليه، احدثت السيطرة الاوروبية على العالم الاسلامي اضطرابا في تراتبية الهويات، بيد انها عجزت عن الغاء واحدة منها، بحيث افرزت تكاملا اكثر مما انتجت تناقضا، رغم انها نجحت في اعادة ترتيب الهويات وفق الولاءات الجديدة، بحيث تراجعت الهوية الاسلامية امام مفاعيل الهوية الوطنية دون ان تلغي الواحدة الاخرى، واذا كانت الهوية الاسلامية "اختيارية" والهوية العربية او الفارسية والهندية او التركية... "انتسابية" بمعنى النسب والعرق، فان الهوية الوطنية "انتمائية" بمعنى انها تحدد المكان الذي ينتمي اليه "الشعب"، وفيه محل معاشه وسكناه وذاكرته، ماضيه وحاضره ومستقبله. وفي حين يستطيع الانسان ان يختار هويته الدينية – الفكرية، فانه بالتأكيد، لا يستطيع اختيار هويته العرقية او الوطنية، اذ هي تختاره بقدر ما هي متأصلة فيه، نسبا في الاولى ووجوديا في الثانية. وعليه فان اتهام اجماع اهلي ما بنقص في هويته الوطنية لا يرجع الى الهوية نفسها بقدر ما يرجع الى مصالح وولاءات صاحب الاتهام.
تشترط المقاربة العلمية الباحثة عن خاصية الاجتماع الشيعي في مساره التاريخي الخاص والذي انتهى الى تموضعه في هوية وطنية – لبنانية، التنقيب عن جذور هذه الهوية في مركز الثقل الجغرافي والديموغرافي والفكري لهذا الاجتماع. وبقدر ما يمثل جبل لبنان مسقط رأس الهوية اللبنانية عند الموارنة والدروز، فان جبل عامل يشكل المجال الحيوي لحراك الاجتماع الشيعي عشية ولادة دولة لبنان الكبير، مثلما يشكل مركز التراكم الموضعي للأحداث التي صنعت وعي الاجتماع الشيعي لانتمائه الجديد وآليات تفاعله مع المتغير السياسي الذي حط رحاله واثقاله ومخاطره هناك، على ثغور جبل عامل، حيث يتقرر، ليس نوع الهوية الجامعة لكل اللبنانيين، بل مصير لبنان نفسه. وبالتالي، فان البحث عن وعي الهوية في ثوابت ومتغيرات الاجتماع الشيعي يبدأ في جبل عامل ومنه يمتد الى كل مناطق الاجتماع الاهلي والسياسي للمسلمين الشيعة في لبنان.
وللمزيد من الوضوح، نشير الى العلاقة البالغة الاهمية والحساسية التي قامت بين الدولة اللبنانية وقضية الجنوب (جبل عامل) والتي تعود بجذورها الى ما قبل الاستقلال عن فرنسا، الى بدايات المشروع الصهيوني وموقع لبنان في استراتيجية اسرائيل، منذ اعلان قيام دولة لبنان الكبير سنة 1920 وقبل قيام دولة اسرائيل سنة 1948، والى ما بعدهما وحتى اشعار آخر. اي ان قضية لبنان كوطن كانت قد ارتسمت في جنوبه، منذ قيامه الى اليوم، فقد ابرزت هذه العلاقة اشكالية لبنان كوطن وتحديد العناصر التكوينية لهويته.
ومن البديهي القول ان الوطن يتألف من بشر توافقوا على العيش معاً في ارض واحدة، سواء اكانت هذه الارض موطناً تاريخياً خاصاً بجماعة معينة ام كانت تجميعاً لطوائف واراض وتواريخ حدث في لحظة توافق اهلي، او تدبير خارجي. وفي معزل عن هذين العاملين، اي التوافق الاهلي والتدبير الخارجي، وعلى الرغم من التناقضات التي سبقتهما، فان اللبنانيين اجمعوا، بعد تردد ورفض وممانعة عند بعضهم، وقبول متحمس عند بعضهم الآخر، وعلى مراحل متفاوتة في الزمن والحدة، على ان لبنان الكبير هذا يشكل وطنا نهائيا لهم جميعا. بيد ان الوطن ليس مجرد تضاريس، بقدر ما هو علاقة بين بشر وارض واهداف. وبالتالي، فالوطن يتشكل من حدود طبيعية واستقلال داخلي وسيادة ذاتية وعدالة مجتمعية. وهذه العناصر مجتمعة لا تشكل وطنا اذا لم يتفق اصحابها على حدوده واستقلاله وسيادته. وعلى صورة الوطن تقوم الدولة في حدودها المعترف بها من قبل الدول المحيطة بها، وفي استقلالية قرارها وسيادتها على ارضها وعدالة ادارتها للمجتمع.
ومنذ قيام دولة لبنان الكبير، كانت هذه العناصر منفردة ومجتمعة، موضع خلاف حال دون حسم امر الهوية الوطنية الجامعة. وكان الجنوب بؤرة استقطاب للمتناقضات الوطنية، بحيث ان تعليق مصيره سرعان ما تحول الى لغم يهدد الوطن في وحدة عناصره التكوينية المذكورة، والى عامل حاسم في تدعيم وحدة هذه العناصر واستمرارها في آن واحد.
وبهذا المعنى، كانت قضية الجنوب، ولا تزال، مدخلاً حاسماً لانقاذ المجتمع من عقم الطائفية، وتحصين الوطن بما يتجاوز حدود النشيد والعلم وبلاغة الكلام. فقد كان الجنوب، وهذا حاله اليوم، على تماس مباشر مع مشروع صهيوني ينطلق منه الى صياغة جديدة لحدود الكيانات والدول المحيطة باسرائيل. وكان على الجنوب وحده، دون سواه من مناطق لبنان، ان يتحمّل تبعات هذا المشروع بكل احتمالاته التوسعيّة على حساب الوطن بحدوده وسيادة دولته. ذلك ان لبنان كوطن، لم يعرف تهديداً حقيقياً، شاملاً وثابتاً، إلاّ من خلال العدوان الاسرائيلي الدائم على الجنوب واحتلاله الراهن لاجزاء منه. واذا لم يعرف هذا الوطن تهديداً مماثلاً من دولة اخرى، فإن دولة ما قبل الطائف لم تأخذ هذا التهديد على محمل الجد ولم تبحث عن وسائل لمواجهته، فكانت النتيجة ان وجدت الدولة نفسها في أزمة علاقتها مع الجنوب، بما هي أزمة دولة تبحث عن وطن تحميه، مثلما كشفت قضية الجنوب عن أزمة وطن يبحث عن دولة تحميه.
واذا أخذنا في الاعتبار تفاصيل هذه القضية الوطنية واختلاف اللبنانيين على الأولويات الحافظة والجامعة، توزّع الاهتمام بالخطر الاسرائيلي الوجودي بين لامبالاة أو ضعف أو حتى خيانة، فإن وعي الاجتماع الشيعي العاملي لهذا الخطر ساهم ليس فقط في تبلور هويتهم الوطنية اللبنانية وانما أخرج الى العلن مكامن الالتباس في معنى الوطن وهويته لدى اللبنانيين جميعاً ووضع امامهم مسؤولية اعادة النظر في مفاهيمهم المتناقضة حول معنى الوطن، وبالتالي، الاتفاق على هوية وطنية تحمي الوطن الحقيقي المهدّد بوجوده انطلاقاً من الجنوب بدل اختزال الوطن بحصص الطائفة.
ثنائية الهوية: اسلامية – لبنانية
اذا كان الاجتماع الشيعي عربياً في الانتساب ولبنانياً في الانتماء، فإن اختياره لهويته الاسلامية لا يؤدي، بالضرورة، الى اضعاف هويّتي الانتساب والانتماء. بيد ان الانزياح الذي اصاب تراتبية الهويات، في اجتماع من هذا النوع، لم يأتِ نتيجة تطور ذاتي بقدر ما كان اسقاطاً لمتغيرات تاريخية وسياسية رمت اثقالها على الاجتماع الشيعي مثلما رمتها على كل اجتماع اهلي آخر في طول العالم الاسلامي وعرضه. ومع ذلك فإن تهمة النقص في هوية لمصلحة الكمال في هوية أخرى تبدو مشتركة في كل الكيانات الحديثة التي بزغت كالفطر من طنجة الى جاكرتا.
وفي هذا السياق يندرج وعي الاجتماع الشيعي لهويته اللبنانية. فإذا كانت "التقيّة " تورية لمعارضة مشروعة وتسليماً بالانتماء الى دولة اسلامية واحدة بصرف النظر عن هويتها المذهبية وممارساتها السلطوية، واذا كانت "المَتْوَلة" استجابة متأخرة لحاجة العامليين الشيعة الى ادارة ذاتية لاجتماعهم الأهلي تمكّنهم من تدبير امور دينهم ودنياهم، فإن "الطائفة" كانت شرطاً لقبولهم في الكيان اللبناني. وبالتالي، فإن مخاض الحراك الذي بدأ بالتقية وتواصل في المتولة وانتهى في الطائفة لم يكن تتويجاً لخيار ذاتي بقدر ما كان انعكاساً لسياسات انهالت على هذا الاجتماع من خارجه او فرضت عليه هيئته وهويته: استبداد سلطوي، نظام ملل عثماني، طوائف جبل لبنان، المشاريع الاوروبية، طائفية لبنان الكبير وحروبه الأهلية الكامنة والمتكررة، المشروع الصهيوني وأطماعه في جبل عامل...
لم يتمظهر الانتقال النوعي في متغيرات الاجتماع الشيعي في صياغة جديدة للهوية وفي مختلف مراحل هذا الانتقال، من التقية والمتولة الى الطائفة، لم يخرج وعي الاجتماع الشيعي عن هويته الاسلامية، وبالتالي، فالانتقال في سياق المتغيّر السياسي لم يسفر عن ازاحة الثابت الديني الذي ظلّ عنواناً للهوية التي حملها الاجتماع الشيعي في متغيرات حاله وأحواله.
وبهذا المعنى، ينبغي فهم المسافة الفاصلة بين الهويتين الاسلامية واللبنانية في تعقّل الاجتماع الشيعي لانتمائه اللبناني. وبما ان اهل هذا الاجتماع لم يكونوا ضيوفاً على لبنان أو غرباء من كوكب آخر، فإن علاقتهم به كانت مشدودة الى روابط عميقة وراسخة في الذاكرة والتراث والارزاق والارض المجبولة بالعرق والدم والحبر، وبالتالي، إن "النقص" في لبنانيتهم لم يكن انتقاصاً من صدق الروابط بقدر ما كانت تعبيراً عن هواجس سياسية رافقت انخراطهم القسري في لبنان الكبير.
ولطالما اثبتت دولة لبنان الكبير صحة القول العاملي المأثور: جبل يبتلع جبلاً. واذا كانت المتولة توليداً لعصبية شيعية رافضة لاخضاع جبل عامل لأمراء جبل لبنان، واذا كانت دولة لبنان الكبير تكريساً لهذا الاخضاع وتشريعاً لمقولة الابتلاع، فإن البحث عن جذور هذا "النقص" في الاحساس بالهوية اللبنانية لا يقف عند حدود التمايز الحاصل بين الثابت الديني والمتغير السياسي، بقدر ما يتطلب التعمّق في مفاعيل الاخضاع والابتلاع وتفاصيلهما في التهميش والحرمان. فلا يعقل التساوي في التعبير عن الهوية بين جماعات تتعايش فوق ارض واحدة وتنشد النشيد الوطني الواحد، بينما تفصل او تباعد بينها مصالح طائفية اطاحت جانباً كل مطالبة بالعدالة والشراكة في القرار والمصير والتنمية وحق الحصول على الحد الادنى من العيش الكريم في دولة ذات سيادة تدير مجتمعاً متعدداً تتوزّع فيه الحقوق والواجبات على جميع مكوّناته بدون استئثار من هنا أو هيمنة وامتيازات من هناك.
وفي هذا السياق، يندرج اغفال الوعي الشيعي للهوية الجديد، طالما انها كانت تعني تسليماً وتشريعاً للاخضاع والابتلاع، ويندرج التشديد على الهوية اللبنانية، بعد مخاض عسير، طالما انها تؤكد حقاً في الشراكة في دولة واحدة ومصير مشترك. وقد سالت دماء كثيرة بين الاغفال والتشديد كانت خلالها الهوية اللبنانية للاجتماع الشيعي تترسّخ في ممانعة مجتمعية ضد الحرمان الطائفي وفي مقاومة وطنية ضد الاحتلال الاسرائيلي، ولم تكن ابداً هوية ممنوحة من جنرال فرنسي. وما هو مشترك "لبناني"، في أرض ولغة ونشيد وعلم ولكن في حصص ومنازعات وامتيازات، ينتج "هويات لبنانية"، بينما المشترك في تحديد معنى الاستقلال والسيادة والشراكة والعدالة هو الذي يصنع الهوية اللبنانية الواحدة.
والى هذه المفارقة بالذات يرجع اغفال الوعي الشيعي السابق لهويته اللبنانية وتشديده اللاحق عليها. واليها ايضاً ترجع تهمة النقص في لبنانية الشيعة الذين تردّدوا كثيراً في التعبير عن هويتهم اللبنانية التي أرادوها صياغة وطنية وليس منحة خارجية، اي هوية ناجزة في دولة عادلة ووطن غير منقوص. وهذا ما يفسّر التمسّك الشيعي بالثابت الديني في مواجهة "الكرم" الاوروبي الذي ساق الطوائف الى دولة تهيمن عليها طائفة وسفارة، وفي مواجهة منافسات طائفية كامنة لا تنتج وطناً ولا هوية بقدر ما تولّد وتغذّي تناقضات تبقي اللبنانيين بلا حول ولا طول، بلا دولة ولا وطن، مشطورين هكذا بين طوائف وسفارات.
الامام موسى الصدر والهوية اللبنانية
تصدّر الثابت الديني مرجعية القرار السياسي منذ اللحظة التي أمسك فيها الامام موسى الصدر زمام المبادرة وذلك في سياق موضعة النهوض الشيعي في نصابه المخصوص في الدولة وفي دفع الدولة الى وظيفتها الحامية للوطن. وبهذا المعنى يأتي خطاب الامام الصدر عن لبنان كوطن نهائي لجميع ابنائه كصياغة شيعية متأخرة للهوية الوطنية اللبنانية، رغم انها – أي هذه الصياغة – كانت، ولا تزال، مشروطة بالقدرة على اعادة النظر في بنية النظام الطائفي وفي تعددية النظرة الى الوطن. ففي خطابه حول الهوية كان الامام الصدر واضحاً في تحديده لمطلب الاجماع حول هوية وطنية: الشراكة في دولة عادلة والسيادة في دولة قادرة. وبعبارة أخرى، فالهوية الجامعة تشترط اصلاحاً في النظام الطائفي وسياسة دفاعية عن الجنوب في مواجهة المشروع الاسرائيلي.وبهذا المعنى، أخذ الوعي بالهوية اللبنانية يتعمّق بالثابت الديني بدل العكس. فالمتغير السياسي الذي تمثّل في ولاءات وتيارات وأحزاب وزعامات لم تسفر، منفردة ومجتمعة، عن تحقيق عدالة ولا سيادة بقدر ما أنتجت توزّعاً كاد يوصل النهوض الشيعي الى اليأس والجنوب الى الضياع. وفي المقابل، توسّل الإمام الصدر الثابت الديني لتوجيه الحراك الشيعي في اتجاه الدولة، مثلما توسّله لتعبئة الدولة والطوائف بهدف تأهيلها للوقوف في وجه التهديد الاسرائيلي الشامل. وبالتالي، فلا يعود الثابت الديني مجرد تشديد على هوية اسلامية بقدر ما هو محاولة للاتفاق على هوية وطنية جامعة وحقيقية. وتؤكد القراءة الموضوعية لتجربة الإمام الصدر واقع توظيفه للثابت الديني في خدمة الوطن بما هو مساحة عيش مشترك ومصير واحد، كما تشدّد على اعتبار قضية الجنوب بما هي الاساس الذي تقوم عليه الهوية الوطنية الجامعة، على الاقل كما تجلّت في تجربة الإمام موسى الصدر واشتراطه تحقيق العدالة في منطقة يتقرّر فيها مصير وطن بكامله.
وقد أثبتت الوقائع التاريخية مشروعية هذا الاشتراك، إذ يستحيل النهوض بالدولة والمجتمع في ظل إحتلال الارض وشلّ القدرة على اتخاذ القرار. كما ساهمت تفاصيل الوقائع في تبيان أسس هذه الاستحالة وفيها جميعها، تمهّد كل واقعة للأخرى وتتواصل الى حيث نقف اليوم: فالاعتداء على قرية انتهى الى الاعتداء على العاصمة واحتلال منطقة بكاملها. والسكوت على تهجير عشرة آلاف مواطن، شجّع على تهجير مئات الالوف. وتوكيل أمر الدفاع عن الوطن الى غير الدولة وقواتها المسلحة، ترك الجنوبيين في مفارقة المواجهة المنفردة، وانتهى الامر بمقاومة المجتمع نفسه للاحتلال. وقد تعمقت هذه الاستحالة في ظل تعتيم يعزل الرأي العام اللبناني عن وقائع الحدث الجنوبي، سواء تمثّل هذا التعتيم في تجاهل مخاطر هذا الحدث أو في تبسيط اعلامي، أو تمثّل في تأويله في سياق صراع اقليمي لا ناقة للبنان فيه ولا جمل.
وفي الحالتين، انتج هذا العزل مزيداً من الانقسام الاهلي حول الهوية الوطنية، وشرّع اختلافات في النظرة الى العدو، كما في طريقة التعامل مع أحداث يتعرض لها جزء من الوطن، وهي أحداث متحققة في قضم الحدود وانتهاك السيادة وهدر الارواح والممتلكات وصولاً الى الاحتلال المباشر، أكثر مما هي أحداث متوقعة لا يتلمس وجودها أحد، لا هي كتاب مدرسي ولا في تعبئة اعلامية ولا في وثيقة رسمية ولا في احتياطات الحد الادنى...
اذا كان الحرمان سياسة رسمية فرضها "مركز" النظام الطائفي على "اطرافه" في الجنوب والبقاع والشمال، فإنه في الجنوب، مركز ثقل الاجتماع الشيعي وحراكه، كان يعني ترك لبنان كله للقدر الاسرائيلي، مثلما كان يفرض على قائد هذا الاجتماع مهمة اخراج الوطن، انطلاقاً من جنوبه، من مخاطر القدر الاسرائيلي. وبهذا المعنى يقول الإمام موسى الصدر:
"... ان وطنكم في خطر عظيم وداهم، هذا محض الحقيقة وصريح الواقع. أما الغريب الغامض، أما السر الخطير هو: أن يكون الخطر قريباً منكم وكأنه لا يعنيكم، ان نتفرج باطمئنان وبلا مبالاة وبشيء من الحزن المترف على واقع لبنان الجنوبي ومصيره. هذه هي المأساة أيها الاخوة، استعراض للاحداث الاخيرة وللاعتداءات المتكررة على لبنان، وعلى منطقة عزيزة من لبنان تشكل ركناً اساسياً في تاريخه وفي كيانه وفي استقلاله، واكتفائه الذاتي. استعراض سريع يؤكد ان هذا البلد يواجه خطراً مصيرياً.
وأمام هذه الحوادث ترتفع أصوات وتعلو صرخات وتظهر نشاطات، ولكن ويا للاسف المرير جميعها من منطقة معينة ومن طائفة معينة. اللهم إلاّ بعض المؤاساة واللياقات من الآخرين. تتخذ تدابير وتقرر أمور بتثاقل وبطء تقليديين ومع التحفظ والشروط الصعبة لأجل تنفيذها. أليس في هذه الظاهرة نعي للوطنية ونذير في الاحساس المواطني وتشاؤم على مستقبل لبنان وكرامته...".
تختزل هذه الكلمات واقع الانقسام اللبناني حول الهوية، مثلما تكشف إرادة "منطقة معينة" و"طائفة معينة" في البحث عن "المشترك" الذي يصنع هوية وطنية. ومما لا شك فيه فإن الانقسام حول الهوية ومعنى الوطن هو الذي حصر المقاومة في "طائفة" مثلما يحصر انتصاراتها في حسابات الطوائف وليس الوطن. وهذا ما يفسّر التركيز الشيعي على هوية وطنية، بعد إغفالها المديد، تتجاوز الطائفية والحرمان الى ما يؤسس دولة عادلة وقادرة وذات سيادة. وهو تأسيس سوف يحصّن وعي الاجتماع الشيعي لهويته اللبنانية ويلزم ورثة صاحب خطاب التأسيس ورموزه في الدولة ومؤسسات الطائفة والمقاومة والاجتماع الاهلي بوضع الثابت الديني في خدمة الهوية اللبنانية بما هي هوية تجمع طوائف الوطن أكثر مما هي على قياس طائفة مهما علا شأنها في حصصها والامتيازات والحليف الخارجي.
وبذلك تسترجع الهوية الوطنية ثوابتها في وعي الاجتماع الشيعي للمتغيرات التي رافقت تموضعه في الدولة اللبنانية، فانتقلت معه من اغفال "النص" حول الهوية، بما هو تعبير مكثّف عن التردّد والاندماج القسري والانكسار الشامل أمام المشروع الغربي، الى المجاهر، بنهائية الوطن، بما هو تعبير مباشر عن الخطر الوجودي الذي يهدّد هذا الوطن في وحدته وسيادته، كما تجلّى، هذا التهديد، في الاستراتيجية الاسرائيلية واطماعها اللبنانية، في الارض والحياة والاقتصاد والانموذج التعددي.
وقد اختزلت تجربة الامام موسى الصدر مفارقة التكامل بين نهضة مجتمعية ومصير وطن، وهو التكامل الذي عاند على إنجازه في ظروف غير ملائمة، بيد انه لم يتأخر في انحيازه لأولوية المصير الوطني على كل مصلحة أخرى وإن كانت مشروعة. ولذلك تميّز الإمام الصدر عن غيره من القيادات الروحية والسياسية برأي حاسم في وضوح مفرداته وطموحاته ودقة دلالاته وشموليتها، وهو الرأي الذي ردّده منذ تفاقم الخطر الاسرائيلي على لبنان برمته حيث اعتبر ان طائفة بدون حقوق أفضل من طائفة بدون وطن. وهذا يعني ان نهضة طائفة بكاملها، وبلسان إمامها، قررت تأجيل المطالبة بحقوقها على أمل المساهمة في بحث جماعي عن إرادة وطنية تحمي لبنان انطلاقاً من جنوبه. ولم يأتِ هذا القرار من فراغ أو ضعف، بقدر ما يرجع الى وعي أولي ومعمّق بتداعيات الحرب الاهلية بتفاصيلها الطائفية والاقليمية ونتائجها التي تنذر بتحويل لبنان مساحة مستباحة ومكشوفة أمام المشروع الاسرائيلي.
ويكشف هذا الوعي بالاولويات ان الثابت الديني لا يخرج الاجتماع الشيعي عن هويته الاسلامية بقدر ما يحصّنه من استبدالها بهوية طائفية، كما يكشف قدرة هذا الثابت الديني على تأسيس مقاومة قادرة ليس على تحرير الوطن من الاحتلال الاسرائيلي، وانما ايضاً على تأصيل هوية وطنية جامعة تحصّن الوطن ضد المشروع الاسرائيلي الشامل مثلما تلطف المنازعات الطائفية حول الدولة ومنافعها وتنظمها في شراكة وعدالة ووحدة وسيادة الى ان يقضي الله أمراً كان مفعولاً...
مساهمات المحور
جهاد الزين (طائفة بين ارتباكين... ومغامرة كبرى- 25/8/2010)، طلال عتريسي (ماذا يريد الشيعة من دولتهم- 25/8/2010)، سعود المولى (مشروع الإمام الصدر المستقبلي أصبح هو أيضاً من الماضي- 29/8/2010)، نجاة شرف الدين (سوريــا والشيعــة اللبنانيون – 1/9/2010)، طلال خوجة (لعنة الموقع- 3/9/2010)، الشيخ علي خازم (الشيعة بين "الولاية" والمواطنة- 6/9/2010)، منى فياض ("أمل" المتأرجحة- 8/9/2010)، فارس اشتي (القيادات الشيعية: من الصراع في الكيان إلى الصراع عليه- 13/9/2010)، يوسف معوض (عطوفة "كامل بك" والثورة المستحيلة- 16/9/2010، محمد علي مقلد (الإنقاذ على يد الجيل الشيعي الرابع؟ - 21/9/2010)، وجيه قانصو (تضخم الخصوصيات – 24/9/2010)، داليا عبيد (خائفة من الطائفة وعليها 29/9/2010)، عصام خليفة (من "روافض" إلى مواطنين إلى "مغامرين"؟ - 1/10/2010).
التعليقات
غسان المفلح (هل أصبحت الشيعية السياسية طرفاً برّانياً في الكيان اللبناني؟ - 23/9/2010)، الشيخ علي حسن خازم (رد على غسان المفلح: نصُّك كان "برانياً" بكل معنى الكلمة – 3/10/2010)، كمال وهبي (كامل الأسعد والعِصبة المأزومة – 3/10/2010)، جمال القرى (بدأ الكيان اللبناني مع الطائفة المارونية
فهل يشهد نهايته مع الطائفة الشيعية؟ - 10/10/2010)، سامي الجواد (الشيعة من العلاقة الظرفية بالكيان إلى العلاقة النهائية؟ - 10/10/2010).
(المحور من إعداد جاد يتيم)
(استاذ في كلية الآداب - الجامعة اللبنانية )