النهار- اعترافات قبضاي عتيق عن ارتكابات القبضايات ومحاكماتهم في خمسينات القرن العشرين
تحقيقات الأحد /الإثنين 8-11-2010
اعترافات قبضاي عتيق عن ارتكابات القبضايات ومحاكماتهم في خمسينات القرن العشرين
حال الدولة اللبنانية التي لا تزال على حالها منذ ستين سنة
تروي هذه الاعترافات وقائع من ارتكابات قبضايات الزعماء المحليين، وتدخلات الزعماء وأتباعهم من كبار الموظفين في المحاكمات القضائية في خمسينات القرن الماضي.
-1-
بعد ارتكابي جريمة إطلاق رصاصات ثلاثاً من مسدسي على شاب، أدت الى تكوّمه أرضاً في حديقة منزلنا بالمريجة العام 1951، ركضت هارباً في الحقول والبساتين، فاختبأت في منزل القبضاي المحترف، الياس الصوري، المشهور في ضيعتنا وأحد أركان شبكة القبضايات التابعين للزعيم والقطب النيابي الكاثوليكي، هنري فرعون. كنت في التاسعة عشرة، وكانت غواية الفتوة والشباب وميلي الجارف الى الظهور في أدوار القبضنة على مسرح الحياة المحلية في المريجة وبين شبانها، دافعي الى إطلاق النار على الشاب. وكان خوفي من فعلتي، وطلبي الحماية من الملاحقة الأمنية والقضائية، من بواعث فراري ولجوئي الى منزل القبضاي الصوري حيث أمضيت ساعات في تتخيتة مطبخ منزله، قبل حضور والدي، المفتش العام في وزارة التربية الوطنية، لاصطحابي، مع الصوري، من مخبئي، في ما يشبه موكب، الى منزل صديق والدي، المدعي العام في جبل لبنان، القاضي بطرس بيك نجيم، الذي كان منزله قرب كنيسة السريان في الخندق العميق.
كان الموكب مؤلفاً من سيارتين: سيارة الياس الصوري، وهي من نوع كرايزلر اشتراها من الشركة، جديدة ومن موديل العام 1951. وسيارة والدي الرسمية أو الحكومية المخصصة للمفتش العام في وزارة التربية، مع سائقها المدعو حليم طانيوس عون الذي كان يلبس الزي العربي التقليدي، وكانت السيارة من نوع دوزوطو، موديل العام 1947. وفي منزله الواسع الكبير، استقبلنا المدعي العام نجيم في غرفة نومه، لأنه كان متوعكاً. حين دخلنا، كان عنده في الغرفة آمر فصيلة درك بعبدا، الضابط سامي الحشيمي، الذي طوّق في الصباح، مع قوة من رجال الدرك، منزل الصوري وقت اختبائي فيه مع ثلاثة آخرين من شبكة القبضايات التابعة لفرعون، والفارين بعد ارتكابهم جرائم في زحلة وبيروت. لكن الحشيمي كان فكّ الطوق الأمني عن منزل الصوري، وانسحب مع قواته، بناءً على أمر من المدعي العام نجيم الذي كان والدي والصوري قد اتصلا به هاتفياً وتوسطا لديه في الصباح نفسه.
من ضيعتنا، المريجة، اصطحب والدي معه في سيارته، ثلاثة رجال من معارفه المسموعي الكلمة، وهم يوسف أبو زيد وفيكتور الطويل وجان ضو. اصطحبهم كي لا يدخل الى منزل صديقه المدعي العام، وحده، بل على رأس وفد يُظهِر مكانته ووزنه الاجتماعي في المريجة التي كان أهلها يتكاتفون لنجدة من يقع منهم في مصيبة، فكيف إذا كان الواقع فيها رجل له فضائل عليهم وعلى أولادهم الذين علّم أجيالاً منهم في المدارس الرسمية التي أسسها وأدارها في قرى ساحل المتن الجنوبي في ثلاثينات القرن العشرين؟
-2-
ما إن رآني المدعي العام نجيم أدخل، الى جانب والدي وصحبه، غرفة نومه، حتى بادرني قائلاً: "شنصك كبير، لأنك ابن أنطون خالد الفغالي، ثم التفت الى والدي، وقال له: ليك يا أستاذ أنطون، الصديق لوقت الضيق، وخليل (أي أنا مرتكب الجريمة قبل ساعات) ابني، مش ابنك. أما حين سأله والدي: ألا تريد يا استاذ بطرس بيك أن أشرح لك القضية؟ فجاوبه المدعي العام: ما بتقدر تشرحلي شي عن ابني.
مسدس السمث إندوسن الذي أطلقت منه رصاصاتي الصباحية الثلاث وهربت، كان لا يزال معي ملقّماً وطلقة من طلقاته في بيت النار، ومدسوساً تحت ثيابي على خصري، طوال الطريق من المريجة الى الخندق الغميق، وكان لا يزال على حاله وفي موضعه أثناء جلستنا في غرفة نوم المدعي العام الذي قال لي أن أذهب مع الضابط سامي أفندي الحشيني الى مقر النيابة العامة في بعبدا، فقلت: إذا بدكن تطلعوني مكلبج مع الدرك في سيارتهم العسكرية، لن أذهب، فكان لي ما أردت. خبير السيارات المدعو مرسيل شكري، كان جالساً معنا في غرفة نوم المدعي العام، صديقه، فقال إنه سوف يصطحبني في سيارته. حين خرجنا الى الشارع، قال الضابط الحشيمي للدركي سائق سيارة الجيب العسكرية، أن يقود الجيب ويسير به وحده أمام سيارة الخبير الأولدزموبيل الفخمة التي أركبوني فيها، وقادها سائق صاحبها. لكن حين وصلنا الى مخفر فرن الشباك القديم، قام الحشيمي بالركوب الى جانبي على المقعد الخلفي في سيارة الخبير، مع دركي من المخفر يحمل بندقيته الحربية الاميرية، وتوجهنا الى سرايا بعبدا. ما إن وصلنا الى مقر الحرس على مدخل السرايا، حتى سألني الحشيمي عن المسدس الذي أطلقت منه النار، فقلت له إنني رميته صباحاً في رباعات الصبار في حديقة منزلنا، قبل فراري. لكن حين طلب مني أن أحدّد مكانه تماماً، كي يذهب رجال الدرك لإحضاره، تناولت المسدس من تحت ثيابي وقدمته له، فجن جنونه، وصرخ بي قائلاً: دخلت الى غرفة نوم المدعي العام، وأتينا بك من بيته الى هنا، والمسدس معك؟! فقلت له: مع ذخيرته ايضاً، ثم ناولته المسدس مع ذخائره، فأخذها، وأمر رجال الدرك بأن يأخذوني الى النظارة، أي سجن السرايا في بعبدا.
-3-
امضيت مدة قصيرة موقوفاً على ذمة التحقيق في سجن سرايا بعبدا، فيما كان المجني عليه الشاب ميشال شرابية الذي أطلقت عليه رصاصاتي الثلاث، واخترقت احداها رئتيه وسبّبت له نزيفاً داخلياً حاداً، لا يزال طريح الفراش في مستشفى اوتيل ديو، يتداوى من عمليات جراحية صعبة، على حساب وزارة الصحة العامة، بايعاز من وزيرها الدكتور الياس الخوري، صديق والدي الذي تحمّل نفقات ما يحتاجه شرابية من دم ابتاعه من رجال سلك الاطفائية الذين كانوا "عتاعيت" ويتمتعون بصحة جيدة وقوة بدنية عالية، ويبيعون كل غرام من دمهم بليرة لبنانية واحدة.
نوبات قلق امي عليّ، كانت تدفعها الى نواح دائم في المنزل، لأن والدي منعها، وامتنع هو ايضا، عن زيارتي في السجن، لكنه داوم على ارسال الثياب لي مع سائق سيارته الرسمية، فيما تكفلت ابنة عمتي ان ترسل لي كل يوم طعاماً بيتياً ساخناً مع زوجها لويس ابو خليل، امين الصندوق في سرايا بعبدا الحكومي.
-4-
في ايام سجني كان المدعي العام في جبل لبنان، بطرس نجيم، يعمل جاهداً للوصول الى اسقاط الدعوى القضائية ضدي من اجل "لفلفة" جريمتي، واخلاء سبيلي. صب المدعي العام جهوده على اقناع ذوي المجني عليه – وهو مصري المولد من اب وام لبنانيين مهاجرين في مصر وتوفيا هناك – باسقاط الدعوى القضائية عليّ. لكن الراهبة التي كانت ترعى شؤون المجني عليه ميشال شرابية ومكثت قرب سريره في المستشفى كأم له، بعدما كانت اشرفت على تربيته وتنشئته طفلا وفتىً في ميتم للراهبات اللعازريات في القاهرة، قبل ان تصطحبه معها الى بيروت، وهي لبنانية من آل باسيل، رفضت اسقاط الدعوى، كما حرّضت الشاب شرابية على عدم اسقاطها، مستقوية بنفوذ ابن اختها المدعو ابرهيم سابا، رئيس جهاز التفتيش المركزي آنذاك.
هذا ما حمل المدعي العام على الذهاب بنفسه ومعه والدي، الى المستشفى، فهدد الراهبة وحملها على اسقاط الدعوى او التنازل عنها، ثم حملا وثيقة التنازل وذهبا فورا الى سرايا بعبدا، لاستصدار مذكرة اخلاء سبيلي واخراجي من السجن. لكن المذكرة كانت تحتاج الى موافقة مستنطق المحكمة المدعو وفيق الحسامي، وتوقيعه، لتصير نافذة. تمنّع الحسامي الذي كان من اتباع هنري فرعون، عن توقيع المذكرة، بايعاز من القبضاي الياس الصوري الذي كان يرغب في ان يكون خلاص والدي من محنته على يد سيده وولي امره في شبكة قبضاياته، هنري فرعون نفسه، لا على يد المدعي العام بطرس نجيم، صديق والدي. كانت رغبة الصوري هذه تنطوي على ان يصير والدي ممتناً لسيده هنري فرعون ومن اتباع هنري فرعون ومحاسيبه، لقاء استنجاده بنفوذه، وتخليصه من المحنة التي ورّطته فيها. لكن استجاد والدي بنفوذ صديقه المدعي العام، حمل الصوري على عرقلة معاملة اخلاء سبيلي مستعملا نفوذه لدى المستنطق وفيق الحسامي المحسوب على فرعون. لذا استنجد والدي بنفوذ صديق آخر له، هو قاضي الاحالة، زاهد حيدر، الذي كان فض الخلافات في مثل هذه الامور من مهماته. وهكذا جرت محاكمتي محاكمة شبه صورية على يد القاضي المدعو كمال سمعان الذي حكم بسجني شهرا ونصف الشهر مع وقف التنفيذ، فأطلق سراحي من سجن سرايا بعبدا الحكومي.
-5-
المجرمون الثلاثة الذين التقيت بهم اثناء اختبائي في تتخيتة مطبخ منزل الياس الصوري في المريجة، وكانوا في شبكة القبضايات التابعين لهنري فرعون في زحلة وبيروت، علمت لاحقا انهم حوكموا ايضا على نحو اقل صورية من محاكمتي، وتدخل في محاكماتهم نفوذ زعماء كثيرين وسطوتهم على كبار الموظفين وصغارهم. فالقبضاي البقاعي، ابن بلدة جديتا، المدعو عنتر ابو زهر، الذي كان مختبئاً مع ولده ابرهيم، قبلي، في التتخيتة، حُمّل ابنه وحده تهمة قتله عددا من اتباع الزعيم والنائب الزحلاني جوزف سكاف، في مقهى بمدينة زحلة، فخرج الاب من السجن بعد مدة، وحُكم ابنه ابرهيم بالسجن المؤبد. بعد خمس سنوات، وكنت قد صرت شرطيا في سلك شرطة بيروت، صادفت ابرهيم ابو زهرفي سجن القلعة في رأس بيروت، فتعرف اليّ، وأخذ يقول لي متوسلاً: دخيلك، دخيل عرضك ساعدني، الخواجة تركني.
عندما كان يقال "الخواجا" في بعض البيئات الاهلية والمحلية البيروتية ومناطق اخرى في تلك الايام، لم يكن الشخص المعني سوى هنري فرعون. وذلك على نحو ما كان يقال "الاستاذ" او "بيت الاستاذ" في المريجة، فيكون والدي وبيتنا هما المعنيّين. اما ابرهيم ابو زهر، فعلمت انه خرج من السجن المؤبد العام 1957 حينما شمله مرسوم جمهوري اصدره الرئيس كميل شمعون في آخر ايام عهده، عفا بموجبه عن عدد من السجناء.
لكن "الخواجا" لم يترك القبضاي الآخر، جوزف ايوب، الذي أطلق النار على رجل اطفاء بمحلة القنطاري في بيروت، وصادفته مختبئاً في تتخيتة مطبخ منزل الصوري، بل ان "الخواجا" تدبر امره وتمكن من اسقاط الدعوى القضائية عنه، فلم يدخل السجن.
اروي اليوم هذه التفاصيل المملة، بعد تجاوزي الثمانين من عمري، لأقول: هكذا كانت حال مؤسسات الدولة اللبنانية واجهزتها الامنية والادارية والقضائية، قبل 60 سنة، وهي لا تزال على حالها حتى الساعة.
رواية خليل خالد الفغالي كتابة محمد ابي سمرا