النهار- في حواره ذي المدلولات العميقة في "قضايا النهار"
السبت 6-11-2010
في حواره ذي المدلولات العميقة في "قضايا النهار"
ثالوث شيخ الأزهر والمستقبل المنتظَر
بقلم الأب باسم الراعي
حوّل العنوان الذي وضعته "النهار" للمقابلة التي أجراها الأستاذ جهاد الزين مع شيخ الأزهر الدكتور أحمد طيّب، بتاريخ 15/10/2010(•)، الحوار شيئاً من التراجيديا، في حين أن مضمون الحوار هو أعمق في مدلولاته من أن يختصر بعنوان درامي بهذا الشكل.
واللافت في أجوبة سماحته أنها انعقدت على ثالوث: الآخر والتنوع والنقد الذي تولدت منه معاني الحوار. وبدا واضحاً بروز مفهوم الآخر وبشكل متواتر في سياق الحوار متعدّياً حدود الآخر من الملّة الواحدة أو الدين الواحد إلى الآخر بشكل عام.
وكان من المتوقع أن حضور الآخر يستجلب معه حضور التنوع والنقد، لأنه حيث الكلام على الآخر فلا بد من التنوع، والتنوع يحمل في ذاته النقد، بمعنى كانط، أي أنّ التنوع يترافق مع وضع الحدود والحث على التفكير بغية تبيان الوحدة. وهذه جميعها تنفي أسباب العداوة أو الخصام أو الحرب والفتنة. وهي معانٍ بدت جليّة في نص الحوار عندما سارع الشيخ إلى نفي الفتنة السنيّة-الشيعية والتأكيد على اقتناع المسلمين ببقاء المسيحيين في الشرق، وبحرية الضمير. وهو لم يوفّر في ضوء هذا الثالوث المؤسسة العلميّة الدينيّة الإسلامية التي وضعها أمام مسؤوليات جسام بنقده المنهج والمقاربة والتكفير العشوائي عندما فسّر معنى اختباره في ترجمته كتاب ابن عربي.
وفي كل هذا لم يزعجني تشييده عمارة تفكيره على التراث منتهياً بحاجة التأصيل في المجتمعات العربية، إذ إنّ عودة المجتمعات الإسلامية إلى الأصل فيها، في نظره اكتشاف معاني ثالوث: الآخر والتنوع والنقد. وهذا حق تعبّر عنه فلسفة التأويل المعاصرة التي تقرّ بأنّ الإنسان "يولد للتقليد قبل أن يولد لذاته"، إذ إنّ التقليد يختزن معانٍ تساعد في تكوين الذات.
إنّ بروز هذا الثالوث في أجوبة الشيخ الأزهري، يفتح باباً جديداً للنقاش الفكري، خصوصاً في موضوع الآخر المختلف، لأنها تعبّد طريق المستقبل إذا ذهبت إلى حدودها القصوى في تبني مفهوم الآخر بما وصل إليه في الفكر الحديث. وهذا ما كنت أترقبه في نص الحوار.
لكنني في الحقيقة وجدت تأرجحاً في نهاية الحوار، خصوصاً في موضوع المسيحيين، إذ أجاب عن سؤال "حرية الضمير"، التي أصلّها في النصّ القرآني، بعدما قال عن الوجود المسيحي في الشرق: " إنّنا كمسلمين نحرص على بقاء المسيحيين في الشرق لأن بقاءهم وازدهارهم تعبير عن ثراء حضارة الشرق روحياً ومعنوياً وثقافياً ودليل على أن الإسلام دين التسامح والتعايش وقبول الآخر." وكنت أتوقع أن يبقى الحديث عن هذا الوجود في سياق الثوابت التي أطلقها، فإذا به ينعطف إلى خطاب تقليدي عن الوجود المسيحي.
فأنا أعتقد أن الحديث بهذا الحزم عن "حرية الضمير"، يحتاج مقاربة توسّع مفهوم الآخر الذي بقي في النص في حدود القبول "الرضي" والتعارف، في حين أن ثالوث: الآخر والتنوع والنقد يحمل في ذاته دفعاً نوعياً بنّاء في اتجاه تحول في الفكر السياسي الإسلامي. وكنت انتظر أن يطبّق ثالوثه على المجال السياسي أو المجتمع العربي، جاعلاً من قبول التنوّع في المجتمعات العربية ليس فقط "تعبيراً عن ثراء حضارة الشرق" ولا دليلاً على "أن الإسلام دين التسامح والتعايش وقبول الآخر" وحسب، بل باب للانتقال إلى مجتمع يصير فيه التنوع تكريساً لحق الآخر المتمايز.
والمعلوم أن مفهوم "الآخر" هو نحت الفلسفة المعاصرة، وهو تعبير من جهة عن شعور رضي بوجود الآخر ناتج إما عن الروابط القائمة بين الكائنات من صنف واحد أو عن التفكّر أو التضحية؛ ومن جهة أخرى عن نظرية أخلاقية تضع منذ اللحظة التأسيسية الأولى خير النظراء ومنفعتهم هدفاً أساسياً للسلوك الأخلاقي والسياسي. وكان أوغيست كونت أول من حدّد هذا المفهوم بمعناه الثاني تحت مبدأ "العيش من أجل الآخر"(1) على قاعدة أن "المحبة هي المبدأ، والأساس هو النظام والهدف هو الرقّي"(2).
وفي الواقع إنّ معنيي الآخر لا ينفصلان إذ إنّ الآخر لا يصير آخر إلا متى بنيت اﻟ "ما بين" أي أنّ الأنا والأنت يبنيان بعضهما بعضاً وينتج من ذلك شعور بالمسؤولية تجاه الآخر(3). عندها يبطل أن يكون الآخر مجرّد وجود ليصبح حضوراً في الذات وجزءاً مكوّناً لها. وتأتي هذه اﻟ "ما بين" بحسب هيغيل (Hegel) نتيجة "الاعتراف المتبادل"، لأن صيرورة الذات في معرفة ذاتها تمر حينها في الآخر. وهنا يولد المجتمع، لأن الذات عندما تعي أنّ اكتفاءها بذاتها لا يساعدها في بناء حقيقتها الذاتية يصير حضور الآخر "لا يشكل حساسية" وفعل بناء للذات. وفي هذه الحركة الداخلية تولد في نظر فيورباخ (Feuerbach) جماعة حسية ومعنوية تكون بمثابة حقيقة موضوعية لعالم جديد تعيش فيه الذاتيات بعضها مع بعضٍ وبعضها من أجل بعض، أو بتعبير هايدغر(Heidegger) "أن تكون مع الآخر ومن أجل الآخر" بمعنى "العناية به أو رعايته" (Fürsorge). وهذه يعتبرها هايدغر "شرط الوجود" أو "أحد أنواع وجود الإنسان الأساسية"(4).
من دون التوغل أكثر في مفهوم الآخر، يكفي أن نستعيد بعض العناصر المكوّنة للحديث عن الآخر حتى نخرج بمعالم المستقبل الذي يشير إليه ثالوث سماحته. قلت إن هذا الثالوث يفتح طريق المستقبل لنقاش جدّي في موضوع الآخر، خصوصاً المسيحي، وشيخنا اجتاز نصف المسافة في القبول الرضي بالآخر وأقر في وجه من الوجوه بنوع من الاعتراف بوجوده شريكاً في حضارة الشرق (وأضيف العربية) وبحقه بحرية الضمير، لكن هذا الثالوث لا تكتمل شروطه ومعالمه الحقيقيّة، إلاّ متى بلغ معناه الكامل في ولادة مجتمع سياسي يُعترف فيه بالآخر بشكل غير منقوص، يقوم على "العيش من أجل الآخر" و"مع الآخر" في نظام حقوق موضوعي يمليه العقل الحيادي بشكل إيجابي وتتضافر فيه مكونات المجتمع لتجعل من المدينة الأرضية مجال عيش رضي. وهذا لا يكون بعيداً عن قبول صريح بمبدأ "التعدّد" وبإعمال العقل الناقد في المسرى السياسي الذي يبدو حتى الآن أنه عاجز عن أنّ يرى في الآخر شريكاً فعلياً في بناء المدينة الأرضية على قدم المساواة. فالتعدّد باب الإيمان بالمساواة والنقد ممر ضروري للخروج إلى نهار المجتمع الذي يحكم العقل بمفاصله.
ويقيني في هذا السياق أن ما أعرضه على سماحته هو نابع من تفكّر مسيحي سار في مجاري الفكر الغربي الحديث والمعاصر وله نكهة مسيحية شرقية خاصة. وأملي أن يُقبل إليه سماحته بروح التعاون والتكامل حتى لا يبقى الخطاب الإسلامي العربي والخطاب المسيحي العربي خطابين منعزلين، فننتقل بذلك من التضادية إلى البنائية وإلى التناضح الثقافي وبدل أن نبحث عن معاني المسيحية في الغرب، كما المح إلى ذلك شيخنا في متن الحوار، نجدها في منابعها الأصيلة رابضة في كل بلد عربي وفي مدينة عربية.
وفي الختام، إذا كان شيخ الأزهر هو من فتح هذا الباب على المستقبل فهل من شك في الإقدام عليه؟
(•) "قضايا النهار" (15/10/2010) – شيخ الأزهر يجيب على أسئلة آتية من بلاد الفتنتين لبنان – أجرى الحوار في القاهرة جهاد الزين.
1. «Vivre pour autrui, afin de revivre en autrui par autrui, un être spontanément enclin à vivre pour soi et en soi.» Auguste Comte, Catéchisme positiviste. Garnier-Flammarion. Paris 1966. P. 225.
2. André Lalande, Dictionnaire technique et critique de la philosophie. PUF. Paris 1988. P40.
3. راجع، مقالتنا : " عندما يصبح الحوار نفقاً يجب الخروج منه!". في: النهار (3/8/2010).
4. Martin Heidegger, Sein und Zeit. Tübingen 141977. P.177ff..
(الأب الدكتور باسم الراعي هو أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة الروح القدس والجامعة اليسوعية في لبنان)