السفير - المسيحيون ضرورة إسلامية وليسوا أقلية طارئة
الجمعة 22-10-2010
المسيحيون ضرورة إسلامية وليسوا أقلية طارئة
محمد السماك
عندما تلقيت الدعوة الكريمة إلى السينودس الخاص حول الشرق الأوسط، ارتسمت أمامي علامتا استفهام. الأولى هي لماذا هذا السينودس من أجل مسيحيي الشرق؟ والثانية هي ما معنى دعوة مسلم إلى السينودس، وأي دور لي فيه، وبعده؟ بالنسبة للسؤال الأول فإن محاولة الإجابة عليه تطرح العديد من التساؤلات.
لو كان مسيحيو الشرق بخير، هل كانت هناك حاجة للدعوة إلى السينودس؟ ثم هل إن هذا السينودس قادر على طمأنتهم وعلى تثبيت أقدامهم في أرض آبائهم وأجدادهم، الأرض التي أشع منها نور الإيمان المسيحي ليعم العالم كله؟
إنني كمسلم، أقدر عالياً اهتمام الفاتيكان بقضايا المسيحيين عامة، واهتمامه خاصة بقضية مسيحيي الشرق مهد المسيحية ومنطلقها الأول. وفي الوقت ذاته آمل أن تؤدي مبادرة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز للحوار بين الأديان والثقافات، إلى ترجمة الاهتمام العربي والإسلامي بهذه القضية بكل أبعادها الوطنية والدينية والإنسانية، لتتكامل المبادرتان الفاتيكانية والإسلامية في معالجة قضية مسيحيي الشرق، باعتبارها قضية إسلامية مسيحية واحدة، خاصة انه مع هذه المبادرة النبيلة كانت هناك مبادرة جمعية الدعوة الإسلامية العالمية للتعارف بين الناس على قاعدة احترام الاختلافات، وكانت مبادرة أهل البيت الى كلمة سواء على قاعدة المحبة، وهي مبادرات صادقة تعكس ارادة إسلامية جامعة أصيلة ومتأصلة في العقيدة الإسلامية للمحافظة على العيش الوطني بين المسلمين والمسيحيين.
فالمسلمون، وإن تعددت مذاهبهم، فإن إيمانهم واحد، ومن مقومات هذا الإيمان احترام الاختلاف ومودة النصارى تحديداً.
وبالنسبة للسؤال الثاني لا أعتقد أني دعيت إلى السينودس لأتعرف إلى ما يعانيه مسيحيون في بعض دول المشرق. فمعاناتنا كشرقيين واحدة. إننا نعيش المعاناة معاً. نعيشها في بعض مظاهر تخلفنا الاجتماعي والسياسي، وفي تعثر نموّنا الاقتصادي، وفي حالات التوتر الديني والمذهبي. غير أن ظاهرة استهداف المسيحي لدينه وإن كانت ظاهرة محدودة وطارئة على مجتمعاتنا، إلا أنها ظاهرة خطيرة جداً، وأخطر ما فيها أنها قد تستدرج طرح معادلة المعاملة بالمثل، الأمر الذي يعمّق التباعد والتنابذ.. ثم إنها ظاهرة غريبة عن الشرق. وأغرب ما فيها انها تتناقض مع ما تقول به ثقافاتنا الدينية ودساتيرنا الوطنية. ذلك ان هذا الاستهداف يؤشر إلى أمرين خطيرين.
الأمر الأول هو محاولة تمزيق نسيج مجتمعاتنا الوطنية، ومحاولة تفكيكها وسحب خيوط نسيجها المتشابك الذي عرفته وعرفت به منذ قرون عديدة. أما الأمر الثاني فهو محاولة تصوير الإسلام على غير حقيقته، وعلى عكس ما يقول به، وعلى نقيض ما يؤكد عليه أساساً من اعتبار الاختلاف بين الناس آية من آيات الله في الخلق (...)
فالقرآن الكريم يقول: «من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون، يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات، وأولئك من الصالحين» (3/113).
انه مما يدعو إلى الأسف الشديد انه بعد جريمة 11 أيلول 2001، انطلقت حملة ظالمة للتخويف من الاسلام، ووصلت تلك الحملة إلى الشرق أيضاً، فتسلل الخوف إلى بعض المسيحيين واستثار القلق في بعض المسلمين، فتكامل ردا الفعل في توسيع أبواب الهجرة التي يرفضونها جميعاً.
لقد عاش المسلمون والمسيحيون في الشرق بمحبة وسلام وازدهار جيلا بعد جيل منذ 1400 سنة. ولن يكون الشرق شرقاً من دون هذا العيش المشترك الذي أرسى قواعده الأولى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في عهده إلى نصارى نجران.
صحيح ان صعوبات اعترت هذا العيش في فترات استثنائية، كما أشارت إلى ذلك وثيقة الارشاد الرسولي «رجاء جديد للبنان»، إلا ان المسلمين والمسيحيين كانوا دائماً يتغلبون عليها. ولا شك في أن الشرق، بمسيحييه ومسلميه، سيكون في وضع أفضل كثيرا لو ان القوى الخارجية ترفع عنه يدها التي تعيث فيه فساداً وإفساداً.
هناك سلبيتان تطرحان المشكلة التي يواجهها مسيحيو الشرق.
سلبية عدم احترام حقوق المواطنة في المساواة الكاملة أمام القانون في بعض الدول. وسلبية عدم فهم روح التعاليم الإسلامية الخاصة بالعلاقة مع المسيحيين الذين وصفهم القرآن الكريم بأنهم «أقرب مودة للذىن آمنوا»، والذي برر هذه المودة بقوله «ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون».
والسلبيتان بكل ما تحملانه من مضامين فكرية وسياسية سلبية وبكل ما تفرزانه من مواقف عقدية وإجرائية، وما تتسببان به من أعمال مقلقة ومسيئة، تلحقان الأذى بنا جميعاً، مسيحيين ومسلمين، وتسيئان إلينا جميعاً في حياتنا المشتركة وفي مصيرنا الواحد. ولذلك فإننا مدعوون للعمل معاً من أجل تحويل السلبيتين إلى إيجابيتين، أولاً، من خلال احترام أسس وقواعد المواطنة التي تحقق المساواة في الحقوق أولا، ثم في الواجبات. وثانياً من خلال تسفيه ثقافة الغلو والتطرف من حيث هي رفض للآخر واحتكار للحقيقة والحق.
وكذلك من خلال العمل على تعزيز ونشر ثقافة الاعتدال والمحبة والسماحة من حيث هي احترام للاختلاف في الدين والعقيدة (...).
نعم مسيحيو الشرق في محنة، ولكنهم ليسوا وحدهم.
نعم مسيحيو الشرق يحتاجون إلى المؤازرة والدعم.. ولكن ذلك لا يكون، ويجب أن لا يكون بتسهيل هجرتهم، ولا بانغلاقهم على ذواتهم، ولا بتخلي شركائهم في الوطن من المسلمين عن واجباتهم الوطنية والأخلاقية نحوهم. فتسهيل الهجرة، تهجير. والانغلاق على الذات اختناق بطيء. والتخلي عن واجب الدفاع عن حق الآخر في الحياة الحرة والكريمة، انتقاص من إنسانية الإنسان وتخلٍ عن ثوابت الإيمان.
فالحضور المسيحي في الشرق، الفاعل في المسلمين، والمتفاعل مع المسلمين، هو ضرورة مسيحية بقدر ما هو ضرورة إسلامية، ثم انه ضرورة ليس للشرق وحده، إنما للعالم كله. والخطر الذي يمثله تآكل هذا الحضور عددياً ومعنوياً، هو همّ مسيحي بقدر ما هو همّ إسلامي، ليس لمسلمي الشرق وحدهم بل لمسلمي العالم كله. ثم إنني أستطيع أن أعيش إسلامي مع أي مسلم آخر من أي دولة ومن أي عنصر، ولكنني كعربي مشرقي لا أستطيع ان أعيش عروبتي من دون المسيحي العربي المشرقي. ان هجرة المسيحي تفريغ للذات العربية، هوية وثقافة وأصالة.
ولذلك، فإنني أردد هنا، من على منبر الفاتيكان، ما سبق ان رددته من على منبر في مكة المكرمة، من أنني أخاف على مستقبل مسلمي الشرق من هجرة مسيحيي الشرق. ومن أن المحافظة على الحضور المسيحي هو واجب إسلامي عام بقدر ما هو واجب مسيحي عام.
إن مسيحيي الشرق ليسوا أقلية طارئة. إنهم في أساس وجود الشرق منذ ما قبل الإسلام. وهم جزء لا يتجزأ من التكوين الثقافي والأدبي والعلمي للحضارة الإسلامية. ثم انهم رواد النهضة العربية الحديثة الذين حافظو على لغتها، لغة القرآن الكريم.
وكما كانوا في مقدمة الصفوف الوطنية من أجل التحرر واستعادة السيادة، فإنهم اليوم في مقدمة الصفوف الوطنية في مواجهة الاحتلال ومقاومته، والدفاع عن الحق الوطني المغتصب في القدس خاصة، وفي فلسطين المحتلة عامة.
من أجل ذلك، من المهم جداً أن لا يكون هذا السينودس مجرد صرخة ألم مسيحية تدوي في وادي الآلام في شرقنا المعذب. إن الأمل معقود على أن يضع السينودس أسساً عملية وعلمية لإطلاق مبادرة تعاون إسلامي ـ مسيحي مشترك تدفع الأذى عن المسيحيين وعن المسلمين وتصون العلاقات الاسلامية ـ المسيحية، ليبقى الشرق، مهبط وحي السماء، جديراً برفع راية الإيمان والمحبة والسلام له وللعالم كله.
[ ألقيت أمام السينودس الخاص حول الشرق الأوسط