السفير - الذي قال للنصوص الدينية: عودي إلى مواطنك الأرضية
السبت 20-11-2010
الذي قال للنصوص الدينية: عودي إلى مواطنك الأرضية
محمود شريح
هل آدم هو آدم؟
لقد أفقدنا كمال الصليبي جدّنا الأول، كما عرفناه في سفر التكوين. لأن «آدم، من تراب ادمة، وأدمة اليوم هي من روافد وادي بيشه»، «الى الشرق من سراة عسير».
هل حواء هي حواء؟
لقد تركنا كمال الصليبي أيتاماً. صرنا بلا أم نتحدّر من ذريتها. أفقدنا صلة النسب بالبداية. جعلنا نهيم في البحث عن جذر من جنسنا، خارج جغرافيا الرحم الأول، رحم النص المقدس، الذي لم يكن له بديل من قبل.
ماذا لو لم يكن آدمُ آدم؟
كأن يكون اسطورة، أو كأن يكون رمزاً، او كأن يشتبه فيه حقاً، انه اسم مكان لقبيلة، كانت تقيم في شبه الجزيرة العربية؟
ماذا لو لم تكن حواء حواء؟
كأن تكون أيضاً ذات أرومة قبلية، من ضلع الجغرافيا، لا من ضلع آدم، لا يصدق فيها قول التوراة، وسواها من الكتب، إلا على سبيل الأسطورة، فقد تكون من (آل حيّة) أو «كإلهة أم لجميع المخلوقات الحية».. ماذا لو لم تكن حواء امرأة بالمرة، ولا علاقة لها بالأنوثة إلا على سبيل الحاجة الى رمز من صنع المخيلة. فقد تكون حواء كذلك، «مفردة بصيغة الجمع»، اسماً لمن كانوا يقيمون، ذات زمن سحيق، في شبه الجزيرة العربية، والأولى، ان تكون منطقة عسير، أمها الأرضية.
ماذا لو كان الإله يهوه ينتسب الى قرية «آل هية»، التي تقع في مرتفعات عسير قرب النماص؟ ماذا لو كانت شجرة المعرفة وشجرة الحياة، رمزاً لإله المعرفة وإله الحياة، وان أرومتهما تنتمي أيضا الى الجغرافيا، لا الى الملكوت؟
سبق الصليبي عدداً من الباحثين في التوراة، فقرأها وفسّرها بطرق، تعيد إليها توازنها على مستوى الإفهام للعقل، وتم بذلك إخراجها من مرحلة «البصم». لكن أحداً لم يسبق كمال الصليبي، بأن تخطى الحدود، وبلغ في العلم والتدقيق والتنقيب، مدى القطيعة مع الجغرافيا المفترضة، لقصص التوراة، ولأسفار العهد القديم الأولى (الجغرافيا المفترضة، مصر، العراق، فلسطين الخ). لقد أخذ النص الى لغته والى مفرداته الأولى، وتبين له، ان لا شيء يربط التوراة بفلسطين. ولا شبه بين اسمائها وأسماء الأماكن فيها. قال للتوراة: «لست من فلسطين ولا في فلسطين، فأنت من شبه الجزيرة العربية».
لقد أقنعنا الصليبي بأن الشك أكثر قداسة من كل مقدس وأن محكّ المسلمات الراسخة في الاقتناع، هو في التمكّن من تعريتها مما لحق بها من رمز وخرافة وأسطورة، كانت من إبداعات التخيل البشري السحيق... وهنا، تنقلب الأمور حيث يصبح الإنسان خالق ذاته، عبر أسطرة وجوده وما قبل وجوده أيضاً.
لم يسبق أن فعل أحد بنا ما فعله الصليبي.
ماذا فعل؟
حريّ بنا أن نسأل ماذا لم يفعل؟ لقد ارتكب فعل القطيعة. لم يعط تفسيراً مختلفاً للنص الديني فقط. لقد أصّل هذا النص، في واقعه. جعله نصاً من أصل بشري /جغرافي/ لغوي، تأسست عليه معتقدات متوارثة. اعاد النص الى «حقيقة التاريخ»، من خلال قراءته كحقيقة أسطورية. «في الأسطورة (نتاج مخيلة الشعوب) تنقلب الأقوام والأمم والقبائل والبلدان والحواضر الى شخصيات تحمل اسماءها وتعكس طبائعها: الى رجال ونساء، الى آلهة ذكور وإناث»... وبناء على ذلك، الأسطورة تخدم الغرض نفسه الذي يخدمه التاريخ، فهي تمثل محاولة لتصوير الواقع عن طريق ربط الحاضر بماضيه... وهي لا تختلق اسماءها (بعكس القصة) ولا تختلق اسماء أبطالها بل تأخذها من مادتها التاريخية... والأسطورة (بعكس القصة) لا تختلق جغرافيتها. وعليه فمفتاح التاريخ لقراءة الأسطورة، هو في إعادة نصابها الى الجغرافيا. وما سفر التكوين إلا مجموعة الأساطير.
وماذا يبقى بعد ذلك لنا من الكتب المقدسة؟
يبقى، ان نؤمن بواسطة العقل، وليس بواسطة النقل. ان مهمة العقل، ان يسيطر على النقل، أي على النص المقدس، ويعيد توليده، بشكل طبيعي، من رحم التاريخ. منتسباً إلى مكانه المحدد في الجغرافيا، وفي أزمنته المتقادمة.
هذا ما فعله الصليبي عن حق، ولم يسبقه أحد الى ذلك. فما كان قبله أحد مثله.
أخذنا كمال الصليبي من سباتنا الإيماني، الى قلق المؤمن الباحث بعقله عن صوابية النص. أخذ النص وحكه بأمكنته الممكنة، فك رموز الأسماء والكلمات وتحولات اللغة في أصولها الأولى فاستدلّ من أسماء الأمكنة، المعاني الواقعية، والأحداث التاريخية، وهذه تحديداً، كانت الرحم الأول لكتابة النصوص المقدسة، في بعض أسفار العهد القديم... بأقلام لا تحصى.
«التوراة جاءت من الجزيرة العربية»، كانت بداية الانقلاب الذي «ووجه بحملة إعلامية من أجهزة ودوائر أكاديمية غربية وصهيونية، داخل فلسطين المحتلة وخارجها». ووقفت أوساط عربية موقفاً سلبياً من الكتاب. والغريب ان الحملة شنت قبل خروج الكتاب الى النور وقبل أن يعرف النقاد مضمونه».
وتوالت الكتب الى ان جاء «البحث عن يسوع»، (قراءة جديدة في الأناجيل).
فماذا لو كان يسوع متعدّداً؟ وماذا لو كان المسيح الذي أتى، لم يحمل بطاقة هوية واحدة؟ وماذا لو أن مكان ميلاده غير محدّد، (بيت لحم أم الناصرة أم أنه جاء أيضاً من شبه الجزيرة العربية؟).
تختلف الأمور كثيراً، عندما تنقلب المعتقدات لدى احتكاكها بالواقع، وعبر الإضاءة عليها من خارجها من خلال كتب المؤرخين، وصلات الجغرافيا وتعاقب الأزمنة. قد تنجلي أكثر، إذا قورنت بين الكتب المقدسة، وظهر من خلالها، المختلف والمغاير والنقيض... وقد تصل أحياناً الى طرح اسئلة حول الألوهة بذاتها: فهل المسيح يسوع ابن الله أم ملك اليهود، الذي قدم من شبه الجزيرة العربية، ليسترد عرشاً انتزع من ورثة داود وسليمان؟
وإذا صدق وتوغلت أكثر في ما كتبه الصليبي، فقد تصل الى ان تسأل المسيح: «من أنت؟». والسؤال الذي اجابت عنه الكنيسة الرومانية، وبعد مجمع خلقيدونية، موفور في نص «فعل الإيمان» وفيه إشهار بألوهة المسيح، ابناً لأب مساو له في الجوهر، وروح قدس منبثق من الاثنين، (الآب والابن) او من واحد (من الآب فقط).
الجواب في «فعل الإيمان» هذا، نص لاهوتي، مبني على تفلسف شاق، أثبت التثليت كقاعدة ايمان، فصارت جوهراً للمسيحية التي من دونها، يصير الإيمان «هرطوقياً».
إذا سألت: أيها المسيح من أنت؟ وجدت في كتاب البحث عن يسوع، اجابات مختلفة. يأخذك الى آل عمران، والى أمه التي من هناك، والى خالته مريم، لا أمه أيضاً... ومن ثم تصاب بدوار ينزع عنك ثوب الإيمان بالبصم، لتنعم بثوب الشك الذي يفضي الى الوضوح والفهم.
والشك باب، ان دخلته مع الصليبي، يقودك الى الطلاق مع ذاتك الساكنة في إيمان غيبي مريح. يأخذك المؤرخ عبر النص الى مداخل فهم مختلف. تسأله: واليهود من أين جاؤوا؟ بالطبع، لم يأتوا من التوراة وأسفارها وسير أنبيائها. فتاريخ بني إسرائيل، ليس تاريخاً فلسطينياً، لأنهم لم يقطنوها، فهم أقاموا في السراة وتهامة من بلاد عسير أيضاً، ودليله أيضاً، ما جاء به المؤرخ اليوناني هيرودوتس، فعندما زار فلسطين (عام 450 ق.م.) سماها فلسطين سوريا، ووصف شعبها بأنهم سوريون في فلسطين. وكلمة سوريا في اليونانية هي اشوريا.. ولماذا سموا سوريا سوريا؟ فلأن القسم الشمالي منها امتداد لأشور... «ولم يذكر (هيرودس) بني إسرائيل أو اليهود ولم يأت على ذكر أي هيكل»... ولم يحضر اليهود الى فلسطين إلا بعد مرور هيرودس في سوريا، نتيجة للهجرة من بابل ومن سواها.
لا ندري، من سيسير في اتجاهات اشاراته وعلاماته ونتائج أبحاثه؟ لا ندري من يتجرأ على الخروج من كسل التسليم الى قلق السؤال، نطرحه على النص الموروث، جيلاً بعد جيل، «أأنت صحيح أم تحتاج الى تصحيح»؟
لا مقدس، غير السؤال والشك والإلحاح في طلب الوضوح. الأفكار، ليست مقدسة. ولأن، لا إكراه في الدين، فلا إكراه في الاجتهاد والتفسير وعلم الكلام وعلم اللاهوت وفتاوى التكفير. كل ما له طابع إملائي، هو دكتاتورية، مطوَّبة بالتصديق والاقتداء.
لقد وضع الصليبي أمام الباحثين، مهمة استكمال البدء التاريخي الجديد، من خلال ما حفلت به «مؤخرة التاريخ»، من رواسخ لم يجرؤ عليها إلا قلة، نالت عقابها نبذاً وتكفيراً واتهاماً.
مع حركة التجديد المطلوبة، يصير التجديد توليداً لتاريخين: تاريخ العقل وتاريخ نقد العقل الديني برمّته. فالسائد عاقر، لا ينجب حديثاً ولا يقدم أمراً حقيقياً، ولو بنسبة ما... السائد نسخ دائم. السائد عاقر. وتكرار لا يضيف. بقاؤه، دلالة على تمييز التراكم الكمي، لعشوائية إيمانية، متصلة بالتصديق لقصص وأحداث وأفكار، مرجعيتها في سلطة النص فقط.
التجديد، أوله كتابة سفر الخروج من رهبة النصوص المتقادمة، والتعامل معها بحرية، بهدف الخروج من التبعية لوهم صار مقدساً بقوة التقليد، وبقوة المنع كذلك. ولم يحصل ذلك، إلا عندما قيَّدت السلطات المتعاقبة، النص الديني في حسابها، وراحت تصرف منه، وفق غاياتها ومصالحها. السلطة التي لا دين مفترضاً لها، عندما تتديَّن، تلغي الدين وتمنعه عن فضائله وغاياته وإنسانيته.
مع الصليبي، خروج من التواصل اللاواعي مع التراث، وخروج من إيمان بصيغة القبول المبرم، الى إيمان آخر، يستمد شرعيته من العقل، وقد تحرر من الحتميات القاتلة والأصول على علاتها. إنه خروج على المشروعية النصية واليقينية الدائمة والتراثية المستعادة والتقليد المرجعي، الى تأليف جديد، يتأسس على ما يجترحه العقل.
مع الصليبي، نخرج من الأبدية والسرمدية والأزلية الى رحاب النسبية، حيث تكثر مفردات مثل: ربما، قد، لعله، من المفترض، ممكن...
بهذا، نعود الى العادي المقدس، الذي يتبدل ويتغيَّر، إذ، لا ثابت غير التبدل الدائم. وبهذا أيضاً نقترب من نيتشه، «لأن كل شيء بات بشرياً تقريباً».
حسب كمال الصليبي، أنه اسقط الوهم، وحرر الفكر من الثبوتية ومسلمات التفسير المقدس، ودعانا الى «مغامرة العقل» في ما هو بشري جداً، دينياً ولاهوتياً.
كم تبدو عودة الأمور الى نصابها مكلفة! كم يبدو التاريخ ثقيل الوطأة، عندما يتحدَّر من السماء فقط. وعليه لا بد من البحث عن سن الرشد العربي... فابن رشد واحد، لا يكفي أبداً.
وابن الصليبي يهدينا المفاتيح، كي تبقى أبواب التراث مشرعة وأبواب الديانات مفتوحة، على الحفر بالكلمات في ما هو تاريخي، وليس «ما فوق الـتاريخ وما فوق الواقـــع وما فوق الوجود». (فان أيس)