السفير - الشعلـة المتقـدة
السبت 20-11-2010
الشعلـة المتقـدة
سليمان بختي
كمال الصليبي اليوم في ثمانينه أطال الله في عمره، ولم يزل الوقت بين يديه ولم تزل شعلة الرغبة في الكشف عن الأسرار وجلاء الغوامض متقدة. مـنذ تقاعده من التــدريس عام 1997 وهو يعمل في اتجاهات عدة: إشراف على اطروحات ورسـائل جامعية، متابعة نشر اعماله (نشر في العام الماضي كتابين ـديدين هما: «بيروت والزمن» و«عودة الى التوراة»، وأعاد طبع ثلاثة كتـب بالانكليزية في طبعة جديدة فريدة ومنقحة وهي: «سوريا في ظـل العهد الإسـلامي»، «تاريخية إسرائيل التوراتية» و«تاريخ الجزيرة العربية»، وله تحت الطبع «حكايـات بني إسـرائيل» وكتاب عن شخصية سياسية لبنانية مثيرة للجدل.
والى ذلك، استشارات ومقابلات اعلامية ومشاركة في ندوات ومؤتمرات، كان آخرها في الشهر الماضي حين قدم في بيروت مساهمة مميزة عن «تراجع الدور المسيحي في الشرق». ولم يزل في الجعبة الكثير من المشاريع والأحلام. وجد في الفترة الأخيرة إثباتاً جديداً على صحة أطروحاته ونظرياته في شأن جغرافية التوراة. وهذا الإثبات جاءه هذه المرة مصادفة، عن طريق الفلك. وبرهنت بالتجربة التي تابعها كمال الصليبي عبر الهاتف والانترنت بشغف العالم، ان اورشليم التوراتية من المحال ان تكون فلكياً هي القدس الفلسطينية، بل هي أورشليم عسير.
ابتسم الصليبي راضياً في سره والعلن، عن هذه النتائج ومردداً بيت طرفة «ويأتيك بالأخبار من لم تزود».
يعشق كمال الصليبي مكانين: بحمدون ورأس بيروت. يذكر بحمدون ومعالمها والعائلات والوجوه والأمكنة وأشجار العنب والتين وأنواعه، ويلمح القطار بدخانه الأبيض يعبر من فوهة الجبل الى مستقره حنيناً وسلاماً. أما رأس بيروت فهي لديه رئة لبنان ورئة العالم العربي. يطل من شرفة منزله على بحرها ويعرف عدد الاشجار المحيطة ببيته.
يذكــر جامع الداعوق والمدائح النبوية التي رددها غير مرة مع شيخ الجامع. ويسمع صوت الموسيقــى تنبعث من غرف بيته القديم المواجه لمخفر حبيش. يذكر والده سليمان الصـليبي الطبيب، الذي تخرج في الجــامعة الأميركية عــام 1905 ثم عمل في الجيش المصري في السودان وهو يكن لمصر والسـودان وداً عميقاً، وهو يتذكر والده الذي اتى له بمعلم خاص ليعطيه دروســاً في القرآن والحديث.
وهو الى اليوم كلما أراد ان يكتب بالعربية قرأ صفحات من الحديث النبوي وقصائد للمتنبي و«مروج الذهب».
درّب كمال الصليبي نفسه وذهنه تدريبا داخلياً وروحياً طويلاً على التجرد الى حد ان الأمر ازدوج لديه ليصبح التاريخ نفسه ليس إلا التجرد. قال لي غير مرة ان كتابة التاريخ صناعة، والصناعة اتقان والاتقان مراس، والمراس صعب».
لا يزال تاريخ لبــنان والمنطقة موضـوعاً أثــيراً لديه يقلّب النظر فيه دائما
ويطيل الانعام، وهو يــروي انه عندما ذهـب الى البطريرك المعـوشي ليستأذنه في نشــر كتابه عن المؤرخين الموارنــة، قال له البطريرك: «اكتب ما شئت واطبع ما شئت.
اريد ان تعرف كيف أنا افهم تاريخ الموارنة؟ نحن شعب مخه يابس مثل صخور هذا الجبل، وما تاريخنا إلا قرون من معــاندة الدهر». يضحــك كمال الصليبي ويعرف مبلغ ما تعرض إليه من هجوم وافتراء كلما همّ بالتصدي لموضوع ما في هذا التاريخ مخالفاً قانون الإجماع والمسلمات.
وغالباً يستعيد كلام صديقه الصحافي الراحل ميشال أبو جودة: «الذي يعرف لا يحكي، والذي يحكي لا يعرف». او يستذكر ما كتبه في «طائر على سنديانة»: «طائر حكيم حط على سنديانة كلما رأى اكثر تكلم أقل، وكلما تكلم أقل سمع أكثر، لماذا لا نكون جميعاً مثل هذا الطائر الحكيم المسن».
يردد كمال الصليبي قوله ان «المسيحيين جزء من النسيج العربي ولن يصيبهم إلا ما يصنعونه بأنفسهم. ودورهم كان دائماً في التربية والتعليم والتنوير» (...)، وإن «إسرائيل دكان عنصري صغير سيقفل عاجلاً أم آجلاً».
اذكر حين كنا في حومة العمل لإعادة طبع كتابه «تاريخية إسرائيل التوراتية» ان نوع الحرف لم يعجبه وقال جازماً انه حرف مكسور. فقلت: «لا يبدو ذلك، ولكن كيف عرفت». عندها استل من جاروره المنظار المكبّر لزيادة التأكيد. فالدقة عنده لزوم كل عمل، ومعيار كل بحث، ومنطلق كل دراسة.
يردد كمال الصليبي في مجلسه ان للعقل ألف عين وللقلب عيناً واحدة». وهو كذلك في أبحاثه ودراساته. إلا انه في الحياة، كله عقل وكله قلب.