السفير - الحـزب الشيـوعـي وخصـائـص التـأسيـس
السبت 13-11-2010
الحـزب الشيـوعـي وخصـائـص التـأسيـس
شوكت اشتي
الاحتفال بذكرى تأسيس الحزب الشيوعي اللبناني يبدو تأكيداً على جدية الحزب و«منعته» رغم كل المنعطفات والظلمات التي عاشها من جهة، وتعبيراً عن اصالة التجربة الحزبية وتجذرها في لبنان من جهة أخرى.
ورغم أن العمر الزمني ليس المعيار الوحيد لقياس فاعلية التجربة وتقويمها، غير أن أهمية العمر المديد بالنسبة لأي حزب تكمن في مقدرته على التقاط التحولات المجتمعية والسياسية... ومساهمته في إحداث التغير المنشود، سواء في أطره أو في بيئته الاجتماعية، الأمر الذي يجعل الفكرة التي انطلق منها متجذرة وعميقة، والدعوة التي نادى بها حية ومواكبة للعصر وروحه، والتنظيم الذي يجمع الاعضاء والمناصرين جسداً للتفاعل بين الحزب ومحيطه وصولاً إلى خدمة الوطن وناسه. في إطار هذا الإطار العام، فإنه من المفيد، بعد ست وثمانين سنة على تأسيس الحزب الشيوعي في لبنان والإشارة إلى نقطتين مترابطتين: الأولى تتعلق بلحظة التأسيس والخلية الأولى، والثانية تتلخص في طبيعة المؤسسين بحد ذاتهم. وإذا كانت النقطة الثانية واضحة عند الشــيوعيين، غير ان النقطة الأولى قد تكون مثيرة للنقاش والجدل. وفي الحالتين فإن للنقطتين دلالات مهمة سواء بالنسبة للشيوعي أو للظاهرة الحزبية في لبنان.
خلية بكفيا
في النقطة الأولى: يُقدم فؤاد الشمالي في «مذكراته» التي نشر جزءا منها في ثلاثينيات القرن الماضي في جريدة «العاصفة» تحت عنوان: «كيف تنظمت الحركات الشيوعية في هذه البلاد؟»، وقام محمد كامل الخطيب بنشرها عام 2000 (مع كتابات أخرى للشمالي) في كُتيب بعنوان «كتابات مجهولة» نظرة مغايرة للرواية الرسمية التي يعتمدها الحزب الشيوعي لتأسيسه.
جوهر الافتراق بين الروايتين يتمثل في ان الرواية الرسمية تُغيب، مبدئيا، اجتماع بكفيا وتُقدم عليه اجتماع «الحدث» كمنطلق لقيام الحزب. ولهذا الاختلاف دلالات عميقة.
بشير فؤاد الشمالي (1894 ـ 1939) الذي هاجر إلى مصر وانضم إلى الحزب الشيوعي المصري، وانتخب مساعداً لسكرتير الحزب العام، الى ان اللجنة المركزية كلفته العودة إلى بلاده وتأسيس حزب شيوعي فيه. وهكذا وصل عام 1923 إلى لبنان واستقر في بلدة بكفيا، حيث عمل في إحدى معامل التبغ وساهم في تأسيس «النقابة العامة لعمال الدخان في لبنان» ومنها عمل على تأسيس الحزب الشيوعي في لبنان.
الجديد الذي يؤشر إليه الشمالي هو ان اجتماع بكفيا لعمال التبغ كان سابقاً على اجتماع بلدة الحدث. ومن الاجتماع الأول انطلق الحزب بداية. ويوضح الشمالي ان اجتماع الحدث حضره جوزيف بيرجيه عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفلسطيني الذي رفض الاجتماع بعمال بكفيا، رغم إصرار الشمالي وإعلامه بالتفاصيل. كما رفض جوزيف تأجيل موعد اجتماع الحدث الذي حضره حوالي عشرين شخصاً من الشبان المثقفين (محام، مهندس، موظف، صحافي...). وبالتالي لم يكن بينهم أي عامل إلا فؤاد الشمالي وعامل من فلسطين كان برفقة بيرجيه.
أهمية ما أشار إليه الشمالي ان اجتماع الحدث اتسم بطابعه «الانتهازي»، أو كما وصفه بأنه اجتماع «الثائرين الزائفين» الذين كان همهم الأول والأخير الاستفادة من امكانات موسكو المادية ـ المالية. من هنا فإن نواة الحزب في بكفيا رفضت ما جرى وانسحب سبعة من عضويتها احتجاجاً على تصرف جوزيف بيرجيه.
اما «الثائرون الحمر» كما يصفهم الشمالي، الذين اجتمعوا في الحدث، فلم يلبوا الدعوة لأي اجتماع آخر. لأن مطالبهم المالية لم تكن في وارد التنفيذ والإقرار. لذلك بقي في اللجنة التأسيسية ثلاثة من لجنة بكفيا ويوسف يزبك من لجنة الحدث وفؤاد الشمالي الشيوعي الأول في لبنان والمناضل النقابي المميز والقائد السياسي الذي أسس الحزب وكان ركيزة التأسيس الأساسية. غير ان حزبه ظلمه لاحقاً ظلماً شديداً وحاولت بعض القيادات في حينه تشويه سمعته والتقليل من دوره ومستوى حضوره وفاعليته.
من هنا تُقدم لنا تجربة الشمالي في مسار عملية التأسيس نموذجاً «سلبيا» لم يزل يتكرر بأشكال مختلفة في التجربة الحزبية اللبنانية. جوهرها قبول الآخر وإدارة الخلاف داخل أطر الحزب من جهة، ومصير المناضلين الذين يهبون كل شيء «للفكرة» ويصبحون عرضة للتشرد والمرض والحاجة من جهة أخرى. انه تحد لم ترتقِ الأحزاب في لبنان إلى معالجته وتقديم تجارب ملموسة يمكن الاقتداء بها.
الطابع الكادح
النقطة الثانية تتمثل في السمة الطبقية ـ العمالية التي رافقت قيام الحزب. لقد كانت نشأة الحزب الشيوعي مغايرة، إلى حد بعيد، لنشأة غيره من الاحزاب التغييرية في لبنان. ففي حين تأسست الأحزاب الأخرى (السوري القومي الاجتماعي، البعث العربي الاشتراكي، القوميون العرب، التشكيلات الناصرية) في إطار الجامعات والطلاب وأوساط المثقفين... ومن هذه البيئات انتقلت إلى أبناء الطبقات الشعبية والكادحة. فإن الشيوعي كان يغلب على منبته الطابع العمالي ـ الشعبي بامتياز.
وعليه استقطبت الفئة العمالية الممثلة في حينه عمال التبغ المثقفين وجذبتهم إلى قضيتها. من هنا تبدو رواية الشمالي عن التأسيس أكثر دقة ووضوحاً وانتماء لقضايا الفئات الشعبية.
ان الخصيصة الطبقية تقول بها الرواية الرسمية للحزب ويؤكدها فؤاد الشمالي بدقة أكثر. ويبدو أن الحزب بقي عبر تاريخه الطويل يحاول ان يؤكد هذه السمة ويعطي لوجوده بعداً طبقياً وجذراً شعبيا ومنبتاً كادحاً... الأمر الذي جعل الحزب الشيوعي من هذه الزاوية بالتحديد حزبا مميزا بين الاحزاب اللبنانية من جهة، وحزبا مخيفا ومرعبا بالنسبة للسلطات الرسمية في لبنان من جهة أخرى. فإلى أي مدى بقي الحزب أميناً لهذه الخصيصة؟.
ان «الحزب الأحمر» الذي أخاف القوى التقليدية ساهم، مع غيره، في تحقيق الكثير من المكاسب المطلبية والانجازات النقابية. غير انه لم يستطع أن يؤسس لحالة مغايرة مجتمعياً. فالانتماء إلى الفئات الكادحة وحمل قضاياها ذبُلت كثيراً. وبالتالي فإن بعض النشاطات التي يُطلقها الحزب عبر شبابه بين الفترة والفترة تبدو عامة وغير مؤثرة. لذلك غدت هذه القضايا وتلك الخصيصة أقرب لتاريخ نضالي منها لواقع سياسي. ان تبني قضايا الناس وهمومها الحياتية لا يُلغي او يتناقض مع القضايا المصيرية التي تهدد الوطن ووجوده. بل قد تكون مدخلا لشد أواصر البلد ولملمة شظاياه، الأمر الذي يخفف من الاصطفافات الطائفية والمذهبية. فهل يستعيد الحزب الشيوعي هويته الاجتماعية ليبقى لفكرته المعنى الشعبي والعمق العمالي؟
ان اعادة التذكير ببعض المنطلقات الأساسية التي رافقت التأسيس ووسمت الحزب تهدف إلى اعطاء مضمون لمعنى اليسار الذي يصر الحزب على تصدر مقاعده من جهة، وإلى اعطاء معنى لوجوده الشعبي ـ الطبقي من جهة أخرى. فهل يستطيع الحزب ان يلتقط نبض الشارع وحمل قضايا الناس الحياتية والمعيشية؟
إقرأ للكاتب نفسه
• عبد الناصر قضية أخرى 21/10/2010