الزعامة السياسية أو النفوذ الاجتماعي وأسسـه - ملف دكتور بزري
الزعامة السياسية أو النفوذ الاجتماعي
وأسسـه
إن الانتماء الاجتماعي والنُّفوذ السياسي يتحدَّدان إلى حدٍّ كبير بتضافر عناصر عديدة، تختلف أهمية كل عنصر منهما حسب ظروف المجتمع وطبيعته ومكوناته التاريخية. ويمكن حصرها بصورة عامة بما يلي:
1 ـ الدور الذي يقوم به ويلعبه الفـرد في المجتمع الذي يعيش فيه، ويسبق ذلك أو يتبعه أو يرافقـه الانتماء ضمن العائلة: تكوينهـا، نفوذها، تاريخها، وضعها الاقتصادي والاجتماعي، إلخ.
2 ـ شخصية الفرد الذاتية ونمط المعيشـة وسلوكه السائد في المجتمع من حيث السكن، مكان الإقامة، الشكل أو المظهر الخارجي، إلخ…
3 ـ المستوى العلمي والسلوك النفسي ـ الاجتماعي والأخلاقي.
4 ـ الوعي الجمعي (La conscience Collective) ومستواه في المجتمع من حيث التعبير عن الموروث التُّراثي من تقاليد وعادات وعلاقات اجتماعية ومعتقدات دينية وغيرها…
وإذا أردنا أن ندخل بشىء من التحديد والتوضيح، فإننا نقول باختصار شديد:
1 ـ إن الدور العام الذي يلعبه الإنسان في المجتمع من حيث المركز الاجتماعي أو "الموقع" الذي يحتله الفرد أو الزعيم، مثلاً، أو مَن هو مرشَّح للزعامة، أو للعمل السياسـي على أقل تقدير، هذا المركز الاجتماعي الذي يقوم به في الحياة العامة في محيطه الاجتماعي، يترك أثراً بالغاً، أساسياً وهاماً في أذهان الناس وتصوراتهم الفكرية. فالوظائف المهنية أو الاجتماعية المتنوِّعة التي يقوم بها ويؤديها الفرد في المجتمع، هي التي تُعطيه في أغلب الأحوال، إذا لم نقل في كل الأحوال، مركزاً معيَّناً، خاصاً ومميَّزاً في المجتمع وفي المحيط الذي يعيش فيه: وجاهة وهيبة يغلِّفهما ويحيط بهما كثيرٌ من التقدير والاحترام.
ففي مجتمعاتنا ذات التقاليد الثقافية والمعتقدات والأعراف الموروثة العريقة، إن مَن يقوم ببعض النشاطات التي لها طابع عام أو ممارسة بعض المهن الحرة العامة: مثلاً مهنة الطب، تكون مجالاً للنُّفوذ والوجاهة المحلية تلقائياً. وهذا النفوذ والوجاهة هما اللذان يُكوِّنان عاملاً هاماً في تحديد نوع المركز الاجتماعي والسياسي أو نوعية الزعامة السياسية وطبيعتها.
2 ـ إن الموقع الاقتصادي العام: مالي، تجاري، صناعي، مِلكية عقارية أو زراعية، هذا الموقع للفرد أو للعائلة بشكل عام، إنما هو بمثابة عامل هام وأساسي في تحديد النُّفوذ الاجتماعي لهذا الفرد أو العائلة. إن هذا النُّفوذ الاجتماعي يصعب في أحيان تحديده بدقة، وذلك بالاعتماد فقط على أسس عقلية ثابتة. فقد تتنوَّع وتختلف أحياناً من مجتمع إلى مجتمع آخر، ومن مدينة إلى أخرى، ومن الريف إلى المدينة والعكس صحيح أيضاً. ذلك أن النُّفوذ الاجتماعي ينتج عن تأثير عوامل وظروف كثيرة، منها الموضوعي ومنها الذاتي منها التاريخي ومنها الأنتروبولوجي، وجميعها متضافرة يصعب أحياناً عزلها بعضها عن البعض الآخر.
ومن هذه العوامل على سبيل المثال فقط لا الحصر: التقاليد والعادات والأعراف، والسلوك الثقافي العام والعوامل الذاتية الشخصية للإنسان أو للوجيه وصاحب النُّفوذ، فضلاً عن الأهمية الاقتصادية المحلية لهذه أو تلك من النشاطات العامة، إلخ.. إلخ.. وهذا ما نعبِّر عنه بـ "العوامل الموضوعية والعوامل الذاتية والعوامل التاريخية" لكل حالة من الحالات أو لكل ظاهرة من الظواهر ولمجموعها بشكل عام.
وإذا كان لنا أن نبديَ ملاحظة سريعة على الهامش، فإننا نقول بأن ما كان يُسمى في مجتمعنا المحلي ويُطلق عليه تعبير "العائلات النافذة سياسياً"، إنما هي "عائلات" أتى نفوذها ووجاهتها المحلية، وبالتالي دورها السياسي في مرحلـة من المراحل، ولا سيما في عهد السلطنة العثمانية والانتداب الفرنسي، من مِلكياتها الزراعية والعقاريـة وبالتالي من مواقعها الوظيفية في العهدَيْن المتتاليَيْن ونشاطاتها التجارية الواسعة وبخاصة في مرحلة النُّفوذ الفرنسي.
3 ـ إن الموقع الاقتصادي والمالي تحديداً لا يكفي وحده لتفسير هذا النُّفوذ العام الذي تتمتَّع به بعض العناصر الاجتماعية في عديد من المجتمعات، وذلك بالنظر إلى الدور الاجتماعي الذي يُعترف لهم به.
إن الانتماء العائلي: من حيث الاسم والمولد والنشأة، والتقاليد والأعراف والتراث التاريخي والموروث العائلي، كل ذلك يمنح أحياناً، في ظروف تاريخية واجتماعية معيَّنة، وبفعل عوامل داخلية وخارجية مساعدة، مكانةً ووجاهةً ومركزاً اجتماعياً خاصاً ومتقدِّماً في المجتمع، سواءٌ للفرد أو للعائلة التي ينتمي إليها، مما يستدعي ويُسند إليهم لِعب دور "القدوة أو القيادة أو المثال" المحتذى، فيـؤدي ذلك إلى أن يؤثـر في طريقـة معيشتهم وسلوكهم الخاص وبالتالي سلـوك مجموع الناس تجاههم. وتكون النتيجة في غالب الأحيان، بصورة واعية أو غير واعية، إحياء في الذاكرة الجمعية وفي الوعي الجمعي، تاريخ حِقب زمنيَّة كانت هذه العائلة أو تلك، تلعب دوراً ما، دينياً أو اجتماعياً أو سياسياً في الحياة العامة، خاصاً بها. هذا العامل الاجتماعي والنفسي والتاريخي، لا يمكن إهماله أو عدم أخذه في الحسبان في كثير من مجتمعاتنا التقليدية الحالية.
4 ـ إن الوعي الجَمْعي La conscience Collective ووجدان الجماعة وسلوكها النفسي، إنما هو نتيجة لواقع اجتماعي معيَّن وليس سبباً: ذلك أن الدور الاجتماعي أو السياسي الذي يحتله الفرد في المجتمع، والموقع الاقتصادي الذي ينتمي إليه، ونمط المعيشة الذي يسير عليه ويسلكه أو مستوى العائلة التي ينتسب إليها، إن ذلك كله يُترجم عملياً بصورة عامة ليس فقط بالانتماء إلى فئة اجتماعية معينة، وإنما كذلك بنمط معيَّن من التفكير وباستجابات نفسية أو ردات فعل معيَّنة تجاه بعض المشاكل، تعبِّر عن مفاهيم اجتماعية غامضـة، كامنة، فـي خلقيـة الوجـدان الشعبي الجماعـي. فلكل مجتمع، صغيـراً كان أم كبيراً، بل ولكل فئة اجتماعية في مجتمعاتنا التقليدية الضيِّقة: تقاليدها وعاداتها وأعرافها ومفاهيمها وثقافتها وسلوكها وتراثها وموروثها، وبالتالي "خرافاتها" و"أساطيرها"، بالمعنى الأنتروبولوجي للكلمة. إن هذه المواقف الاجتماعية وردات الفعل النَّفسية والوجدانية، تُلَخَّصُ على نحو ما، في وعي الناس الجَمعي ووجدانهم الخُلقي وشعورهم الغامض إلى حد ما….