نقطة على الحرف / في المركز الثقافيّ في صيدا ( 1)
نقطة على الحرف / في المركز الثقافيّ في صيدا ( )
جرى افتتاح مقرّ جديد للمركز الثقافيّ للبحوث والتوثيق في صيدا . يقع المقر الجديد في قلب المدينة وتبلغ مساحته الإجماليّة 350متراً مربعاً وهو يضمّ قاعات فسيحة تتسع للمحاضرات كما يضمّ غرفاً مختلفة تضمّ تجهيزات تقنيّة عصريّة من شأنها رصد الأحداث الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة للمدينة وللمحافظة (الجنوب ) وللبنان كلّه .
والمركز الثقافيّ في صيدا مركز ثقافيّ بكلّ بالمعنى الكلمة. مركز ثقافيّ بالمعنى العصريّ. الثقافة فيه ليست فعلاً منعزلاً عن الجمهور وعن الحياة العامة ، بل فعل مواكب لهذه الحياة منفعل بها متفاعل معها مؤثّر فيها . زمن الحرب الأهليّة ، زمن اجتياح الإسرائيليين للجنوب ، تحوّل المركز الثقافيّ إلى مركز للمقاومة وكانت منشورات المركز تتطاير في إحياء المدينة وتتسرّب إلى بيوتها مؤكدة هويّة الثقافة التي يحتضنها .
وفي زمن ما بعد الحرب يتحوّل المركز الثقافيّ في صيدا إلى بؤرة أسئلة من نوع : أيّ هويّة ؟... أيّ ثقافة للبنان المستقبل ؟... أيّ تربية وتعليم ؟... أيّ نظام للحكم في لبنان المستقبل ؟... وفي الوقت الراهن يحاول المركز أن تكون لـه كلمته المسموعة لا على صعيد صيدا والجنوب وحدهما ، بل على صعيد المصير اللبنانيّ ككل ، فيعمل ويدعو من أجل قيام حركة سياسيّة اجتماعيّة يقترح أن يكون اسمها (ولنلاحظ التسمية ) هيئة العمل الديموقراطيّ من أجل التغيير والتحرير .
رئيس هذا المركز الدكتور مصطفى دندشلي شخصيّة ديناميّة لا تتوقّف عن العمل لا في الليل ولا في النهار .هو في المركز كما هو في الجامعة ، كما هو في المكتبة ، المتتبع الموقف الملاحظ المناقش المستفسر والمفكر . عرفت مصطفى دندشلي عندما كنت طالباً في كلية المقاصد الإسلاميّة في صيدا وكنت في الخامسة عشرة من عمري . كنّا طلاباً في المدرسة نفسها ، وكنّا مريدين في المدرسة الفكريّة الفتيّة في ذاك الوقت ، تمتلئ قلوبنا بالإيمان والحماسة وكنّا نتصوّر أنّه لن تمضي بضع سنوات إلاّ ويكون حلم الأمة العربيّة بالوحدة قد تحقّق ، ومعه كلّ الأحلام الأخرى الشقيقة .
لم يكن مصطفى في تلك الفترة معنياً عناية خاصة بالثقافة أو بالأدب . كنّا جميعاً معنيين بهدف واحد هو الدعوة لفكرنا القوميّ ومناهضة أعدائنا العقائديّين الآخرين . ولم يكن في مصطفى الذي كان في غمار العمل التنظيميّ ما يشير إلى أنّه سيعود ويقصد باريس ليقيم فيها عشر سنوات طالباً في معهد العلوم الاجتماعيّة وحائزاً بعد ذلك على إجازة الدكتوراه . كان طالباً كأيّ طالب آخر، ولكن هذا الطالب تحوّل بعد ذلك إلى باحث اجتماعيّ مرموق ( له كتاب مهمّ عن تاريخ حزب البعث) وإلى أستاذ لعلم الاجتماع في الجامعة اللبنانيّة ، كما تحوّل بصورة خاصة إلى أحد المحرّكين البارزين للحياة الثقافيّة في صيدا والجنوب عَبْر رئاسته للمركز الثقافيّ في صيدا .
ومع الوقت تحولت أفكار هذا العروبيّ القديم إلى أفكار أكثر نضجاً وصفاءً واقتراباً من الواقع . صارت الفكرة عنده قبل أن تتخلق تخضع لدراسة وتدقيق ومعاودة نظر شأن أيّ مثقّف حريص على محددات الفكرة وشروط استوائها في أحسن تقويم . فهو يناقشك في أدق الأفكار وأخطرها وأكثرها حرارة بصورة باردة وكأنّه يعمل في مختبر لعلم الأحياء . ولكن أكثر تحولاته كانت نحو اللبنانيّة . فلبنان عنده هو المنطق ولا عروبة حقيقيّة من دون هذه اللبنانية وعنده ـ وعندنا كلّنا الآن ـ أن لا تناقض ولا تعارض بين الولاء لهذه والولاء لتلك . وهذا في الواقع إنجاز حقّقه الفكر القوميّ العربيّ بعد طول إهمال للمحليّة والواقع المحليّ . فلطالما تجاهلنا المحليّة والواقع المحليّ وكأنّ التعرف إليهما خطيئة مميتة تؤدّي إلى الاعتراف بهما أو التأسيس عليهما . أما الآن فقد تبيّن لنا أن لا عروبة بدون هذه المحليّة وأن لا محليّة كذلك منغلقة على نفسها في شرنقة قريرة .
يتمثل العمل الثقافيّ في لبنان في الوقت الراهن في عدد من المؤسّسات لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة أو أصابع اليدين الاثنتين على أحسن تقدير ، وهي مؤسّسات خاصة لا تخضع طبعاً للقطاع العام ولا تتلقى أيّ دعم منه مهما كانت صورة هذا الدعم . من هذه المؤسّسات المركز الثقافيّ للبحوث والتوثيق في صيدا . والمركز لم يكن ليصبح هذه الخلية النابضة الملأى بالحيويّة لو لم يكن يهتدي في عمله بجملة مبادئ ثقافيّة أساسيّة منها أن تأصل الثقافة هو أيضاً في انغماسها في واقع الحياة وتفاعلها معه وتحاورها مع متناقضاته . ومنها أن الثقافة لا يمكن أن تكون أصلية إذا اقتصر التعاطي بها على قلة من النُخبة الفكريّة . ومنها أن الثقافة وجه من وجوه العمل القوميّ فلا سبيل إلى التجزئة أو التفرقة بينهما . ومنها أخيراً الانطلاق من مشاكل البيئة المحليّة بالذات دون أن يفقد المرء صفاء رؤيته وشمولها . وهذا ما حققه المركز الثقافيّ من خلال عمله في صيدا والجنوب .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ1) أنظر ، جهاد فاضل ، مجلة " الحوادث "، 15 كانون الثاني 1993 ، العدد 1889 .