مقتطفات من اللقاء الثقافيّ الثاني - مداخلة الدكتور مصطفى دندشلي
مداخلة ( )
الدكتور مصطفى دندشلي
... مرة أخرى ، يشرفني أن أتوجّه أيضاً بكلمة شكر ومحبة وتقدير لرئيس وأعضاء مجلس قضاء زحلة الثقافيّّ ، الذين فسحوا لنا ، نحن في حركة الحوار الديمقراطيّ ، مجال الالتقاء بأخوة وأصدقاء ، أدباء وشعراء ومفكرين ، وأن نتحاور وأياهم وأن نتعارف . ومعرفة فكر الآخر هي بداية شق الطريق وتوضيح رؤى الحاضر والمستقبل ...
الثقافة الملتزمة ، والمثقّف الملتزم : إذا انطلقنا من هذين المفهومين ، نرى بأن الواحد منّا سيجد نفسه تلقائياً ملتقياً مع المثقّف الآخر الذي يستوفي شروط الثقافة ذاتها ... أقول ذلك ، وأنا منذ فترة طويلة لم ألتق بصديقي الدكتور أنيس مسلّم ، عندما وجدت أنّ مجمل آرائه في الثقافة وفي الحوار هي الآراء بعينها التي أنطلق منها وأتبنّاها ... وكذلك ما ورد على لسان الصديق الدكتور جوزيف خزاقة في كلمة الافتتاح والتقديم، في ما يتعلق بحركة الحوار الديمقراطيّ والأهداف والخطوات التي مرّت بها ... فليس عندي في الواقع من جديد أو شيء آخـر أضيفه في هذا الموضوع...
لذلك سأحاول أن أتجاوز النقاط المتشابهة التي قيلت ، منعاً للتكرار ، وسأسعى إلى أن ألقي ضوءاً على حركة الحوار الديمقراطيّ من جانب لم يتطرق إليه الأخوة ، وهو المنهجيّة في العمل وبعض المفاهيم الأساسيّة للحركة ...
أولاً وقبل أيّ شيء آخر ، إذا كان لي أن أعرّف حركة الحوار الديمقراطيّ ، فأقول بأنّها حركة، ثقافيّة ، فكريّة ، وطنيّة ـ بمعنى شموليّة للبنان ـ : نحن حركة حوار ، وحوار ديمقراطيّ. ونزعم بأننا مجموعة من المثقّفين تَطْمحُ إلى أن تُعطيَ للثقافة " نكهة " جديدة ـ وهنا أودّ دائماً أن أشدّد على كلمة نكهة جديدة ـ لوناً جديداً ، مضموناً جديداً ، روحيّة جديدة . وهذا ، في ما أرى ، ليس بالشيء اليسير ، أو بالأمر سهل التحقيق . نحن نردّد دائماً ، منذ البدايات الأولى وحتى الآن وسنستمر في القول بأنّنا نريد أن نكون حركة مميّزة ، مبدعة ، خلاقة وذلك على صعيد الفكر والثقافة . وهذا ، كما تروْن " شيء خطير " ـ وأنا أشعر معكم بخطورته ـ .. وأنا أرهب ذلك عندما أنطق به .. إني أشعر ، حقيقةًً وفي أعماقي ، بالمسؤوليّة الكبيرة من إطلاق هذه التعابير الكبيرة الضخمة ، التي سنحاول أن نعطيها مضموناً ومتحوىً واقعياً ، فعلياً ، على الأرض ومن خلال الممارسة ... مفاهيم طموحة ، صعبة، عندما نقول : حركةً مبدعةً ، حركة ثقافية خلاّقة ، أو ثقافة جديدة ، لها لون آخر ... هذا شيء صعب ، في الواقع ... إلاّ إذا كّنا من أولئك الذين يطلقون شعارات، دون أن نعير اهتماماً بمضمون هذه الشعارات ، أو بترجمة هذه الشعارات على الأرض...
في الحقيقة وواقع الأمر ، لماذا نحن نشدّد كثيراً ونشير دائماً إلى أنّ حركة الحوار ، هي حركة ديمقراطيّة ، تغييريّة ، فكريّة ، ثقافيّة ، حركة مميّزة ، حركة مبدعة وحركة خلاّقة ، في الفكر والثقافة ، والعقل والتنظيم ، لماذا نقول ذلك ونردّده ؟!... أليس فيه كثير من الادّعاء أو الغرور أو اللفظيّة البلاغيّة غير المستحبة ؟!...
هنا أردف بالقول لأوضّح ـ وكما نعلم جميعاً ـ أنّ هناك تجمّعات كثيرة وهيئات وتكتلات، تنشأ هنا وهناك وهنالك ، في مختلف مناطق لبنان ، معظمها ـ أكاد أقول جميعها ـ تحمل الأسماء نفسها تقريباً والشعارات ذاتها ، والأفكار هي عينها كذلك ، وجميعها تَدّعي " وصلاً بليلى " ـ أي بالثقافة وتتخذها شعاراً لها ـ والثقافة أحياناً تكون غريبة عنها ... وقد أحضرت معي ، ها هنا وهو أمامي ، ملفاً كاملاً عن هذه الجمعيات والهيئات وأنظمتها الأساسيّة وبياناتها التأسيسيّة ، وهي جميعها تحمل شعار الثقافة والديمقراطيّة والحوار ، إلى آخر ما هنالك من شعارات ...
ولكن ، ومن خلال دراستي لهذه الحركات ـ أقول ـ أو أبرز هذه الحركات ، وجدت أنّ جميعها لها غرضٌ سياسيّ أو أحياناً حزبيّ تقليديّ ، غير معلن أو معلن ... وهنا أسمح لنفسي بأن أقول أمامكم بأنني ، أنا شخصياً ، لست على الإطلاق ضدّ العمل السياسيّ أو العمل الحزبيّ أبداً ، أبداً : لا ديمقراطيّة حقيقيّة دون عمل حزبيّ حرّ ، ودون تعدّد حزبي أيضاً ... ولكن ، أنا ضدّ العمل السياسيّ التقليديّ ، الانتخابي أو غير الانتخابي ، وضد العمل الحزبيّ التقليديّ أيضاً ... وأنا أيضاً وأيضاً ضد رفع شعارات سياسيّة الآن ، عام 1994 ، هي ذاتها ، هي عينها ، في الأسلوب والمضمون ، كانت ترفع في السابق في لبنان ، في الخمسينات أو الستينات أو السبعينات ، وإن تغيّر اللون قليلاً أو كثيراً ، نحو اللون الباهت ، غير المناسب ...
للأسف أقول ، وأكرّر القول ، بأنّ معظم ، حتى لا أقول جميع هذه التجمعات والتكتلات التي تنشأ هنا وهناك وهنالك ، وترفع شعارات كانت ، من جانب أو آخر ، هي شعارات المرحلة في ذلك الحين ، أجدها الآن غير مناسبة أو تمويهيّة ، ولي مناقشات عديدة مع رافعيها ، ولا يمكن أن تنفذ إلى أعماق الشعب اللبنانيّ بمختلف فئاته الاجتماعيّة والمناطقيّة ، وذلك أولاً وقبل كلّ شيء : للتناقضات الظاهرة في صفوف من يرفعها ... لذلك أنا أسمّي هذه الحركات ، السياسيّة ـ الثقافيّة ، أو الحزبيّة ـ السياسيّة ، حركات تقليديّة ... من هنا عزوف الجمهور الواسع عنها ، وحتى الجمهور المثقّف ، وعدم صدقيّتها لدى الرأي العام في لبنان . ذلك أنّنا الآن ، وفي هذه المرحلة الانتقاليّة التي نمرّ بها ، نحن بحاجة إلى " حركات إبداع "، إلى حركات خلق جديد : على صعيد الفكر والثقافة والسياسة ، وعلى صعيد أيضاً وعلى وجه الخصوص العمل الحزبيّ ...
بل أكثر من ذلك ، هناك في كلّ منطقة وفي كلّ مجتمع محليّ أو بلدة من البلدات ، هناك تحسّسٌ ورغبةٌ لإيجاد شيء جديد ، على هذا الصعيد أو على صعيد السياسة أحياناً . فهناك محاولات كثيرة في هذا الاتجاه ، منها ما كان قد ولد ميتاً ، ولم يُعرف منها سوى البيان الوحيد الذي وزّع ، هنا وهناك ، أو نشرته بعض الصحف ... ولكن وفي الوقت نفسه هناك تجمعات لا تزال تستعمل هذه التعابير: ثقافة وحوار وديمقراطيّة ووحدة وطنيّة من منظور مختلف ، تقليديّ ، عام ...
فهذه الأفكار ، وهذه المفاهيم المتنوّعة حول الديمقراطيّة ، والحوار ، والحريّة ، والثقافة ، والوطنية والعيش المشترك والحوار الإسلاميّ المسيحيّ وغيرها أيضاً كثير ، هي في الواقع مفاهيم عامة ، وأفكار متداولة ، موجودة بكثرة على الساحة . وهي ليست ملكاً لأحد والجميع يقول بها ويُعلن انتسابه إليها ، من اليمين أو من اليسار أو ممّن لا من هذا ولا من ذاك ...
وحركتنا الثقافيّة الفكريّة هي أيضاً حركة حوار ، وديمقراطيّة ، وشموليّة ، ووطنيّة ـ لا طائفيّة ـ إلخ.. إلخ.. إلخ.. فبماذا ، إذن، تُميّز حركتنا عن باقي الحركات أو الهيئات الأخرى ؟!!... هذا سؤال وجيه وضروريّ ومناسب أن يُطرح ، بل يجب أن يُطرح في هذا السياق ...
هنا لي ملاحظة بسيطة جداً ومهمّة جداً في آن معاً ، وهي أنّ ما يميّز حركتنا الحواريّة الثقافيّة الديمقراطيّة ، عن هذه التيّارات والهيئات جميعها ، أنّ هذه الحركات ـ تحت شعار الحوار والثقافة ـ هي في الواقع تحمل أولاً مضموناً سياسياً ، وهدفاً سياسياً ، وتتلقّى دعماً سياسياً خفيّاً ، أو توجهاً سياسياً بارزاً ، وإن كان غير معلن صراحة، وذلك ربما لأنّ السياسة الآن ، وبالتالي الحزبيّة، تمرّ بوضع صعب ، في مرحلة جَزْرٍ ونكسةٍ وهزيمةٍ . ونتيجة لذلك فإنّ بضاعتها غير رائجة ، والجمهور الواسع من المواطنين لا يتقبّل بارتياح الآن فكرة الحزبيّة ، أو الحركة السياسيّة ، ربما يكون ذلك على خطأ أو على صواب ، أو ربما يعود للهزائم التي منيت بها فكرة الحزبيّة ، والأخطاء الكثيرة التي وقعت فيها ... إلخ ... لهذا ، وانطلاقاً من ذلك، فهناك قوى ترغب في العمل السياسيّ ، ولها طموح سياسيّ ، وإنّما نظراً للجوّ العام السائد لا تعلن ذلك مباشرة وبصورة صريحة وواضحة ، فتستخدم تعابير الثقافة والحوار والمؤتمرات الوطنية، كشعارات عامة ، لتحركها السياسيّ الضمنيّ...
وثانياً : هناك أيضاً قوى ماليّة ـ اقتصاديّة على الأرض ... وهي تريد كذلك أن تلعب دوراً سياسياً ، وهي تلعبه بالفعل ، ولكنها لا تعلن ذلك صراحة ، كما أنّها لا تعتمد على قاعدة سياسيّة منظّمة وفاعلة ، لذلك فعن طريق العمل الاجتماعيّ ـ الثقافيّ والمساعدات الاجتماعيّة والتربويّة والرياضيّة ، والخدماتيّة الفرديّة المتنوّعة ، تصل إلى إشاعة جوّ سياسيّ لها ، ومن ثمّ عن طريق أيضاً إنشاء التجمعات التي تُطلق على نفسها الصفات : الثقافيّة والحواريّة ، وفكرة الحوار والعمل الثقافيّ ، وشعار : كلّنا أخطأنا ، وتعالوا لنتحاور إلى آخر ما هنالك من هذه " البضاعة الرائجة " اليوم ... وهي شعارات ولافتات أصبحت الآن ـ كما قلت ـ منتشرة ومتداولة بكثرة ...
لهذا ، فهو على حقّ ذلك الذي كان يطرح عليّ تساؤلات مشكّكة ، أو مَن سيطرح عليّ مستقبلاً هذا النوع من التساؤلات : إنّ الأفكار التي قرأناها في وثيقة المنطلقات الفكريّة للحركة ، أو تلك التي سمعناها من مؤسّسي حركة الحوار الديمقراطيّ في لبنان ، إنّما هي أفكار عامة ، الجميع يقول ويؤمن بها ، وينتسب إليها ... فما يدرينا أن يكون أيضاً وراء هذه الحركة " شيئاً خفياً "، غير معلن... أو رغبة سياسيّة أو هدفاً سياسياً أو مصلحة ذاتيّة ، شخصيّة .. إلخ ؟!!... فكان دائماً جوابي أنّ هذا النوع من التساؤل مشروع ، وهو على حقّ ودليل يقظة أو حذر ، ودليل وعي أيضاً عند الرأي العام اللبنانيّ عموماً ، بمعنى أنّ هناك يقظة ، تظهر في طرح تساؤلات مشروعة حول أيّ تحرك كان ، اجتماعيّ ، ثقافيّ ، سياسيّ أو خلافه وفي محاولة استفسار ومعرفة المضمون أو الأهداف المضمرة والخفية ... فكان جوابي حول هذا الموضوع هو التالي : سؤال مشروع ، ومن يطرحه فهو على حقّ في طرحه .. ولكن ، أنا أقول : " التجربة أكبر برهان "، إما سيَلْعَنُ هذه الحركة ومؤسّسيها ، وإمّا أن يقول : لا !... هذه حركة ثقافيّة صادقة مع نفسها ومع الآخرين . وقد وَفَتْ ما وعدت به واجتهدت ، حتى من خلال هفواتها ...
ثالثاً : ثمّة تجمّعات وتكتلات يتلقّى ، على الأقل بعضها ، بصورة واضحة أو خفية ، دعماً مالياً أو سياسياً ، من قوى داخليّة أو خارجيّة أو كليهما معاً ...
رابعاً وأخيراً فإنّ أسلوب هذه التجمّعات وتعاطيها في العمل السياسيّ أو منهجيتها السياسيّة وفي الفكر " السياسيّ " ـ أو تكتيكاتها السياسيّة ـ إنّما هي في نهاية التحليل منهجيّة سياسيّة تقليديّة، تجميعيّة لقوى اجتماعيّة ـ سياسيّة ـ ثقافيّة ، هي أصلاً متنافرة ، هذا إذا لم نقل متناقضة ... من هنا مكامن الضعف والقصور والفشل ، منذ بداياتها الأولى ...
فإذا كان الأمر كذلك ، فإنّ مُجمل الأفكار والطروحات الثقافيّة والفكريّة والسياسيّة هي مفاهيم عامة ، منتشرة ومتداولة من قِبَل الجميع ، في الماضي أو في الحاضر ولربما في المستقبل أيضاً ... أو كما نقول في الفلسفة : " لا جديد تحت الشمس " : فما قيل منذ الإغريق حتى الآن ، وفي مختلف الميادين الفكريّة والفلسفيّة والسياسيّة ، إنّما هي أفكار ذاتها تقريباً وبمعنى من المعاني ، نردّدها بقوالب مختلفة ومعالجة متنوّعة ولكن مع إعطائها الخصائص الذاتيّة وطابع التجربة المجتمعيّة الخاصة ...
من هنا أقول بأنّ أهميّة حركة الحوار الديمقراطيّ في لبنان ليست فقط في أفكارها ومبادئها وأهدافها ، ولا في مفاهيمها الفكريّة والثقافيّة . إذا كان الأمر كذلك ، فبماذا إذن والحالة هذه تتميّز عن غيرها من التيّارات الثقافيّة الأخرى ؟!.. أو بعبارة أكثر وضوحاً ، بماذا نريدها ، نحن، أن تتميّز عن مثيلاتها الأخريات ؟!...
إن ما يميّز حركتنا الثقافيّة ـ الفكريّة ، وقبل أيّ شيء آخر هو :
أولاً ، في المنهجيّة التي تتبعها ، المنهجيّة في الفكر والممارسة والأسلوب في العمل الثقافيّ ـ أو هكذا ينبغي أن يكون ـ من الناحية النظريّة أو السلوك العمليّ ، وسوف آتي على تفصيل هذه النقطة في ما بعد ...
ثانياً ، بمقدار ما تُتَرْجم الحركة هذه الأفكار والمفاهيم في الممارسة والتطبيق : وعلى الأرض . وأن تُقْرن القول بالعمل ، الفكر بالممارسة ، والممارسة والعمل بالفكر والعقل والثقافة . أو بمعنى آخر أن تفعل أكثر بكثير ممّا " تحكى "، أو أن لا تقول إلاّ ما تقدر على تطبيقه وتنفيذه ... هنا التشديد على جانب الممارسة ، واعتماد منهجيّة في العمل تناسب إمكانات وطاقات الحركة ، وتناسب كذلك الواقع الاجتماعيّ ـ السياسيّ التي نعيش نحن فيه .
ثالثاً ، المصداقيّة مع الذات ومع الآخرين . أو كما نقول دائماً في ما بيننا : يجب أن نكون صادقين . لنكن أولاً صادقين : الصدق مع الذات ، قبل أن أكون صادقاً أو حتى أكون صادقاً مع الآخر ... هنا الأخلاقيّة لا يجوز أن تنفصل عن الثقافة أو عن السياسة ...
رابعاً ، شموليّة الحركة ، وطنياً ، لبنانياً ، دون أن يكون هناك أيّ تمييز من أيّ نوع كان، دينيّ أو مناطقيّ ... واستقلاليتها استقلالاً كلياً من الناحية الماديّة والسياسيّة والأدبيّة .. إلخ .. هذا رهان صعب ، وصعب جداً ، في هذا الوضع السيئ ، كما نقول ، في هذه الأزمة الاجتماعيّة ، الاقتصاديّة ، السياسيّة الخانقة ، في هذه الحالة من اليأس والإحباط ، أن تأتي حركة جديدة وتعلن طموحاً فكرياً ثقافياً ، وبالتالي وطنياً ، فيه شيء من التفاؤل ، وفيها ( أي الحركة ) شيء كثير من التشديد على الاستقلاليّة بمعناها الحقيقيّ والفعليّ للكلمة !!...
خامساً ، التشديد دائماً وأبداً على أن حركة الحوار الديمقراطيّ في لبنان هي في الحقيقة والواقع حركة ثقافيّة ـ فكريّة ، تسعى إلى أن تكون مبدعة و خلاّقة ، في القول والعمل . وأن تعطيَ للثقافة معناها الحقيقيّ ومضمونها الفعليّ : وهو معنى الالتزام ، الالتزام الفكريّ والاجتماعيّ ، الالتزام الوطنيّ والأخلاقيّ ... والتأكيد دائماً وأبداً أيضاً أنّ للثقافة دوراً وأنّ للمثقّف بالتالي دوراً أساسياً يجب أن يلعبه في هذا المعنى ... وإذا لم يُسمح له في السابق أن يلعبه ، لا قبل الحرب العبثيّة التي مررنا بها جميعاً ، ولا بعدها ... وإذا لم تستطع الثقافة والمثقّفون ـ قبل ذلك وأثناء ذلك وبعد ذلك ـ أن يلعبوا هذا الدور التاريخيّ ، والذين هم ـ أي المثقّفون ـ مؤهلون كي يلعبوا هذا الدور ، فهذا لا يعني إطلاقاً أنّ ليس هناك من دور حقيقيّ وتاريخيّ وأساسيّ للثقافة وللفكر وللمثقّف . نحن من الذين يقولون بقوة وبشدّة وبقناعة تامة ، ذاتيّة وموضوعيّة ، بأن للمثقّف دوراً ، وأنّ للثقافة أيضاً دوراً . فيجب على المثقّف أن يلعب هذا الدور بأمانة وبكليته وأن يتحمل المسؤوليّة التاريخيّة الناتجة عن ذلك ...
سادساً وأخيراً إنّ ما تطمح إليه حركة الحوار الديمقراطيّ في لبنان وترغب ـ في هذه المرحلة الانتقاليّة ـ هو القيام ، وبمشاركة جميع الطاقات الفكريّة والعلميّة والاختصاصات المتنوّعة، بمراجعة التجربة اللبنانيّة ، ودراسة التجارب الأخرى ، ونقد هذه التجربة الغنيّة ، بالمعنى العميق للكلمة ، من جوانبها الاجتماعيّة والوطنيّة والسياسيّة ، كلّ ذلك انطلاقاً من الكلمة والثقافة ، والعلم والعقل والتنظيم ، واعتماداً على الحوار المنفتح ، الحوار الديمقراطيّ الخلاق ...
وإذا كان لي ، بعد ، أن ألخّص مجمل الأفكار التي تطرقت إليها ـ وان كان ثمّة تكرار في بعض النقاط ، إنّما المقصود منه التشديد عليها لأهميتها من وجهة نظري ـ فأعود لأطرح السؤال : بماذا تتميّز حركة الحوار الديمقراطي ؟!... فكما قلت وبشكل مكثّف وسريع ، ينبغي على الحركة أن تتميّز ـ وإلاّ لا معنى لوجودها على الإطلاق ـ أن تتميّز :
* بالمنهجيّة في العمل والتفكير والسلوك : منهجيّة جديدة ، علميّة ، موضوعيّة ، تناسب طاقاتنا وإمكاناتنا البشريّة والفكريّة ، الماديّة والمعنويّة ،
* بالمصداقيّة في القول والعمل وترجمة هذه المبادئ والأهداف في الممارسة والسلوك: وهذه فكرة نشدّد عليها كثيراً ،
* بالاستقلاليّة الكليّة ، مادياً ومعنوياً ، وهذا جانب في الحركة غاية في الأهميّة والخطورة ... وإن كنّا سنواجه صعوبات جمّة في ذلك ، ولكن مصداقيتنا هي تلك الاستقلاليّة عينها ،
* بالسعي إلى أن نعطيَ للثقافة المعنى الخلاّق ، المعنى الإبداعيّ ، وأن تكون حركة الحوار حركة ثقافيّة فكريّة ملتزمة بقضايا المجتمع والإنسان ...
إنّ ما أريد أن أقوله في كلّ ذلك ، ومما تقدّم ، وحتى تكون حركتنا حركة إبداعيّة ، وضعنا لنا هدفاً صعب التحقيق ، ويحتاج إلى جهود فكريّة وتضافر إمكانيات بشريّة واختصاصات متنوّعة للإفاء بهذا الشرط وهو : مراجعة التجربة اللبنانيّة الغنيّة والمعقّدة ، مراجعة نقديّة منذ الاستقلال 1943 حتى الآن... ليس السعي فقط إلى مراجعة نقديّة لعوامل الحرب اللبنانيّة، الداخليّة والخارجيّة، ومن مختلف جوانبها ، وإنّما أيضاً وعلى الأخصّ للتجربة اللبنانيّة بمجملها . وهذه المرحلة الانتقاليّة هي المرحلة المناسبة والمؤاتية والضروريّة كي نتوقف ونعيد النظر بالعمق المطلوب ، بهذه التجربة اللبنانيّة ، السياسيّة ـ الحضاريّة الغنيّة ، وهذا التوقف وإعادة النظر ضرورة أيضاً وعلى وجه الخصوص لكلّ انطلاقة جديدة وجديّة لبناء المستقبل ...
لذلك وانطلاقاً من هذه التوجّهات المبدئيّة والفكريّة والمنهجيّة ، نحن في مواجهة ما أسميه "ورشة عمل ثقافيّة "، طويلة المدى ، وأمام طموح كبير وتحدّي تاريخيّ علينا الاستجابة له بكلّ قوة وعزم وشجاعة أدبيّة وفكريّة وعقليّة وعلميّة . وحتى نستطيع أن نحقّق هذا الطموح وهذه الأهداف المبدئيّة ، اعتمدنا منهجيّة معيّنة ، وهي التي تُبرز ـ وأقول ذلك بكثير من التواضع ـ خصائص أو الصفات المميّزة لحركة الحوار الديمقراطيّ في لبنان من الناحية التنظيميّة أو السلوكيّة الفكريّة ، تعتمد على فكرة أساسيّة قوامها :
* أنّ الحركة الثقافيّة ـ الفكريّة ، المبدعة ، الخلاّقة ، لا تنشأ بقرار ـ أياً كان هذا القرار ـ ، لا تنشأ بقرار ماليّ ـ اقتصاديّ ، مصلحي، أو بقرار سياسيّ فوقي ، تلبية لمصلحة شخصيّة ، سياسيّة أو غير سياسيّة ... إنّما الحركة ، أيّ حركة ، سياسيّة أو غير سياسيّة ، ثقافيّة أو غير ثقافيّة ، تولد وتنشأ وتنمو وتكبر ، من خلال الممارسة ، من خلال المعانات ، من خلال التعبير الصادق والحقيقيّ عن الواقع الاجتماعيّ والتاريخيّ للمجتمع ، والتفاعل معه والتأثّر به والتأثير فيه ...
* تكوين نواة ، بداية ، قليلة العدد ... والاهتمام قبل أيّ شيء آخر بالنوعيّة لا بكثرة العدد ... نواة منسجمة ، متوافقة غير متنافرة ... تنعقد الثقة والمصداقيّة في ما بينها، وتعتمد الحوار والحوار الديمقراطيّ الخلاّق في داخلها أولاً وأخيراً ، حتى تستطيع أن توضّح أفكارها وترسم خطّتها في العمل والتنظيم ... وأن تفسح مجالاً لحركة الفكر والتنظيم أن تنضج النضج الطبيعيّ ... فإذا كان العمل الهادئ ، الرصين ، الصبور ، المدروس مطلوباً ، فإنّ التسرّع أو "حرق المراحل "، كما نقول ، غير مرغوب وغير مستحب. ومن ثَمَّ ، يمكننا بعد ذلك ، وبعد ذلك فقط ، أن نتوجه إلى الجمهور العريض، إلى الرأي العام ، بكلّ ثقة ووضوح رؤية لما نريد ، ولما نقدر عليه ، ولما لا نقدر...
وحتى تنعقد هذه الثقة وهذا الانسجام بين أعضاء الحركة المؤسّسين وأصدقائها ، يجب أن تتمّ عمليات التعارف الاجتماعيّ ـ الإنسانيّ في ما بينهم في لقاءات ثقافية ضيّقة في مناطق مختلفة ، كهذا الملتقى الثقافيّ الذي نعقده اليوم ، هنا ، في مجلس قضاء زحلة الثقافيّ ... فهذا ، في الحقيقة ، أسلوب في العمل الثقافيّ ـ وحتى السياسيّ ـ جديد، متأنٍ ، متروٍ ، غير متسرّع ... فنحن اللبنانيين، كما تعلمون ، " بصلتنا محروقة "، كما يُقال ... نريد أن نصل إلى تحقيق ما نريد ، إلى غاياتنا ، بسرعة متناهية، مهما كانت السُّبُل المؤدية إليها في غالب الأحيان ، كما هو واضح لكل ذي عينين... كثيراً ما أُسأل ، ويُطرح عليّ وعلى زملائي المؤسّسين في الحركة ، تساؤلات من هذا النوع : الأفكار ، والنظرياّت جيّدة ، ولكن يا أخي ، أين النتائج !! ما هي النتائج على الأرض !! كيف يمكن تغيير الواقع (!!) السيئ إلى ما هو أفضل ؟!...
ولقد كان دائماً جوابنا ولا يزال ، أنّنا لا يمكن أن نصل إلى النتائج بشكل طبيعيّ وسليم وصحيح ، إلاّ إذا طُرحت المقدّمات الصحيحة ، المقدّمات النظريّة والعمليّة ، بصورة واضحة وواقعيّة . وكان طرحي لهذه المقدّمات بطريقة عقلانيّة، موضوعيّة ، وبفكر يصدر عن الواقع والتجربة الاجتماعيّة لهذا الواقع ويعود إليه ويتفاعل معه ... وحتى أُحسن طرح هذه المقدّمات الأساسيّة ، بشكل عقلانيّ وعلميّ وموضوعيّ ، فأنا أحتاج إلى الوقت ، إلى فترة زمنيّة ضروريّة... ثمّ بعد ذلك ، وبعد ذلك فقط ، يمكنك أن تطلب مني النتائج ... فمن غير المنطق أو العقلانيّة ، أن يُطلب مني النتائج العمليّة ، وأنا لا أزال في بداية الطريق ، لم أنطلق بعد ...
لذلك فإنّ تأسيس حركة أو تيار ، ثقافيّ أو غير ثقافيّ ، شرط نجاحه، هو الجدّية والواقعيّة وعدم التسرّع ... واعتماداً على هذا التوجّه ، فإنّ حركتنا الثقافيّة الحواريّة قد انطلقت في بداية تكوينها ، منذ سنتين . ولم يُعلن عنها في وسائل الإعلام وبقيت اجتماعاتها ولقاءاتها تتمّ بصورة ضيّقة وبين أشخاص قليلي العدد ، كما أوضحت ذلك أعلاه ... على أيّ حال ، هذه منهجيّة في العمل وفي التفكير ، يمكننا مناقشتها في ما بعد ...
وثمّة جانب مهمّ أيضاً ، يتعلق بفكرة الحوار ، والحوار الديمقراطيّ ... نحن نشدّد كثيراً على مبدأ الحوار والديمقراطيّة . ونقول في لقاءاتنا في ما بيننا : لنكن نحن أولاً حواريّين ، ديمقراطيّين حقيقة . لنكن " شكّاكين منهجيّين " (من الشكّ المنهجيّ في الفلسفة ، بمعنى الشكّ الذي يوصل إلى اليقين ) وحذرين جداً ، بالنظر إلى هذه الشعارات المكرورة حول النظام السياسيّ والديمقراطيّة ، والحوار الوطنيّ والإسلاميّ ـ المسيحيّ ، والوفاق ... إلخ... والتي قد لا تحتوي أو لا تعني فعلاً وحقيقةً وعلمياً ما تقول : فنحن نؤكد في علاقاتنا الداخليّة ، أنّ الديمقراطيّة والحوار والمشاركة والانسجام الفكريّ والتوافق الثقافيّ والوطنّ ينبغي أن يكون ، بداية ، ممارسةً عمليةً وبين أعضاء الحركة ذاتها ... لنؤمن بالمشاركة ، بالعمل الجماعيّ ، ونبتعد عن الفرديّة في عملنا : ذلك أنّنا نحن اللبنانيين ، فرديون أيضاً ...
بكلمة مختصرة ، نحن نريد أن تكون حركة الحوار الديمقراطيّ في لبنان ، عكس الواقع السيئ ونقيضه ... حركة الحوار هي رهان كبير وتحدٍ في آن معاً ، للواقع السيئ الذي تعيش فيه... وهذا طموح كبير، طموح تاريخيّ : أن تكون في واقع سيّئ وتعيش فيه وتصدر منه ، لتكون نقيضة، وتعمل لتغييره وتبديله ، أقلّه على صعيد الفكر والعقل والنظر !!... والواقع الذي نعيش فيه ، ولنكن في ذلك صريحين ، لم يكن في يوم من الأيام ، لا في الماضي ولا في الحاضر، ديمقراطياً أو حوارياً ... مع أنّ الطقم السياسيّ من أيّ اتجاه كان ، وفي مختلف العهود ، كان يدّعي الديمقراطيّة والحريّة والوطنيّة ويُعلن انتسابه إليها ... وحتى في فترات الانتخابات المتتالية ، جميع السياسيين والقوى السياسيّة يؤكدون تمسكهم بالديمقراطيّة وحريّة الانتخابات ونزاهتها ، فتأتي النتائج مناقضة تماماً لما يقال ويُعلن ...
فنحن إذن نعيش في مجتمع سياسيّ فيه انفصام ، وواقع سياسيّ ، الهوّة سحيقة فيه وواهية بين القول والفعل ... من هنا صيغ شعار حركة الحوار الديمقراطيّ في لبنان باقتران القول بالعمل ، والفكـر بالممارسة ، إذ لا قيمة لواحدهما بافتراقه عـن الآخر ... يجب أن يؤمن أعضاء الحركة بالديمقراطيّة وبالحوار ، ممارسة وبالفعل ، في ما بينهم أولاً ، قبل أن ينتقلوا ويحملوا هذه المبادئ والأفكار إلى الآخرين ، إلى الرأي العام قاطبة ...
وكذلك عملية المشاركة : لا يمكن أن تقوم حركة ثقافيّة ، فكريّة ، سياسيّة ـ إذا أرادت أن تكون جدّية ، فعلاً وصدقاً ـ على آحاديّة شخصيّة ، على عبقريّة فرديّة . إنّني أردّد وأقول دائماً بأن زمن " العبقريات الفرديّة " قد انتهى ، كما أن زمن " الأنبياء الصالحين " قد انتهى أيضاً ... فما هو مطروح علينا الآن هو " العمل الجماعيّ "، " المشاركة الجماعيّة "، على هذا الأساس : يكون العمل الثقافيّ الحقيقيّ ـ وحتى العمل السياسي وخصوصاً العمل السياسيّ ـ أو لا يكون البتّة ، في ظروفنا الراهنة ... فهذا جانب نشدّد عليه كثيراً في لقاءاتنا الضيّقة والعامة ...
أتوقف هنا ولن أضيف أكثر ، وسأترك ما تبقى من تساؤلات للمناقشة العامة ... لذلك أُنهي قولي برأي أساسيّ ، بفكرة طموحة ـ نركّز عليها كثيراً في حركة الحوار الديمقراطيّ ـ وهي أننا نطمح ، كما قلت وكما سبقني في القول الدكتور مسلّم ، أن تكون للثقافة وللمثقّف دورٌ أساسيّ في لبنان ... وإذا لم يكن هذا الدور موجوداً في السابق ، فيجب علينا خلقه ... أكثر من ذلك ، وهذا رأي، وهو شعار: يجب أن نعطيَ لهذا الدور الرائد المضمون المناسب وهو أن تكون الثقافة السلطة المعنويّة الأولى في لبنان... وإذا لم يكن للثقافة وللمثقّف هذا الدور، فنحن كمثقّفين نتحمّل المسؤوليّة التاريخيّة الكاملة ـ وأشدّد هنا على كلمة "التاريخيّة الكاملة" ـ في هذا النقوص والتراجع والهامشيّة في المجتمع ... ذلك أنّ للمثقّف دوراً تاريخياً في تفاعله التغييريّ للمجتمع ، يلعبه أو لا يلعبه : هذا هو السؤال ـ التحدّي .
نحن في حركة الحوار الديمقراطيّ نريد أن يلعب المثقّف هذا الدور التاريخيّ ، كي يعطي للثقافة السلطة المعنويّة ، الضاغطة ، السلطة الأولى في لبنان . وحركة الحوار الديمقراطيّ ينبغي أن تكون هي المحرك الأساسيّ لهذا الدور الذي تطمح أن تلعبه . وهي تستعد منذ الآن كي تلعبه بمشاركة كلّ الطاقات الثقافيّة والفكريّة والاجتماعيّة وحتى السياسيّة الأخرى ، وهي كثيرة فيجب تنشيطها : فهل نحن ، كمثقّفين ومن مختلف المناطق اللبنانيّذذة ، مهيأون لكي نلعب هذا الدور ؟!... هذا سؤال ورهان أطرحه أمامكم للمناقشة والحوار .
* * *
الدكتور مصطفى دندشلي
... إذا سمحتم لي بكلمة توضيح [...]. كنت أشير في سياق حديثي إلى التجمعات والتيارات والهيئات ـ وأنا أشدّد على ذلك ـ تلك التي بوجه خاص تنشأ هنا وهنالك في لبنان ، وهي تكتلات تضمّ اتجاهات وقوى متناقضة ـ وهذا واضح لكلّ ذي عينين وفهم عميق للتحركات ـ وترفع شعارات الثقافة والحوار الوطنيّ ، الإسلاميّ ـ المسيحيّ والعيش المشترك والديمقراطيّة ، وإنّما مبتغاها ، مضمراً أو معلناً ، العمل السياسيّ بصورته التقليديّة والطائفيّة التجميعيّة... وأمامي أسماؤها وبرامجها وأنظمتها الأساسيّة ... وهي تريد ـ ولا غضاضة في ذلك على الإطلاق ـ أن تقوم بعمل سياسيّ ـ حزبيّ ، تحت شعارات ثقافيّة حواريّة ... تريد أن تنشئ تياراً سياسياً دون أن تقول ذلك صراحة... فهي تختبئ وتتستر تحت كلمات وشعارات: الثقافة والحوار والعيش المشترك.. هذا النوع من العمل السياسيّ أو الثقافيّ ، هو مسخ للعمل السياسيّ الحقيقيّ وتزوير للعمل الثقافيّ الإبداعيّ ، وهو الذي أشرت إليه في حديثي ، دون أن أسميه ...
نقطة ثانية وقد أصبحت الآن من البديهيّات ، فلا يجوز في كلّ مرّة أن نعود ونكرّرها ، وهي علاقة الثقافة بالسياسة ، والسياسة بالثقافة . وستكون موضوعنا الأساسيّ للنقاش والحوار في الملتقى الثقافيّ المقبل ... ولقد قلنا وكررنا القول مراراً ، في وثائقنا على قلتها وفي أحاديثنا على كثرتها ـ وجميعها مسجلة ـ أنّه لا يمكن بحال من الأحوال أن نفصل الثقافة عن السياسة أو السياسة عن الثقافة . فهناك تفاعل وتأثير وتأثر ، وعلاقة جدليّة صراعيّة ، هكذا كانت وستبقى...
ولكن ، ولكن الإشكاليّة أين هي ؟... هل ستستمر الثقافة ، ومعها الفكر والعقل ، تبعاً للسياسة ؟... وأن يكون ويبقى المثقّف كاتباً ، " مستشاراً " للسلطان ، أو مبرّراً تحركات القوى السياسيّة وخطواتها وبرامجها ، وكذلك ـ وهنا بيت القصيد ـ مفلسفاً برامج الأحزاب وسياسياتها ، من أيّ اتجاه سياسيّ كانت ، من اليمين أو من اليسار !!... وأنا هنا ، لا أدين أحداً أو أَتّهم. ولا أتخذ موقفاً أخلاقياً أو أعطي حكم قيمة ـ un jugement de valeur. إنّما أحاول أن أرى الواقع كما هو ، أن أصف التجربة السياسيّة والحزبيّة ـ وهي في الحقيقة تحتاج إلى وقفات أطول وأعمق وأشمل ، لأهميتها ... وقد أشرت أمامكم إشارات سريعة إلى ما تكتبه الصحافة والصحافة الحزبيّة ، وما يقدّمه المثقّفون الحزبيون من نقد ذاتيّ ، في محاضراتهم أو في أحاديثهم ، للتجربة الحزبيّة السابقة . وأكبر مثل على ذلك ما قام به الحزب الشيوعيّ اللبنانيّ من نقد ذاتيّ لتجربته السابقة ، وهو نقد أراه غاية في الأهميّة الفكريّة والثقافيّة والسياسيّة ، وذلك على سبيل المثال فقط ، لا الحصر ... وملخص هذه التجربة الحزبيّة السابقة أنّها سخّرت الثقافة والفكر لتبرير سياسة الحزب ، واستراتيجيته وتكتيكه على الصعيد الداخليّ والخارجيّ ...
ما أريد أن أقوله في هذه العُجالة ، وما نشدّد عليه ، أن نتعاطى جميع شؤون المجتمع دون استثناء ، بما في ذلك الشؤون السياسيّة والوطنيّة ، إنّما ، وهذا ما يميّزنا عن غيرنا ، من منطلقات الفكر والعقل والثقافة والأخلاق ، والنقد والنقد الذاتي على وجه الخصوص . بكلمة واحدة : أن تكون السياسة وفروعها وتوابعها تابعة للفكر وللثقافة ـ إذا صحّ التعبير ـ وليس العكس ... هذه هي الإشكاليّة الرئيسة في هذا المجال . لا أن أضيّع الجهد والوقت وأطيل بالحديث : هل أتعاطى السياسة أم لا ؟!...
يريد الواحد منّا أن يتعاطى السياسة : هذا جيد وهو حقّ مشروع للجميع !!... ولكن ، كيف ؟... من حقّي أن أطرح السؤال : ما هو مضمون هذه السياسة ومدى تعبيره عن الواقع الاجتماعيّ وتفاعله معه ؟... أم أنّها سياسة ، " شعارتية "، لفظيّة ، فارغة من محتوى فكريّ ، ثقافيّ ، عقلانيّ ، موضوعيّ : حصيلة تجربة تاريخيّة اجتماعيّة معيّنة ؟!... هذا هو السؤال !!... هل هي سياسة تحترم فعلاً شخصيّة الآخر ، تجربته ، طموحاته ، تحترم الرأي العام في تطلعاته ، أم أنّها في الواقع نتيجة التقاء مصالح وموازين قوى داخليّة أو حتى خارجيّة ؟!... أو أكثر من ذلك، هل هي سياسة بيانات ومواقف معلنة وردّات فعل انفعاليّة ، عاطفيّة ؟!!.. إنّ هذا النوع من التعاطي بالعمل السياسيّ ، والتوجّه السياسيّ ، والنظر إلى العمل السياسيّ ، هو ما أسميه بعمل سياسيّ تقليديّ ، بمعنى أن النُّظُمَ الفكريّة والعلاقات السياسيّة والنظرة إلى الواقع والمجتمع ، هي ذاتها ننقلها من الماضي ـ القريب أو البعيد ـ ونعيد إنتاجها وترجتمها وتطبيقها ، في واقعنا الحالي وظروفنا الراهنة ، مع بعض التغيرات في الديكور والمظاهر ...
فنحن نريد ، في حركة الحوار الديمقراطيّ ، أن تتعاطى ( الحركة ) ـ دون خوف أو تقديس لأي أمر من الأمور ـ جميع شؤون المجتمع اللبنانيّ الداخليّة والخارجيّة ، ولكن من منطلقات الفكر والثقافة والعقل والواقع الموضوعيّ والتجربة الذاتيّة. هذه هي الإشكاليّة في أعماقها وحقيقتها... ومن الجهة الأخرى ، أودّ هنا أن أشير وأسجل نقطة إيجابيّة للحركة وهي المحاولة التي بذلتها منذ البداية لأن تكون حركة ديمقراطيّة ، حواريّة ، وطنيّة ـ بمعنى شاملة ـ وتضمّ مثقّفين من مناطق لبنان جميعها ... فهي ليست حركة ثقافيّة مقتصرة على منطقة محدّدة بعينها ومحصورة فيها ، أو حركة طائفيّة أو مذهبيّة ، كما ليس هناك من قوّة ماليّة ـ اقتصاديّة أو سياسيّة تدعمها ... هذا تحدٍ كبير ، فيجب الاستجابة له بجرأة وحزم ...
* * *
الدكتور مصطفى دندشلي
... في الحقيقة ، تُعقد لقاءات ثقافيّة كثيرة، مثل هذا الملتقى الثقافيّ الذي يُقام هنا في زحلة، ويحضره أخوة أعزاء ويشاركوننا فيه . ولكن ظروفهم لم تكن لتسمح لهم أن يطّلعوا ـ وهذا ربما تقصير من جانبنا ـ لا أريد أن أقول على أدبيات حركة الحوار الديمقراطيّ ، ذلك أن كلمة " أدبيات" لا تزال بالنسبة إلينا حتى الآن كبيرة ... وإنّما على وثيقتها الأساسيّة ... فنحن لا نزال في الواقع حركة ناشئة ، نتلّمس الطريق ... ولقد وضعنا منهجيّة فعلاً جديدة في عملنا وفي تفكيرنا . وقلنا لا يجوز أن يكون تصرفنا هو أقرب إلى تصرّف الأستذة على الآخرين ، وتقديم رأينا كاملاً متكاملاً ، وفي كلّ شاردة وواردة ، في ما يتعلق بالنظام السياسيّ اللبنانيّ ... لا نريد أن نستبق الأمور ، حتى الفكريّة منها ، وإعطاء رأينا النهائيّ في قضايا التعليم والاجتماع والاقتصاد والثقافة والسياسة... إلخ... نحن نستطيع أن نقوم بذلك ، كما يفعل الآخرون ، ونقدر على القيام بهذا الشيء ، بطبيعة الحال ... ذلك أنّ حركة الحوار الديمقراطيّ في لبنان تضمّ بين أعضائها وأصدقائها ما يقرب من عشرين أو خمسة وعشرين بين أديب وشاعر وكاتب ومفكر وأستاذ جامعيّ واقتصاديّ وحقوقيّ... إلخ .. نستطيع أن نعقد سلسلة من الاجتماعات الفكريّة أو الخلوات الدراسيّة وتصدر على أثرها "ميثاقنا الثقافيّ والوطنيّ "، Notre manifeste culturelle et nationale ، نعلن فيه رأينا في الاقتصاد والاجتماع والتربية والنظام السياسيّ، إلى ما آخر ما هنالك من أمور وقضايا كثيرة أخرى.. لقد وجدنا أنّ هذا الأسلوب وأنّ هذه الطريقة في التعاطي بهذه الشؤون الفكريّة ، فيها شيء كثير من الفوقيّة . وقد اعتمدنا أسلوباً آخر وهو أن تضمَّ وثيقتنا مجموعة من المفاهيم المكثفة ، المفاهيم النظريّة، أطلقنا عليها اسم : " المبادئ ـ الثوابت "... ثم بعد ذلك ، فإذا تمّ الاتفاق والموافقة على مجمل هذه " المبادئ ـ الثوابت "، ننتقل تدريجاً وبالتعاون مع مختلف الاختصاصات المتنوّعة ، إلى تفصيلها ، عَبْر الحوار وانطلاقاً منه ...
طبعاً ، نحن نعلم الآن أن ثمّة جوانب في وثيقتنا تحتاج إلى توضيح ، وتفسير ، وتحتاج أيضاً إلى شيء من الإضافات والشرح ... فهي كانت قد نوقشت وتمّت الموافقة المبدئيّة عليها منذ ما يقرب من سنتين : وكان الطموح آنذاك إيجاد حركة ثقافيّة فكريّة تكون تعبيراً للمجتمع اللبنانيّ قاطبة وطُرحت للمناقشة العامة بين مختلف أوساط المثقّفين في لبنان ... فهي مُوجّهة ، ليست فقط لابن الجنوب ، على سبيل المثال ، وإنّما لابن كسروان وزحلة والبقاع والشمال وبيروت .. إلخ .. إلخ .. ولقد اجتهدنا بأن تكون هذه الوثيقة الثقافيّة شاملة وتضمّ مبادئ أساسيّة مكثفة ... فكثير من الأصدقاء الذين يشاركوننا في لقاءاتنا الثقافيّة ، لا تسمح لهم ظروفهم إلاّ بقراءة هذه الوثيقة ذات المفاهيم المبدئيّة ، قراءة سريعة أو حتى أحياناً متسرّعة ... فيستوعبون أشياء ، ويفوتهم أشياء أخرى ...
فأبتدئ بجوابي على الأستاذ سامي شمعون ، أنّ قضية السيادة اللبنانيّة والاستقلال هي من الأمور التي لا نساوم عليها ، وهي مذكورة في " الوثيقة " بشكل لا لَبَس فيه ولا غموض على الإطلاق ، وبصورة مكثقة وصحيحة وصادقة وفي المادة السادسة منها على وجه الخصوص ...
أمّا من ناحية تغيير الأسس الاقتصاديّة، فأنا لا أعتقد بأنّه قد ورد في الوثيقة بهذا المعنى... يكفي أن نقرأ في صفحة (6) تحت بند " التغيير " ، فقرة (ج) : " العمل على تغيير كثير من المفاهيم، أو المقولات المتوارثة ، أو حتى " الأساطير " السياسيّة السائدة في أذهان كثير من اللبنانيّين ... إلخ... إنّني سعيد جداً بطرح هذا السؤال . وهو مناسبة كي أتوسّع قليلاً وأوضّح ما يمكن أن يكون قد التبس على البعض ، لا شكّ في ذلك ، بسبب القراءة السريعة غير المتأنية ... وأنا سعيد أكثر عندما سمعت الأستاذ كفوري يتحدّث في كلمته عن الثقافة ودور المثقّف ، فقد شعرت كم هناك من تواردٍ في الأفكار كبير بيني وبينه ... ولي كتابات منشورة في هذا الموضوع ، حول الثقافة ودور المثقّف ، منذ أكثر من عشر سنوات ...
وهناك ناحية أريد أن أتوقف أمامها ، وهي مهمّة برأيي ، وأودّ أن أشير إليها في هذا السياق ... نحن في هذه " الوثيقة " لا نتوقف كثيراً أمام تعبير جزئيّ أو لفظة مفردة ... إنّما هي ورقة عمل مطروحة للنقاش والحوار على جميع المثقّفين في لبنان ، من كلّ الاتجاهات والتيّارات الفكريّة والثقافيّة دون استثناء . وقد جمعنا منذ ما يقرب من سنتين حتى الآن حصيلة من الملاحظات والإنتقادات والاقتراحات ، على مختلف المستويات والصُّعُد . ونحن شاكرون لكلّ من قدّم إلينا آراءً أو وجهة نظر أخرى أو توضيحية على هذه الوثيقة ... فقد جمعنا جميع هذه الملاحظات والآراء . ونحن بصدد ـ قبل عقد المؤتمر التأسيسيّ الأول ـ دراستها ومناقشتها واستخلاص منها المبادئ والمفاهيم المشتركة ، وإعادة صياغة الوثيقة من جديد ، بروحيّة جديدة ، ونظرة جديدة ، أكثر شمولاً وعمقاً ... فلقد اغتنينا كثيراً من جميع هذه الملاحظات ، وأصبحت معرفتنا للواقع اللبنانيّ في مناطقه المختلفة أكثر مباشَرة وتفصيليّة. فهذا يساعدنا على أن نضع برامجنا المستقبليّة على تماس بهذا الواقع الاجتماعيّ وأكثر موضوعيّة ودراية .. فلذلك أقول بكلّ صراحة للأصدقاء بأن لا نتوقف كثيراً أمام تعبير من هنا أو كلمة من هناك ، وإنّما أن نأخذ هذه الوثيقة بمجملها ، وبروحيتها العامة ، ومن منطلقاتها المبدئيّة الأساسيّة وأهدافها الطموحة الكبرى ... أما في عدا ذلك ، فقابل للتعديل والتغيير نحو الأحسن والأفضل ...
ولكن من الناحية المبدئيّة ، نحن نقول إنّنا بحاجة إلى إحداث عملية " تغيير" في كثير من المفاهيم والمقولات المتوارثة أو حتى " الأساطير " السياسيّة السائدة في مجتمعنا اللبنانيّ ... نحن فعلاً نريد تكوين حركة ، إذا لم تعمل على " تغيير الذهنيّة " السياسيّة والثقافيّة في لبنان ، تكون في الواقع وحقيقة الأمر حركة كباقي الحركات الأخرى ... طموحنا أن نسعى ، بقدر الإمكان ، إلى أن نغيّر هذه المفاهيم ، هذه " الذهنيّة " أو " العقليّة " اللبنانيّة ، هذه " الاساطير " السياسيّة ... طبعاً ، أستعمل هنا مفهوم " الأسطورة " كما هو متداول في الأنتروبولوجيا ، في المعنى والمصطلح ... وهو يحتاج إلى شرح وتفسير ، لا يسمح الوقت لي بذلك الآن ... فلقد اجتهدت ووجدت بأن مفاهيمنا السياسيّة وشعاراتنا من اليمين أو من اليسار ، ومعرفة الواحد منّا للآخر ، تخضع إلى حدّ كبير ، إلى ما أسميه " الأسطورة "، بمعنى إطلاق شعار أو رأي ، لتكوين صورة عن الآخر أو عن حدث معيّن ، قد يكون لهذا الحدث حقيقة واقعيّة في ما مضى ، ولكن يبدو الآن أن هذه الصورة " وهميّة "، " خرافيّة "، مضخمة ، انفعاليّة غير حقيقيّة ... إلخ ...
فنحن إذن حركة تغييريّة ، وتريد فعلاً وحقيقة أن تكون حركة تغييرية في الأسس وفي المفاهيم العامة ... وإذا أردنا أن تكون حركتنا حركة مميّزة ـ كما نقول ـ حركة مبدعة وخلاّقة ، فيجب عليها أن تكون حركة تغييريّة بالنظر إلى الأسس الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة ـ الفكريّة والتربويّة .. إلخ .. فلا يجوز أن يعني ذلك حصراً أنّنا مع النظام الاقتصاديّ الحرّ أو ضدّ النظام الاقتصاديّ الحرّ ... الإشكاليّة أعمق من ذلك بكثير ... فيجب علينا أولاً أن نعرّف مفهوم هذا النظام الاقتصاديّ الحرّ وكيف طُبّق في لبنان . وهل كان لمصلحة الإنسان وإنسانيته وحريّته الخاصة والعامة ، أم لا ؟!...
طبعاً ، ومن الناحية المبدئيّة ، عندما نريد كحركة الحوار الديمقراطيّ في لبنان ، أن نعطيَ وجهة نظرنا في مفهومنا للنظام الاقتصاديّ في لبنان ، سنعمد إلى منهجيّة في البحث والتفكير هي التالية : ندعو إلى عقد اجتماعات ضيّقة ، تضمّ اختصاصيين في الاقتصاد وشؤون النقد والمال ، ولديهم خبرات في الموضوع وتجارب ، وتُطرح عليهم هذه الإشكاليّة في جلسات عديدة ومتنوّعة وخلاصة أبحاثهم ودراساتهم يناقشها المسؤولون الاختصاصيون في حركة الحوار ويتخذون فيها القرارات المناسبة : فما هي حسنات النظام الاقتصاديّ في لبنان سنبقي عليها ، وما هي سيّئاته سنزيلها ونبعدها ، وما هي العناصر الجديدة والمستجدة على هذا الصعيد التي يجب أن تتوافر فيه مستقبلاً ، سنأخذ بها ونتبنّاها ونعمّمها ... هذا منهج في التفكير ... هذا أسلوب في العمل ، قدّمته كنموذج وكمثال فقط لا أكثر ولا أقل ... فأنا لست باقتصاديّ ولا اختصاصيّ في الاقتصاد . فأنا وصديقي جوزيف خزّاقة ، نتعاطى بعلم الاجتماع ، وعلم الاجتماع السياسيّ تحديداً ... أما عدا ذلك ، فسنلجأ إلى الإمكانات الفكريّة والعلميّة الكثيرة لدينا بين الأعضاء والأصدقاء ...
هنا ، أعيد وأكرر لمن قرأ أو سيقرأ هذه الوثيقة ، وثيقة حركة الحوار الديمقراطيّ في لبنان ، أنّنا لا نقول البتّة أنها وثيقة جامعة مانعة ـ كما يقول علماء أصول الفقه في تعريفاتهم ـ فهي ليست منزلة من السماء على الإطلاق ... إنّما ورقة عمل مطروحة للمناقشة العامة والحوار الديمقراطيّ ، ليس أكثر ...
* * *
الدكتور مصطفى دندشلي :
... طبعاً ، لن أتوقف طويلاً أمام ما طُرح حول الديمقراطيّة ومفهوم الديمقراطيّة ، فقد طرقنا هذا الموضوع في الملتقى الثقافيّ الأول الذي عقد في الشهر الماضي، بشيء من التفصيل... وهو موضوع يهمّنا نحن في حركة الحوار الديمقراطيّ في لبنان على صعيد الفكر والممارسة ، وهو مفهوم في الواقع صعب جداً . ويحتاج إلى وقفات ووقفات أطول وأعمق ، ويحتاج أيضاً إلى " نحت " وإلى " حفر ". وهناك مذاهب وآراء ومدارس فكريّة واجتماعيّة وفلسفيّة وسياسيّة عديدة ... فكلّ الدول والأنظمة السياسيّة المختلفة تسمي نفسها بصورة أو بأخرى ، ديمقراطيّة ، وتعطي لديمقراطيّتها تفسيرات ومفاهيم متنوّعة ... من الاتحاد السوفياتيّ سابقاً إلى الولايات المتحدة الأميركيّة ، مروراً طبعاً بالدول الأوروبيّة الغربية ودول العالم الثالث ... هناك ديمقراطيّات وديمقراطيّات وديمقراطيّات والدخول في تفصيل ذلك ليس هنا المجال ولا الوقت المناسب . وإنّما أستشهد بقول قيل في الملتقى الثقافيّ السابق وهو ينسب إلى تشرشل ومفاده أن أحسن الأنظمة السياسيّة السيّئة ، يبقى النظام الديمقراطيّ ... فالديمقراطية هي أحسن الأسوأ على الإطلاق . من هنا ، من الأهميّة بمكان كبير بالنسبة إلينا أن نعطي تعريفنا الخاص للديمقراطيّة ... وما نقصده نحن في حركة الحوار بالديمقراطيّة بمعناها العام والمباشر ، هو :
* الحريّة السياسيّة والفكريّة والاجتماعيّة، في القول والفعل والتنظيم ، وحقوق الإنسان.
* حريّة الرأي والتعبير والاعتقاد والاجتماع ...
* المشاركة الفعّالة والحقيقيّة لأوسع القدرات والطاقات والفئات الاجتماعيّة العاملة والمهنيّة والنقابية ...
* الحوار ، الحوار المنفتح والهادف من أجل الالتزام بمصالح أوسع قطاعات الشعب وأهدافها وتطلعاتها ...
* النظرة أولاً وأخيراً إلى الإنسان كقيمة عليا ، وكهدف وكوسيلة في آن ، في كلّ سياسة اجتماعيّة أو اقتصاديّة ، أو تربويّة ... [ أنظر الوثيقة ص 8 وما بعدها ، تحت بند الديمقراطيّة... ]
أما في ما يتعلق بالأسطورة وبمفهوم الأسطورة ، فأنا أستعمله حصراً بمعناه الخاص ، وهو المستخدم في العلوم الاجتماعيّة والأنتروبولوجيا ... فلا يعني هنا إطلاقاً الأساطير بالمعنى الأدبيّ ، كما في القصص والروايات الخياليّة عند اليونان أو الشعوب القديمة أو عند العرب في العصور السالفة ... إلخ ... فهذه قصص وروايات وملاحم رائعة ، جميلة ، تثير الخيال والابتكار والخلق عند الإنسان ... فأنا أستخدم اصطلاح الأسطورة هنا ـ وهو مشتق في الحقيقة من أصله ـ بمعنى حدث تاريخيّ معيّن ، حدث اجتماعيّ ما ، قد يكون قد حصل فعلاً أو بصورة ما ، وإنّما ضُخِّم كثيراً وأضيف إليه من الخيال مع الوقت ومرور الزمن واستخدم كوسيلة لإلهاب حماس الجماهير وانفعالاتها وعواطفها الدفينة والجيّاشة وذلك من أجل تحقيق غايات وأهداف سياسيّة أو دينيّة أو مصالح اقتصاديّة ـ اجتماعيّة مختلفة ... فيفقد هذا الحدث ـ كظاهرة تاريخيّة ـ اجتماعيّة، حقيقيّة أو غير حقيقيّة ـ معناه السابق ومضمونه الذي كان يحمله... وأصبح شيئاً آخر ووسيلة لإثارة الانفعالات ... أصبح وهماً ، وخرافة ، يحجب عنا رؤية الواقع كما هو ، بذاته ولذاته ، كما نقول في الفلسفة ...
ولي في هذا الموضوع اجتهادات ومحاولات كتبتها ونشرتها ، لتفسير بعض الظواهر السياسيّة الاجتماعيّة في لبنان ... وهي ما سميتها : أسطورة " الغبن "، وأسطورة " الحرمان "، وأسطورة " الخوف "... فقد استغلت هذه " الأساطير "، أيما استغلال ، في حياتنا السياسي