توطئة - تابع كتاب أحاديث في الثقافة
توطِـــئَـــة
يتضمَّن هذا الكتابُ ـــــ الملفّ مجموعة أوراقٍ واسعةٍ ومتنوعة من سيرة حياة ثقافية متواصلة على مدى أكثرَ من ثلاثين سنة، وهي ما زالت مستمرَّة حتى الآن، رُغم جميع الصعاب التي واجهتها والعقبات التي اعترضتْ طريقها.
لقد تناولت هذه المسيرة الثَّقافية المديدة العديدَ من الأحاديث والمقالات والدراسات والمحاضرات والنَّدوات والمؤتمرات والملتقيات الحواريّة بين الأندية والمنابر الثَّقافية، وشتّى النشاطات الفكريّة والاجتماعية والوطنيّة الوفيرة والمتنوِّعة. كما أنَّها عالجتْ مفاهيم الثَّقافة والمثقَّف ووظيفتهما في ظروفنا الراهنة، على صعيد الفكر والممارسة العمليّة. وطُرحت في هذه المجموعة من الدراسات والبحوث والمحاضرات واللقاءات الثقافية، تحليلاتٌ نظريّة ومنطلقات ثقافية ومفاهيم الحريّة والديمقراطيّة والحوار وحقوق الإنسان. ولقد بدا بوضوح تام في هذه الصفحات "الهمُّ" الثَّقافيّ المعيوش وجرى التركيز على ما للثّقافة وللمثقَّف من دور ريادي في بناء أو إعادة بناء الدولة في لبنان، بناءً أكثرَ عدالة وديمقراطية وتقدُّماً..
إلى ذلك، ينبغي أن نُشير بداية إلى أنَّه يمكننا أن نأخذ أيَّ بحثٍ أو مقالٍ أو لقاءٍ أو أيَّ موضوعٍ من الموضوعات الواردة في هذه الأوراق الثّقافية وأن نقرأه كوَحدة بذاتها أو كموضوع مستقلّ. ولكنّه، في المقابل، إذا كانت تبدو لنا هذه الصفحات في الظاهر متنوِّعة، بل وحتى متفرّقة، إلاّ أنّه ينبغي أن يُنظر إليها على أنَّ ثمة جامعاً في المضمون يجمع بينها وأنّها تدور حول فكرة محوريّة أساسية مبثوثة في ثنايا هذه الصفحات الثّقافية من أولها إلى آخرها، وهي تربط فيما بينها، وتسعى من جهة إلى صياغة مجموعة من الأجوبة عن تساؤلات معرفيّة وفرضيات منهجيّة وإشكاليات ثقافية، وتبحث من جهة أخرى في مفاهيم الثّقافة وعلاقة الثقافة بالسياسة والعمل الوطنيّ ومختلف شؤون المجتمع كوَحدة مجتمعيّة واحدة... فالثّقافة كما نفهمها هي قول وفعل، هي فكر وممارسة والتزام بقضايا الناس والمجتمع في الحاضر واستشراف آفاق المستقبل...
وبعبارة أخرى أكثر تحديداً وتوضيحاً، فإننا نلفت إلى أنَّ فكرة ضمنية تكاد تكون واحدة، تلازم هذا التنوُّع من الأحاديث واللقاءات والمؤتمرات، وتربط من الأول إلى الآخر هذه الأوراق الثقافية في نموّها وتطوّرها، في صعودها وتواصلها، في جَماعِها وتفرقها، وهي، كما قلنا، فكرة "الهـمّ" الثقافيّ وشتّى مجالات اهتمامِ مثقفٍ قلقٍ، مُلقى به في هذا الخضمّ الواسع، يبحث ويفتِّش: يبحث ويفتِّش عمّاذا؟!... عن معنى هذه التجربة الثقافيّة الواقعيّة، عن معنى وجود هذا المثقّف ودوره ومسؤوليته في هذا العالم المضطرب...
وهذا ما يستتبع طرح السؤال الإشكالي: مَن هو المثقَّف؟... ما هو دوره ووظيفته؟!... وهل دورَ المثقَّفِ هو دورٌ معرفيّ، مجرَّد، أم أنَّ دوره إلى جانب ذلك وفي الوقت نفسه، إنّما هو مقترنٌ بالممارسة العمليّة ويقوم على أساس التّفاعل الخلاّق مع قضايا المجتمع والالتصاق بظروفه، ضمن إطار فكرٍ نظريّ محدّد، ينمو من خلال التجربة ويتطوّر معها؟!...
وفي هذا السياق أيضاً، نأتي إلى طرح مفهوم ما يسمّى بـــــــ "الأنتلجسيا"، الطليعة المثقّفة، وما هو دورُها، دورُها التاريخيّ ووظيفتُها في تحمُّل مسؤولية إطلاق أفكار النهضة الثقافية ـــــــ الاجتماعية ــــــــ السياسية، ومشاريع الخَلْق والتجديد والابتكار؟!...
وفي المقابل، هل توصَّل المثقّفون عندنا إلى أن يستعملوا لغة ثقافية مفهومة المعنى والمضمون، واضحة المنهج والأسلوب والأهداف، أم أنّها بقيت لغة خطابيّة، إنشائيّة، بلاغيّة، رمزيّة، انفعاليّة، بعيدة عن الواقع؟...
وهل استطاع المثقَّفون أن يكوِّنوا مجموعاتٍ ضاغطةً ومؤثِّرة في مجال الفكر النظريّ أو في النطاق العمليّ؟!...
من هنا، ولهذه الأسباب جميعها وغيرها أيضاً كثير، يجري الحديث عندنا عن "أزمة الثقافة"، و "أزمة المثقَّف"، وأزمة العمل الثقافي؟!... هذا إذا اقتصرنا حديثنا عن الثقافة... ومن ثمّ، ما هي هذه الأزمة: أسبابها وأبعادها ونتائجها؟!...(1) هذا هو السؤال الكبير والملحاح المطروح علينا جميعاً... وهذه هي التساؤلات الإشكاليّة التي تسعى هذه الصفحات الثقافيّة وتحاول بكلِّ جِديّة ودأب ومتابعة أن تجيب عنها...
في الحقيقة، إنّ إشكاليّة الثقافة والعمل الثقافي وفاعليّة المنابر الثقافية في ظروفنا الراهنة، وفي المنحى نفسه موضوع المثقّف والمثقّفين، إنّ هذه المفاهيم الحديثة والجديدة علينا، ليست سهلةَ المنالِ أو ليِّنةَ المقاربة، ويظهر لنا بحثُها بالعمق المعرفيّ والمنهجيّ المطلوب، كم هو شائكٌ وواسعٌ، تتداخلُ فيه مشاكلُ حياتنا الفكريّة وقضايانا الاجتماعيّة والسياسيّة والأخلاقيّة والقِيَميّة قاطبة.
إلى ذلك كلِّه، هناك جانبٌ بالغ الأهميّة في هذه الأحاديث والأوراق الثقافيّة كنّا نشير إليه باستمرار وقد جرى التركيز عليه دائماً، ملخَّصه أنّ ثمّة فجوةً سحيقةً عندنا بين الفكر النظريّ والواقع الحيّ المحسوس. كنّا قد توقفنا طويلاً أمام القضايا الثقافية وإشكالياتها وتوسعنا في المنطلقات الثقافية.
كلّ ذلك حتى نُلفت إلى أنّ هذه الإشكاليات الثقافية إنّما هي الترجمة والتجسيد للفكر النظريّ ومفاهيم الثقافة والعمل الثقافيّ، وإعادة المصالحة، إذا جاز التعبير، بمعنى إقامة التفاعل الخلاّق بين نطاق الفكر النظريّ ومجال الواقع الاجتماعيّ... ذلك أنّ الثقافة في شتّى مفاهيمها، ليست فِعْلاً أو موقفاً منعزلاً عن المجتمع والوقائع الاجتماعية، أو هي بعيدة عن هموم "الناس"، وعن الحياة الاجتماعية والسياسية العامة، بل إنّها فعل مواكب لهذه الحياة، منفعل بها ومتفاعل معها.
كذلك وفي هذا المنحى أيضاً، طُرح في هذه الأوراق الثقافية وفي مناسبات عديدة ومتباعدة، دورُ المثقّف: هل هو دور نظريّ، أم أنّ وظيفته، إلى جانب ذلك، إنّما هي أيضاً الانتقال إلى الترجمة العمليّة والممارسة التطبيقيّة عَبر أشكال متعدِّدة من التنظيم وإيجاد شبكة من العلاقات مع "الناس"، مع الجمهور العريض، وبالتالي التفاعل مع قضايا المجتمع بعامة... من هذا المنطلق، ينبغي النظر إلى المحاولات العمليّة لإرساء أسس وقواعد العمل الثقافيّ المعيوش، متّخذاً من الواقع الاجتماعيّ منطلقاته...
لهذا وفي هذا السياق العام، كانت تُطرح باستمرار في هذا المشوار الثقافيّ الطويل: المضني والمتوتِّر والمرهق والمبدع في آن، الأسئلة الملحّة الكثيرة والمتنوِّعة والمختلفة حول قضايا الهُويّة في المفهوم النظريّ والممارسة العمليّة ومفاهيم الحوار والحوار الديمقراطيّ؟!...
فمن ضمن هذا الإطار الشامل في طرح إشكاليات الثقافة والمثقّف ووظيفتهما في مفهوم الفكر النظريّ والممارسة العمليّة، وهذه هي الفكرة المحوريّة الرئيسة في هذا الكتاب ــــــــ الملفَّ، لم يكن ثمّة بدٌّ من أن نقع في التكرار وترداد الأفكار هي ذاتها في هذه الصفحات الثقافية سواءً كان ذلك في المضمون أم في المبنى، نظراً لتشابه موضوعات البحث في المناسبات الثقافيّة المتفرّقة والمتباعدة في الزمان وفي المكان.
ومن جهة أخرى، فقد أبقينا على هذه الأحاديث والأوراق الثقافيّة بجَماعِها كما وردت عند صدورها ونشرها لأوَّل مرة، دون إدخال أيِّ تعديل فيها أو تغيير، وذلك رغبةً منّا في أن تبقى تعبيراً عن المرحلة أو الإطار الفكريّ العام الذي قيلت فيه.
لكنه وإن كانت "ورائي" هذه الأوراق الثقافية المتنوّعة أشدّ ما يكون عليه التنوّه، إلاّ أنّها في الحقيقة والواقع، إنّما تُمثِّل تكويني الإيديولوجيّ وتجربتي الفكريّة والثقافيّة المعيوشة... وقد لا أكون في هذه اللحظة على وفاق أو رضى أو اتفاق تام مع ما كنت قد كتبته أو ما قمت به أو ما اتّخذته من مواقف في هذا الشأن أو ذاك... ولكنه يبقى مع ذلك كلّه يمثّل تطوّري الشخصيّ، ثقافياً وفكرياً عَبر مراحل حياتي المتغيِّرة ومنعطفاتها.
لهذا، فإنّ فكرة مَحْوِها وإزالتها من الوجود لا تراودني البتّة، لا لأنني راضٍ عن هذه الكتابات بجَماعِها رضىً أكثر ممّا ينبغي، إطلاقاً، وإنّما كل ما في الأمر هو أنّ ورائي ماضياً على صعيد العمل الثقافيّ والفكريّ والسياسيّ، لا يسعني، مهما كان، إنكارَه أو شطبَه من حياتي الذاتيّة، حتى ولو كنت لا أوافق تماماً سواءٌ على هذا الجانب منه أو ذاك، ذلك أنه يكوّن شخصيتي، كما هي الآن، والتي لا يمكنني حذفها من الوجود...
وإذا أردنا أن نُشير في نهاية المطاف إلى خلاصة هذه التجربة الثقافية، فلا بدَّ من أن يتبدّى لنا، في هذه المسيرة الطويلة وعَبر هذه الأحاديث الثقافية، تلك الفترات المتعاقبة من النقد والاعتراض، والتركيز على الشوائب والخلل في حياتنا الثقافية، وما يشوبها من الصعود والهبوط، والتفاؤل والقنوط، والتوتُّر والانفعال. ذلك أنّ العمل الثقافيّ الجِديّ الملتزم الهادف، يجب أن تُعطيَه كُلَّك حتى يعطيَك بعضَه، هذا إن أعطى....