د. دندشلي - مقابلة مع الأستاذ أحمد شفيق المجذوب (2)
مقابلة ثانية مع
الأستاذ أحمد شفيق المجذوب
بتاريخ 22 تموز 1989
تعريف العائلة :
العائلة ذات الموقف السياسي الموحَّد والمتكتل إلى حد كبير، وذات التأثير المعنوي الانتخابي أو السياسي، هي العائلة البارزة المعروفة تاريخياَ بالوجاهة أو المال أو السلطة. وإذا قيل إن فلاناً ابن عائلة، فكان المقصود بذلك إنه من عائلة وجيهة أو غنية أو ذات سلطة ما.
أما العائلات الأخرى، مهما بلغ عدد أفراد كل منها، فجميعها عائلات بالمفهوم اللغوي الطبيعي... لكن أفرادها لا يلقبون أنهم أولاد عائلات، حسب المفهوم الشائع آنذاك... وذلك للأسباب التالية:
أ. لا يتمتع أفراد العائلات العادية بالحد الأدنى من العلم والمال...
ب. لا يتمتع أفراد العائلات العادية بالحد الأدنى من الوعي الاجتماعي أو السياسي، وبالتالي فإنهم مبعثرون وتتجاذبهم مصالح العمل والمعيشة والعلاقة الشخصية.
ج. تتمحور هذه العائلات حول العائلات النافذة المعروفة تحت تأثيرات مختلفة.
وكانت العائلات النافذة تقسم إلى قسمين :
أ. عائلات تتمحور حول السلطة المحتلة طلباَ للسلطة والجاه والمال، وقد كانت أقلية.
ب. عائلات لعبت دوراَ وطنياَ آنذاك ضد السلطة المحتلة التركية، ثم الفرنسية، بقيادة المرحوم رياض الصلح... وهي ما نلقِّبها في عصرنا هذا بالبرجوازية الوطنية .
اسم العائلة وأصلها :
كانت صيدا مدينة تابعة للدولة التركية الكبرى لمئات السنين والتي كانت تضمُّ العالم العربي وبعض العالم الإسلامي والأوروبي... لذلك فقد كان تنقُّل المواطن في هذا الوطن (التركي أو العثماني) الكبير هو تنقل طبيعي في دولة واحدة وحسب مصالح الفرد في عمله أو تجارته أو زواجه...
وعند انهيار الدولة التركية (العثمانية) عام 1918 بعد الحرب العالمية الأولى، بقي في صيدا الكثير من المواطنين الأتراك أو من البلدان العربية أو الإسلامية أو الأوروبية... وجاء إحصاء 1932 وحازوا على الجنسية اللبنانية... وبقي الكثير منهم مكتوماَ حتى الآن (أي بدون جنسية)
وقد تأثر الكثير من العائلات الصيداوية بما يلي:
أ. باسم البلد النازحين منه أصلاً آل المصري، التركماني، المغربي، اليمن إلخ...
ب. باسم المهنة التي مارسها بعض الأجداد: الصباغ، اللحام، ريس المينا، الفران إلخ..)
ج. باسم الصفات التي لُقِّب بها بعض الأجداد لسبب ما: الملا، بديع، الجرس، الحاوي، الشريف إلخ...)
حجم العائلة :
ليس لحجم العائلة العادية العددي أيُّ قوة أو أثر سياسي موثر في الحياة العامة.. بل كان كل النفوذ والتأثير المعنوي والسياسي هو للعائلة النافذة والبارزة بالوجاهة أو المال أو السلطة... وقد إستمر هذا الوضع السائد حتى أوائل الخمسينات حيث بدأ انتشار العلم بين مختلف الطبقات... وكل متعلم في عائلة ما يحاول أن بكتل أفراد عائلته ويشعرها بوجودها وشخصيتها المستقلة.
وقد لعبت الناصرية وبعض الأحزاب العقائدية دوراً مؤثراً أدى إلى العصيان ضد العائلات النافذة. وكان انهزام قائمة العائلات النافذة في انتخابات البلدية عام 1952 أمام قائمة الدكتور نزيه ومعروف سعد هي المعركة الفاصلة في صيدا أدى إلى تحجيمها.
أما حجم العائلة العددي في صيدا، فهو يتراوح بين عشرات الأفراد وبين المئات حتى تاريخه، لذلك نستطيع أن نحدِّد حجم العائلة عددياً إلى ثلاثة أقسام:
أ. العائلة الصغيرة ويتراوح عددها في حدود المئة.
ب. العائلة الوسط ويتراوح عددها في حدود المئتين وخمسين.
ج. العائلة الكبيرة ويتراوح عددها حتى فوق المئتين وخمسين.
والعائلات المعروفة بعددها الكبير هـي: آل البزري... آل الحريري... آل البابا... آل المجذوب... آل حجازي.. آل أبو ظهر...
سكن العائلة:
كانت حدود صيدا سكانياَ ضمن منطقة صيدا المعروفة حالياَ(صيدا القديمة) وحدودها هي: رجال الأربعين حتى المسلخ، شارع الشاكرية، بوابة الفوقا، بوابة التحتا، المرفأ، وتضم الأغلبية الساحقة من السكان ومن مختلف الطبقات، وموزعين كما يلي:
أ. العائلات الغنية تعيش في مساكن كبيرة ومميَّزة في مداخلها ومناظرها ونظافتها: مساكن حول الساحة المسماة "باب السراي".. حول الساحة المسماة "ضهر المير" حتى منطقة رجال الأربعين.. منطقة "بوابة الفوقا" حتى "نزلة صيدون".. مساكن مطلة على طول "شارع الشاكرية"...
ب. العائلات العادية والشعبية تعيش في زواريب صيدا حيث الكثافة السكانية وفي منازل لا تدخلها الشمس أحياناً.
ج. طبقة الصيادين ويعيشون في حي المرفأ، فساحلاً جنوباً حتى ثانوية المقاصد، فالمسلخ.
د. بعض العائلات الفنية التي كانت تعيش خارج صيدا القديمة شمالاً في حي "القملة" و"الشمعون" حتى آخر الدُّور حيث منزل الدكتور نزيه البزري.
ه. عمال البساتين أو "البساتنية" وهم عمال وملاّكو صيدا الزراعيين.. وكان بعضهم يسكن في جنوب صيدا حتى "جسر سينيق" ومعظمهم يسكن شمالاً حتى نهر الأولي.. وشرقاً حتى البرامية والقياعة، وهم يديرون زراعياًَ بساتين ملاكي صيدا.
إنتقال السكن إلى خارج صيدا القديمة: بقي التوزيع السكاني في صيدا كما سبق وذكرت حتى أواخر الأربعينات، حيث بدأ الانتقال إلى خارج صيدا، ومن الأسباب الرئيسية لذلك ما يلي:
أ. شق الشارع الرئيسي في زمن المرحوم رياض الصلح وقد سمي الشارع بإسمه.
ب. إنتقال مدرسة "الأميركان" من شارع الشاكرية إلى عين الحلوة بعد أن شيدت ثانوية فخمة للطلاب الداخلي والخارجي.
ج. هجرة قسم كبير من الشعب الفلسطيني إلى صيدا في نكبة عام 1948 واستقراره السكني في منطقة "عين الحلوة".
د. مشروع مدينة العمال في عين الحلوة الذي شيدته بلدية صيدا بمساعدة الدولة في الأربعينات ووزعته على بعض محدودي الدخل بالتقسيط.. وهو غير مشروع التعمير الذي شيدته الدولة في الستينات ووزعته على بعض محدودي الدخل بالتقسيط وفي منطقة عين الحلوة أفقياَ.
ه. شق شوارع فرعية في مناطق خارج صيدا القديمة، وأهمها شارع الأوقاف الإسلامية والمسيحية، وشارع فخر الدين.. وقد بنت الأوقاف مساكن ومحلات على جانبي هذه الشوارع الفرعية وعَرَضَتها للإيجار بأسعار مغرية.
و. انتقال مدرسة "الفرير" من شارع الشاكرية إلى منطقة "الرميلة" شمالاً، بعد أن شيدت ثانوية ضخمة للطلاب الداخلي والخارجي.
ز. بدأ انتقال العمل إلى خارج صيدا القديمة.. ثم انتقال العائلات الغنية والعائلات المتوسطة الدخل.
مهنة العائلة:
منظم العائلات الغنية والوجيهة، كانت من الملاكين وكان يُذكر على هوياتهم: المهنة "ملاّك" ويهتمون بإدارة أملاكهم، والسلطة، والوجاهة والقضايا العامة.. أو موظفون في الإدارات الرسمية العامة أو التجارة.
وأهم المهن التي كانت تتوارثها العائلة وتشمل عدداً كبيراً من سكان صيدا فهي:
أ. عمال البحر (أي الصيادين).
ب. عمال البساتين.
مستوى العائلة التعليمي:
كانت كلمة "متعلم" تعني كل من يستطيع أن يلمَّ بالمبادئ الأولية للقراءة والكتابة والحساب حتى أوائل الأربعينات.. لذلك فإن الجامعيين في صيدا، كانوا قلة نادرة، لا يتجاوز عددها عدد أصابع اليدين وجميعهم من العائلات التي تتمتع بالوجاهة أو المال أو السلطة.
وكانت مدارس جمعية المقاصد هي المؤسسة التعليمية الأساسية في صيدا التي تعمل في مجال تربية وتعليم أولادها (صيدا)، وشبابها، من مختلف الطبقات تقريباً. وتتألف الجمعية بمعظم أعضائها وأساتذتها فـي جميـع مدارسها مـن عائلات صيدا البـارزة المعروفـة: آل البزري، الزين، الصلح، لطفي، المجذوب، الجوهري، الشماع، القواس، شهاب... ومؤهلات معظم أفراد أعضاء الجمعية والهيئة التعليمية لا يتجاوز الشهادة الابتدائية أو المتوسطة (الاعدادية).
الصراع السياسي:
أيام النفوذي التركي ثم الفرنسي، كانت القوى السياسية الفاعلة هي للعائلات المعروفة بالوجاهة أو المال أو السلطة. بعضها يدور حول السلطة النافذة المحتلة، ومعظمها يمثل التيار الوطني العربي المناهض للإحتلال... ومراكز النفوذ الأساسية هي:
أ. البلدية.
ب. الأوقاف والإفتاء.
ج. جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية.
وقد كان لموقف الاحتلال غالباً الأثر الكبير في تغليب مصلحة المتعاونين معه من القوى المتصارعة، وذلك بمختلف أساليب الضغط والإكراه والإغراء التي تملكها وتتقنها دائماَ سلطات الاحتلال.. أو التعيين بقرارات ومراسيم السلطة أحياناَ وعند الحاجة.
وقد كان لجمعية المقاصد التي تأسست في نهاية القرن الماضي، وضع خاص... فقد تأسست من جميع القوى العائلية النافذة في صيدا... وتقاسمت عضويتها بيها جميعاً... واتفق ضمناً أن يحل بدل العضو المتوفي أحد أفراد عائلته... وبقي الصراع يدور داخل الجمعية بين أفراد العائلات على مَن يتولى مراكز الثقل والتأثير... وغالباَ يتم الاتفاق على تسليم مقاليد الأمور العلمية إلى المرحومَيْن المحامي محمود الشماع أو الدكتور رياض شهاب ، مما أمّن للمقاصد استقراراً وتقدماً وازدهاراً.
واستمرت الحال هكذا حتى أوائل الخمسينات، عند قيام ثورة المثقفين بقيادة جمعية خريجي المقاصد آنذاك ضد الوضع العائلي المتوارث السائد في المقاصد.. وابتدأ عهد جديد من الصراع.