الإيديولوجيّات تقليدٌ طويلٌ قديمٌ
الإيديولوجيّات
تقليدٌ طويلٌ قديمٌ
ثمّة تقليدٌ وقديمٌ وثابتٌ يعزو إلى الإيديولوجيا وينسب إليها دوراً دينامياً في التاريخ. كذلك، فإنّ مقاطعَ كثيرةً من أعمال "أوغست كونت" تشير إلى أنه كان يرى في الحالة الوضعيّة نتاج الثورة الإيديولوجيّة. وإن المجتمع الصناعيّ الذي تصوّره في المستقبل، سوف ينتج عن انتصار ما يمكن تسميته: إيديولوجية التنظيم التّقنيّ ــــ العلميّ. ذلك أنّ المقصود إنما هو رؤية جديدة للعالَم، تلك التي سوف تحوّل ذهنيّة الإنسان وظروفه في الحياة سواء بسواء. وكذلك، فإنّ الوعي الطبقيّ الثوريّ الذي ينبغي، بحسب "ماركس" و "إنجلز" أن يحرّك صراعَ الطّبقات ويقودَ بالتالي إلى سقوط الاستغلال والمستغِل، لا يمكن أن يتوضّح تماماً ويكون وجودُه مبرّراً، إلاّ عَبْر إيديولوجيّة جديدة تعبّر عن تناقضات المجتمع واستلاب العمّال البروليتاريّين. وعندما حلّل "ألكسي توكفيل" (Alexis Tocqueville) الديمقراطيّة الأميركيّة في بداية القرن التاسع عشر، اعتبرها ونظر إليها على أنّها: إيديولوجيّة المساواة ونمط حياة وبنية حكوميّة على حدّ سواء.
وأضحت الإيديولوجيا حديثاً أيضاً موضوعَ شتّى الدراسات المتميّزة والمحدّدة والدقيقة. وإنّ الدور الذي لعبته الإيديولوجيّات وما زالت تلعبه لدى الأمم الفتيّة والبلدان في طور النموّ، قد كان مصدره بالذات هذه الدراسات وموضوعها بوجه خاص. كما أنّ دراسات أخرى تناولت هي أيضاً بعض الظواهر الإيديولوجيّة في المجتمعات المتقدّمة صناعياً. لذلك فإنّنا سنحاول أن نقتصر ونلخّص تلك الخلاصات الرئيسة التي تُستنتج عن هذه البحوث.
تعريف الإيديولوجيا
لنبتدئ في أن نُذكّر بتعريف الإيديولوجيا الذي كنّا قدّمناه في السابق (الجزء الأول، الفصل الرابع): إنّها نَسَق (systéme)(1) من الأفكار والأحكام، ظاهراً ومنتظماً عموماً، يُستخدم ليصف ويفسِّر ويشرح أو يبرِّر وضعَ مجموعة أو جماعة من الناس والذي، مستوحياً من مفاهيم القِيَم بشكل واسع، يُبدي اتجاهاً محدّداً للفعل التاريخيّ لهذه المجموعة أو الجماعة. تبدو الإيديولوجيا إذن وتظهر في الثّقافة وعَبْرها، كما لو أنّها مجموع غاية في التكامل والانتظام من الإدراكات الحسيّة والتصوّرات العقليّة. يمكننا بهذا المعنى أن نتكلّم على الإيديولوجيا وكأنّها "نَسَق"، مثلما أثبت ذلك وبيّنه عالِم الاجتماع الكيبيكيّ "ليون ديون" (Lion Dion).
بل أكثر من ذلك أيضاً، أنّ لنَسَق الفكر هذا، كهدف، أن يفسِّر وضعاً اجتماعياً معيّناً وأن يبديَ توجّهات الفعل التاريخيّ. تغدو الإيديولوجيا بهذه الطريقة وبالنسبة إلى عالِم الاجتماع، ظاهرةً استراتيجيّة، تفسح له المجال أن يفهم من الداخل الواقع الاجتماعيّ وتاريخه. وبالفعل، فإنّ موقع الإيديولوجيا يتحدّد في مستوى المجتمع والتاريخ المعيوشيْن ـــــ بمعنى المجتمع كما يُفكّرُ فيه ويُحسّ به، والتاريخ كما هو مرغوب فيه ــــ من قِبَل الفاعلين أو مجموعة خاصة من الفاعلين. والإيديولوجيا بطبيعتها الذاتيّة هي إذن أداة فعل تاريخيّ. إنّها مصوغة ومُعمّمة من قِبَل الفاعلين الذين يبحثون في أن يؤثّروا في سير تاريخ مجتمعهم ومجراه.
غير أنّ هناك جوانب أخرى ملازمةٌ للإيديولوجيا وملتصقةٌ بها، تُسهم هي أيضاً في أن تجعل منها عاملاً ديناميّاً شديد القوّة. فيستأهل منّا ذلك أن نتوقّف عندها بُغية تفحّصها وتوضيحها.
عقلانيّة الإيديولوجيا
أولاً، عندما تتّخذ الإيديولوجيا شكل "نَسَق من الأفكار والأحكام" فهي تظهر بمظهر العقلانيّة (la rationalité)، بل وحتى بمظهر العلم أحياناً. إنّ ما تبتغيه الإيديولوجيا في البداية هو أن تفسِّر الواقع، وهو واقع غالباً ما يكون معقّداً وعاماً، هذا إن لم يكن غامضاً مشوّشاً. ولا يخلو هذا التفسير أو يعوزه المنطق ولا التماسك، حتى ولو كان بسيطاً نسبيّاً في كثير من الحالات، أو لو كان مقبولاً فكرياً على الأقل إما بالنسبة إلى أنتلجنسيا تمحِّصه وتبلْوره، وإما بالنسبة إلى أولئك الذين لا يتناولونه إلاّ في خطوطه الكبرى أو في صياغاته الأوليّة.
الإيديولوجيا الموضِّحة والمُطَمْئِنة
ومن جهة ثانية، يتيح هذا النَّسَق من الأفكار والأحكام لأولئك الذين يعيشون وضعاً معيّناً أن يعرِّفوه ويوضّحوه بشكل أفضل، وأن يفهموا معناه وأن يسوِّغوه ويبرِّروا وجودَه. والإيديولوجيا تُعنى بطرح الأسئلة وتبحث عن الإجابة عنها: لماذا نحن مستغَلّون، ومَن هؤلاء الذين يستغِلّوننا؟!.. لماذا نحن متخلِّفون؟!.. ولماذا الرجل الأبيض يزعم أنّه هو المتفوِّق الأعلى؟!.. لماذا يسير البلد نحو الانهيار؟!.. لماذا يجب تغيير الحكومة، إلخ.. إلخ.. وهكذا يمكننا القول إنّ الإيديولوجيا، وبحسب الحالات، موضِّحةٌ أو مُطَمئنةٌ، أو الإثنين في الآن الواحد معاً.
الإيديولوجيا في خدمة المصالح
ثالثاً، والإيديولوجيا مع كونها نَسَقاً من الأفكار والأحكام، إلاّ أنّها ليست مجرّدة، غيبيّة. بل ترجع إلى مصالح فرديّة وجماعيّة مباشرة وتستند إليها. أن تتوجّه الإيديولوجيا إلى الذي يريد أن يحافظ على وضعه ويدافع عنه، أو الذي يرغب في تحسين هذا الوضع، فهي تتحدّث دائماً إلى آذانٍ صاغيةٍ صاحبة المصلحة. وهي تتّخذ مرجعاً لها الأوضاعَ الواقعيّةَ التي تبرهن عليها وتسوِّغها أو التي تطرحها على بساط التساؤل والشّك، وذلك تبعاً للمصالح التي تعبّر عنها وتمثّلها.
استدعاء الحالات النّفسانيّة الكثيفة
رابعاً، وبما أنّ الإيديولوجيا، كما رأينا، تمسّ المصالح مباشرة وتتصل بها، فهي تلتحق بالحالات النّفسانيّة الكثيفة أو الحادّة. لكنها حالات غالباً ما تكون حتى الآن عامة مشوّشة أو كامنة ضمنيّة. وهذه الحالات النّفسانيّة إنّما هي من مستوييْن بوجه خاص: قد تكون حالات قَلق وتوتّر، أُثيرت عموماً بفعل التغيّرات والاضطرابات أو بمجرّد احتمال حدوث التغيّرات المنظورة والمتوقّعة، أو بدافع خوف من خطر داهم وعدم اطمئنان وشكّ، أحدثتها هذه التغيّرات وأدّت إليها. وقد يكون هذا القَلق ضعيفاً ويتجلّى بشكل ضيّق محصور أو انزعاج فكريّ غامض، أو قد يكون حادّاً عنيفاً، ويتّخذ شكل خوف شديد أو غمّ أو حتى رعب عميق. حينذاك، تخلق حالاتُ القلق عموماً أيديولوجيا من النّمط المحافظ أو من النّمط الرجعيّ.
وقد تتّصف الحالات النّفسانيّة أيضاً بالعُدْوانيّة، نتيجة فترة زمنيّة طويلة من الإحباطات الفرديّة والجماعيّة. وتولّد العدوانيّة في العادة خليطاً من المواقف العدائيّة بالنسبة إلى خصم أو ضحيّة، وخليطاً كذلك من الطموحات الجديدة أو الأحلام أو اليوتوبيات (utopies). وهكذا، فإنّ الحالات العدوانيّة إنّما هي الأخرى من طبيعة تنتج الإيديولوجيا من النّمط الإصلاحيّ أو من النّمط الثّوريّ.
الفعل المشترك لـــ "نحن"
خامساً، تسعى الإيديولوجيا إلى الاستجابة لهذه الحالات النّفسانيّة الكثيفة الحادّة وتلبيها، وذلك باقتراح فعل مشترك، يحمل في طيّاته نوعاً من الاطمئنان عند حدوث حالات القَلق، أو يُطلق الغضب والطّموحات في حالات العدوانيّة. تستدعي عند ذاك الإيديولوجيا الــ "نحن". إنّها تدعو إلى التجمّع في كلِّ متماسكٍ يمكن للأشخاص أن يتماهوا به، كما أنّها تحمل إليهم شعوراً بالقدرة والقوّة والنفوذ. وهذا الــ "نحن"، قد يكون طبقة اجتماعيّة، أو حزباً سياسياً، أو الأمة، أو حركة اجتماعيّة، إلخ...
والـــ "نَّحن" ضمن الإيديولوجيا غالباً ما يكون مبسّطاً وأحياناً مشخّصاً إلى حدّ ما، وذلك كي يتيح للأفراد أن يتمكنوا من أن يتماهوا به وبما يمثّل لهم، وأن يقوموا لجهة هذا الــ "نَّحن" بنوع من التحويل، تحويل قلقهم أو عدوانيّتهم إليه.
القِيَم والإيديولوجيا
سادساً، يُستخدمُ الــ "نَّحن" من ضمن الإيديولوجيا عادة من أجل أن يرمز إلى القِيَم ويبلْورها. وهي قِيَم تستدعيها الإيديولوجيا وتعتمد عليها. وقد تكون قيماً من ماضٍ بعيد تقريباً أو قد تكون قِيَماً راهنة آنيّة أو قِيَماً جديدة.
فلنشدّد، هنا على أمر واقع وهو أنّ الإيديولوجيا هي أحد المجالات الرئيسة التي تنشأ فيها القِيَم الجديدة وتُخلق، وهذه القِيَم الجديدة، وهي غالباً ما تكون عامة غامضة أو ضمنيّة، تجد صياغتها في نهاية المطاف في تصوّر إيديولوجيّ يعمل على توضيحها وإبرازها. ويحدث أيضاً أنّ ما نسمّيه قِيَماً جديدة، قد يكون في الحقيقة قِيَماً قديمة أو راهنة، وأنّ الإيديولوجيا تعود مرّة أخرى وتعرِّفها بالنسبة إلى سياق أو ظرف جديد، أو تعطيها معنى ظلّ حتى حينه واستمرّ ضمنياً كامناً، أو أنّها أيضاً تقدّمها بوجه مختلف عن طريق ترتيب هذه القِيَم وتنظيمها في نَسَق جديد من الأفكار والأحكام.
وبالفعل، فإنّ هذا الرجوع الدائم إلى القِيَم هو الذي يميّز بوجه خاص الإيديولوجيا من العلم. فتسعى الإيديولوجيا إلى أن تتماهى بمرجعيّة القِيَم هذه في معظمِ الأحيان. كما تحمل الإيديولوجيا في طيّاتها، في الوقت عينه، الأحكامَ الواقعيّة والأحكام القِيَميّة: إنّها تُحاكم الواقع وتُبدي رأيها فيه، في الوقت الذي تقوم بوصفه ورسم معالمه. فهي تفسّره في الوقت الذي تحاكمه وتقاضيه.
خاصيّة الإيديولوجيا الإراديّة
وأخيراً، فإنّ الإيديولوجيا إنّما هي إيديولوجيا إراديّة، بمعنى أنّها تستدعي إرادة الفعل وتطلُبُها، وذلك بأن تطرح الأهداف لبلوغها، وتدلّ على الوسائل للوصول إليها وتحقيقها، وتُعِدَّ لذلك منهجاً دقيقاً ومحدّداً تقريباً. وإن الأحكام والآراء والأفكار التي تنطوي عليها الإيديولوجيا، تصبّ جميعها في وضع الحلول الملموسة التي تتوخّاها حلولاً واقعيّة ممكنة التنفيذ وتؤدّي بالتالي إلى درجة من الفعل تتيح تطبيقها في مستقبل الأيام القريبة أو البعيدة. كما تبتغي الإيديولوجيا وبكلّ وضوح أيضاً أن تلويَ مجرى التاريخ وتحرِّفه إلى الوجهة التي ترغب وتريد. وفي هذا السّياق، تبحث الإيديولوجيا ــــ وبأيّ شكل من أشكال الحتميّة (السير دائماً في وُجهة التاريخ ومنطقه) أو الانطلاق من الإعلان جهراً وعلانية عن وجهها الإراديّ ــــ تبحث الإيديولوجيا دائماً ــــ نقول ــــ عن الهدف عينه: أن تثير الفعل التاريخيّ لأيّ جماعة من الناس، وأن تُحرِّضَ عليه وتُحدِثَه.
الإيديولوجيا: ظاهرة نفسيّة ـــ اجتماعيّة
إنّ هذه الخصائص الرئيسة للإيديولوجيا التي أتينا على ذكرها أعلاه، تدلّ بوضوح على أنّ الإيديولوجيا ظاهرةٌ نفسيّة ـــــ اجتماعيّة بحصر المعنى. فهي تتعلّق بداية بالمستوى السوسيولوجيّ وتتبع له من وجوه عديدة، أهمها: الوضع الجمعيّ الذي تفسِّره وتسوّغه وتبرّره وتحاكمه، القِيَم التي تعتمد عليها، الرَّمزية التي تحيط نفسها وتلفّها بها، الانتماء إلى الـــ "نحن" الذي تبغي الإيديولوجيا وتتوخّى إثارته، الفعل المشترك الذي تقترحه وتطرحه. كذلك كنّا قد عرَّفنا سابقاً الإيديولوجيا (الكتاب الأول، الفصل الرابع) بمثابة جزء لا يتجزأ من الثقافة. بل وحتى أنّنا قلنا إنّها تكوّن فيها "نواة" صلبة راسخة، وذلك تحديداً بسبب خاصيّتها المنظّمة الدقيقة، الثابتة، الواضحة، الإراديّة. زد على ذلك أنّ الإيديولوجيات كانت قد فسحت المجال آنفاً لدراسات سوسيولوجيّة عديدة، غير أنّ معظمها انصبّ في منظور علم اجتماع المعرفة، ولا سيّما بتأثير كلّ من "ماركس" و"منهايم". كذلك كانت الإيديولوجيا موضوع بحوث وأعمال كثيرة جداً في علم السياسة.
ولكن الإيديولوجيا تختصّ هي أيضاً بالمستوى البسيكولوجيّ وتتبعه: فهي تغتني بحالات كامنة من القلق أو العدوانيّة لدى الأعضاء في جماعة ما، وذلك عن طريق تماهي الأشخاص بالمجموع أو الجماعة التي يمثّلها هذا الـــ "نّحن". وهكذا حاول بعض الكتّاب أن يقوم بوضع ما يسمّى "التحليل النّفسيّ للإيديولوجيات" (la psychologie des idéologies) الذي لا يزال مع ذلك غير معروف معرفة جيّدة.
إنّ انصهار مستويات سوسيولوجيّة وبسيكولوجيّة في الإيديولوجيا يُضفي عليها، وبكلّ تأكيد، قوةَ فعلٍ استثنائيّة. فيتمركزُ حولها، فعلاً، ويحيطُ بها طاقاتٌ نفسانيّةٌ غامضةٌ مبهمةٌ، ولكنها قويّة فاعلة، وأحياناً حتى متفجّرة، وذلك لخدمة جماعاتٍ محدّدة تحديداً دقيقاً، وأهدافٍ وغاياتٍ واضحة الهُويّات والمعالِم، ومخطّطاتٍ معدّة إعداداً منهجياً من أجل القيام بعمل معيّن. تتّصل هنا حاجات الأفراد وآمالهم وتلتقي بقلق الجماعات وطموحاتها في اندماج وتلاؤم، حيث تتضافر الحالات النّفسانيّة الفرديّة والمواقف الجماعيّة وتستقوي بالتناوب بعضها بعضاً، وذلك عن طريق جمعها وانضمامها معاً
الوعي المزيّف والوعي الواضح
لا شكّ في أنّه أصبح واضحاً الآن ــــ وفي هذه النقطة بالذات ــــ أنّ ثمّة تباعداً عميقاً وتفاوتاً بين التحليل الماركسيّ للإيديولوجيا وتحليل الإيديولوجيات في علم الاجتماع المعاصر. إنّنا نُعرِّف الإيديولوجيا ووظائفها الاجتماعيّة في النموذج الماركسيّ حصرياً من منظور الطّبقة المسيطرة: أيّ أنّ الإيديولوجيا هي إدراك الموقف أو الوضع الذي تحتلّه الطبقة المسيطرة، وذلك تبعاً لموقعها ومصالحها. والإيديولوجيا هذا المعنى، عندما تتبنّاها الطبقات الاجتماعية الأخرى، تغدو "أفيوناً" (opium) بالنسبة إليها، لأنّها تَستلِبُها ضميرَها وتخنقُ طاقاتها الثوريّة. ولو أدركت هكذا الإيديولوجيا، على هذه الصورة، تصبح "وعياً مزيّفاً"، وعياً مغلوطاً، للحقيقة الواقعيّة، لأنّها تكون آنذاك إدراكاً فاسداً لها وموجّهاً للحفاظ على الاستقرار (statu quo)، استقرار الأوضاع الراهنة التي تصبّ في دوام الطبقة المسيطرة وفي مصلحتها...
أمّا "ماركس"، فإنّه يواجه الإيديولوجيا ويعارضها بالوعي الطبقيّ. وهذا الوعي الطبقيّ هو عبارة عن استيقاظ مصالح الطبقة الحقيقيّة وصحوة العمل السياسيّ والثوريّ الضروريّ، بهدف إبعاد الطبقة المسيطرة وإسقاطها. فعن طريق الوعي الطبقيّ، تُدْركُ تناقضات الواقع الموضوعيّ إدراكاً واضحاً، فتُحاكم وتُحارب في آنٍ معاً.
لكن هذا التعارض الجذريّ الرديكاليّ بين الإيديولوجيا والوعي الطبقي، يُغفلُ نقطةً جوهريةً أساسيّة: بمعنى أنّ الوعي الطبقيّ إنّما يمرّ هو أيضاً عَبْر الإيديولوجيا. وإنّ الوعي الواضح ـــــ في تعارضه مع الوعي المزيّف ـــــ لا ينبثق هكذا تلقائياً من ذاته، كما لو أنّه يصدر، وبشكل طبيعي، عن حالة اللا ـــــ وعي. بل هو ينتج في معظم الأحيان من تفسير منهجيّ دقيق للوضع الراهن من قِبَل "المُعرِّفين" (les définisseurs) لإيديولوجيا جديدة. فتُمثّل هذه الإيديولوجيا الجديدة وتُقدّمُ رؤيةً مختلفةً عن ذلك الوضع أو الواقع الذي كان سائداً ومسيطراً حتى ذلك الحين. فهي إيديولوجيا ــــ مضادة (contre – idéologie) في مقابل الإيديولوجيا المسيطرة.
إنّنا ندرك إذ ذاك أنّ علم الاجتماع المعاصر ينظر إلى الإيديولوجيا على أنّها قد تُنتج الوعي الواضح، كما تُنتج أيضاً الوعي المزيّف سواء بسواء. فالإيديولوجيا بذاتها ليست إيديولوجيّة مستلِبَة ولا هي موضّحة. بل يتعلّق ذلك كلّه بحسب السّياق العام أو الظرف (الاجتماعيّ) الذي تتحرّك فيه الإيديولوجيا وتعمل. ولأنّ الإيديولوجيا تُسهم، وبخاصة، في تفتّح الوعي الواضح وإيقاظه، فهي لذلك عامل من عوامل التغيّر الاجتماعيّ، فكانت أيضاً من هذه الناحية بالذات قد دُرست حديثاً على وجه الخصوص.
الإيديولوجيا والوعي الواضح
عندما قلنا إنّ في استطاعة الإيديولوجيا أن تُنمّيَ وعياً واضحاً وتطوِّرَه لدى أعضاء جماعة من الجماعات، أو على الأقل لدى عددٍ معيّن منهم، كنّا نعني بذلك أنّ الإيديولوجيا ـــــ وهي تصفُ وضعاً وتفسِّره وتُبرزُ القِيَم وتُقدِّمُ نَسَقاً من الآراء والأحكام ـــــ تُظهرُ على مستوى الوعي المشاعرَ والأفكارَ التي ظلّت إلى ذلك الحين واستمرّت غير واعية أو نصف واعية، لأنّها كانت غامضة، مشوّشة، مكتومة، مكبوتة: فلم تجد بعدُ الصياغات الشفويّةِ: فتقدّم إذن الإيديولوجيا إلى هذه الأفكار وإلى هذه المشاعر الكلماتِ والصيغَ، التي عن طريقها يمكنها أن تعبّرَ وتعرِّفَ عن ذاتها. وما لم يُستشعرُ به حتى حينه إلاّ على المستوى الذاتيّ، يتّخذ في الحال صفة موضوع معيّن. وهكذا تأتي هنا الإيديولوجيا لتكشف لأعضاء جماعة من الناس أو لأعضاء مجتمع معيّن، عماّ كانوا يفكرون به ويحسّونه ويستشعرونه آنفاً بصورة غامضة، كما لو أنّهم لا يعرفونه. زد على ذلك أنّ الإيديولوجيا تتجلّى غالباً وتقدِّم نفسها وكأنها "وعيٌ".
بناء عليه، تُسهم الإيديولوجيا في نشوء الوعي الواضح وإيقاظه، عن طريق الأهداف التي تطرحها ووسائل الفعل التي تقترحها وتوحي بها أو تشير إليها. فهي تصف مستقبلاً ممكناً وترسم ملامحه، وتحدّد معنى الطموحات التي لم يُعبّر عنها بعدُ، وتثير الآمال والرّغبات والتّمنيات المستقبليّة وتُغذّيها وتُغنيها. فتحيل الإيديولوجيا الأنظار نحو المستقبل وتستنهض الآمال الجديدة التي بقيت حتى ذلك الحين مكتومة مكبوتة.
بل أكثر من ذلك، فإنّ الإيديولوجيا بصورة عامة إنّما هي تبسيطيّة. إنّها تختارُ عناصرَ الوضع الظرفيّ وتنتقيها وتجمعها معاً عن طريق الاستدلال والبرهان"البَدَهيّ" أو السّهل على الفهم، وتبني منها نَسَقاً تفسيرياً شفافاً في الظاهر. وهذا ما يجعل أنّ الإيديولوجيا غالباً ما تُعبّر بصياغة صُوَرٍ ـــــ مؤثّرة أو صُوَرٍ تصدم: (yankee go home)، أو "يحيا الكيبك حرّاً"، أو بإطلاق صِيَغٍ مُقَوْلَبَةٍ مكرّرة (كلاشيهات) مثلاً: ("السّود كسالى"، "اليهود يسرقون"). إنّ هذه القدرة أو الطاقة على التبسيط تجعل من الإيديولوجيا أداة شديدة القوّة وفاعلة في نشوء الوعي وإثارته.
فعل الإيديولوجيات
والإيديولوجيا، عن طريق الوعي الواضح الذي تطوّره وتنمّيه، تُطلق الطاقات من عقالها، تلك التي تستخدمُها في الآن معاً من أجل تركيزها وتوجيهها. وفي هذا النّطاق، أدْلى بعض الكتّاب بفرضيّة مفادها أنّ الإيديولوجيات، مع أفول الإيمان الدينيّ في العالم الحديث، التقطت الطاقات جميعَها، التي كانت منتشرة على المستوى ما فوق ـــــ الطبيعيّ والصوفيّ والسحريّ، وذلك بهدف إعادة بسطها ونشرها من جديد على المستوى الدنيويّ والاجتماعيّ. فهذه الفرضيّة لا تخلو من فائدة ولا من أساس. وهناك أمثلة كثيرة ملموسة تُظهر ذلك وتدلّ على أنّه قد كان لهذه الإيديولوجيات أثر بالغ الأهمية في رفع مستوى آمال الأفراد والجماعات وإيقاظ الطموحات والتمنّيات المستقبليّة ودعم المشاريع الجمعيّة الكبرى وتحويل جذرياً مجرى التاريخ في بعض الحالات.
هنا، تساءل كتّاب عديدون إذا لم نكن نشهد الآن "نهاية الإيديولوجيات" (la fin des idéologies). كتب "دانيال بيل" (Daniel Bell) عام 1960، في مؤلّف يحمل تحديداً هذا العنوان نفسه، وهو يقول: "لقد كنّا شهوداً في العقد الأخير على إنهاك إيديولوجيات القرن التاسع عشر، ولا سيّما الماركسيّة، وذلك كمنظومات وأنساق فكريّة ادّعت لنفسها الانتساب إلى الحقيقة الكليّة وامتلاكها في رؤيتها للعالم" بينما يبدو لنا الآن جيداً أنّنا نشهد في الواقع ليس أقول الإيديولوجيات، وإنّما على العكس انتشارها في العالم قاطبة. فنشهد غلياناً إيديولوجياً كبيراً في الغرب، بل ولربّما أكثر أيضاً في أفريقيا وفي آسيا.
ففي المجتمع الصناعيّ المتقدّم الموسوم بارتفاع مستوى التعليم، وفي الوقت نفسه بتعقيد التنظيم الاجتماعيّ وبِنى السلطة فيه، فإنّه لمن المستغرب حقاً أن نشهد فيه أفولاً للإيديولوجيات. بل يبدو بالأحرى أنّ هذه الإيديولوجيات ما زالت تستمرّ في أن تجدَ لها في هذا المجتمع الصناعيّ بالذات الشروط النفسيّة ــــ الاجتماعيّة المساعدة والمشجّعة لتكاثرها وازديادها وانتشارها وتضاعف فعلها وتأثيرها.
تصنيف الإيديولوجيات
ولكن، حتى نفسِّر تفسيراً تاماً متكاملاً فعلَ الإيديولوجيات وندرك جيّداً أيضاً في أيّ سياق عام طوّرت فيه وعياً واضحاً أكثر منه وعياً مزيّفاً، يجب علينا بداية أن نعمد إلى وضع تيبولوجيا للإيديولوجيات. لقد تكلمنا إلى الآن على الإيديولوجيا وكأنّها عبارة عن ظاهرة بسيطة نسبياً. بينما هي في الواقع ظاهرة بالغة التعقيد تبعاً للأشكال الملموسة المتنوّعة والمختلفة التي يمكن أن تتّخذها وترتديها.
هذا، ومن الممكن أن نصنّف الإيديولوجيات بحسب على الأقل أربعة معايير: المجموعة التي تتوجّه إليها الإيديولوجيا، العلاقة بين الإيديولوجيا والسلطة، أدوات الفعل التي نقترحها وتحدّدها، أخيراً مضمونها ومحتواها.
1) أما بالنسبة إلى المعيار الأول، فإنّ الإيديولوجيا في مقدورها أن تتوجّه إلى مجموعة واحدة أو إلى مجموعات خاصة داخل مجتمع عام وشامل: طبقة اجتماعيّة، مهنة، إلخ.. وهكذا فإنّ الإيديولوجيا النقابيّة تتوجّه إلى العمال والمستخدمين. كما أنّ هناك إيديولوجية المهن الحرّة.
- هنا قد تعبّر الإيديولوجيا عن طموحات مجتمع شموليّ، كما هي حالة القوميّة بوجه خاص.
- وقد تتوجّه الإيديولوجيا أيضاً إلى جماعة أمميّة أو عالمية أو ما فوق ـــــ الأمة. لذلك كانت الشيوعيّة الماركسيّة تتوجّه، ولا سيّما في الأصل والأساس، إلى الطبقة العمّالية العالميّة: ("يا عمّال العالم، اتّحدوا!!..").
2) تتّجه الإيديولوجيا دائماً ــــ أو تقريباً دائماً ـــــ نحو السلطة. فتتّخذ بالتالي صفة سياسيّة. ففي هذه الحالة يمكننا
أن نميّز بين:
- الإيديولوجيا التي تعبّر عن رأي ووجهة نظر المجموعة التي تمتلك السلطة، مثلاً إيديولوجيّة طبقة مسيطِرة أو طبقة تكنوقراطيّة.
- إيديولوجيّة تطمح إلى الاستيلاء على السلطة: تلك مثلاً إيديولوجيّة حزب سياسيّ أقليّ، أو في المعارضة.
- إيديولوجيّة مجموعة تسعى إلى التأثير على السلطة، دون أن تستولي عليها. هذه هي حالة الإيديولوجيا التي ندعوها "مجموعات الضغط" (groupes de pression).
3) أما بالنسبة إلى أدوات الفعل ووسائله، فقد تكون الإيديولوجيا:
- إصلاحيّة، فيما لو قدّمت مشروعاً تدريجياً لتعديل وضع معيّن وتبديله.
- ثوريّة، لو أوحت إلى اعتماد أدوات ووسائل عنيفة وغير شرعيّة: تحريض، انقلاب، إلخ..
4) أخيراً، فإنّ الإيديولوجيا، بالنسبة إلى محتواها، فقد تكون:
- رجعيّة، فيما لو أنّها اقترحت حلولاً في مضمونها تكوّن عودة إلى الماضي القريب أو البعيد.
- محافظة، لو دعت إلى استمرار الوضع الراهن واستقراره.
- تقدميّة أو ليبراليّة، إذا اقترحت ترك تقاليد معيّنة، وذلك لصالح إجراءات تغييريّة نُظر إليها واعتبرت ضروريّة.
- جذريّة (رديكاليّة)، إن أرادت أن تُحدث انقطاعاً كاملاً، أو تقريباً كاملاً، مع الوضع الموجود راهناً.
وقد يحدث في أحيان كثيرة أيضاً أن نميّز بين:
- إيديولوجيّة يساريّة، عموماً من إيحاء ماركسيّ أو اشتراكيّ أو ذي ميل اشتراكيّ أو مجرّد ديمقراطيّ أحياناً.
- إيديولوجيّة يمينيّة، من إيحاء أكثر تقليداً، أكثر محافظة أو رجعيّة.
إنّ هذين التعبيريْن الأخيريْن ـــــ "يسار" و "يمين" ـــــ وهما تعبيران أصلاً غامضان مبهمان في أغلب الأحيان، إلاّ أنّهما قد يفسحان المجال أيضاً لإعداد مصطلحات موغلة في الدقّة والحذاقة، تهدف إلى تمييز "اليسار المتطرِّف" من "اليسار الوسط"، مروراً بـــــ "الوسط" و "يمين الوسط"، ووصولاً إلى "اليمين المتطرِّف".
فلنلاحظ هنا: غنى المفردات والمصطلحات الجارية في مادة الإيديولوجيا، الغموض الذي يكتنف في الغالب هذه المفردات والمصطلحات التي قد تُستخدم للتعبير عن هذا الغموض وتوضيحه، المعاني المختلفة التي تتّخذها هذه التعبيرات، وذلك بحسب السّياق العام الذي تجري فيه ويحيط بها.
إذن، فالإيديولوجيا في واقع الحال هي كلّ شيء آخر سوى أنّها حقيقة واقعيّة بسيطة. وإنّ أيّ تحليل نوعاً ما كاملاً لهذه الظاهرة، ظاهرة الإيديولوجيا، ينبغي أن يأخذ في الحسبان جميع هذه التميّزات التي يفرضها الواقع الملموس. ولكن ذلك من غير الممكن أن نقوم به نحن هنا الآن. غير أنّنا لن نقدِّم حالياً إلاّ بعض المؤشرات.
الإيديولوجيا المحافظة:
إيديولوجيّة المجموعة الخاصة
إنّ إيديولوجيّة مجموعة خاصة، تمتلك سلطات واسعة وسهولة الاتصال بالسلطة السياسيّة، هي كذلك إيديولوجيّة محافظة وأحياناّ رجعيّة، ويتحدّد موقعها في مكان ما بين الوسط واليمين. فإذا قبلت بعض التغيّرات أو دعمتها، فإنّما يكون ذلك بوسائل إصلاحيّة وباعتدال.
لقد برز هذا النمط من الإيديولوجيا بروزاً واضحاً خصوصاً في الدراسات التي أجراها علماء الاجتماع الأميركيون حول إيديولوجيّة رجال الأعمال في الولايات المتحدة. فرجال الأعمال هم بحاجة ماسّة لإيجاد مسوّغٍ لهم ومبرّرٍ لنفوذهم وسلطتهم ولمركزهم المميّز الممتاز. وبالإضافة إلى ذلك، فهم يخضعون لجميع أنواع التوتّرات والضغوط والتأثيرات. فإيديولوجيّتهم بالنسبة إليهم إنّما هي إذن تبريريّةٌ ومُطَمْئِنَةٌ، انطلاقاً من نزعتها المحافظة واعتدالها ومن إدراكها أيضاً ونظرتها الدونيّة لأولئك الذين يخضعون لهم (أي لرجال الأعمال).
زد على ذلك أنّ رجال الأعمال هم في حالة منافسة دائمة مع مزاحمين ومنافسين، لكن لهم معهم كذلك مصالح مشتركة. فإيديولوجيّتهم تشدّد على ما يجمعهم، فيما وراء ما يباعد بينهم ويعارض بعضهم بعضاً.
وأخيراً، فهم يقيمون مع السلطة السياسيّة علاقات غامضة ملتبسة: إنّهم قريبون منها، في الوقت الذي يخشون فيه تدخّلها. ولكنهم يسعون إلى محاباتها ويبحثون عن حظوتها. إنّ هذا الالتباس في المواقف ينعكس على الإيديولوجيا التي هي مزيج من نزعة محافظة ونزعة ليبراليّة سواء بسواء.
أما بالنسبة إلى التغيّر الاجتماعيّ، فإنّ أيّ إيديولوجيّة من هذه الطبيعة، إنّما هي على الأكثر إيديولوجيّة تكيّفيّة (adaptatif): فهي لا تُحدث التغيّر ولا تحضّ عليه، ولكنها تسهِّل تكيّفاً تدريجياً للتغيّر، عندما يكون قد وقع هذا التغيّر وحصل بالفعل، أو أنه بات محتوماً لا مفرّ منه. فهذا ما تُظهر دراسة "ر. بندكس" (R. Bendix) التاريخيّة باعتمادها طريقة مميّزة تماماً...
الإيديولوجيا الرجعيّة أو الرديكاليّة
لمجموعة خاصة
إنّ أيّ مجموعة خاصة تهاجم السلطة أو تسعى إلى التأثير عليها، تستطيع أن تطوّر إيديولوجيّة إما رجعيّة ويمينيّة، وإما تقدميّة أو رديكاليّة ويساريّة. والواقع، فإنّ إيديولوجيّة يمينيّة لها، في كثير من الأحيان، جذور مشتركة مع إيديولوجيّة يساريّة، أكثر منها مع إيديولوجيّة من الوسط. ذلك أنّ إيديولوجيّة الوسط إنّما هي إيديولوجيّة محافظة وتكيّفيّة. في حين أنّ إيديولوجيّة اليمين، كما إيديولوجيّة اليسار، تحرّضان كلتيهما على تغيير الظروف والأوضاع السائدة، التي يُنظر إليها على أنّها غير مرضية.
فقد تلتقي إذن الإيديولوجيات الرجعيّة والإيديولوجيات الرديكاليّة كلتاهما مثلاً، وفي الوقت نفسه، في أوساط الطبقة العاملة. فهذه الإيديولوجيات، الواحدة كما الأخرى، تعبّر إذ ذاك عن ظروف وأوضاع الطبقة العاملة، الغامضة الملتبسة، وكذلك أيضاً عن الطموحات والآمال المشتركة. إنّنا نستطيع أيضاً أن نلاحظ الظاهرة نفسها أحياناً كثيرة في إيديولوجيات الحركات الشعبويّة (populistes) الفلاحيّة وفي إيديولوجيات الثورات العنيفة ـــــ المقموعة بسرعة عموماً ــــ والتي أطلقتها من عنائها وأثارتها هذه الإيديولوجيات. فليس في الغالب إلاّ بعد فترات الالتباس والغموض وعلى أثرها، تنشأ إيديولوجيات رديكاليّة وتتجذّر في النهاية في مجموعات محرومة مقهورة، كما هي الحال الآن مثلاً بالنسبة إلى "السلطة السوداء" (le pouvoir noir) لدى السود في الولايات المتحدة الأميركيّة.
إنّ إيديولوجيّة مجموعة من الناس محرومة ومبعدة من نظام الحكم، قد تكون في هذه الحالة عامل تغيّر، وإنّما في اتجاهات متباينة، بل وحتى متعارضة. فلا يجوز إذن الاعتقاد أو التصوّر أنّ الإيديولوجيا التي تنشأ في وسط هذه المجموعات وتُعدّ وتحضّر فيها، هي دائماً جذريّة رديكاليّة بالضرورة. في الحقيقة، إننا نجد عادة في تلك الأوساط إيديولوجيات متنوعة حيث كثيراً طَيْفُها من اليمين المتطّرف إلى اليسار المتطرّف.
الإيديولوجيا الوطنيّة في مجتمع شامل
إنّ أيّ جماعة إتنيّة وطنية، وأيّ مجتمع شامل عامل هما بحاجة إلى إيديولوجية تعرِّف ماهيّتهما وما يميّزها وما يختص بهما. فلكلّ جماعة وطنية أو إتنية، بل ولربما أكثر أيضاً لكلّ جماعة تبحث عن نفسها وتتساءل حول هُويّتها ومصيرها، إيديولوجيا وطنيّةٌ أو قوميةٌ توضّح أيّ أرض تخصّها وتنتمي إليها، محدّدة بذلك حدودها وأحياناً أخرى تعطيها اسماً جديداً. فهي تعيّن حدود المجموعة الوطنية، بتخصيصها الحدود التي تعود لــــ "النَّحن" والأخرى المستبعدة. وهي تعرِّف الحقوق والطموحات والمصير. وتسمّى أعداءها أو خصومها. وتقرأ مستقبلها في ماضيها وفي حاضرها.
تبعاً لذلك، تُستخدم القومية بُغية توضيح ما نسمّيه "الهُويّة الوطنية"، وهو تعبير يتطلب، على الصعيد السوسيولوجيّ، دعوة إلى الأشخاص لكي يتماهوا مع هذا الــــ "نَّحن"، ويجدوا فيه شيئاً من هُويتهم الشخصية. إنّ هذه الوظائف النفسية ـــــ الاجتماعية للإيديولوجيا، إنّما هي وبشكل خاص جوهرية وأساسية للأمم الفتيّة التي تنبعث الآن وتنهض وتنمو وتتطوّر.
تعقيد الإيديولوجيا الوطنية
ولكن الإيديولوجيا الوطنية هي ظاهرة معقّدة: إنها تتوجّه إلى مجتمع شامل عام (أو الذي يتوخّى أن يكون كذلك). وهو مكوّن من مجموعات ومن مجموعات ــــ فرعيّة، متعددة ومتنوّعة. إذن، فمن الأهمية بمكان أن نعلم في هذه الحالة أيّ مجموعة ومَن هي تلك التي تعرِّفُ هذه الإيديولوجيا وتوضِّحُها وتدعمُها وتنشُرها. فإنّ ذلك يحيلنا إلى النَّخب وإلى المجموعات التي تعرِّف الإيديولوجيا الوطنية وتعمِّمها وتنشرها، وهذا ما سوف ندرسه في الفصل التالي. هنا، لنلاحظ فقط ونشر إلى نتيجة مهمة وهي أنّ الإيديولوجيا الوطنية ليست هي بذاتها محافظة أو رجعيّة أو رديكاليّة. إنما يتعلّق توجّهها ومنحاها بالمجموعات التي تعبّر عنها وتفسِّرها.
وقد تتحوّل الإيديولوجيا الوطنية، هي أيضاً، تحوّلاً عميقاً جداً خلال فترة قصيرة من الزّمن. إنّ ما يصف هذا التطوّر للإيديولوجيا الوطنيّة، تتابع تلك المجموعات أو النّخب، الواحدة بعد الأخرى والتي تتصارع فيما بينها، وتدّعي كونها، أو تريد أن تكون كذلك، الناطقة باسم الجماعة قاطبة. لقد وصف "مارسيل ريوكس" (Marcel Rioux ) تطوّراً شبيهاً بذلك في حالة الإيديولوجيا القوميّة في الكيبيك. فقد لاحظ تتابع ثلاث إيديولوجيات وطنية: "إيديولوجيّة البقاء والاستمرار"، وهي إيديولوجيا محافظة أو حتى رجعيّة، كانت قد سيطرت على كندا الفرنسية منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الثانية، "إيديولوجية الاعتراض والاسترداد"، أثّرت تأثيراً متزايداً من 1940 إلى 1960. فهي عكس الأولى تتّجه وبعزم وتصميم نحو الحاضر وتستلزم أن نعيد النظر بهذه الثقافة الكيبيكيّة وأن نحدِّثها ونجعلها تشعّ في كندا كلّها. وأخيراً، "إيديولوجيّة التطوّر والمشاركة"، ظهرت في السنين الأخيرة، وهي أكثر رديكاليّة من الإيديولوجيتيْن السابقتين، ولا تصف أو تحدّد كندا الفرنسية، وإنمّا كيبيك المستقل الاشتراكي العلمانيّ.
إنّ هذا التطوّر للإيديولوجيات هو انعكاس للتغيّر الاجتماعيّ وعامل له في آنٍ معاً. فهو من جهة مؤشّر للتحولات البنيويّة، ولكن من جهة أخرى كلّ واحدة من هذه الإيديولوجيات قد مارس وما تزال تمارس في الكيبيك تأثيراً على الفعل التاريخيّ للجماعة الوطنية.
الإجماع والانقسام والمعارضة
من خلال مختلف أشكال الفعل، التي تعتمدها الإيديولوجيا وتتبنّاها ـــــ وقد أتينا باختصار على ذكر مجملها أعلاه ـــــ فإنه لمن الممكن الآن أن نستنتج تأثيرات للإيديولوجيا أكثر عموميّة. وفي الواقع فإننا نلاحظ أنّ الإيديولوجيا تدعو إلى التغيير وتحثّ عليه أو تعارضه وتقف في وجهه، ذلك لأنّ الإيديولوجيا تولِّد الإجماع وتوجده، في الوقت الذي تقود إلى الانقسام والمعارضة. ففي طبيعة الإيديولوجيا وتكوينها أن تجمع وتوحّد، ولكنها في الوقت نفسه تميّز وتفرّق.
ولكن، من جهة فإنّ الإيديولوجيا، كما رأينا، تولّد الإجماع وتحدثه. فهي تدعو إلى التماهي أو الالتحاق بــــ "نحن" ما. وتستند إلى المصالح المشتركة والقضية المشتركة العامة. وتقترح عملاً جمعياً موحّداً. وقد يحدث أن تخفي الإيديولوجيا الانقسامات الحقيقية أو تستلزم صراحة وتطلب حتى إغفالها، أقلّه مؤقتاً. هذه هي بوجه خاص حالة الإيديولوجيات التي تتوجّه إلى المجتمعات الكليّة: القومية والوطنية والفدراليّة دائماً هو نفسه: أن يلتقيَ معاً أصحابُ العلاقة الواحدة والمصلحةُ المشتركة وأن يُسفِروا عن ذواتهم في نَسَق من الأفكار تطرحه الإيديولوجيا. ومن ثمّ أن يُستلخصَ من هذا الانصهار، انصهار المصالح والعقول، التضامنُ والإجماعُ. بهذا المعنى، تثير الإيديولوجيا وتؤدّي إلى ردود فعل ومواقف من النّمط "الجمعيّ" (communautaire) أكثر منه من النّمط "المجتمعيّ" (sociétaire)، بحسب تمييز "تَوْنس".
ولكن، من جهة ثانية، تولّد الإيديولوجيا في الوقت نفسه تمايزات وتفاضلات وانقسامات اجتماعيّة. ففي المقدار الذي توحّد فيه الإيديولوجيا وتجمع، فإنّها تميّز وتعزل الواحد عن الآخرين. فهي تقوم بالفصل بين هؤلاء الذين هم "نحن"، وبين أولئك الذين لا يمكنهم أن يكونوا كذلك وأن ينتموا وينتسبوا إلى الــــ "نَّحن". وهي تبرز الخصائص المميّزة المشتركة لجماعة ما: الملامح الثقافية والوطنية ومصالح الطبقات والخصائص الإقليميّة والمناطقيّة، التي تسمح لنا بأن نحدّد هُويّة هذه الجماعة في مواجهة الآخرين ومجابهتهم. فها هنا تغدو الإيديولوجيا انتقائيّة بوجه خاص في إدراك الواقع: في اختيار عناصر نَسَقها. وكلّ ما يُفيد ويُستخدم في تخصيص الجماعة وتحديدها، يُبرزُ ويؤكّد ويقوّم.
ويصل التفاضل في بعض الحالات حتى التعارض والمعارضة. فيتولّد الإجماع آنئذ ويوجد عن طريق رفض الآخر أو إلغائه، أو عن طريق الصراع مع الآخر. ولهذه الغاية، تصف الإيديولوجيا الآخر على أنّه خَطِرٌ ومهدِّدٌ وأحياناً ضالٌّ فاسدٌ منحرفٌ. فيشكّك في مقاصده ويُطعن في نيّاته الحسنة ويعاد تفسير وتعليل بواعثه وأفعاله. وتُستنكر مؤامراته. ولم يعد الآخر مختلفاً فقط، وإنّما يغدو خصماً وعدواً، تدعو الإيديولوجيا إلى النضال ضدّه.
الإيديولوجيا وسياقها
ولكن، إذا كانت الإيديولوجيا عاملَ قوّة في التغيّر (الاجتماعيّ والتاريخيّ) ـــــ كما قلنا ذلك أعلاه ـــــ فيجب بالإضافة إلى ذلك أن نلاحظ أنها لا تفعل فعلها ولا تعمل من تلقاء ذاتها. فهي تستدعي أن تُوضّحَ ويُعبّرَ عنها ويُشارَ إليها من قِبَل عناصر التغيّر، ولا سيّما من قِبَل النّخب ومجموعات الضغط والأحزاب والحركات الاجتماعية، كما سنرى ذلك أكثر تفصيلاً في الفصل التالي.
ولا يمكن أن تُعتبرَ الإيديولوجيا هي أيضاً بذاتها وكأنّها عامل وحيد في التغّير. إنّ تحليل الإيديولوجيات يُحيلُ دائماً إلى سياقها الظرفيّ، لأنّ أيّ إيديولوجيا إنّما هي تعبير عن الطموحات والرّغبات والتّمنيات الخاصة، عن مخاوف أو آمال جماعة من الجماعات، عن صراعات مجموعة أو مجموعات معيّنة في مرحلة تاريخيّة محدّدة.
فإذا كانت الإيديولوجيات ـــــ كما يشدّد على ذلك "ماينو" (Meynaud) و "لانسلو" (Lancelot) ـــــ تستطيع أن تمتلك "نوعاً من حياة مستقلّة" أو ضرباً من الاستقلال الذاتيّ النسبيّ، والذي يؤول ويصل إلى أن يضع بعضاً من هذه الإيديولوجيات في مواجهة تيار مضاد ومعاكس للتطوّر الاجتماعيّ: بمعنى إيديولوجيات تبدو متقدّمة على العصر، وأخرى لم تعد تتلاءم أو تتوافق مع متطلبات المرحلة، إلاّ أنّه "تبقى الإيديولوجيات ــــ بحسب هذين الكاتبين ـــــ وتستمرّ في التعبير عن رؤية للعالَم: فهي نَسَق عقلانيّ ونظريّ مجرّد، يصدر على الأقلّ جزئياً عن الصراع الاجتماعي، وذلك في الوقت الذي يُسهم هذا الصراع في تشكيله وتكيّفه". من هنا الفائدة الكبرى والأهمية لدراسة "باندكس" المشار إليها سابقاً، حول إيديولوجية رجال الأعمال والمقاولين، في أنّها أظهرت كيف تطوّرت الإيديولوجيا في مضمونها وفي دورها، تبعاً للتغيّرات التكنولوجيّة وتطوّر القِيَم والتحوّلات السياسيّة، إلخ.. وهو يكتب قائلاً: "لقد تشكّلت الإيديولوجيات من خلال التفاعلات الثابتة والمستمرّة بين الظروف الراهنة وإرث الماضي. "ويلاحظ من جهته" مرسيل ريّيوكس" (Marcel Rioux): "إنّ صراع الإيديولوجيات في مجتمع معقّد إنّما يُترجمُ على الأخصّ صراعَ المجموعات ــــ الفرعيّة التي تناضل وتكافح من أجل أن تفرض على الأكثريّة نظريتها حول المجتمع، وفي النهاية من أجل أن تقود هذا المجتمع وتحكمه".
بناءً على ما تقدّم، فإنّ الإيديولوجيا تنتمي إلى ظرف خاص. فهي ترتبط بأشكال بنيويّة وبقيمٍ وبرموز: وما يُظهر ذلك جيّداً، من جهة أخرى، هو أن بعضاً من الإيديولوجيات يولد ويموت دون أن يمارِسَ أو يترك تأثيراً أو أثراً، في حين أنّ البعض الآخر من هذه الإيديولوجيات يَسِمُ التاريخ بميسمه ويؤثّر فيه تأثيراً عميقاً. لا شكّ في أنّ العوامل والظروف المساعدة والمعرقلة لفعل الإيديولوجيات المؤثّر، إنّما هي عوامل كثيرة وتبقى خفيّة وغامضة. فهي تنتظر حتى الآن لكي ندرسها.
هوامــــــش
الإيديولوجيات: تقليدٌ طويلٌ قديمٌ
(1)- Le système: النَّسق، وهو التعبير الذي اعتمدناه ونستخدمه نحن هنا، كما أنّه يأتي أيضاً بمعنى النّظام أو المذهب. وهو عبارة عن مجموعة من العناصر الماديّة ومن الآراء والنظريات العلميّة والفلسفيّة، ترتبط ارتباطاً وثيقاً فيما بينها وتعتمد في وجودها على بعضها البعض. فتؤلّف كلاً منظّماً ووَحدة منسّقة وتكون منسجمة من حيث المعنى والمنطق والدلالة وتشكّل لذلك وَحدة متماسكة. فتجد كلّ فكرة معناها ووظيفتها في سياق النّسّق أو النّظام الذي تنتمي إليه، بحيث إذا أخرجت من هذا السّياق تفقد معناها ودلالتها. لذا، وعلى سبيل المثال، كان هدف الفلاسفة الكبار بناء نَسَق أو مذهب فكريّ متكامل ومتناسق ومتكامل...
وفي معنى آخر، فإنّ النَّسَق إنما هو عبارة أيضاً عن مجموعة من المصالح أو مجموعة من الأنشطة مرتبطة بعضها بالبعض الآخر، ممّا إلى وجود نَسَق أو نظام معيّن، مكوّن من أجزاء أو ظواهر في ترتيب منظّم، يتميّز بالتنسيق في الفعل والعمل والتكامل في البنيان: فيُقال مثلاً النَّسَق الفوقيّ (le supersystème) للدلالة على النَّسَق الثقافيّ الكلّي للمجتمع والذي يتّصف بالتكامل في ظواهره العامة إلى حدّ ما، ويتكوّن من اللغة والدين والفنون والأخلاق والقانون والعلم، إلخ... (أنظر: كميل الحاج، م س كذلك، أحمد زكي بدوي، م س) (المترجم)
(2)- الفوضويّة: هي نظريّة سياسيّة، فلسفيّة، اجتماعيّة، تدعو إلى تحقيق الحريّة المطلقة للإنسان، وبالتالي إلغاء الرقابة السياسيّة القمعيّة داخل المجتمع. كما أنّها تنطلق، وهنا جوهر فلسفتها، من أنّ الدولة كجهاز سلطويّ أكبرُ أعداء الفرد ـــــ الإنسان، وأنّ في إلغائها، بمعنى رفض سلطة الدولة أو أيّ سلطة قهريّة مماثلة، إنما هو قضاء في الوقت عينه على الآفات والشرور.
غير أنّ هذه النظرية الفوضويّة تعتبر، بالمقابل، أنّ العلم والعقل معاً هما المعوّل عليهما في أن يقوم الشعب هو نفسه بتنظيم أموره بنفسه عبْر مؤسساته الاجتماعية الخاصة والعامة.
وهذه الفلسفة لم تظهر بداية كمذهب سياسيّ ثوريّ إلاّ في القرن التاسع عشر، في الوقت تقريباً الذي ظهرت التيارات الاشتراكية والماركسيّة خصوصاً، وتنازعت معها نزاعاً شديداً، سياسياً وفلسفياً واجتماعياً. ويمكننا في هذا المجال إرجاع التيارات الفوضويّة عموماً إلى ثلاثة مصادر أساسية:
(أ) الفوضويّة المسيحيّة وممثلها الأبرز "ليون تولستوي" (èon TolstoiL) المفكّر والأديب الروسي (1828-1910)
(ب)الفوضويّة التي ترتكز على مفهوم الفرد ـــــ الإنسان، والتي بالتالي ليس من شأنها الإخلال بنظام المِلكيّة الخاصة، وأبرز ممثليها: "ماكس شيترنر" الألمانيّ.
(ج) الفوضويّة الشيوعيّة، وممثلها "برودون" الفرنسيّ (أنظر ص) و"باكونين" الروسيّ. فهي تستبدل بالمِلكية الخاصة نظاماً لمِلكيّة جماعية، أو الإدارة الذاتيّة، دون أيّ تدخُّل من الدولة السياسيّة.
وبتعبير أكثر توضيحاً، فإنّ من بين هؤلاء المفكّرين السياسيّين، مَن يعتبر أن وصول الفوضوية إلى تحقيق أهدافها وغاياتها، ينبغي أن يتمّ عن طريق الإصلاح السياسيّ والاجتماعيّ وبطريقة تدريجيّة وسلميّة، في حين أنّ البعض الآخر يرى أنّ الانتقال إلى بناء هذا المجتمع الإنسانيّ، لا يمكن أن يتحقّق إلاّ طفرة واحدة وعن طريق الثورة أو بوجوب العصيان والمقاومة.
ولكن جميع هؤلاء المفكّرين والسياسيين الفوضويّين، يجمعون على أمر واحد وهو أنّ الدولة بأجهزتها القمعيّة القسريّة السلطويّة هي عدوّة الفرد وأنّ انتظام أمور الناس في المجتمع وتدبير شؤونهم على مختلف الصّعد، لا يحتاجان إلى هذه الدولة.
في هذا السّياق أخيراً، لابدّ من أن نشير إلى أنّ الثورات الطلاّبية التي انفجرت، هنا وهناك، في جميع أنحاء أوروبا وأميركا، وانتشرت كالنار في الهشيم طوال مرحلة الستينات وما بعدها من القرن الماضي، قد كانت في أعمق الأعماق أحدث تعبير عن هذه الاتجاهات الفوضويّة، الاشتراكية الثوريّة، الرافضة للنّظم الرأسمالية المستغِلّة وللمجتمع الاستهلاكيّ المتوحش اللاّ ـــــ إنسانيّ. فالكتابات (أنظر مثلاً كتابات "هربرت ماركوز"، (Marcuse) والبيانات والشعارات والهتافات، كانت جميعها تصبّ جام غضبها وثوريّتها بدعوتها إلى تصفية الدولة بصفتها القمعيّة: الرأسمالية والشيوعيّة على حدّ سواء. (أنظر: كميل الحاج، م س وكذلك، أحمد زكي بدوي، م س ) (المترجم)