د. دندشلي - الصحافة الفرنسية ، القضية العربية والرأي العام العالمي
الصحافة الفرنسية ، القضية العربية
والرأي العام العالمي ...
* * *
بقلم : د. مصطفى دندشلي
إنَّ مَن يتبَّع ما تكتبه الصحف الفرنسية عن القضايا العربية ومنطقة الشرق الأوسط في الآونة الأخيرة ، إنما يجد بوضوح تام وكأنَّ ثمة حملة إعلامية منظمة ومنسقة وموجهة ، الغاية من ورائها إظهار عدد من الدول العربية وفي مقدمتها سورية ومصر بمظهر مَن ينوي ويستعدّ للقيام بـ"اعتداء" جديد على إسرائيل. في حين أن الدولة العبرية التي تحتل الأراضي العربية منذ أكثر من أربع سنوات، قلما مَن يشير إلى اعتداءاتها المتكررة منذ قيامها عام 1948 ، هذا إذا لم نقرأ من وقت لآخر كتابات وتحليلات لوجهة النظر السياسية والدبلوماسية الإسرائيلية وتفسيراً لها وتبريراً .
* * *
هل هذا الموقف يدهشنا ؟... وهل هو غريب علينا ؟... لا أبداً . وإنما الغريب في هذا الشأن، وما يثير كثيراً من التساؤلات هو أن نرى صحيفة كصحيفة " الموند " مثلاً ، تخرج أخيراً عن " تحفظها الموضوعي " الذي تدعيه ، وتستخدم في معالجة القضايا العربية ، أسلوباً فيه من التهكم والسخرية الشيء الكثير ، يعرف نواياه ومقاصده كل من حمل القلم أو عمل في الصحافة .
إننا نعرف جيداً ، وهذا ليس بجديد أيضاً علينا ، أن الصحافة الفرنسية ،( عدا الصحافة الشيوعية وصحف أقل شأناً منها ) كانت تتخذ دوماً موقفاً عدائياً من الحركة القومية العربية عموماً والقضية الفلسطينية على الأخص ، وأن هذه الصحافة كانت ولا تزال تعطي انطباعاً واضحاً بأنها تكنّ للشعب العربي عداء صميمياً قديماً . وهذا ما كان يدفعها لأن تحمل على عاتقها مهمة الدفاع ، بشكل واضح أو بشكل خبيث ، عن وجهة نظر الصهيونية والسياسة الإسرائيلية .
بل أكثر من ذلك أنه في الوقت الذي كانت فيه سياسة الحكومة الديغولية في الفترة الأخيرة من عهد ديغول تسعى جاهدة لتحافظ أو لتدعم مصالحها في البلاد العربية ، متبعة من أجل ذلك سياسة عربية معتدلة ، كنا نجد أن أجهزة الإعلام الحكومية تنحاز إلى إسرائيل وتتبنى وجهة نظرها في مختلف القضايا العربية المصيرية أو الخلافية ....
كيف يمكن تفسير ذلك ؟...
ليس هنا المجال للدخول في الأسباب التفصيلية التي ساعدت وتساعد على خلق جوّ عدائي مزمن بالنسبة للقضية العربية في فرنسا . وإنما فلنكتف بذكر نقطتين أساسيتين :
1 ـ هناك التاريخ الاستعماري الفرنسي الطويل في مناطق كثيرة من أفريقيا العربية ـ الإسلامية وآسيا وأجزاء من المنطقة العربية في المشرق العربيّ . فقد ترك هذا عداء عنصرياً انتشر وظهر في برامج التعليم والثقافة الفرنسية ، وخلّف آثاراً سيئة وعقلية استعمارية لا تمحى في مفاهيم مختلف فئات الشعب ، عن العالم الخارجي ومنها العالم العربي .
2 ـ ثم هناك أيضاً وإلى جانب ذلك ، أثر وقوة الدعاية الصهيونية في فرنسا وبوجه خاص في ميادين الثقافة والتعليم والفن ووسائل الإعلام (صحافة ، إذاعة ، تلفزيون ). ونفوذ الصهيونية في هذه النواحي لا يقل أهمية وتأثيراً في الرأي العام ، بل أكثر منه في ميادين الاقتصاد والمال أو الصناعة ...
* * *
أمام هذه العوامل التاريخية والثقافية التي لا تزال تتحكم في الرأي العام الفرنسي ، أننا لا نعرف كيف يمكن لنا أن نخترق هذا الجدار العازل من العداء ، وأن نجري حواراً حراً نزيهاً مع الشعب الفرنسي وأن نوضِّح قضيتنا كما نفهمها نحن ... هذا مع أن بوادر التغيير في السياسة الفرنسية بالنسبة إلى البلاد العربية ، قد ظهرت منذ مدة ليست بالقريبة .
وهكذا فكل المحاولات التي جرت في هذا الصدد ، سواءً كانت رسمية أو غير رسمية ، كانت تذهب في غالبيتها سدى ولا تؤدي إلى النتيجة المطلوبة .
لماذا ؟...
إن من يعش في فرنسا مثلاً مدة من الزمن طويلة ، لا يشعر ولا يحس بوجود أي نشاط إعلامي أو دعائي جديّ ومشروع للسفارات العربية أو للجامعة العربية في سبيل خدمة القضية العربية والقضية الفلسطينية وتوضيحهما ، حتى إن الجاليات العربية هناك ، وخصوصاً الطلابية منها ، كانت ترى أن وجود أو عدم وجود هذه المؤسسات الدبلوماسية والثقافية العربية سواء بسواء .
لذلك فالمحاولات الإعلامية التقليدية التي كانت تبذل بين وقت وآخر ( أو لا تبذل ) في هذا الشأن ، يجب أن تُبدَّل وأن تتغيَّر رأساً على عقب . يجب أن ترتفع إلى مستوى العصر الإعلامي الحديث الذي نعيش فيه . ويجب أن نعرف أخيراً أن الحق يهدر ويداس ، إذا لم يكن وراءه ( ليس فقط مطالب ) وإنما أيضاً ، وهذا المهم ، موقف جدّي لا هزل فيه ولا خداع .
إننا نقدّر تمام التقدير الإمكانيات الضئيلة جداً التي يمكن أن يخصِّصها سفير عربي ما لمصلحة بلده أو لمصلحة القضية العربية في بلد كفرنسا ، إذا كان هذا السفير ( وليس هذا مجرد مثل ) لا يعرف ولا يتقن اللغة الفرنسية وبالتالي يجهل جهلاً مطبقاً ثقافة الشعب الفرنسي ونفسيته وحضارته.
* * *
هذا ، ومن جهة ثانية ، فإن ما يؤدي ، في الأساس ، خدمة لا يستهان بها لتقبل الدعاية الصهيونية العالمية في الغرب وفي فرنسا بالذات ، هو هذا التمزق العربي الداخلي ، وعدم جدية المسؤولين العرب والأنظمة العربية في معالجة كثير من الأمور الحيوية والدفاع عنها وتقديمها على ما سواها ...
لهذا ، فإذا كنا فعلاً نريد أن نكسب الرأي العام العالمي لتأييد قضيتنا أو قضايانا العادلة ، فليس لنا إلاّ أن نهتم أولاً وقبل كل شيء بإعادة النظر في البناء الداخلي ومعالجة قضايانا الداخلية بكثير من الجدية وتقديم مصالح الشعب الحقيقية على المصالح الخاصة والأنانيات الذاتية ... فنفرض عندئذ احترامنا على الآخرين ، على الرأي العام سواء في الداخل أم في الخارج ....
وهنا مثل المقاومة الفلسطينية لا يزال حاضراً في الأذهان : لم تتحدث الصحافة العالمية في فترة من الفترات ، عن الشعب الفلسطيني وعن حقوقه المشروعة ، إلاّ عندما ظهرت حركة المقاومة إلى الوجود وحمل هذا الشعب هو نفسه السلاح ...
إن هذا فاق بآلاف المرات قوة وتأثيراً ما كانت تقوم به الحكومات العربية المختلفة لتوضيح " وجهة النظر العربية في المشكلة الفلسطينية " في المحافل الدولية منذ سنين طويلة .
ولكن ، في الوقت نفسه ، لم يخفّ الحديث ويخبو في الصحافة العالمية عن الشعب الفلسطيني ، ويضمحلّ أيضاً الرصيد العربي والعالمي الذي تمتع به الفلسطينيون في السابق ، إلاّ عندما برزت التناقضات الداخلية في أوساط حركة المقاومة الفلسطينية من جهة ، وتأزم الوضع بينها وبين بعض الأنظمة العربية من جهة أخرى ، وذلك لأسباب كثيرة منها السياسية والتنظيمية والاستراتيجية أو التاريخية ...
فالدعاية الحقيقية لشعب من الشعوب هي إذن عندما يثبت قياديوه عن وجوده من خلال خوض المعارك الجدية والحقيقية ، وليس فقط في الميادين العسكرية وإنما كذلك في النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية على السواء ...