الحياة - السنّة العرب في العراق... ظروف قاسية ومآل غامض للدولة
جريدة الحياة
السبت, 16 أكتوبر 2010
السنّة العرب في العراق... ظروف قاسية ومآل غامض للدولة
عمار علي حسن *
لا يمكن الوقوف على الحال القاسية التي يعيشها أهل السنّة العرب في العراق من دون رسم ملامح السياق العام الذي يعيشون فيه، وتبيان التفاعلات الداخلية لهم، والإجراءات المتتالية التي تم اتخاذها منذ سقوط بغداد في التاسع من نيسان (أبريل) 2003 حتى اللحظة الراهنة، سواء كانت مشاريع واقتراحات سياسية، أم قرارات بيروقراطية، أو قوانين يتم سنها وتشريعها، أو انتخابات وتمثيلاً سياسياً.
ابتداء فإن توقيع الاتفاقية الأمنية مع قوات الاحتلال الغربي لم يؤد إلى استعادة العراقيين سيادتهم وإرادتهم، وتجاوز النزعة الطائفية التي تأصلت على مدار السنوات السبع المنصرمة، على رغم الإجراءات المتتالية التي اتخذها العراقيون لتثبيت «دولة ما بعد صدام» مثل سن القوانين والانتخابات والقرارات البيروقراطية والتقسيمات الإدارية وغيرها. فقانون انتخابات مجالس المحافظات غير منبت الصلة عن قانون إدارة الدولة الذي تم وضعه إبان حكم بول بريمر، الحاكم العسكري الأميركي، في 16/11/2003، والذي أقره مجلس الحكم، ثم أقيم على أكتافه دستور تم الاستفتاء عليه في 15/10/2005، كان الإطار القانوني للانتخابات البرلمانية التي أجريت في 15/12/2005، ورسخت المحاصصة الطائفية، حيث تم تقاسم المناصب والمواقع والتمثيل الديبلوماسي استناداً إلى تقسيم شعب العراق إلى سنة وشيعة وأكراد وتركمان.
فالدستور الجديد، أسّس للطائفية والمحاصصة، ومهّد لتقسيم البلاد، وأنتج خريطة متشابكة من الرغبات السياسية للطوائف الأربع الكبرى في العراق، تقف في هذه اللحظة عند مشاهد عدة على النحو الآتي:
1 - رغبة كردية في حكم ذاتي موسع، ينضوي تحت جناحيه الأكراد كافة في العراق، وإنجاز الحلم التاريخي لهم، الذي كان تحقق يوماً، حين أبرم صدام حسين، عام 1970، حين كان نائباً للرئيس، اتفاقاً مع الملا مصطفى البارزاني ينص على حق الأكراد في الحكم الذاتي، واضعاً بذلك أوزار حرب دارت رحاها بين الحكومة المركزية في بغداد والميليشيات الكردية، لكن هذا التحقق لم يستمر سوى أربع سنوات، إذ تنصل صدام من الاتفاق، فاندلعت الحرب بين الطرفين مجدداً. وعلى رغم تمكن الحكومة المركزية من السيطرة على الأمور، وإخضاع الأكراد بالقوة، فإن هذا الحلم لم يغب يوماً عنهم، حتى جاءت التداعيات التي ترتبت على حرب الخليج الثانية لتجعل إمكانية تحققه ماثلة بقوة، فلما أزيح نظام صدام في حرب الخليج الثالثة، رأى الأكراد أن اللحظة التاريخية التي انتظروها طويلاً جاءت، ومن العبث تضييعها، وقد هددوا غير مرة بأن انفصالهم سيكون أمراً حتمياً إذا استمرت حال الفوضى العارمة التي يعاني منها العراق.
2 - مساع كبيرة من الشيعة للحفاظ على العراق دولة موحدة، يتمتعون فيها بالأغلبية، ومن ثم يصبح بإمكانهم استرداد «ملكهم الضائع» الذي ظلوا طويلاً يرمون الأقلية السنية بأنها قد اختطفته، ووضعته خصيصاً في أيدي عشيرة صدام وأهل بلدته «تكريت». لكن هذا الحلم ينتهي عند بعض الشيعة إلى رضا بدولة في الجنوب، ذات علاقات متميزة مع إيران.
3 - مخاوف السنة في الوسط من سيطرة الشيعة على البلاد، بحكم الأغلبية العددية، حال استمرار عراق موحد، ومن أن تؤول إليهم البقعة الجغرافية الفقيرة (المثلث السني)، نظراً لحظّها القليل من النفط وغيره.
4 - إحساس من قبل التركمان بالضياع وسط هذه الرغبات المتناقضة. فهم يرفضون تماماً مسعى الأكراد إلى الانفصال أو الحكم الذاتي الموسع، لأن هذا من شأنه أن ينال من تواجدهم السياسي.
ويتجسد هذا الأمر بوضوح في مدينة كركوك، إذ يقطنها كرد وعرب وتركمان، وبينما ينتمي الأكراد إلى المذهب السني، يتوزع العرب والتركمان في المدينة على المذهبين السني والشيعي، وبذلك تظهر فيها حالة «الفسيفسائية» العراقية في أعلى صورها، وتشهد حالات عنف متواصلة بين أتباع هذه العرقيات ومعتنقي هذين المذهبين.
ووسط هذا التركيب الطائفي يزداد وضع السنة العرب صعوبة بمرور الوقت، على رغم تحايلهم على ما آلوا إليه، عبر الإجراءات والمفاوضات والتحالفات السياسية. ففي انتخابات 2005، تمكن الساسة السنة من التوحد في تجمعين عريضين، هما جبهة التوافق العراقية، التي حصدت 44 مقعداً، والجبهة العراقية للحوار الوطني، التي حصلت على 11 مقعداً، أما في الانتخابات الأخيرة فقد انصرفوا إلى تركيبة مشتتة ومعقدة، فقد هيمن الحزب الإسلامي في جبهة التوافق، لكن الكثير من أعضاء الجبهة البارزين انفضوا عنها. وانضمت الجبهة العراقية وحزب التجديد إلى رئيس الوزراء السابق إياد علاوي (شيعي) في الحركة الوطنية العراقية، التي يلعب السنة فيها دوراً كبيراً. وانضم عدد من الشخصيات السنية البارزة، بما في ذلك رئيس البرلمان عبد الغفور السامرائي ووزير الدفاع سعدون الدليمي، ورئيس مجالس الصحوة في العراق، أحمد أبو ريشة، إلى ائتلاف وحدة العراق، ذي الأغلبية السنية. وانضمت تجمعات سنية صغيرة إلى ائتلاف دولة القانون بزعامة رئيس الوزراء نوري المالكي. وانضم مجلس إنقاذ الأنبار إلى الائتلاف الوطني وكله شيعي تقريباً.
لكن هذه الإجراءت لم تقض بعد على فسيفسائية، ظلت في حالة كمون طيلة حكم النظام السابق لأنه تمكن من كبتها عبر الإكراه المادي والمعنوي تارة، ومن خلال علمانية الدولة التي تسمو فوق الانتماءات الطائفية تارة أخرى. فلما سقط نظام صدام حسين، طفا هذا التشرذم على السطح، وبات يهدد الحالة العراقية بأن تسير إلى «أفغنة» أو «لبننة» أو «صوملة» أو «بلقنة». فإذا استمرت حالة التوافق الظاهر والتطاحن الخفي في ظل دولة واحدة، مع بقاء أتباع النظام الذي سقط في وضع انتظار الفرصة للانقضاض على السلطة من جديد، يكون العراق سائراً إلى الحالة الأفغانية، وهنا يوازي شيعة وسنة وأكراد وتركمان العراق، بشتون وهازار وطاجيك وتركمان أفغانستان، ويصبح حزب البعث موازياً لطالبان، فكلاهما أسقطته قوة خارجية، وكلاهما يسعى لاستعادة مجده الضائع، وينتظر الفرصة، وإن كان وضع البعثيين أصعب بكثير في هذه الحالة من وضع طالبان، لأن الأخيرة تستند إلى ظهر قبلي، يمتد خارج أفغانستان، وتحديداً إلى باكستان، ليجد نصيراً اجتماعياً وسياسياً دائماً، علاوة على أن أيديولوجية طالبان تجعل هذه الحركة أكثر صبراً وإيماناً بحتمية تاريخية، حتى لو كانت مجرد وهم، تجعل تابعيها يؤمنون بأنهم سينتصرون في خاتمة المطاف. وفي الحالتين العراقية والأفغانية هناك قوة خارجية هي «تنظيم القاعدة»، تترك بصمة واضحة على الأوضاع الجارية.
أما إذا قامت حرب أهلية في العراق، في ظل الاحتلال أو بعد خروجه، على الأرجح، وقامت أطراف خارجية بتغذية أطراف هذه الحرب، كأن تساند إيران الشيعة، وتساند تركيا التركمان، وتقف دمشق وأنقرة معاً ضد الأكراد حتى لا يستقلوا في دولة واحدة تلهب حماس كرد سورية وتركيا وتساعدهم فيخلقون صداعاً للدولتين. في مثل هذا الوضع تكون المسألة العراقية مقبلة على حالة شبيهة بتلك التي عاشها لبنان طيلة الحرب الأهلية التي استمرت من عام 1975 إلى 1989 بين الطوائف اللبنانية.
وإذا ظل العراق، بعد خروج قوات الاحتلال، فوق القبيلة وتحت سقف الدولة، أو دويلة في الشمال أو الجنوب، لا تتمكن من إخضاع البقية لسيطرتها، أو حتى غياب شامل للحكم المركزي، ونفوذ اجتماعي وسياسي أكبر لزعماء العشائر، يكون في هذه الحالة أشبه بما آلت إليه الصومال، حيث «اللادولة»، بعد إجبار الأميركان على الانسحاب الذليل عام 1992، لينتهي ما أسمته واشنطن «التدخل الحميد» إلى فراغ سياسي كامل في الصومال، ملأه زعماء القبائل، ومن بعدهم «رجال المحاكم الإسلامية» ثم الحكومة الانتقالية بمساعدة إثيوبيا، التي لم تلبث أن انسحبت، فعاد الوضع إلى قديمه.
هذه الأوضاع تبين بجلاء أنه إذا لم يتمكن العراقيون في الوقت الراهن من التوافق حول صيغة حكم مستقرة تتأسس على «دستور غير طائفي» وتحظى برضا واحترام جميع الأطراف، فإن بلادهم قد ينتهي بها الحال إلى مرحلة ما قبل الدولة، أو إلى أن تصبح كياناً عشوائياً مهلهلاً، وهنا تصبح الفرصة سانحة أمام التقسيم والتفتيت، وإقامة كيانات جغرافية وسياسية على أساس طائفي، يأخذ كل منها اسماً مختلفاً.
وعلىرغم قرار الولايات المتحدة بالانسحاب التدريجي من العراق، فإن «العراق الجديد» لم يولد بعد، فما هو موجود، حتى الآن، مجرد كيان اجتماعي مشوه، يتجاذبه صراع إرادات بين قوى سياسية وجدت في تفكيك الدولة العراقية الموحدة فرصة سانحة، كي تحقق أحلاماً تاريخية، طالما راودتها. ومن هنا تصدرت مسألتا «الفيديرالية» و «تقسيم الثروة» المشهد السياسي العراقي طيلة فترة مناقشة مسودة الدستور، لأنهما تشكلان العظمتان الرئيسيتان في جسد هذا الحلم، الذي قد يتحول إلى كابوس مخيف.
والفيديرالية في حد ذاتها ليست عيباً، إن كانت الشكل الأمثل لإدارة أي دولة، لكنها في الحالة العراقية تنتهي بعلامات استفهام عريضة. فالدول الفيديرالية التي عرفها العالم تكونت نتيجة سعي الأقاليم المحكومة ذاتياً إلى التوحد تحت راية دولة واحدة، لها علم واحد ونشيد واحد وهدف متفق عليه. أما الحالة العراقية فتسير في الاتجاه المضاد، إذ إن الدولة الموحدة يتم تقسيمها إلى وحدات أصغر، جغرافياً وديموغرافياً، من دون أن يكون هناك ما يمنع هذه الوحدات من أن تعلن مستقبلاً استقلالها، والخروج من عباءة العراق التاريخي.
فما جرى في العراق، ليس تجميعاً لأشتات دولة، كانت موزعة في الماضي على أقاليم ذات خصوصية، تاريخية كانت أو دينية ولغوية وعرقية أو جغرافية، بل هو تمزيق لكيان تاريخي متكامل، تحت لافتة «الفيديرالية». فعلى رغم كل ما تم من تسويات سياسية موقتة لم يكن هناك اتفاق نهائي، جامع مانع، أو شاف كاف، على مسار الفيديرالية، فالشيعة انقسموا بين رافض لها متمثل في تيار الصدر، ومتقبل لها على أساس إداري وليس مذهبياً أو عرقياً أو لغوياً، مع اختلاف في حدود هذا التقسيم. والسنة رفضوها جملة وتفصيلاً باعتبارها طريقاً إلى تقسيم العراق. والأكراد يعتبرونها خياراً استراتيجياً، وبداية قوية لتحقيق حلمهم التاريخي بدولة مستقلة، ومن ثم يطرحون شكلاً أقرب إلى «الكونفيديرالية» في مشروعي قانون «الإقليم الكردي» ودستور العراق، منادين بأن يكون لكردستان علم خاص، هو علم الدولة الكردية الوحيدة التي لم تعش طويلاً وسميت «جمهورية مهاباد»، ونشيد وشعار وجيش. ويصل الأكراد في طرحهم إلى المطالبة بفترة انتقالية لست سنوات أو تسع، يتم بعدها إجراء استفتاء حول استمرارهم جزءاً من الدولة العراقية من عدمه.
ويزيد الطين بلة وجود رغبة دفينة لدى بعض زعماء الطوائف العراقية في تقسيم الثروات النفطية، التي تتركز في الجنوب الشيعي والشمال الكردي، بينما يفتقر إليها الوسط السني. فهذا التقسيم، الذي ربما تمت تنحيته موقتاً، يعني حصول الإقليمين الجنوبي والشمالي على مقدرات اقتصادية، تختصر عليهما طريقاً طويلة إن فكرا في إعلان دولتين مستقلتين، بخاصة في ظل توافر عنصر آخر، يتمثل في امتلاك هذين الإقليمين قوة عسكرية، تشكل نواة أساسية لتشكيل جيش نظامي. فلدى الأكراد نحو مئة وعشرين ألف جندي يعرفون باسم قوات البشمركة، ولدى الشيعة قوات مثل «فيلق بدر» الذي يربو على خمسة وعشرين ألف جندي، وهناك تقديرات أميركية تقول إن العدد يصل إلى مئة ألف. وهناك جيش المهدي المنضوي تحت قيادة مقتدى الصدر. ولدى الشيعة ميليشيات موازية، بينما يفتقر السنة إلى قدرات عسكرية منظمة من هذا القبيل.
وعلى رغم كل التسويات الموقتة لا يزال كثيرون ينظرون إلى الثروة العراقية وهي النفط، وكأنها غنيمة حرب، يريد كل طرف أن يحوز منها ما «خف وزنه وغلا ثمنه» من دون مراعاة حقوق ومصالح قوى اجتماعية أخرى في البلدين. فالحلول المتداولة بالعراق حول الثروة كانت تقوم على إما تحديد نسب معينة لكل محافظة بحسب إنتاجها النفطي، أو تقسيم العائدات بإشراف الحكومة الفيديرالية، وتوزيعها على المحافظات على أساس عدد السكان.
واعتماد الفيديرالية وتقسيم الثروة النفطية، يزيد الأقاليم والقوى الأخرى في العراق تهميشاً. حيث يأتي مثل هذا الحل، إن تم اعتماده نهائياً في المستقبل، على حساب السنة، ومعهم التركمان، بوصفهم أقلية عرقية، والمسيحيين باعتبارهم أقلية دينية. لكن في كل الأحوال فإن السنة هم الأكثر دفعاً للثمن، لأنهم الطرف الأكثر استهدافاً من قبل الميليشيات الشعية، التي تحملهم وزر نظام صدام حسين.
وعلى رغم الجهد الحقيقي الذي يبذله السنة في سبيل الاندماج بصيغة أعمق في النظام السياسي الموجود، فإن أغلب الشيعة لا ينظرون إلى هذا الجهد بعين الاعتبار. ومواجهة هذا الجفاء لا يكون بنفخ النار في الطائفية، بل بالعمل الدؤوب على تعظيم حصة السنة في التمثيل السياسي، انتظاراً للحظة ذوبان الجميع في دولة وطنية، يبدو أنها لا تزال صعبة المنال. لكن ما يعيب سنة العراق حتى الآن، هو سير بعض رموزهم وراء طموحاتهم الشخصية التي لا تزال تخلق انقسامات عميقة بينهم، ووجود خصومات شخصية، ومنافسات داخلية، وعدم التكتل في جبهة واحدة، ما يؤدي إلى تفرقهم بالانضمام إلى تحالفات مختلفة.
إن هذه الظروف الصعبة، ما كان لها أن تكون لولا الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي، اللذين وصما مسيرة العراق لفترة طويلة، لكن إنهاء الاستبداد ورفع الظلم، لا يكون أبداً باحتلال الدولة وتفكيكها، ولا باستئثار طائفة بالقرار، وقيامهما بتهميش منظم لطائفة أخرى، والنزوع إلى الانتقام منها.