المحرر - الذكرى الرابعة عشر للوحدة : " 1958 ـ 1961 "
الذكرى الرابعة عشر للوحدة : " 1958 ـ 1961 ".
هذه هي قصة الوحدة قبل أن يزوروها ... ليس صحيحاً أنّ الوحدة قامت لرد خطر شيوعيّ
وليس صحيحاً أنّ عبد الناصر قبل الوحدة مضطراً .(1)
بقلم : د. مصطفى دندشلي .
هناك ظاهرة في حياتنا السياسيّة العامة وهي أنّنا نعايش ونشارك بل ونصنع الأحداث التاريخيّة ، ولكننا غالباً لم نستطع أن نستوعبها وأن نفهمها في تسلسلها الزمنيّ وأن نرى علاقات أطرافها بعضها ببعض أو موازين القوى السياسيّة الداخليّة والخارجيّة التي أثرت فيها . ولا يمضي وقت من الزمن حتى تدخل هذه الأحداث " متحف الذكريات ": فنفرح أحياناً إذ كانت ذكرياتها مفرحة ونتألم لها غالباً ، إذا كانت تثير فينا ذكريات الألم والحسرة .
ويأتي بعد ذلك غيرنا (الغربيون عادة ) فيدرسون هذه الأحداث السياسيّة ويحللونها ويكتبون عنها ، على ضوء مفاهيمهم ونظرتهم الخاصة ، ثمّ يصدرون لنا ما يكتبون عن واقعنا . واحد الأمثلة التي يمكن أن تعطي في هذا الصدد ، هو قيام الوحدة السوريّة ـ المصريّة في شباط 1958 وتأسيس الجمهوريّة العربيّة المتحدة .
فهل صحيح ما قيل من أنّ سورية اتحدت مع مصر خوف من الخطر الشيوعيّ عليها من الداخل ؟... وأنّ عبد الناصر رفض ، في البدء ، أو تردّد في قبول هذه الوحدة ؟... وما هي الظروف الداخليّة والخارجيّة التي تمّت فيها الوحدة بين مصر وسورية ؟... وما هي الدوافع المباشرة والبعيدة التي أدّت إليها ؟...
للإجابة على هذه الأسئلة ، لا بدّ من أن نعود إلى الوراء وأن نضع هذه الوحدة ، الأولى في تاريخ العرب الحديث ، في سياقها وفي الظروف السياسيّة العامة التي سبقتها وأحاطت بها .
* * *
تمتد فكرة القوميّة العربيّة ، في تاريخنا الحديث ، إلى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل هذا القرن . وقد ظهر تجسيدها ، لأول مرة ، في الهيئات والمنظّمات السياسيّة السريّة والأدبيّة التي انتشرت في أواخر عهد الأمبراطوريّة العثمانيّة . والنشاط السياسيّ لهذه المنظّمات العربيّة المختلفة مهد الطريق أمام انعقاد المؤتمر العربيّ الأول في حزيران سنة 1913 ، في العاصمة الفرنسيّة .
وفي هذا المؤتمر الذي كان يضمّ مجموعة من المثقّفين العرب من مختلف الأقطار والمذاهب الدينيّة ، طرحت فكرة الوجود والشخصيّة العربيّة المستقلة ، وشخصيّة الأمة العربيّة الواحدة . وإذا لم تكن فكرة الانفصال عن الامبراطوريّة العثمانيّة قد نضجت بعد ، إلاّ أنّ التأكيد انصبّ على التمييز بين ما هو عربيّ وغير عربيّ ، ومساواة المجموعة العربيّة بغيرها من باقي القوميات، وخاصة القوميّة التركيّة، في الحقوق والواجبات وفي المراكز الإداريّة والسياسيّة والجيش.
وفيما بين الحربين ، من خلال النضالات الطويلة في الداخل والخارج ، تبلورت فكرة القوميّة والوحدة العربيّة وتعمّقت أكثر فأكثر جذورها واتشرت بين صفوف الجماهير العربّية العريضة .
ففي هذه الفترة ، وعلى أثر قيام أنظمة ودول عربيّة مختلفة ، بسبب المؤامرات ، وتدخلات الدول الغربيّة الاستعمارية مباشرة ، ( بالدرجة الأولى بريطانيا وفرنسا ) بعد انهيار الامبراطوريّة العثمانيّة ، أخذت فكرة الوحدة العربيّة طابعاً جديداً وأصبحت محور تفكير وعمل المثقّفين القوميين العرب .
ويمكن أن نشير في هذا المجال إلى ثلاث حركات قوميّة ، كان لها أهميّة في نموّ وتطوّر المفهوم الوحدويّ ، على الأقل على الصعيد الأيديولوجيّ والسياسيّ .
ففي المؤتمر السوريّ العام الذي عقد في حزيران عام 1919 في دمشق ، حدّدت الأهداف العربيّة ببناء دولة عربيّة واحدة ومستقلة ورفض أيّ إدعاء صهيونيّ على فلسطين .
وفي القدس ، عقد في كانون الأول سنة 1931 ، المؤتمر العربيّ ، وهو يضمّ قياديي الحركات العربيّة القوميّة من مختلف الأقطار . وقد أعلن المؤتمر ميثاقه الذي يدعو فيه العرب إلى النضال لتحقيق الأهداف التالية :
* البلاد العربيّة وحدة تامة لا تتجزأ ، وكلّ ما طرأ عليها من أنواع التجزئة يجب رفضه وعدم الاعتراف به .
* توحيد الجهود في كلّ قطر من الأقطار العربيّة إلى وجهة واحدة ، وهي استقلالها التام ومقاومة كلّ فكرة ترمي إلى الاقتصار على العمل السياسيّ المحليّ والإقليميّ .
* رفض ومقاومة الاستعمار بجميع أشكاله وصيغه لتنافيه مع كرامة الأمة العربيّة وغايتها العظمى .
أما عصبة العمل القوميّ ، أخيراً ، فإنّها تعلن في مؤتمرها التأسيسيّ الذي عقد في آب 1933 ، في قرنايل ـ لبنان ـ أن الاستعمار يتبع في البلاد العربيّة هدفين متلازمين :
* إخضاع العرب للسيطرة الاقتصاديّة والسياسيّة والعسكريّة والثقافيّة ...
* واتخاذ البلاد العربيّة كنقطة انطلاق للتوسّع والسيطرة في البلاد الآسيويّة والأفريقيّة .
وتؤكد عصبة العمل القوميّ أنّ العرب هم بدورهم يكونون أمّة واحدة وأنّ لهم وحدهم الحقّ في تقرير أمورهم والسيطرة على مقدراتهم ، وهي لهذا تضع لها هدفين :
* الأول : تحقيق الوحدة العربيّة الشاملة .
* والثاني : تحقيق الاسقلال المطلق للعرب .
وترى العصبة أنّ هذين الهدفين مرتبطين ارتباطاً عضوياً . فتحقيق الهدف الأول هو شرط لتحقيق الهدف الثاني . ووحدة الأمّة العربيّة لا تتمّ إلاّ بالحصول على استقلالها ، ولا يمكن أن يتحقّق الاستقلال الحقيقيّ بدون وحدة العرب .
* * *
فالاتجاه العام والأساس ، إذن ، للحركة القوميّة العربيّة هو الوحدة والاستقلال والتحرّر التام. إنّ مضمونها ينمو ويتطوّر بنموّ وتطوّر الظروف والأوضاع السياسيّة والاقتصادّية والاجتماعيّة في الشرق العربيّ . وقياداتها شبه الإقطاعية وشبه البرجوازيّة كانت تتهاوى الواحدة تلو الأخرى . واستغلال بريطانيا مثلاً ، في فترة ما هذا الشعور الوحدويّ العام ، لصالحها وتقوية نفوذها في البلاد العربيّة ، كان يرتد دائماً في النهاية ضدّها .
* * *
في هذه الظروف ، وكنتيجة لتطوّر البلاد العربيّة بشكل عام وسوريا على وجه الخصوص، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ظهر حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ ، كمرحلة من مراحل نموّ الحركة العربيّة التحرريّة ، وكتتمة لجمع الحركات القوميّة السابقة ، وتجاوزاً لها . وقد هيأ بدوره المناخ الأيديولوجيّ العام ، من خلال عمله ونضاله السياسيّ ، لحركات قوميّة تحرريّة أخرى. وحزب البعث قد أعطى ، لأول مرة ، لفكرة القوميّة والوحدة العربيّة مفهوماً اجتماعياً تقدمياً. وأهدافه الأساسية التي أعلنها في السنين الأولى من نشوئه ، في الوحدة العربيّة والحريّة والاشتراكيّة ، لاقت صدى واسعاً وتأثيراً عميقاً في نفوس الأجيال العربيّة المثقّفة ، ومن ثمّ في الأوساط الشعبيّة الواسعة .
وبعد سقوط حكم أديب الشيشكلي في شباط سنة 1954 ، والدور الكبير الذي لعبه البعثيون شعبياً وعسكرياً في إزالته، ظهرت حركة البعث كقوّة سياسيّة جماهيريّة ، انتقلت من سوريا إلى باقي
البلاد العربيّة . وعلى أثر الانتخابات النيابيّة التي جرت في أيلول ـ تشرين الأول من نفس السنة ، خرج البعث منتصراً بحصوله على 16 مقعداً في مجلس النواب السوريّ .
ومن الجهة الثانية ، قام عبد الناصر بحركته ، حركة الضباط الأحرار في 23 تموز 1952 ، وأول شيء اهتم به عبد الناصر ، في تلك الفترة ، هو تثبيت وتدعيم الحكم الجديد والتوجه الكلّي إلى الشؤون الداخليّة المصريّة ، وذلك بالإطاحة بالملكيّة وإعلان الجمهوريّة ، وإصدار قانون الإصلاح الزراعيّ والقضاء على الإقطاع وإبعاد الاتجاه المشارك في الحكم بقيادة محمد نجيب الذي كان يدعو إلى عودة الحياة البرلمانيّة السابقة .
إنّ الفكرة الأساسية التي كانت تسيطر على ذهن وتحركات عبد الناصر السياسيّة ، هي فكرة الاستقلال التام ، في الفترة الانتقاليّة التي تمتدّ من 1952 إلى 1954 .
إنّ عبد الناصر ، في أوّل عهده ، لم يكن معادياً للغرب ، ولكن في نفس الوقت كان متمسكاً بمبدأ الاستقلال. وكلّ الشعارات التي أطلقتها الثورة في ذلك الحين ، تتركّز حول هذه الناحية: الاستقلال .
وإذا كانت الولايات المتحدة قد لعبت دوراً أساسياً في الضغط على بريطانيا للتوقيع على اتفاقيّة الجلاء في تشرين الأول سنة 1954، إلاّ أنّ الحكم الجديد وعبد الناصر بالذات لم يكن ليرضى استبدال احتلال باحتلال آخر ، أو نفوذ بريطانيّ بنفوذ أميركيّ . وهذه هي الناحية التي لم تدركها ولا يمكن أن تدركها الدبلوماسيّة الأميركيّة والتي سيكون لها نتائج بعيدة المدى في المستقبل القريب .
إنّ عبد الناصر ، كأستاذ سابق للاستراتيجيّة العسكريّة في كلية الأركان الحربيّة ، قد طبّق هذه الاستراتيجيّة على الصعيد السياسيّ . فاستقلال كلّ دولة والمحافظة عليه لا يمكن أن بتمّ فعلياً طالما أنّ الدول المجاورة فاقدة لاستقلالها وتخضع لنفوذ وسيطرة الدول الأجنبيّة .
* * *
في هذه الناحية، هناك أوجه شبه ، مع الفارق فى الأوضاع ، بين مفهوم "ديغول" للاستقلال ومفهوم عبد الناصر : فبعد عودة " ديغول " إلى الحكم في سنة 1958 ، كان أوّل ما قام به هو تثبيت الاستقلال الداخليّ وإنهاء المشاكل الخارجيّة المعلقة ، ثمّ التوجه إلى دعوة الدول الأوروبيّة للاستقلال والتحرر من النفوذ الأميركيّ .
وهكذا ، فلم يقاوم عبد الناصر ، فقط ، شتّى الضغوط التي مارستها عليه الولايات المتحدة وبريطانيا لانضمام إلى الأحلاف والمشاريع العسكريّة الغربية في المنطقة ، وإنّما عمل أيضاً على منع دخول باقي الدول العربيّة إلى هذه الأحلاف . ومن أجل هذه الغاية ، فقد شنّ هجوماً عنيفاً قبل ومنذ اليوم الأول ضدّ حلف بغداد وضدّ المشاريع العسكريّة .
إنّ عبد الناصر انطلق في الابتداء في تحديد اتجاهات ودور مصر من مواقع استراتيجيّة ودينيّة وقوميّة ، وقد عبّر عن ذلك في كتابه " فلسفة الثورة "، بالحلقات الثلاثة : الحلقة الأفريقيّة والحلقة الإسلاميّة والحلقة العربيّة . إلاّ أنّ الحلقة العربيّة هي أهمّ هذه الحلقات .
وهو يوضح في " فلسفة الثورة " المنطلقات الأساسيّة لسياسته العربيّة فيقول :
" لو كان الأمر كلّه محصوراً في حدود عاصمتنا أو في حدود بلادنا السياسية ء لهان الأمر ولأقفلنا على أنفسنا كلّ الأبواب وعشنا في برج عاجيّ ... لم يعد مفر أمام كلّ بلد من أن يدير البصر حوله خارج حدود بلاده ليعلم من أين تجيئه التيارات التي تؤثّر فيه وكيف يمكن أن يعيش مع غيره . لم يبق مفرّ أمام كلّ دولة من أن تجيل البصر حولها تبحث عن وضعها وظروفها في المكان ، وترى ماذا تستطيع أن تفعل فيه وما هو مجالها الحيويّ وميدان نشاطها ودورها الإيجابيّ في هذا العالم المضّطرب ... أيمكن أن تتجاهل أن هناك دائرة عربيّة تحيط بنا ، وإنّ هذه الدائرة منّا ونحن منها ، امتزج تاريخنا بتاريخها وارتبطت مصالحنا بمصالحها حقيقةً وفعلاً وليس مجرد كلام... وما من شكّ في أنّ الدائرة العربيّة هي أهمّ هذه الدوائر ( الأفريقية والإسلاميّة ) وأوثقها ارتباطاً بنا. فلقد امتزجت معنا في التاريخ ، وعانينا معها نفس المحن ، وعشنا نفس الأزْمات ... وأنا أذكر فيما يتعلق بنفسي أنّ طلائع الوعي العربيّ بدأت تتسلل إلى تفكيري وأنا طالب بالمدرسة الثانوية ، أخرج مع زملائي في اضطراب عام في الثاني من شهر نوفمبر من كلّ سنة ، احتجاجاً على " وعد بلفور " الذي منحته بريطانيا لليهود ومنحتهم به وطناً قومياً في فلسطين المغتصبة ظلماً من أصحابها الشرعيّين ... ولما بدأت أزْمة فلسطين كنت مقتنعاً في أعماقي بأنّ القتال في فلسطين ليس قتالاً في أرض غريبة ، وليس هو انسياقاً وراء عاطفة وإنّما هو واجب يحتمّ الدفاع عن النفس ... كان الحادث يقع في القاهرة فيقع مثيلاً له في دمشق غداً ، وفي بيروت وفي عمان وفي بغداد وفي غيرها . وكان ذلك طبيعياً . منطقة واحدة، ونفس الظروف ونفس القوى المتألبة عليها جميعاً ، وكان واضحاً أنّ الاستعمار هو أبرز هذه القوى ، حتى إسرائيل نفسها لم تكن إلاّ أثراً من آثار الاستعمار "...
* * *
هذه هي المنطلقات العامة والأساسية لمفهوم عبد الناصر في عام 1953 للروابط القوميّة العربيّة. وهذه المنطلقات ستغتني في المستقبل وتتعمق من خلال المعارك السياسيّة اليوميّة سواء على الصعيد الداخليّ أو العربيّ أو العالميّ . وهي تمتاز ، إلى جانب النبرات والأحاسيس العاطفيّة ، بالنظرة الواقعيّة والاستقرائيّة لسير التاريخ العربيّ ، بخطف المفاهيم القوميّة التي كانت ساندة في الشرق العربيّ والتي تطغى عليها المواقف والتطلعات العاطفيّة على غيرها من استكشاف الواقع والتحرك من خلال معطياته .
ويمكن أن يعتبر عام 1955 كحلقة الوصل بين المرحلة الانتقاليّة والمرحلة الثورية ، بين فكرة البناء الداخليّ وتنبيت الحكم وفترة الظهور على المسرح العربيّ والعالميّ من أبوابه الواسعة . ففي هذا العام ، وقعت أربع حوادث في غاية الأهميّة بالنسبة لسياسة عبد الناصر الخارجيّة والعربيّة. الأولى : الاعتداء الإسرائيليّ على غزة في شهر شباط . والثانية : اشتراك عبد الناصر في مؤتمر باندونغ بعد شهرين من هذا التاريخ . والثالثة : الإعلان في أيلول عن عقد صفقة الأسلحة التشيكيّة . وأخيراً عقد الاتفاق العسكريّ بين مصر وسورية في شهر تشرين الأول .
إنّ عبد الناصر لم يشعر بأهميّة تزويد الجيش المصريّ بالسلاح ، كما شعر بذلك بعد الاعتداء الإسرائيليّ على غزة وذهب ضحيته عدد كبير من السكان والعسكريّين . الغرب الذي توجه إليه عبد الناصر طالباً السلاح، لا يعطيه إلاّ بشرط : الانضمام إلى أحلافه العسكريّة. ولكن الاستقلال التام والكلّي بالنسبة إلى عبد الناصر أمر لا يساوم عليه .
وعند إعلان اتفاقيّة شراء الأسلحة (مروراً بباندونغ) استقبلتها الجماهير العربيّة والمصريّة، ولربما لأول مرة ، بموجة عارمة من التأييد والحماس . لقد رأت فيها أوّل بادرة عمليّة من بوادر التحدّي للغرب . ولكن هل يعني هذا أنّ عبد الناصر قد قطع كلّ الجسور مع الدول الغربيّة ، وعلى رأسهم الولايات المتحدة ؟...
في الحقيقة ، لقد استمرت العلاقات والمفاوضات والمساومات لتمويل السدّ العالي . وصفقة الأسلحة لم تكن في الواقع إلاّ إشارة إنذار موجه إلى الغرب . والغرب وأميركا بالذات لم يكن بإمكانهما ، بطبيعة الحال ، مماشاة هذا الواقع الجديد والظروف الجديدة .
في هذه الظروف ابتدأت موازين القوى السياسيّة تتغير وتتبدل في الشرق العربيّ . والفئات القوميّة والتقدميّة العربيّة التي نظرت في السابق إلى عبد الناصر ونظامه نظرة ارتياب وحذر ـ بل وعداء ـ دهشت من هذه الخطوات على الصعيد العربيّ والعالميّ ، التي لم تكن لتنتظرها ، بل كانت تقوقع عكسها ، وسارعت إلى دعمه وتأييده .
وهكذا تمت خطوات الالتقاء والتفاعل الأولي بين حركة الجماهير الشعبيّة الصاعدة في سوريا وبين قيادة الثورة وقيادة عبد الناصر بالذات في مصر ، وذلك حول النقاط التالية : محاربة الأحلاف، انتهاج سياسة الحياد الإيجابيّ ، المحافظة على الاستقلال ووحدة المصير العربيّ المشترك.
وسارع الكتّاب والسياسيون والصحفيون المصريون إلى قراءة ما كتبه قوميو المشرق العربيّ حول القوميّة العربيّة ، وتطلع هؤلاء إلى عبد الناصر ورأوا فيه قائداً للنضال العربيّ .
ولم يأت تأميم قناة السويس وما أعقبه من اعتداء ثلاثيّ على مصر ، إلاّ ليكرّس قيادة وزعامة عبد الناصر للجماهير العربية .
لقد انعقد منذ تلك الأزْمة بينه وبين الجماهير العربيّة " زواج حب " لا ينفصل / ولقد رأت الجماهير في هذا الحدث التاريخيّ ،تحدّياً تاريخياً وجهه عبد الناصر ضدّ الغرب ، ورأت فيه أيضاً وفي الأعماق تعبيراً عن الانتقال من عصور الاضطهاد والذل إلى عصر الكرامة القوميّة .
إنّ حرب السويس سنة 1956 ونتائجها البعيدة المدى ، تكون منعطفاً تاريخياً لعلاقة عبد الناصر بالجماهير العربيّة وعلاقة الجماهير العربيّة بعبد الناصر . لقد أدرك عبد الناصر الأثر النّفسيّ والسياسيّ والقوميّ لهذه الأحداث ، لذلك نجده في كلّ خطبه اللاحقة يبدأ بتذكير الجماهير بتأميم قناة السويس والاعتداء الثلاثيّ على مصر والمقاومة العربيّة لصدّ العدوان .
* * *
يتضح من كلّ ما تقدّم ، أنّ الوحدة السوريّة ـ المصريّة في شباط سنة 1958 ، تضرب جذورها العميقة في التاريخ العربيّ الحديث ، وتجد دوافعها المباشرة في المقاومة العربيّة بقيادة عبد الناصر ضدّ الاعتداء الثلاثيّ على مصر . ونستطيع أن نؤكد بمراجعة الأحداث العربيّة ، قبل تلك الفترة ، بأنّ الوحدة كانت لا بدّ قائمة بين البلدين حتى ولو لم يقع تأميم قناة السويس وما تبعه من نتائج .
إنّ الرأي الشائع والضجّة التي أثارتها الصحافة الغربيّة ورددت أنغامها الأوساط الرجعيّة العربيّة والتي تزعم أنّ اتحاد سورية مع مصر إنّما كان عمليّة إنقاذ لها من " خطر شيوعيّ " داهم عليها من الداخل ومن الخطر الخارجيّ الذي يحيط بها ، إنّ ذلك يسقط هزيلاً وبالياً عند النظرة الجديّة للأحداث التي تتالت على سورية في تلك الفترة .
* * *
ماذا كان يجري في سورية في الفترة التي تقع ما بين 1955 ـ 1957 ؟... وما هو المحرّك الأساسيّ للسياسة السوريّة ؟... وكيف كانت تسر الأحداث ؟...
ظهر حزب البعث ، كما رأينا ، كقوّة سياسيّة في سورية بعد زوال حكم الشيشكلي . وكان يعتمد في عمله السياسيّ على دعامتين أساسيتين : التنظيمات الشعبيّة الواسعة ، وخاصة منها الريفيّة، وجناح في الجيش السوريّ ، يضمّ مجموعة من الضباط البعثيين والقوميين التقدميين .
ولهذا نجده يدخل في صراع يزداد حدّة يوماً بعد يوم على جبهتين : من جهة الأحزاب والفئات السياسيّة التقليديّة والرجعيّة : حزب الشعب ، وتيار من الحزب الوطنيّ والأخوان المسلمين وغيرهم، ومن جهة ثانية، داخل الجيش ضدّ الفئات التي كانت مرتبطة، بشكل أو بآخر، مع الأحزاب اليمينيّة أو الفئات السياسيّة المتصلة مباشرة بحلف بغداد .
إنّ الفترة ، منذ أوائل الخمسينات ، كانت فترة الضغط على سورية بشتّى الوسائل لضمّها إلى المشاريع العسكريّة الغربيّة . ومن الثابت بأنّ حزب البعث كان العامل الأساسيّ الأول الذي حال دون هذا الانضمام ، ودخل في معارك طاحنة ، مع بقية القوى التقدميّة ، ضدّ عراق نوري السعيد وحلف بغداد . وما اغتيال عدنان المالكي ، في نيسان سنة 1955 ( وهو وجه من الوجوه البارزة بين الضباط البعثيين ) على يد القوميين السوريين وبتحريض مباشر من العراق والأردن ، إلاّ دليل ظاهر على أنّ البعث كان عقبة كأداء في سبيل انتماء سورية للأحلاف العسكريّة الغربيّة .
وكنتيجة مباشرة لاغتيال المالكي ، قضي على قوة يمينيّة وعلى عدو سياسيّ خطير لكلّ الفئات التقدميّة في سورية ، وقوى البعث مواقعه في مختلف المجالات السياسيّة والشعبيّة .
وفي هذه الفترة أيضاً تمّ الالتقاء العفويّ والطبيعيّ ـ كما رأينا سابقاً ـ بين الحركة الشعبيّة النامية بقيادة البعث في سورية وبين قيادة الثورة المصريّة وقيادة عبد الناصر .
ومنذ أوائل عام 1956 ، ورسمياً في 20 نيسان من السنة نفسها ، رفع البعث شعار " وحدة مصر وسورية "، وذلك بمناسبة أعياد جلاء الجيوش الأجنبيّة عن سورية ، وأصبح هذا الشعار، بالنسبة للبعثيين منذ ذلك الحين ـ ليس فقط في سورية وإنّما كذلك في مختلف البلاد العربيّة ـ المحرك الأساسيّ والأوّل لعملها السياسيّ اليوميّ . وأخذ عمل البعثيين شقين : الشقّ الأوّل في "الشارع" والثاني على الصعيد الرسميّ .
وعندما تألفت الحكومة الائتلافيّة في حزيران 1956 واشترك فيها البعثيون بمنصبين وزاريين : الخارجيّة والاقتصاد ، كان شرطهم الأوّل للمشاركة في الحكم هو عمل الحكومة من أجل الوحدة مع مصر . وبالفعل فقد أعلن رئيس الحكومة آنذاك ، في بيانه الوزاريّ ، بأنّ حكومته ستعمل على التقارب مع مصر لتوحيد السياسيّة الخارجيّة وتنسيق العمل العسكريّ .
وفي 6 تموز من نفس السنة ( أي قبل تأميم قناة السويس ) عقد مجلس النواب السوريّ اجتماعاً استثنائياً ، كلّف فيه ، لأوّل مرّة ، الحكومة بأن تدخل في محادثات مع الحكومة المصريّة من أجل تحقيق الوحدة بين البلدين .
* * *
يتضح من ذلك أنّ سورية كانت تسير على طريق الاتحاد مع مصر بخطى سريعة ، وأنّ السياسة الوحدويّة التي تتبعها ، تحت ضغط البعثيين ، كانت ستؤدّي حتماً إلى الوحدة .
ولكن حوادث السويس والانتفاضة الجماهيريّة الواسعة التي رافقتها ، أعطت للاتجاه الوحدويّ في سورية طابعاً قومياً وعاطفياً وحماسياً لم يعرفه تاريخ المنطقة العربيّة من قبل .
وتتالت المؤامرات تلو المؤامرات على سورية ، التي كانت تتناوب على الاشتراك فيها كلّ الفئات والعناصر اليمينيّة والعميلة في سورية أو خارج سورية .
وإذا لم يكن هنا المجال للدخول في تفصيليات هذه المؤامرات ، إلاّ أنّه لا بدّ من الإشارة السريعة إليها لأنّها تظهر لنا التناقض الرئيسيّ في تلك الفترة ، وهو في الدرجة الأولى بين البعث وباقي الأحزاب والفئات اليمينيّة والرجعيّة .
هناك ثلاث محاولات انقلاب جرت في سورية في ظرف أقلّ من سنة ، للإطاحة بالحكم التقدميّ الوحدويّ :
* المؤامرة العراقيّة في 23 تشرين الثاني 1956 .
* الأزْمة الداخليّة في الجيش وفي الحكومة واعتصام الضباط البعثيين والقوميين في "قطنا" في 17 آذار سنة 1957 .
* وأخيراً المؤامرة الأميركيّة في آب 1957 .
الأولى كان وراءها حلف بغداد ونوري السعيد ، وغايتها إسقاط الحكم الوطنيّ في سورية في الوقت الذي تقوم فيه بريطانيا وفرنسا وإسرائيل باعتدائها على مصر . واتهم بالاشتراك فيها 47 شخصاً مدنياً وعسكرياً . وقد جرت محاكمة المتهمين بهذه المؤامرة في 8 كانون الثاني 1957 ، في مدرج الجامعة السورية . وذكرت آنذاك جريدة " النهار " في 11 كانون الثاني بأنّ أعضاء المحكمة كلهم كانوا من الشيوعيين (؟) ( لقد انطلقت هذه النغمة من قبل في الغرب !!).
أما فيما يسمّى بأزْمة " اعتصام الضباط " البعثيين والقوميين في معسكر قطنا ، فهي أكثر خطورة وأبعد مدى على الصعيد الداخليّ . ماذا جرى في 17 آذار 1957 ؟...
لقد أصدر اللواء توفيق نظام الدين ، قائد الجيش آنذاك ، قرارات سريّة ، بموافقة رئيس الجمهوريّة ، شكري القوتلي ، للقيام بحركة تنقلات واسعة في الجيش ، الغاية منها إبعاد كلّ الضباط البعثيين والقوميين عن المراكز الحساسة وإرسال بعضهم إلى الخارج . وقد تنبّه البعثيون والقوميون لهذا الأمر ، ورفضوا تنفيذ القرارات ، وقرروا القيام بانقلاب عسكريّ لاستلام السلطة . ولم تلغ حركة التنقلات هذه ولم يلق الثائرون السلاح إلاّ بعد تدخل الرئيس عبد الناصر شخصياً .
وأخيراً ، المؤامرة الأميركيّة في آب 1957 التي دبرتها المخابرات الأميركيّة وحضر أديب الشيشكلي سراً إلى دمشق . وقدم قائد الجيش استقالته على أثر ذلك .
* * *
وهكذا فإنّنا نرى ، مما تقدّم ، أنّ الفئات القوميّة والتقدميّة ، وحزب البعث في الدرجة الأولى ، قد أحرزوا ، بعد سقوط حكم الشيشكلي وإجراء انتخابات أيلول ، وتشرين الأول 1954 ، انتصاراً نسبياً كبيراً . إلاّ أنّ القوى اليمينيّة كانت لا تزال تتمتع بقواها ، وهي منتشرة في كلّ مكان ، في الحكومة ( تأليف الوزارة مباشرة من حزب الشعب ) في البرلمان ( ورئيس المجلس ، ناظم القدسي من حزب الشعب أيضاً ) في الجيش ، في البوليس ، ولهم علاقات متينة وقوية في الإدارة وفي المؤسّسات الاقتصاديّة والتجاريّة .
ولكن لم يمض على ذلك ثلاث سنوات حتى تغيّرت موازين القوى السياسيّة في سورية رأساً على عقب . فالأزْمات الوزاريّة والمؤامرات أدّت إلى تغيير البنية السياسيّة والعسكريّة . إنّ هذا التغيير أدّى ، بالتالي ، إلى إبعاد عدد كبير من السياسيين وبعض الأحزاب التقليديّة والرجعيّة الذين كانوا في السابق يمارسون السلطة بصورة مستمرة . وقد أثارت المحاكمات السياسيّة المتتالية نقمة شعبية عارمة ضدهم . كما أنّ الاستقالات التي كانت تحدث على أثر الصراعات الداخليّة في الجيش أنهت أو أضعفت نفوذهم الكبير فيه .
وإذا كنّا نجد جناحاً من الحزب الوطنيّ وبعض المستقلين يشتركون في الوزارة ، إلاّ أنّ القوى الحقيقيّة كانت في يد البعثيين والفئات القوميّة الأخرى ، وهم الذين يرسمون بل ويفرضون السياسة السورية العامة .
ولكن، من الناحية الثانية، يجب أن لا يغيب عن ذهننا أنّه إذا تبدلت موازين القوى السياسيّة في سورية لصالح العناصر القومية التقدميّة . فإنّ ذلك لا يعني أنّ البنية الاقتصاديّة والاجتماعيّة للبلد قد تغيّرت هي الأخرى لصالح الفئات الشعبيّة . إنّ الأحزاب والقوى اليمينيّة والرجعيّة ، إذا ابتعدت أو أرغمت على الابتعاد عن المسرح السياسيّ ، إلاّ أنّها كانت ولا تزال تحتفظ بنفوذ قوي في المجالات الاقتصاديّة والصناعيّة والزراعيّة ، وتتمتع ببعض النفوذ في كثير من أحياء المدن والقرى، كما أنّ اعتمادها بقي قوياً على مختلف المنظّمات الدينيّة وخاصة الأخوان المسلمين .
* * *
يظهر من كلّ ذلك ، أنّ التناقض لم يكن ، في الأساس ، بين الشيوعيين وباقي الأحزاب والفئات اليمينيّة . كما أنّ الشيوعيين لم يفكروا لحظة واحدة في استلام الحكم . ولكن تكتيكهم السياسيّ في 1957 ( أو عدم وجود تكتيك سياسيّ لهم ) أدّى في النهاية إلى عكس ما يريدون .
كان التناقض الرئيسيّ والأساسيّ هو بالأحرى بين الاتجاه القوميّ الوحدويّ التقدميّ من جهة وبين كلّ القوى المحافظة واليمينيّة والدينيّة من جهة أخرى ، وكلّ العناصر المحافظة أو حتى اليمينيّة التي ركبت موجة هذا الاتجاه الوحدويّ . إنّما فعلت ذلك مرغمة ولإنقاذ ما يمكن إنقاذه من نفوذ ومصالح .
* * *
إنّ التيار الوحدويّ كان يلهب عواطف وحماس الجماهير الشعبيّة الواسعة ، ويحمل في طياته ذكريات النضالات القاسية من أجل الوحدة منذ نصف قرن من الزمن . ومن غير شكّ ، فإن التوتر السياسيّ الحاد والظروف السياسيّة الداخليّة في سورية في أواخر عام 1957 ، وتحركات وتهديدات دول حلف بغداد وإسرائيل ولبنان والأسطول السادس في البحر المتوسط ، كلّ ذلك كان عوامل مساعدة لقيام الوحدة السوريّة المصريّة في شباط سنة 1958 ، بالصورة التي نعرفها .
وهناك سؤال آخر يطرحُ في هذا الصدد : هل كان الرئيس عبد الناصر لا يريد فعلاً وحقيقةً أو تردّد في قبول هذه الوحدة مع سورية ؟... ألم يصرح بذلك نفسه عدّة مرات ؟...
في الواقع ، أنّ مراجعة مجرى الحوادث تفصيلياً ( والتي ذكرنا جانباً ضئيلاً منها ) وإلقاء نظرة على تصريحات المسؤولين الرسميين لكلا البلدين وخطب الرئيس عبد الناصر بالذات في تلك الفترة وما كانت تكتبه الصحافة المصريّة وما تذيعه " صوت العرب "، وعلى الاتفاقيات الاقتصاديّة والعسكريّة ( وآخرها نزول القوات المصريّة في سورية في تشرين الأول 1957 ) وتحركات ونشاطات السفارة المصريّة في دمشق ، وأخيراً وليس آخراً ، زيارة وفد مجلس الأمة المصري واجتماعه بأعضاء لجنة الشؤون الخارجيّة في مجلس النواب السوريّ وإصدار القرار التالي في 17 تشرين الثاني 1957 :
" إنّ نواب المجلسين المجتمعين إذ يعلنون رغبة الشعب العربيّ في مصر وسورية بإقامة اتحاد فيدراليّ بين القطرين ، يباركون الخطوات العمليّة التي اتخذتها الحكومتان السوريّة والمصريّة في سبيل تحقيق هذا الاتحاد ويدعون حكومتي مصر وسورية للدخول فوراً في مباحثات مشتركة بغية استكمال أسباب تنفيذ هذا الاتحاد ".
إنّ كلّ ذلك لا يدع أيّ مجال للشكّ بأنّ مصر كانت تريد وتطلب الوحدة مع سورية . وإذا تردد عبد الناصر في آخر الأمر فلربما كان يخشى شيئين : من جهة ، صراعات الأحزاب السياسيّة بعضها مع بعض ، ومن جهة أخرى ، تدخل الجيش في السياسة .
* * *
وإذا كنّا نريد تلخيص العوامل الأساسيّة التي تفاعلت في تلك الفترة وأدّت إلى قيام الوحدة ، فإنّنا نقول :
من الجانب السوريّ ، هناك الاتجاه الوحدويّ الشعبيّ العارم من جهة ، ومن جهة ثانية هناك أيضاً القوى اليمينيّة والبرجوازيّة التجاريّة والصناعيّة والزراعيّة التي ربما خشي قسم منها نشاط الشيوعيين ، إلاّ أنّها كانت تخشى أكثر نفوذ وسيطرة البعثيين . ففضلوا في هذه الحالة مرغمين عبد الناصر ، مؤجلين إلى بعد حين أخذ ثأرهم من البعثيين .
ومن الجانب المصري ، هناك ( مع ضعفه نسبياً ) الاتجاه الوحدويّ بقيادة عبد الناصر ، ولكن هناك أيضاً البروقراطيّة الإداريّة والعسكريّة والبرجوازيّة الماليّة والصناعيّة التي كانت ترى في الوحدة ، قبل كلّ شيء ، سوقاً جديداً لتصريف منتوجاتها ...
* * *
ومهما يكن من شيء ، ففي هذا الجوّ من الأحداث العامة تمّ الاتفاق في أول شباط 1958، على إعلان الوحدة بين مصر وسوريا وقيام الجمهوريّة العربيّة المتحدة . وفي اليوم الخامس من الشهر وقعت الحكومتان على اتفاقيّة الوحدة . وفي الواحد والعشرين من نفس الشهر جرى الاستفتاء الشعبيّ في البلدين وانتخاب جمال عبد الناصر رئيساً للجمهوريّة العربيّة المتحدة .
لقد أطلقت هذه الوحدة الأولى في تاريخ العرب الحديث ، عواطف الجماهير العربيّة من عقالها وعمّت مظاهرات التأييد ومظاهرات الابتهاج جميع أنحاء الوطن العربيّ . وليس من الممكن فهم هذا الشعور العاطفيّ الجيّاش الذي استقبلت به الجماهير العربيّة هذه الوحدة فقط بالتحليل العقلانيّ، وإنّما يجب إدخال العوامل النّفسيّة أيضاً والآمال الوحدويّة المكبوتة منذ ما يقرب من نصف قرن . إنّ " مكسيم رودنسون "، المستشرق الفرنسيّ الماركسيّ ، عندما تحدّث في إحدى مقالاته عن هذه المرحلة ، قال بأنّها تذكره بالظروف الثوريّة الكبرى في التاريخ .
ولكن ، منذ السنة الأولى من عهد الجمهوريّة العربيّة المتحدة ، ظهرت المشاكل العديدة الداخليّة والخارجيّة ، ووجدت القوى اليمينيّة والرجعيّة الفرصة مناسبة لتحمل حملة واسعة ومركزة على البعثيين وجميع الفئات الوحدويّة ، كما أنّ جميع الأطراف التي صنعت أو شاركت في صنع هذه الوحدة ارتكبت الأخطاء الكثيرة وأساءت تقدير سير الأمور .
وإذا لم يكن هنا المجال لبحث أسباب هذه الأخطاء والمؤامرات الداخليّة والخارجيّة التي أدّت في النهاية إلى الانفصال في 28 أيلول 1961 ، إلاّ أنّه يمكن إجمالها في النقاط الخمسة التالية :
* عدم الأخذ بعين الاعتبار الفوارق الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة بين الإقليمين .
* عدم وجود تنظيم سياسيّ جماهيريّ يضمّ الفئات الوحدويّة والاشتراكيّة التي هي وحدها لها مصلحة في حماية الوحدة . وهذه هي نقطة الضعف الأساسيّة في نظام الوحدة .
* عدم المشاركة الفعليّة للجانب السوريّ في تحمل مسؤوليات الحكم في شتّى الميادين .
* مهادنة القوى البرجوازيّة والإقطاعيّة السوريّة ، وفسح المجال أمامها للتسرب إلى الأجهزة السياسيّة والإداريّة والعسكريّة .
* المؤامرات الخارجيّة التي أحيط بها الإقليم السوريّ من قِبَل الرجعيّة العربيّة .
هذه هي بعض النقاط التي وردت في خطاب الرئيس عبد الناصر ( وهو ما يسمّى بخطاب النقد الذاتيّ ) الذي ألقاه في 16 تشرين الأول 1961 .
* * *
إنّ هذه الوحدة ، في نهاية التحليل وبالرغم من الانفصال ، تبقى تجربة وحدويّة رائدة وغنيّة بالدروس والعِبَر . وهي قد أوضحت ومهدت الطريق لقيام وحدة سليمة تعتمد الجماهير المنظمة في تأييدها ودعمها .
فالوحدة حركة تاريخيّة جماهيريّة دائماً في صعود واغتناء ، بالرغم من الهزائم أو النكسات أو بسبب هذه الهزائم والنكسات . فهي دائماً تتجاوز نفسها لتحقيق ذاتها في النهاية . إنّها ، بكلمة واحدة ، حتميّة ، حتميّة الوجود العربيّ ذاته ...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) أنظر ، جريدة " المحرر "، 21 شباط 1972 .