مجلة السنة - تجربة عبد الناصر مع حزب البعث - عدد 7
[عن مجلة السنة / العدد 7 / ربيع الثاني 1411هـ]
تجربة عبد الناصر مع حزب البعث
استغل حزب البعث جمال عبد الناصر منذ أن بدأ يلمع نجمه عام 1956م، وأقاموا معه حلفاً انتهى بقيام ما يسمى بالوحدة بين مصر وسورية عام 1958م، واستغلوا عبد الناصر بعد الانفصال عام 1961 ، ولولاه لما كان لهم ان يحكموا سورية والعراق بعد الإطاحة بعبد الكريم قاسم، واستغلوه بعد هلاكه فقدموا أنفسهم كممثلين له ولكل من ينادي بالقومية والاشتراكية، ومما ساعدهم على تحقيق بعض المكاسب مرض فقدان الذاكرة الذي اصيبت به أمتنا في هذا العصر.
لذا رأينا من الواجب أن نقدم لقرائنا دراسة عن أخلاقيات قادة حزب البعث في تعاملهم مع جمال عبد الناصر والعكس صحيح، ورأي جمال عبد الناصر الأخير بهم.
ومما يجدر ذكره أن هذه الدراسة لا علاقة لها بأحداث الخليج، رغم أهمية وخطورة هذه الاحداث، وقد كتبناها في أوائل الثمانينيات بمناسبة تحالف بعض الاسلاميين مع حزب البعث العراقي وأحزاب جاهلية أخرى، وأعلنا في العدد الرابع - أي في ذي القعدة - بأننا سننشرها على شكل حلقات، ونشرنا الحلقة الأولى منها في العدد الخامس تحت عنوان: (مناقشة شبهات المتحالفين مع العلمانيين والمرتدين).
مراحل هذه التجربة:
عقد البعثيون العفالقة وعبد الناصر وأعوانه من القوميين العرب لقاءات مغلقة، ظاهرها وحدة الأمة العربية، وحقيقتها نشر العلمانية، وعرقلة مسيرة الدعوة الإسلامية، ودعوة الناس إلى عبادة أوثان من دون الله - كالحزب، والقومية، والثورية، والاشتراكية.
وكانت الشكوك تساور عبد الناصر في صدق البعثيين، فعمد إلى تسجيل محاضر الجلسات في أشرطة (كاسيت)، وعندما وقعت الواقعة بينهم، وانهالوا عليه في اذاعاتهم شتماً وتجريحاً، اراد أن يحرجهم فأمر القائمين على (صوت العرب) فأذاعوا الأشرطة، ثم نشرت في كتاب تحت عنوان: (محاضر جلسات مباحثات الوحدة) وسبحان القائل: (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين).
ومن هذه المحاضر (ولا يستطيعون أن ينكروا اصواتهم) وغيرها من الكتب ومذكرات السياسيين، نلخص فيما يلي الحديث عن المراحل التي مرت بها علاقة البعثيين مع عبد الناصر.
مرحلة الوئام:
منذ عام 1954 وحتى عام 1958 - العام الذي تمت فيه وحدة سورية مع مصر - كان يتولى الحكم في سورية التجمع الوطني وهو خليط من عدة أحزاب من أبرزها: حزب البعث والحزب الوطني، وفي الوقت نفسه إشترك البعثيون والشيوعيون في حلف واحد أخذ إسم (الجبهة التقدمية) ومن هنا نعلم أن حياة البعثيين السياسية في العراق وسورية حافلة بالاحلاف والجبهات والمحاور، كما أنها حافلة بالغدر ونكث العهود… فكيف أباحوا لأنفسهم الاشتراك في حكومة (التجمع الوطني) وفيها هيئات وتجمعات يرون أنها ملوثة، وحزب يقولون إن الاستعمار الفرنسي أنشأه وخلفه وراءه؟
كيف يحاربون الاقطاع والرأسمالية والشعوبية والاستعمار، وشركاؤهم في الحكم اقطاعيون رأسماليون؟!
وبعد سنتين من تحالفهم مع الشيوعيين شعروا أن الأرض تميد بهم: فبكداش اشد دهاء، وأقوى حنكة من الحوراني، وأفكار الشيوعيين مقبولة عند العلمانيين والملاحدة أكثر من افكار البعثيين.
بدأ التغلغل الشيوعي في الجيش، وأسندت لهم مراكز قيادية كقيادة الجيش، ورئاسة الأركان، واتخذوا من البعثيين سلماً في تحقيق معظم اهدافهم، وأخذت سورية تسير نحو إنقلاب شيوعي أحمر، فاتجه البعثيون إلى صديقهم عبد الناصر، وكانت العلاقات قد توثقت بينهم بعد حرب السويس عام 1956، واخذ العفالقة يعزفون أنغام الوحدة العربية وهي عقدة العقد عند الشيوعيين.
واكتشف تجار القومية أن شعاراتهم وشعارات عبد الناصر واحدة، القضاء على الاقطاع، الوحدة العربية، القضاء على الاستعمار، الديمقراطية والحرية، سيادة الشعب… إلى آخر ما في جعبهم وأخيلتهم من كلمات انشائية عائمة.
ورد عبد الناصر تحيتهم بأحسن منها، فسارع إلى تعيين صديقه محمود رياض سفيراً له في دمشق، وأخذ المندوب السامي - يجمع حوله الكتلة العسكرية (البعثيين، جماعة السراج، وأحمد عبد الكريم) وينقل إليها أوامر سيده، ويقوم الاتباع أو الاعوان بنقل الاوامر إلى رئيس الجمهورية (شكري القوتلي) فيسارع إلى تنفيذها دون تردد أو تذمر، واذا حاول أن يستوضح جاءه الهديد من الثكنات العسكرية.
وتأخذ الأوامر طريقها إلى اجهزة الاعلام السورية، وإلى مجلس الشعب، وتروج لها الصحافة والرفاق فتتحول إلى تيار شعبي جارف، وهكذا كانت نتيجة الاستفتاء على الوحدة 99.9% (!!) وجاءت محاضر الوحدة فكشفت سراً دفيناً.
عبد الناصر: (ما هو الوحدة مين عملها؟.. ما هو جم عملوها الضباط.. كل كتل الحيش مش كده.. جم قبل الحكومة ما تعرف.. هل شكري القوتلي عمل وحده؟.. إنتم عارفين التفاصيل… اللي تكلم معاي في الموضوع من هذه الزاوية ضباط الكتل المختلفة في الجيش وقتها.. حتى قالوا العملية ما هياش عملية مناقشة… العملية يعني ما هي عملية مراحل… العملية ضرورة قومية… وكان عبد الحكيم معايا وكان الضباط اللي بيمثلوا حزب البعث موجودين وقالوا لي إن إحنا نبات في المعسكرات واننا مهددين إلى آخر الموضوع… وإن إحنا عايزين نخلص من هذه المشاكل… آدي العملية.. بالضبط كيف جرت الوحدة سنة 1958… جرت بهذا الشكل والا إيه)؟؟؟
عبد الحكيم عامر: (ده حصل قطعاً…). [محاضر جلسات مباحثات الوحدة: ص 11]
وفي موضع آخر من المحاضر:
(عبد الحكيم عامر: (مين؟
ميشيل عفلق: (هو العنصر العسكري نحن وجهناه).
صلاح البيطار: (نحن أرسلناهم سيادة الرئيس… شخصيا بعد ما عرفنا الجو هنا وكنت سيادتك متردد).
هذه الرواية تكشف زيف النظم الديمقراطية في عالمنا الاسلامي، فعندما تمت الوحدة بين سورية ومصر وقعها الممثلون السوريون لما يسمى بالمجلس النيابي على أنها إرادة الشعب… وتكشف الأقنعة بعد ست سنوات فظهرت الصورة في شكلها الحقيقي…
فحزب البعث كان يحكم البلد عن طريق عناصره العسكرية في الجيش، والكتل العسكرية - بما فيها البعثيون - هي التي فرضت الوحدة، وما أوقح عبد الناصر عندما يقول في إجتماع مغلق شاء الله أن يكشفه: (ما هو الوحدة مين عملها.. ما هو جم عملوها الضباط… جم قبل الحكومة ما تعرف.. هل شكري القوتلي عمل وحدة؟).
ويخاطب شركاءه البعثيين: (إنتم عارفين التفاصيل؟).
وفي خطبه التي كان يتحدث فيها إلى الجماهير المحتشدة كان يكرر القول: (هذه ارادة الشعب).. ونتائج إستفتاءاته معروفة. وكان يثني على شكري القوتلي الذي أطلق عليه وصف المواطن الأول.
وما أشد وقاحة عفلق والبيطار عندما اعترفا بانهما كانا وراء التآمر على الديمقراطية التي يتشدقون بها وقد اتخذوها هدفا من أركان ثلاثة: وحدة، حرية، اشتراكية.
هذه الصورة المزيفة للديمقراطية تتكرر في جميع بلدان العالم دون أي استثناء، ومن خلف الستار يوجه العساكر أو الاستعمار الغربي سياسة الحكومات الديمقراطية ولا ندري لماذا يطالب بعض الاسلاميين بهذه الديمقراطية وما يتبعها من إنتخابات نيابية؟
وخلال العامين 1957، 1958 وضع البعثيون عبد الناصر في مرتبة أعلى من مرتبة الانبياء، وقال شاعرهم (سليمان العيسى) في وصفه: (ويطهر الدنيا نبي اسمر).
ومن القابه عندهم: رائد القومية العربية، بطل التحرير، الزعيم.
يقول ميشيل عفلق: (وبدأنا بثقة مطلقة… أنا بأقول هذا الشيء عن نفسي.. وبأقوله عن الأخ صلاح… وبأقوله يعني هذا.. فما هو عاجز عن القول بلسانه.. وبأقوله بأنه ما في يمكن افراد نالوا الثقة.. اللي نحن وجدناها في شخص جمال عبد الناصر) [محاضر جلسات الوحدة: ص 14].
واختار عبد الناصر عدة وزراء من البعثيين وهم:
1) صلاح البيطار.
2) رياض المالكي.
3)أمجد الطرابلسي.
4)خليل الكلاس.
5) مصطفى حمدون.
6)عبد الغني قنوت.
ومعظم الوزراء الباقين من أصدقاء حزب البعث، ويعترف عبد الناصر بانه استشار أكرم الحوراني كمسئول عن حزب البعث في تشكيل الوزارة كلها علما بان حزب البعث لم يكن يمثل سورية، وإنما كان طول عمره - الكلام لعبد الناصر - مجرد شريك في الائتلافات الوزارية وبينها الائتلاف الذي وقع اتفاقية الوحدة.
ويقول عبد الناصر ايضاً: (أما عن موضوع أحترامه - اكرم الحوراني - فلقد كنت احرص دائماً على أن يكون إلى جانبي بجانبي حتى وسط الزحمة في الاستقبالات الرسمية، وحين كنت أشعر انه تأخر كنت أقف أناديه وأنتطره ليبقى بجانبي، وكان بغدادي معنا في روسيا ولم أكن أفعل ذلك معه، ولكني كنت أعرف حساسيات البعثيين وعقدهم) [محاضر جلسات الوحدة: ص 8]
المرحلة الثانية:
قدم الوزراء البعثيون استقالاتهم من نظام عبد الناصر في 24 ديسمبر 1959، وأخذوا يصدرون نشرات - في لبنان وغيرها - يتحدثون فيها عن الاسباب التي دعتهم إلى الاستقالة فكان من اهمها:
• عبد الناصر ديكتاتور مستبد، ونظامه يقوم على عناصر المخابرات، ووسائل الإرهاب والقهر.
• أردناها وحدة، وارادها احتلالاً لسورية، وتسلطاً مصرياً.
• عندما وقع الانفصال كانت قيادة البعث اول من وقع وثيقة الانفصال (وقعها اكرم الحوراني وصلاح البيطار).
وأخذ أكرم الحوراني ينشر مذكراته في الصحف السورية وتذكر إحتلال شرم الشيخ، والبوليس الدولي على الحدود المصرية الفلسطينية، كما تحدث عن ارتباط عبد الناصر بالولايات المتحدة الامريكية، ودوره المشبوه في قضية نهر الاردن، وقال الحوراني:
لم تشهد إسرائيل أمانا وإطمئنانا الا في فترة الوحدة، وقبل هذه الفترة كانت حوادث إطلاق النار بين الجيش السوري واليهود لا تنقطع.
وميشيل عفلق كان في جريدة البعث يتحدث عن ديكتاتورية عبد الناصر، لكنه كان ينادي بعودة الوحدة على أسس مدروسة.
مناقشة اقوال البعثيين:
1)إذا كنا ننقد أساليب البعثيين الملتوية، ونحذر من غدرهم، فهذا لا يعني أن حلفاءهم أبرياء… فعبد الناصر أستاذ لهم في هذا الفن، ولكن هذه الدراسة خاصة بالبعثيين، ولهذا آثرنا عدم الحديث عن غيرهم.
2)حقاً كان عبد الناصر حاكماً مستبداً ظالماً، ونظامه كان قائماً على الإرهاب والبطش والتنكيل والتجسس والعملاء، وصلاحيات رجال مخابراته اوسع من صلاحيات وزرائه ونوابه.
ولكن هذه الحقيقة كانت قائمة منذ أن إنتهى أمر ثورة يوليو إليه عام 1954، فلماذا تجاهلها العفالقة بل كانوا ومنذ بداية الوحدة يده التي يبطش بها، وعينه التي يتجسس بها، وزبانيته الذين يعذبون الأبرياء من المعتقلين.
إن معظم المسئولين عن المباحث واجهزة المخابرات في سورية كانوا من البعثيين، ومنهم كان رئيس المجلس التنفيذي - أي رئيس مجلس الوزراء - ومعظم الورزاء، وكان الناس يشكون من تسلطهم.
يقول كمال الدين حسين: (أنا اعرف… وناس كثير جداً إشتكوا لي من تصرفات وزراء وغير وزراء في حزب البعث، وناس كتير كانوا بيجوا يقولوا، إحنا لا يمكن ابداً أن تكون الوحدة هي سبيل لتسلط حزب البعث على سورية) [محاضر جلسات الوحدة: ص 38،39].
وقال نهاد القاسم - وزير العدل أيام الوحدة وهو من أصل فلسطيني -: (إحنا على مستوى الوزارة… أعتقد… أنه ما في وزير في الوزارة في عهد الوحدة من مدنيين أو عسكريين الا وراجع السيد الرئيس شاكياً من تصرفات الوزراء البعثيين في هالقوت..إحتجينا على تبعيث الوزارات، إذا كان لنا أن نسميها تبعيث… إحتجينا على تبعيث التعليم… إحتجينا على تبعيث كل الاشياء، كان يحاول تبعيثها… وأنا مع الاستاذ اكرم الحوراني كان لي جلسة أو جلستين نصحته بها الموضوع، أنه مش من مصلحهم كحزب انكم بتيجوا تظهروا في الوزارة.. بمظهر المسيطر على الحكم.. وجيت أنا راجعت السيد الرئيس - مرة أو مرتين - وغيري ايضاً، وكنا كل الوزراء غير البعثيين نراجع، ونلح في أن البلد راح تأخذ طابع…) [محاضر جلسات الوحدة:ص 38،39].].
عبد الناصر: (على سبيل المثال كان الحوراني رئيسا للمجلس التنفيذي، واتخذ قراراً برفع رسوم الجمارك على كل شيء حتى الأكل، واتخذ قراراً بغير علمي، ومع كده تنصل هو من مسئوليته، وتنصل كل واحد غيره) [محاضر جلسات الوحدة: ص 8].
وجملة القول:
وافق البعثيون على حل الاحزاب، وإلغاء دور مجلس الشعب، وتقييد الحريات… ومنحهم عبد الناصر مقابل هذه الصفقة رئاسة المجلس التنفيذي، وعدداً غير قليل من الوزارات.