المداخلة الارتجالية المعتمدة على رؤوس أقلام، كان قد ألقاها الدكتور مصطفى دندشلي في "ورشة العمل"
هنا أيضاً أريد أن أشير إلى نقطة منهجية، لها أهمية أساسية في ذهني وفي تفكيري وهي ـ وكما ذكرت في عنوان مدخلتي: مقدّمات نظرية ومنهجية لدراسة (أو لمحاولة دراسة) الأحزاب السياسية في الجنوب اللبناني (على أن يتبعها وفي المستقبل القريب، دراسات وأبحاث أو مؤتمرات متخصصة تتعلق بكلّ حزب من الأحزاب السياسية في مجتمعنا السياسي المحلّي ـ وهي أقول: إن المنهجية التي اتبعها تتلخص في ذهني في أنّ أيّ بحث عن أسباب الانهيارات التي أصابت الأحزاب السياسية جميعها، إنما يجب أن يكون هدفه وتوجهه هو لتحضير ومنذ الآن، وانطلاقاً من التجربة الحزبية السابقة وانطلاقاً على الأخص من واقعنا الاجتماعي المحلي، وحياتنا السياسية الاجتماعية المعاشة، كل ذلك في سبيل إعادة بناء عمل حزبي مستقبلي جديد.
طبعاً وكما قلت، وكما نعلم جميعاً، ثمة محاولات عديدة من قِبَل قيادات ومفكرين حزبيين ، من أجل وضع تصور لانطلاقة جديدة للحزبية وللعمل الحزبي، وكما أن هناك محاولات عديدة لقيام ولعقد تكتلات سياسية جديدة… ولكنها جميعها حتى الآن لم يكتب لها النجاح، هذا إذا لم أقل إنها باءت بالفشل إلى هذا الحدّ أو ذاك، لماذا؟! لأسباب عديدة، منها القيادية ومنها التنظيمية ومنها العلائقية، إلخ.. لا مجال الآن للتفصيل أو الدخول فيها.
ولكن من وجهة النظر المنهجية الواقعية والموضوعية، أنه لا يمكن بناء أو إعادة بناء تنظيم حزبي جدد، جِديّ وحقيقيّ، أياً كان هذا التنظيم الحزبي الجديد، إلاّ إذا مررنا مسبقاً، ومسبقاً تحديداً، بطريق النقد والنقد الذاتي، الموضوعي، الواقعي، التاريخي، الاجتماعي ـ السياسي للتجربة السياسية الحزبية السابقة، من جميع وجوهها وأبعادها وجذورها، من حيث نجاحاتها وخفاقاتها. من الأهمية بمكان كبير الآن أن نطرح الأسئلة المقلقة، الملحة الصريحة، والجديّة العميقة والهادئة، حول التجربة الحزبية الماضية (وغيرها أيضاً) وأن نثير النقاش الجماعي والحوار السياسي المنفتح والصريح والجريء حولها…
نشوء الظاهرة الحزبيَّة
مقدِّمـات نظريَّـة ومنهجيَّـة(*)
… تقوم في لبنان وفي الجنوب اللبناني، منذ زمن ليس بالقصير، وبين الفينة والفينة، محاولاتٌ وتُعقد لقاءات وتجمعات سياسية أو حزبية أو ثقافية، أحياناً تحت غطاء ثقافي ـ حواري، وأحياناً أخرى بهدف تكوين تيار حزبي ـ سياسي، ومرات تكون الغاية الاستعداد لخوض المعركة الانتخابية النيابية المقبلة، إلى غير ما هنالك من أمور أصبحت لدينا الآن معروفة… ولكن إذا كان هذا النشاط أو الطموح السياسي العام، قد يكون دليل صحة سياسية ويعبّر عن حاجة سياسية واجتماعية كامنة وموجودة… إلاّ أن هذه المحاولات كانت تبقى في أعماقها ومنطلقاتها لا تتجاوز نطاق الرغبات الذاتية والطموحات الشخصية، ذلك أنه من الناحية الموضوعية الواقعية، فإن الأمر يحتاج في الحقيقة لإعادة بناء العمل الحزبي من جديد في مجمعنا السياسي وفي ظروفنا وأوضاعنا السائدة حالياً، يحتاج إلى تصوّر فكريّ ونظريّ ومنهجي ورؤية سياسية، أعمق وإلى جهد أكبر، ونقد للتجربة الحزبية، الماضية والراهنة، أكثر نضجاً ومعرفة… فإن ذلك يحتاج في واقع الأمر إلى أن ندرسها ـ هذه التجربة الحزبية ـ دراسة نقدية، موضوعية، علمية وأن نضع الأصبع على موضع الخلل ونتوقف ملياً عند مراحل الازدهار وأسبابها ـ مرحلة الخمسينات والستينات والسبعينات ـ حيث ازدهار الظاهرة الحزبية وانتشارها وتكاثرها إلى حدّ الافراط، وبخاصة في مرحلة تلاحمها مع المقاومة الفلسطينية في السنوات الأخيرة من مرحلة السبعينات… ومن ثمّ تبعها بعد ذلك وأعقبها مرحلة الانحدار والهبوط والأفول التدريجي، حتى التلاشي واقعياً وعملياً…
السؤال المطروح: ما هي أسباب هذا الازدهار وهذا الانتشار من جهة، وما هي أسباب أو عوامل هذا التراجع وهذا السقوط لهذه الظاهرة الحزبية في لبنان عموماً وفي الجنوب اللبناني بوجه خاص من جهة أخرى؟!… سؤال صعب وشائك، لا شك في ذلك… والإجابة عنه بموضوعية وعلمية تحتاج إلى بحث دقيق ودراسة أو دراسات عميقة، وإلى جهد أو جهود متضافرة، حتى نستطيع أن نلمَّ بمجمل المعطيات الموضوعية، السياسية والاجتماعية والتاريخية للموضوع… ذلك أنني إذا لم أعِ مُسْبقاً: نظرياً وميدانياً، وفكرياً ومنهجياً ومعرفياً، "المشروع" الذي أريد أن أقوم به، ومن جميع جوانبه في ماضيه وحاضره، فلسوف أجد نفسي في دوامة من التخبط في الجزئيات والتفصيلات… فالمعرفة الشاملة والواقعية: النظريّة والتطبيقيّة في آن معاً، المعرفة الاجتماعية والسياسية والتاريخية للظاهرة، موضوع البحث، إنما تأتي، انطلاقاً من هذه المنهجية، لتأخذ كل أهميتها الكبرى، وأن تسبق أيّ عمل، أيّ مشروع جِدّي يهدف إلى إعادة بناء "العملية" الحزبية من جديد…
فهذا الموقف المنهجي العلمي والواقعي، ليس ترفاً فكرياً أبداً، وإنما هو انطلاق من الواقع الاجتماعي ولفهم الواقع السياسي والحزبي ورؤيته وقراءته قراءة صحيحة، حقيقية، من أجل التغيير نحو الأفضل.. إن هذا الموقف النظري والمنهجي، إنما هو في صميم الواقع، أو يجب أن يكون كذلك، ومن داخل العمل الاجتماعي السياسي الملموس. وإن عملاً سوف نقوم به، يجب أن يستمر ويبقى منتجاً، لا ليدور في الفراغ، وفي دوامة السياسيات الحزبية الضيقة السابقة، ولا ليتزعزع أو يتخلخل أو ينهار لأقل خضّة أو هزّة طفيفة..
ذلك أننا نعلم جميعاً ونُلمُّ بالصعوبات والمشقّات المحيطة بظروف نشوء الأحزاب السياسية وتكوينها وتطورها، وندرك العوامل المساعدة أو المعيقة، الداخلية أو الخارجية.. فليست العملية الحزبية والظاهرة الحزبية، وفي أيّ مجتمع كان، بهذه البساط أو بهذه السهولة، حتى لا أقول بهذه الخفَّة. إنها أصعب بكثير مما قد يتصور البعض، وهي تحتاج إلى جهدٍ فكريّ ونظريّ وسياسيّ، وإلى رؤية واقعية للظروف الموضوعية والذاتية المحيطة، وهي تحتاج إلى ذلك أو ربما فوق ذلك كله، إلى شجاعة وإرادة وإقدام ولربما إلى قليل أو كثير من المخاطرة…
ولدينا جميعاً إلمامٌ كافٍ بما يعتري العمل الحزبي عندنا، في الماضي والحاضر، خصوصاً في المجتمعات التقليدية، العشائرية العائلية، وفي مجتمعاتنا تحديداً، من تناقضات داخلية، تنظيمية أو أيديولوجية، ومن صراعات سياسية وحساسيات وسجالات، دوافعها غالباً ما تكون شخصية، هزيلة، سخيفة، ولا علاقة لها بالمصلحة السياسية الحزبية العامة، غير أنها قد تؤدي في أغلب الأحيان ـ وقد أدَّت ـ إلى نزاعات وتكتلات متصارعة وانقسامات وخلافات وانشقاقات لا علاقة لها بخلافات في وجهات النظر، فكرية ـ سياسية، بقدر ما هي تعبير بالدرجة الأولى عن صراع شخصي على السلطة داخل الحزب…
إن موضوع الصراعات الحزبية الداخلية، مع أهميته عند دراسة الظاهرة الحزبية، إلاّ أنه موضوع لا يدخل الآن في نطاق حديثي… إن ما أريد أن أشدِّد عليه في هذه المداخلة، هو أهمية المعرفة النظرية والتطبيقية، أهمية نقد التجربة الحزبية السابقة من الداخل، قبل أو في الوقت الذي نقوم فيه "بصناعة" مشروعنا الحزبي…
إن تكوين حزب من الأحزاب وتأسيسه، ليست مسألة بسيطة، كما أنها ليست عملية اجتماع عشرة أو عشرين أو خمسين مفكراً ومثقفاً سياسياً وأن يتوافقوا على تأسيس حزب سياسي أو تكتل سياسي أو جمعية سياسية أو حتى مجمَّع أو مؤسسة ثقافية. لا! إن القضية إنما هي أخطر من ذلك وأكثر مشقة وأصعب بكثير.. فهي تخضع لشروط وظروف اجتماعية وتاريخية وسياسية، داخلية وخارجية، كما أنها تحتاج إلى توافر الظروف الذاتية والأوضاع الموضوعية والشروط القيادية وتوازن القوى السياسية الواقعية.
[وإذا أردت أن ألخص وجهة النظر هذه وأكثفها، فأشير إلى أن هناك أمثلة كثيـرة وعديـدة في هذا النطاق: تأسيس الحزب الشيوعي اللبناني ـ السوري عام 1924، والحزب السوري القومي الاجتماعي عام 1932، وحزب الكتائب اللبنانية [1936 ـ 1951: 15 سنة، بين مرحلة التأسيس وعقد المؤتمر الأول..]. ونشوء حزب البعث العربي في سوريا وانتشاره إلى لبنان [بداية التأسيس 1940 ـ المؤتمر الأول 1947 ـ الدخول إلى لبنان مطلع الـ 1950، إلخ.. عقد المؤتمر الأول 1956..]، إلخ..
إن البدايات الأولى لتأسيس هذه الأحزاب وغيرها كثير وتكوينها وتطورها، إنما كانت تخضع لظروفها السياسية وشروطها الاجتماعية وللمناسبات المساعدة الداخلية أو الخارجية…… البداية، دائماً مبادرات من مجموعة قليلة من مفكرين ومثقفين سياسيين وأساتذة ومعلمين، تحركوا ضمن شروط المراحل والظروف التاريخية والاجتماعية ونشطوا فيها.. وكان طرحهم للمشاريع الحزبية وللأفكار السياسية تعبّر عن شروط المرحلة وطبيعتها وظروفها التاريخية والاجتماعية التي يعيشون فيها، في الداخل وفي الخارج…
وكانت تضمّ في البدايات الأولى أعداداً قليلة من المثقفين والأساتذة والطلاب وعناصر من أصحاب المهـن الحرة، كانوا هامشيين وغير معروفين، لا يعتدّ بقواهم ولا برأيهم ولا تأثير لهم في مجريات الأمور السياسية آنذاك. أعداد قليلة في البداية، منسجمة فيما بينها أم غير منسجمة، متوافقة كلياً أو غير متوافقة إنما تلتقي حول أهداف عامة أولية. من هنا لا تلبث أن تحدث الانشقاقات ومنذ البدايات الأولى، ولكنها في كل الأحوال تبقى مبادرات شجاعة جريئة طموحة، تعبّر عن طبيعة المرحلة و"ضمن" مجتمعها وطموحاته على صعيد السياسة والرؤية المستقبلية.. ثم تطوَّر عمل هذه الفئة القليلة العدد وتفاعلها مع ظروف الواقع وحاجات المجتمع من خلال الممارسة العملية والسلوك السياسي الفعلي.
* * *
إن إعادة بناء عمل حزبي حقيقي، قائم على أسس واقعية ويعبّر عن الواقع الاجتماعي وظروفه التاريخية ويلتصق به، ويُعبِّر عن طموحاته ومصالحه الأساسية، إنما يتطلب ذلك أن تكون رؤيتنا رؤية واقعية وموضوعية.
* إن تنظيم حزب جديد وبناء حزب جديد، لا ينشأ من فراغ أو من انقطاع عن المرحلة السابقة، فلا يمكن أن يتمّ إلاّ إذا سبق ذلك عملية تواصل انطلاقاً من نقدٍ، ونقدٍ موضوعي، واقعي وتاريخي للتجربة الحزبية السابقة..
* هذا التمهيد ضروريّ… لذلك عنونت مدخلتي بهذه الصيغة: مقدّمات نظرية ومنهجية…. بمعنى أن هذه إنما هي مقدمات، حتى يمكننا فيما بعد أن نطرح الموضوع الحزبي في جزئياته وتفصيلاته وفي أبعاده الخاصة، بل وفي خصوصية كل حزب على حدة، ثم القيام بعملية المقارنة بين هذه الأحزاب جميعها إن أمكن، أو اختيار بعضها في كل الأحوال.
طبعاً هذا المعنى اللغوي للحزب، أربطه كذلك وأصله بمفهوم آخر، كذلك غاية في الأهمية بالنسبة إلي، وله تأثير كبير وعميق في مجتمعاتنا وهو مفهوم القبيلة… إنني أرى إلى أن القبيلة في تنظيمها التراتبي وعلاقاتها الداخلية ومفاهيمها التضامنية والتي تنطلق من البيت، الفخد، البطن، العشيرة، القبيلة، إلخ.. إنما ذلك هو أقرب ما يكون في مضمونه وبمعنى من المعاني إلى التنظيم الحزبي التراتبي الهرمي: هناك تراتبية، ومجلس قبيلة وهو يضم رؤساء البطون والعشائر، وعلى رأس المجلس شيخ القبيلة ضمن شروط وصفات محددة. هناك تضامن الأعضاء فيما بينهم في مواجهة الخصوم والأعداء، والتكافل والتعاضد من أجل تأمين مصالح جماعة القبيلة، المادية والمعنوية، وضمان قوتها وبأسها…
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) ـ هذه الكلمة هي في واقع الأمر مضمون المداخلة الارتجالية المعتمدة على رؤوس أقلام، كان قد ألقاها الدكتور مصطفى دندشلي في "ورشة العمل" التي أقامتها "المؤسسة اللبنانية للسلم الأهلي الدائم"، تحت عنوان: "الأحزاب السياسية في لبنان…"، في قاعة محاضرات المدرسة الفندقية في الدكوانة ـ بيروت، بتاريخ 11 آذار (مارس) 1995.
وقد تركتُ محتوى هذه المداخلة في أسلوبها وأفكارها وطريقة إلقائها على سَجيَّتها وتلقائيَّتها شكلاً ومضموناً إلى حدٍّ كبير…