كلمة د.دندشلي - الانتخابات الرئاسيّة في سوريا والعلاقات اللبنانيّة ـ السوريّة : واقع ومستقبل
بعض ملامح شخصيّة
الرئيس حافظ الأسد (1)
كـلمة التـقـديـم
د.مصطفى دندشلي
أودّ بهذه المناسبة ، مناسبة إعادة انتخاب الرئيس حافظ الأسد ، للمرة الرابعة رئيساً للجمهوريّة العربيّة السوريّة ، وعند بحث العلاقات السوريّة ـ اللبنانيّة ، وبعد عقد معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق بين البلدين ، أودّ أن أشير إلى بعض الملاحظات السريعة :
1 ) الملاحظة الأولى هي قلّة الدراسات والأبحاث الجديّة المتنوّعة ، أو حتى عدم وجودها، حول حركاتنا السياسيّة والحزبيّة وحلول القيادات التي لعبت دوراً فاعلاً ومؤثّراً في التاريخ العربيّ الحديث ... إنّني أَذْكر ذلك عندما أقرأ كتاباً لأحد الكتّاب الأجانب يتحدثون فيه عن مختلف شؤوننا السياسيّة أو الحزبيّة . أقول ذلك وبذهني كتاب " باتريك سيل " الأخير وعنوانه : الأسد ، صراع على الشرق الأوسط ". وهو كتاب سيئ جداً ، يحوي على أخطاء فادحة ، أخطاء تاريخيّة وأخطاء في التفسير السياسيّ والأيديولوجيّ ، يسيء إساءة كبرى لسورية وللحركة القوميّة العربيّة ولحزب البعث، وربما بصورة غير مباشرة إلى الرئيس حافظ الأسد . وهذه الأخطاء ـ حتى لا نقول سوء النيّة ـ لا يدركها إلاّ من يعرف موضوع الدراسة .
وهنا يُطرح السؤال الكبير ، لماذا لا نكتب نحن عن أوضاعنا وحركاتنا السياسيّة أو الحزبيّة ؟!... ولماذا ننتظر الآخرين يكتبون عنّا ، ثمّ نعود نحن ونترجم ذلك إلى اللغة العربيّة . هنا برأيي تكمن حقيقة الأزمة السياسيّة والأزمة الفكريّة عند مثقّفينا ...
2 ) واسمحوا لي أن أشير إلى أنّني من المهتمين منذ زمن بعيد بالتاريخ السياسيّ الحديث للقطر العربيّ السوريّ ، ومن المتابعين عن قرب لنشوء حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ ولتطوّره السياسيّ ودراسة مختلف المراحل التي مرّ فيها ... كما ينصبّ اهتمامي على دراسة الشخصيات السياسيّة وشخصيات الحزب ، من مدنيّة وعسكريّة ، التي لعبت دوراً كبيراً أم صغيراً ، في مرحلة من مراحله التاريخيّة المتتالية ... ومن جملة هؤلاء القادة البعثيين الرئيس حافظ الأسد .
طبعاً المجال لا يسمح لي في الدخول في التفصيل وإنّما سأقتصر على عرض سريع لبعض ما تجمع لديّ من معلومات حول شخصيّة الرئيس الأسد ...
1) وأوّل ما يستوقفك أمام هذه الشخصيّة القياديّة هو انخراط الطالب حافظ الأسد في العمل الحزبيّ في صفوف حركة البعث العربيّ منذ عام 1946 ، أي قبل انعقاد مؤتمر الحزب الأول عام 1947 ، وكان عمره آنذاك ست عشرة سنة (16) ( لقد ولد عام 1930 ) ولعب دوراً بارزاً في سنّ مبكرة في العمل الطلابيّ ، مثله في ذلك كمثل مئات بل ألوف طلاب سوريّة وأجيالها المتعاقبة ... وقد كان للفكر العربيّ الوحدويّ تأثير عميق وواضح في نفوسهم وتكوينهم الفكريّ والسياسيّ .
دخل الطالب حافظ الأسد إلى الكلية الحربيّ وهو بعثيّ عام 1952 وتخرج منها عام 1955 وهو ملازم في الجيش السوريّ في القوى الجويّة ...
2) الجانب الأخر في فكر وثقافة الرئيس السد هو تمكنه من اللغة العربيّة وحبّه لها واهتمامه المبكر بالأدب والشعر العربيّ وهذا ما يظهر جلياً واضحاً في أحاديثه وخطبه وشخصيته الفكريّة بصورة عامة . وقد قال لي مرة الأستاذ حافظ الجمالي : أتعرف مَن مِن القادة العرب إذا تحدّث أو ألقى خطاباً لا يلحن ولا يخطأ في الصرف والنحو ؟!... هو حافظ الأسد ...
فهو يتحدّث بهدوء ورويّة، يتحدّث بصوت منخفض فيه بَحّة طبيعيّة محبّبة : دمث الأخلاق متواضع دون تكلّف ، هادئ ، منظّم الفكر ، واضح الرؤية في السياسة العامة ، كلّ ذلك من منطلقات قوميّة عربيّة شموليّة ... قويّ الأعصاب متينها ، له مقدرة في ضبط النفس والجلد في العمل غير عاديّة ... محاور ومفاوض من الدرجة الأولى ، ذو نفس طويل وصبر من النادر أن يجاريه فيه إنسان.
روى لي الأستاذ أنطون مقدسي منذ أكثر من عشر سنوات فقال : دعا مرة الرئيس حافظ الأسد المثقّفين في سوريا وأعضاء اتحاد الكتّاب فيها ، من مختلف التيارات الفكريّة والسياسيّة والثقافيّة ، إلى اجتماع عام . وكان الهدف من هذا الاجتماع هو الحوار مع المثقّفين والانفتاح عليهم وتبادل الرأي معهم وسماع آرائهم وشكواهم في جوّ من الحريّة والديمقراطيّة . وكان اجتماعاً مفتوحاً من الناحية الزمنيّة وغير مقيد بأيّ اعتبار إلاّ اعتبار الصراحة والصدق والوضوح . ابتدأ الاجتماع الساعة العاشرة صباحاً واستمر حتى الساعة الخامسة مساء دون انقطاع أو توقف ودون أن يتخلله أيّ شيء سوى تناول بعض السندويشات والمرطبات أثناء الاجتماع ، تحدّث جميع المثقّفين الحاضرين ، وقال كلّ واحد منهم ما يريد أن يقوله بصراحة ، وأحياناً بجرأة ووضوح تلمين ... ثم بعد أن سمع إلى الجميع بهدوء وانتباه ، تحدّث الرئيس الأسد وأخذ يردّ على كلّ متحدث وعلى كلّ رأى سمعه ، دون أن يستعمل أمامه ورقة أو قلماً . الصوت منخفض إنّما مسموع من الجميع : وقد استمرّ في حديثه ما يقرب من سبع ساعات على وتيرة واحدة ونبرة متوازية ، دون ارتفاع أو هبوط ، دون انفعال أو توتر . ولقد انتهى من حديثه ـ وهنا الكلام للأستاذ مقدسي ـ باللهجة نفسها والوتيرة ذاتها التي ابتدأ بها . لقد تملكنا التعب والإرهاق والجوع أيضاً ، ولكن الشيء العجيب الغريب ـ تعبير لأنطون مقدسي ـ أنّه هو ، الرئيس الأسد لم يتعب ، وبقي كما ابتدأ هادئاً باشاً واضح الفكر والرؤية، ملقياً من وقت لآخر بنكتة من هنا وبنكتة من هناك . وأخيراً ودّعنا فرداً فرداً وبالاسم وبالصورة التي استقبلنا بها .
هذه هي بعض ملامح شخصيّة الرئيس حافظ الأسد ، فما هي تأثير هذه الشخصيّة في سياسة القطر العربيّ السوريّ على صعيد السياسة العربيّة العامة ؟... وإذا كنت أشير إلى هذا الجانب في الشخصيّة وفي تكوينها الفكريّ والسياسيّ ، ذلك أنّني أعتقد بأنّ هناك تفاعلاً وتأثيراً وتأثّراً بين شخصيّة الزعيم أو القائد أو الرئيس وبين سياسة البلد التي ينتهجها والأمثلة كثيرة في هذا الموضوع، ديغول ، عبد الناصر ...
وإذا كان هناك من بعض النقاط التي تستوقف في سياسة الرئيس حافظ الأسد فهي ما يمكن أن أسميه " سياسة الانتظار " أو " الدبلوماسيّة الهادئة " في انتهاج السياسة العامة وانتظار الفرصة المناسبة ، واللحظة التاريخيّة لإعلان الموقف التحرّك المناسب .. وهذا واضح من ملاحظته السياسة العربيّة أو الدوليّة التي ينتهجها الرئيس الأسد أو السياسة السوريّة في الأزمة اللبنانيّة : عدم الانفعال أو الارتباك ، بل ضبط النفس قدر الإمكان وعدم الانجرار إلى معارك لا المكان ولا الزمان ، مناسباً لها. قد نَخْسر معركة أو معارك ، فذلك لا يؤثّر تأثيراً كبيراً في سير الحركة التاريخيّة بمجملها طالما أنك لم تخسر الحرب .. هناك دائماً خسارة وربح في العمل السياسيّ ، فبعد خسارة أيّ معركة يجب العمل على جمع الصفوف وتعويض الأضرار بهدوء وسكينة ، وتماسك الوضع الداخليّ وإعادة الثقة بالنفس بانتظار تغيّر الظروف واسترجاع ما فقد ، والعودة فيما بعد إلى لعب الدور السابق من موقع قوّة ...
من هنا نرى ، وباتباع هذه السياسة الهادئة ، أنّ الرئيس الأسد لم يسرع إلى الحكم ، لم يكن متسرعاً لاستلام السلطة وإنّما الحكم أو السلطة هي التي أسرعت إليه ، وذلك بسبب أخطاء الآخرين ، في الظرف المناسب وفي اللحظة المناسبة . أقول ذلك وبذهني تكوين اللجنة العسكريّة بالقاهرة عام 1959، واستلام حزب البعث السلطة في سوريا 1963 ثم مرحلة ما بين استلام السلطة وحركة شباط 1966 ومن ثمّ بيم حركة شباط والحركة التصحيحيّة في تشرين الثاني 1970 .
في الواقع يحتاج المرء إلى أن يتوقف قليلاً أمام هذه المراحل المتتالية لكي يلاحظ بأن رفاق الرئيس الأسد جميعهم مدنيين وعسكريين كانوا يتصفون بسياسة الخضّات السياسيّة المتلاحقة والتسرّع والانفعاليّة أو ردات الفعل ، في رسم سياسة الحزب الأيديولوجيّة والقوميّة وتبنّي شعاراتٍ غالباً ما تكون فاقدة من أيّ مضمون واقعيّ ، في حين أنّ الرئيس الأسد كان يتصف بالاعتدال ، بالاعتدال بطروحاته القوميّة ، والسياسيّة ، والأيديولوجيّة وفي علاقاته مع الآخرين ، كلّ ذلك انطلاقاً من ثّباتٍ في المبادئ الأساسيّة وهي مبادئ الفكر القوميّ الوحدويّ .
من هنا كانت سياسته تتصف بما يمكن أن أسميه بسياسة " مدّ الجسور " أو بسياسة " عدم قطع الجسور " أو أيضاً " الدفاع خير وسيلة للهجوم ". فهو أولاً يمتنع عن دخول المعارك على جبهات متعدّدة ، أو بصورة أصح وأدقّ ، يبتعد عن مخطّط افتعال المعارك ، والمعارك الجانبيّة بوجه خاص ، في الوقت الذي لم تكن فيه الجبهة الداخليّة العسكريّة أو السياسيّة مستعدة لذلك .
اليدّ ممدودة للجميع والعلاقات مفتوحة على الجميع من منطلقات الثوابت والمصالح القوميّة. فالخصم الآن قد ينقلب غداً ، بتغير الظروف والأوضاع ، إلى حليف أو صديق . وهو وفي كلّ ذلك لا ينسى حلفاءه وأصدقاءه . إنّني أقول ذلك وبذهني مختلف المراحل التي مرّ بها الحكم في سوريا حتى عام 1972 وهي المرحلة التي أعرفها جيداً .
وأخيراً إنّ المنطلقات الفكريّة والأيديولوجيّة التي تحدّد السياسة العامة للقطر العربيّ السوريّ ، كما يراها الرئيس الأسد ، هي منطلقات قوميّة شموليّة : بمعنى أنّه من غير المهمّ كثيراً الوقوف طويلاً أمام الجزئيات أو التفصيليات الصغيرة ، وإنّما الانطلاق من الكليات ، من المبادئ العامة الثابتة : يدخل في هذا التصوّر العام الاعتقاد الجازم بأنّ الوحدة العربيّة آتية لا ريب في ذلك إن عاجلاً أو آجلاً . فالسياسة العامة لسوريا يجب أن يصبّ في هذا المنحى وأن تنطلق منه في آن معاً . وفي صلب هذا التصور القضيّة الفلسطينيّة .
فالقضيّة الفلسطينيّة هي قضيّة عربيّة كالوحدة العربيّة والتحرر العربيّ . وإذا كانت سوريا قلب العروبة النابض فهي أيضاً وعلى الأخصّ في قلب هذه العروبة في داخلها وليست خارجها .
وإذا كانت القضيّة الفلسطينيّة في مركزيّة العروبة ومحور الوحدة العربيّة فتكون القضيّة الفلسطينيّة هي قضيّة عربيّة وبالتالي قضيّة سوريا المركزيّة . فالنزاع في الشرق الأوسط ليس نزاعاً فلسطينياً ـ إسرائيلياً وإنما هو نزاع عربيّ إسرائيليّ .
فهذه العلاقة الوثيقة العضويّة بين سوريا والعروبة وبالتالي بين سوريا والقضيّة الفلسطينيّة إنّما تعتمد على التاريخ والجغرافيا والثقافة واللغة والمصلحة المشتركة .
هذه هي بعض الخواطر السريعة عرضتها من عفو الخاطر وكما ترد في ذهني، كلما حَدَثَ حَدَثٌ هام في سوريا أو تُطرح على بساط البحث العلاقات اللبنانيّة السوريّة .
وهذا ما ورد في ذهني يوم توقيع معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق بين سوريا ولبنان وإثر إعادة انتخاب الرئيس حافظ الأسد للمرة الرابعة رئيساً للجمهوريّة العربيّة السوريّة .
في الحقيقة إنّني أنظر إلى هذه العلاقات بين البلدين كمواطن عربيّ من لبنان يرى إلى أنّ سوريا والسياسة السوريّة ، بضمانة الرئيس الأسد ، هي الحافظ والمساعد في الظروف الداخليّة اللبنانيّة والأوضاع الإقليميّة والدوليّة : على وحدة لبنان وبقائه وتحقيق استقلاله وحريته ، وإعادة بنائه وإرساء أسس نظامه الديمقراطيّ اللاطائفيّ وعودة الحياة الطبيعيّة في عروقه .
من هذا المنطلق ما يَهمّ سوريا يهمّنا نحن اللبنانيّين : فالتأثير والتفاعل واضح لا ينكره إلاّ كلّ مكابر .
إدارة الجلسة :
شكراً للدكتور مصطفى دندشلي ، رئيس المركز الثقافيّ للبحوث والتوثيق في صيدا ، الذي أتاح لنا معرفة جديدة لشخصيّة الرئيس حافظ الأسد ، نشكر له هذا الطرح الذي بيّن لنا جوانب كثيرة في هذه الشخصيّة القياديّة كنّا نجهلها ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1) كلمة التقديم التي ألقاها الدكتور مصطفى دندشلي ، في الندوة الدراسيّة الفكريّة ، التي أقامها المركز الثقافيّ للبحوث والتوثيق في صيدا ، تحت عنوان : " الانتخابات الرئاسيّة في سوريا والعلاقات اللبنانيّة ـ السوريّة : واقع ومستقبل "، وذلك بعد ظهر يوم السبت الواقع فيه 11 كانون الثاني 1992 ، في قاعة محاضرات دوحة المقاصد الإسلاميّة في صيدا .