كلمة المناضل - عدد - المشروع القومي والشرق أوسطية : معضلة عقيدة أم تهافت السياسة !!!
كلمة المناضل العدد 275 ت2 ـ ك1 1995
المشروع القومي والشرق أوسطية :
معضلة عقيدة أم تهافت السياسة !!!
الدكتور فواز الصياغ
رئيس هيئة التحرير
منذ اغتيال اسحق رابين رئيس الوزراء الإسرائيلي برزت معالم الأزمة العميقة التي يعيشها الكيان الاستعماري في فلسطين وهي الانقسام العميق داخل ذلك المجتمع غير المتجانس الذي احتل جزءاً من هذا الوطن . وبرز كذلك على نحو أوضح أن قيام هذا الكيان كان توافقاً بين مشروعين التقت مصالحهما في أغلب الأوقات وافترقت في أحيان قليلة .
المشروع الأول : هو المشروع التوراتي الغيبي الذي ينتمي إلى مقولات قديمة عفا عليها الزمن وتجاوزتها حياة الناس وتاريخهم وتطور مجتمعاتهم وقد بنيت على مفاهيم مفرقة في التخيلات والأوهام الدينية والمثولوجية في حياة متعصبي اليهود وغلاة قادتهم ومفكيرهم .
وهذا المشروع رسخته الثقافة المغلقة التي عاشتها التجمعات اليهودية طيلة القرون الماضية حيث كانوا في عزلة فكرية وثقافية وسياسية فرضتها عليهم قياداتهم الروحية وكذلك سلوكهم المعادي للمجتمعات التي عاشوا فيها خلال القرون الماضية ، ابرز ما في هذا المشروع الدعوة إلى قيام دولة إسرائيل من النيل إلى الفرات " .
والمشروع الثاني : هو مشروع استعماري حديث أرادته الدول الاستعمارية الحديثة بدأ بالدول الأوربية في القرن الماضي وانتهى بالولايات المتحدة الأميركية في نهاية القرن الحالي . هذا المشروع يتوافق مع الموروث الثقافي للغرب الاستعماري الذي يرى الشرق وخصوصاً الشرق العربي هدفاً دائماً لإطماعه حيث مهبط الوحي ومنطلق الديانات الكبرى المستمرة في العالم وحيث الثروات والخيرات الطبيعية التي يحتاجها
( في القرون الماضية الغذاء وحديثا الطاقة ) .
لذا تكررت غزواته الاستعمارية أحياناً ، والاستيطانية أحياناً أخرى : منذ اليونان مروراً بالرومان فالصليبيين فالعثمانيين ، ثم الاستعمار الحديث . هذا الموروث الثقافي لدى الغرب الاستعماري رأى في المشروع التوراتي اليهودي فرصة ثمينة لإعادة الهيمنة والسيطرة فتعاون مع الحركة الصهيونية حيث توافقت المصالح وقام الكيان الإسرائيلي في فلسطين في منتصف هذا القرن .
وبعد انهيار دول المنظومة الاشتراكية والاتحاد السوفييتي وزوال خطر الشيوعية على الفكر الغربي وبروز الولايات المتحدة الأميركية كقوة ، تكاد تكون وحيدة تقود المعسكر الغربي رأت أن من مصلحة سياستها وخصوصاً بعد حرب الخليج وتثبيت سياستها في دوله ، رأت أن يتم حل النزاع العربي الإسرائيلي في إطار مبادرة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش حيث عقد مؤتمر السلام لتسوية النزاع على أساس مقولة " الأرض مقابل السلام " .
إن قبول حكومة إسرائيل بهذا المبدأ يمكن أن يشكل اختراقاً أساسياً للمعتقدات والأفكار والثوابت التي يحملها المشروع الأول الذي يرى أن انسحاب إسرائيل من أي جزء من أرض إسرائيل " من النيل إلى الفرات " يعتبر تفريطاً وخرقاً للعقيدة التي يؤمن بها دعاة المشروع الأول والتي ساهمت أساساً في بناء دولة إسرائيل وتوسعها خلال العقود الماضية .
هذه العقيدة ما زالت تسيطر على جزء مهم من المجتمع الإسرائيلي خصوصاً مؤسسته العسكرية وجزءاً مهما من مؤسساته كلها حيث تترسخ ثقافة المعاهد الدينية والثقافية اليهودية القديمة .
ومع تقدم العمل بالاتفاقات التي تمت بين حكومة إسرائيل مدعومة من الولايات المتحدة وبين بعض الدول العربية والسلطة الفلسطينية أخذ النزاع يتفاقم بين المشروعين المشروع التوراتي يتزعمه غلاة اليهود والمستوطنون والمشروع الاستعماري الحديث الذي تدعمه الولايات المتحدة والدول الأوربية وحتى كثير من دول العالم التي تقع تحت التأثيرات السياسية المهيمنة للغرب الاستعماري .
وبسبب تشتت الرأي في كثير من الدول العربية وضعف كياناتها واستجدائها البركة الإمبريالية وطلب الرضا والأمان الذي تهبه لها الدول الاستعمارية قد وافقت وهرولت نحو ذلك المشروع الثاني ، دون الحفاظ على الحد الأدنى من الحقوق القومية والتاريخية ودون أي اعتبار لآلاف الشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن الحق والشرف العربيين خلال العقود الماضية من الصراع .
لقد سارعت الحكومة الإسرائيلية بعد مقتل رابين وبدعم من الولايات المتحدة الأميركية لردم الهوة الواسعة التي حدثت في إسرائيل سارعت لتقليص نفوذ غلاة المستوطنين وحاخاماتهم وإقناع الرأي العام الإسرائيلي بضرورة دفع الثمن مقابل تحقيق السلام وجاءت هذه السياسة لصالح المشروع الاستعماري الحديث الذي يلبي حاجات الولايات المتحدة وسياستها في " الشرق الأوسط " ، في حين لم يؤثر هذا الحدث في الجانب العربي على نحو إيجابي باتجاه الدعوة للتمسك بالمبادئ والثوابت والحقوق القومية ، فبدلاً من المطالبة بتطبيق القرارات والمواثيق الدولية وعلى الأقل التمسك والمطالبة بتطبيق الصيغة التي طرحتها أميركا نفسها " وهي الأرض مقابل السلام " لتحقيق السلام العادل والشامل بدلاً من ذلك سارع معظم القادة العرب في اتجاه آخر لا يخدم قضية السلام الحقيقي القائم على الانسحاب من جميع الأراضي العربية المحتلة والإقرار بالحقوق المشروعة للشعب العربي الفلسطيني بما فيها حقه في العودة وبناء دولته المستقلة .
إن نجاح الولايات المتحدة في ردم الهوة داخل المجتمع الإسرائيلي يعني كذلك نجاحاً في قيادة عملية السلام التي بدأت في مدريد ويعني أيضاً نجاحاً في تثبيت المشروع الاستعماري الاستيطاني الحديث الذي يتوافق مع الموروث الثقافي للغرب ويخدم مصالحه السياسية والاقتصادية ، ويعني كذلك نجاحه في الاستعاضة عن مشروع إسرائيل الكبرى بمشروع الشرق الأوسط الجديد الذي تكون نواته الفاعلة إسرائيل ، وربما يعني أيضاً تطويق المشروع القومي العربي ، ومحاولة إسقاطه : مشروع الوحدة العربية الأمل الذي يحقق للعرب عزتهم وكرامتهم وعيشهم الآمن في عالم اليوم والمستقبل .
لقد أدرك حزب البعث العربي الاشتراكي وأمينه العام الرفيق حافظ الأسد ما يمكن أن يترتب على الأمة العربية فيما لو نجح المشروع الصهيوني أو المشروع الاستعماري من نتائج مأساوية . لذا بادر إلى ركوب السفينة السائرة في هذه اللجة الخطرة والإمساك بدفتها حتى لا يترك المجال لقيادتها في طريق واحد يهدد مستقبلنا ويقودنا إلى النتائج الخطرة التي ذكرناها .
وهنا يجب على جميع العرب أن يبادروا إلى مساعدة سورية التي تتمسك بالأسس الصحيحة التي يبنى عليها السلام العادل والتي توصل السفينة إلى شاطئ الأمان .
ليس من الصعب إدراك هذه الحقائق بل الأصعب من ذلك هو معرفة الطريق الصحيح الموصل إلى نتائج تتوافق مع مصالح الأمة العربية ومصالح جماهيرها اليوم وفي المستقبل .