الأدب العربي المعاصر بين التواصل والانقطاع - الندوة1 - الجلسة 1
الندوة الأولى الأدب العربي المعاصر
بين التواصل والانقطاع
الجلسة الأولى
الساعة العاشرة من صباح يوم السبت، الواقع فيه 7 كانون الأول 1991
المحاضران:
الدكتور نعيم اليافي ، أستاذ الأدب العربي في جامعة دمشق
الأستاذ وليد اخلاصي ، كاتب وروائي من سورية
إدارة الندوة :
الدكتورة إلهام كلاب البساط ، أستاذة تاريخ الفن العربي الإسلامي في الجامعة اللبنانية
* * *
إدارة الندوة :
التقديم ... أهلاً وسهلاً بكم في هذا اللقاء، اللقاء الفكريّ والأدبيّ في المركز الثقافي في مدينة صيدا العريقة، مدينتي بالإنتماء الإراديّ... هذه المدينة التي تحمل التراث في عمقٍ متواصلٍ وفي شبه انقطاعاتٍ غير واضحةٍ للعين أو واضحةٍ لها... وكأنني في مدينة صيدا في تواصلها وفي انقطاعها عن التراث، ملهمة لعنوان هذا اللقاء الأدبيّ ـ الفكريّ...
نشكر المركز الثقافي للبحوث والتوثيق في صيدا، وبالتحديد اللجنة الثقافية، وبالتحديد الأدقّ الدكتور مصطفى دندشلي، الصديق والرفيق، المؤمن برسالة الفكر ودور الثقافة في التغيير الاجتماعي، والمثابر على إفساح المجال لهذا التعبير الإنساني الهام، وعلى تأكيد أهميته في بناء الأوطان...
الجلسة الأولى وهي القطافُ الأوّل، سيتكلم فيها الدكتور نعيم اليافي والأستاذ وليد اخلاصي. ويبدو لي من الأسماء الكريمة الموجودة أمامي أنّ هناك الزّادَ الكثيرِ المنتظرِ. لذا لن أتجنّى على وقتهم في الكلام لآخذ حصتي، بل سأفرش أمامهم سجادة استقبال، أو مقبّلات الفكر، بالتحفيز على بعض الأسئلة الغامضة في الذهن...
موضوع التواصل والانقطاع، أو التّراث والتجديد، موضوعٌ دقيقٌ كما نعرف، يُثير المناقشات الحارّة والحادّة... فالتواصلُ مع مَنْ ؟!... والإنقطاعُ مع مَنْ ؟!... وهل هناك حقاً انقطاعٌ أو فصل ؟... هل إشاحةُ الوجهِ عن التراثِ خيانةٌ للحريّة ؟!... وهل التواصلُ مع التراث أصالةٌ أم تحجّر ؟!...
هل التواصلُ في الأدب العربيّ المعاصر هو تطلع إلى الماضي والتراث بالتكرار أو بالإستيحاء، أم هو محاولةُ اتصالٍ مع مستقبلٍ بنسجٍ في الإنسانية بأجمعها ؟!...وتراثُنا تراثٌ نسجته الإنسانية، ولم تَسجنْهُ، كلُّ الحضاراتِ السابقة!!.. كيف المغامرةُ من خلال متحفِ الكلمات الأبديّ وعاصفةِ الحياة المتبدلة، في الوصول إلى لغة جديدة تكتسي فيها كل كلمة بردائها الحقيقيّ ؟!... أين الكتابةُ الأدبيّة بين مفهوميّ الوحي والصناعة ؟.. الوحيّ وعندنا آلهة وشياطين الوحي!.. والصناعة وهي تقنيّة التأليف التي تُجَوهِر انطلاقة الفكرِ البكر !.. أهميّة التجديد كعامل تفاعل وحوار وتجاوز، كيف نستلهم التراث للوصول إلى تعبير الحياة العربية الجديدة، في الشعر، ديوان العرب، وفي القصة والمسرح، حيث يحكم نبص الحياة أولاً...
إذا نظرنا إلى المنظر الأدبي الراهن، نحاول أن نرى الفرق بين الانجدال الإبداعي الحرّ والانجدال الزخرفيّ المتصنّع بين التراث والمعاصرة. لن أستفيد من إدارتي للجلسة التي تخولني توزيع الوقت، لآخذ دقائق إضافيّة. ولكن سأستوحي من هاجس الوقت، هذا التشبيه: إنّ الساعة لا تصنع الوقت، إنها فقط تسجّل الوقت. فهل نحن، في علاقتنا مع التراث والتجديد، نصنعُ الوقتَ أم نسجّلَه فقط ؟... هل كنّا ساعة أم كنّا الوقت ؟... فلنر !..
سنبدأ مع الدكتور نعيم اليافي وهو أستاذ الأدب العربيّ الحديث في جامعة دمشق، ومقرر جمعية الناقد الأدبيّ في اتحاد الكتّاب العرب في دمشق، وله أثنا عشر مؤلف منها: "الشعر بين الفنون الجميلة"، و"مقدمة لدراسة الصورة الفنيّة"، و"تطوّر الصورة الفنيّة في الشعر العربي الحديث". فلنستمع إليه.
الدكتور نعيم اليافي :
ايّها الأصدقاء
أُحيّيِكم وأُحيّي من خلالكم شعبَ لبنان وأرضَ لبنان وجنوبَ لبنان، هذا الجنوب الصامد، المجاهد، المقاتل... لقد عَلَّمنا الجنوب في السنوات الأخيرة مقولةَ صدقٍ واحدة: إنّ الطريق إلى فلسطين يكون كما كان الحال في جنوب لبنان: المقاومة والصراع الأدبي والتضحية من أجل الوصول... هذه الصورة ظلّت ماثلة لدينا وما تزال، عن الجنوب اللبناني وعن صيدا وصور وسواهما من المدن والقرى المقاومة... أُحيّي من خلال الجنوب مدينة صيدا... واسمحوا لي كذلك أن أتوجه بالشكر الجزيل إلى المركز الثقافي وعلى رأسه الأخ الصديق الدكتور مصطفى دندشلي الذي أتاح لي فرصة اللقاء بكم والحديث إليكم.
أمس شدّتني بعض الكلمات، لا سيما حين شعرت في كلام الدكتور مصطفى دندشلي ما يدور في خلد كلّ إنسان عربيّ، عن علاقة الثقافة بالسياسة، وأنّ الثقافة هي الاستراتيجية، وهي النموذج الأسمى وهي التي تَشدّنا، في حين أنّ السياسة تُعنى بما هو عابر وبما هو طارئ. أنفذ من ذلك إلى ما يجول الآن على الساحة من قضايا ثقافيّة وسياسيّة لأقول إنّ ما يجري إنما يجري من خلال السياسة ومن موقعها... بينما الثقافة وعمل المثقف ودوره، يجب أن يرتبط ذلك بالاستراتيجيّات الثقافيّة. وهذه الاستراتيجيّات الثقافيّة هي الالتزام بالمشروع القومي العربيّ الذي بدأ منذ قرن أو أكثر وما يزال، تطلعاً وحُلُماً. ولا يمكن أن ننظر إلى ما يجري إلاّ من خلال هذا الحُلُم: الجنوب، المقاومة، وأن نصبر وأن نتجاوز كلّ الأخطاء، لنصفوا في تحليل أمورنا وفي تحديد هذه الأمور، نحو غدٍ مشرقٍ سيأتي إن عاجلاً أو آجلاً...
أنفذ، إذن، من خلال هذه الكلمات إلى الموضوع المطروح للحوار وهو "الشعر العربيّ الحديث والمعاصر، بين الاتّصال والانقطاع"،... إنّ المنطلقات الأساسيّة التي أصدر عنها في هذا الموضوع وفي كل موضوع، إنما هي رؤيايى القوميّة الواعية. فأنا ابنٌ للقوميّة العربيّة. والقوميّةُ العربيّةُ لديّ لا تُناقضُ الإسلام، بل الإسلامُ والعروبةُ صنوان متداخلان، لهما في رأيي تطلعٌ واحدٌ وجهودٌ واحدة أولاً. ومن ثمّ، فإنّ المشروع القوميّ الحضاريّ العام الذي بدأ في عصر النهضة وما يزال مستمراً حتى الوقت الحاضر، هو الإطار المعرفيّ والموضوعيّ لتوجّهي الفكريّ، ولتوجّهي السياسيّ، ولتوجّهي الأدبيّ، ومنطلقي الحديثي في هذا الموضوع...
إنّ الإشكالية المطروحة اليوم للبحث والنقاش: " الشعر العربيّ بين الاتّصال والانفصال"، إنما هي جزءٌ من الإشكالية التي كانت مطروحة في عصر النهضة: إشكالية القديم والجديد، إشكالية الأصالة والمعاصرة، والتي ما زلنا حتى الوقت الحاضر، نستخدم لها مفهومات متغايرة، ومصطلحات متغايرة، ولكنها تنبعُ من ذات هذه الإشكالية. وما يُقال في الوقت الحاضر عن اتصالٍ أو انفصالٍ، إنما هو مرتبطٌ، إلى حدٍ كبيرٍ، بالأرضيّة المعرفيّة للعصر. فإذا كان عصرُ النهضة قد طرَحَ الإشكالية من خلال القديم والجديد، في ضوء معارفه وظروفه، وإطار مكانه وزمانه، فإنّ ما نطرحه في الوقت الحاضر من إشكاليّة الاتصال والانفصال، إنما ينطلق من هذه الأرضيّة الجديدة، الأرضيّة المعرفيّة في نهاية القرن العشرين.
وقد قلت إنّ المنطلقَ لديّ في هذه الإشكاليّة هو المشروع الحضاريّ ككل، بمعنى أنني لا أستطيع أن أنظر إلى تغييرٍ أو تطويرٍ في ميدان الشعر، بغضّ النظر عن التطوّر في الواقع، بغض النظر عن التطوّر في الفلسفة، بغض النظر عن التطوّر في الفكر العام، أو في المشروع ككل... هذا المنطلق يدفعني إلى الحديث عن العوامل المؤثرة في صنعِ هذا المشروع الحضاريّ الكبير، ومن جملة ذلك المشروع الشعريّ. إنّ العوامل المؤسسة لهذا المشروع منذ القرن التاسع عشر حتى الوقت الحاضر، هي العوامل ذاتها: التراث، الغرب، الواقع المتحرك. التراث، كيف نتصل به أو ننفصل ؟!... الغرب، ماذا نأخذ منه وماذا ندع ؟!... الواقع، كيف نلتزمُ به وكيف نسعى إلى تطويره وتغييره ؟... وما هو بحاجة إلى هذا التراث، وإلى هذا الغرب؟...
إذن، العمليةُ هي عمليةٌ، كانت وما تزال، مُركّبةٌ من هذا التراث ومن حركة الواقع ومن المؤثّر الغربيّ. ومن ثَمّ، انقسم الناس إزاء هذه العوامل انقسامات: فالسّلفيون أو ما نطلق عليهم اسم "سلفيين"، إنما ينشدون التقوقع بشكل او بآخر، أو يسحبون إلى هذا التراث ويحاولون بصورة أو بأخرى أن يفسّروا الحاضر في ضَوْء الماضي، أو أن يشدّوا الحاضر إلى هذا الماضي. وبالتالي فإنّ البداية كانت بالتأكيد على هذا التراث والانصراف إليه.
أما التغريبيّون الذين يقطعون جذورهِم بالواقع وبالتراث، فإنّهم يلحّون على العامل الثاني وهو عامل الإستيراد من الغرب. كلّ شيءٍ نأخذه من الغرب: أفكارنا، حياتنا، تقنيّاتنا الفنيّة، أجناسنا الأدبيّة، وبالتالي فإنّهم يقفون في وضع ضديّ مقابل الإتجاه السابق.
وهنالك العامل الثالث وهو حركة الواقع. وفي رأيي أنّ الذين يلتزمون بحركة الواقع، ومعظمهم من المفكرين القوميين، يلتزمون بهذه الحركة إيماناً منهم بالمعاصرة، ثم انفتاحاً على العامليْن الآخريْن: عامل التراث وعامل الاستيراد من الغرب. إنهم يأخذون من تراثهم ما ينفع حاضرهم وما يطوّر هذا الحاضر وما يصنع لنا هُويّتنا وخصوصيّتنا ويُبقي على جذورنا العربيّة. ثم ينفتحون على الغرب، لا يتأثرون كلّ التأثر، وإنما يأخذون من هذا الغرب أيضاً ما يدفع عجلة الواقع وحركة الواقع نحو الأمام، شريطة أمر آخر وهو أنْ لا يتعارض هذا الذي يأخذونه من الغرب، تقنيّة أو مادة أو علماً، مع واقعهم ولا مع تراثهم.
يبدو لي أنّ هذه العملية، العملية التركيبيّة المضنية، لم تشكل لنا إلى الآن إلاّ تطلّعاً نظرياً. أما على مستوى الممارسة والفعل، فإنّها تظلّ محاولات، ننشدها للمستقبل. وبما أنّ مشروعَنا الحضاريّ العربيّ إنما هو في جزء منه، قلّ أو كثُر، واقعيّ، وفي جزء منه، كبُر أو صغُر، تطلعيّ يقوم على الفرد، فإنّ العمليّة ستظلّ على المستوييْن: مستوى الواقع ومستوى التطلّعي. مستوى الواقع، فمن خلال التجاريب نستفيد. ومستوى التطلّع، حتى لا تفصل آناتُ الزمان، آناتُ المستقبل عن الحاضر وعن الماضي. فهذه الآنات تظلّ آناتٍ متداخلة.
أبدأ بشرح موضوعي ملخّصاً، لأن الموضوع يصل إلى ثلاثين صفحة، مركباً بشكل معيّن ضمن هذه المنطلقات، أبدأ من الواقع... بدأت من الواقع بالحديث عن حركة الشعر الحديثة والمعاصرة... ها هنا يبدو لنا أمران: أمر النظرية الشعرية وأمر النصّ الشعريّ. مزجت بين الأمريْن، فحديثي لا يتناول فقط التنظير الشعريّ، وإنما لا بدّ من أن يتناول حركة النصّ أيضاً.
بَدأتُ مع عصرِ الانبعاث. وقفتُ عنده فوجدتُ أنّ عصر الانبعاث كان عودةً إلى التراث، احتذاء بهذا التراث. وكان يلبّي ضرورة عصريّة، وآنيّة في وقتها. ويلبّي هدفاً حضارياً أيضاً. وبعد أن شرحت هذه المقولة: الاحتذاء بالتراث ونصف التراث ومحاكاة التراث، وأهميّة ذلك، انتقلت إلى الحركة الثانية وهي الحركة الرومانسية.
الحركة الرومانسيّة الشعريّة كانت حركةً ثانويةً، حركةً تقوم على صراع الأضداد، حركة حَيْرة. بدأ الحديث عن التطوّر، وبدأ الحديث عن التغيير في الحركة الرومانسيّة، وبدأ السؤال المحيّر مع هذه الحركة يطرح نفسه عميقاً، وعميقاً... مَنْ نحن ؟!... ماذا نأخذُ مِن تراثِنا؟... كيف نتصوّرُ تراثَنا؟... ماذا نأخذ من الغرب؟.. وكيف نلتزم بهذا الواقع؟.. وكانت الأسئلةُ شتّى، وكثيرة جداً. والحركة الشعريّة الرومانسيّة، في غالبها، كانت حركة تلفيقيّة، أو توفيقيّة. حاولتْ أنْ تصبّ الخمرَ المعاصرة في إناء الشكل التقليديّ. من هنا بدأت الحَيْرة، وبدأ التلفيق: كيف نستخدم شكلاً قديماً، بِنْيةً قديمة، ونصبّ فيها مضموناً حديثاً؟!... وهذا الأمر بالنسبة لي، كان أمراً جائزاَ، لأن الفترة كانت تعبّر عن حَيْرة، وعن نوعٍ جديدِ من الرؤية والتطوّر. ويبرزُ هذا الصَّدْع، إنْ صحّ التعبير، في تنظيرات النقّاد الرومانسيّين، هذه التنظيرات النقديّة التي استوردوها كاملة عن الغرب، وحين أرادوا أن يطبقوها على مستوى النصّ، اخفقوا كثيراً: العقّاد، شكري، جماعة الديوان، جماعة أبللو إلخ... كان لديهم صدعٌ بارز، يَبرزُ على مستوييْن: مستوى التنظير النقديّ المستورد ومستوى المواءمة بين الشكل والمضمون. لم يستطيعوا أن يحلّوا الإشكالية، فنقلوا هذه الإشكاليّة إلى الجيل الذي أتى بعدهم، وهو جيل حركة الشعر الحرّ، أو ما نستطيع أن نسميه "بدايات الحداثة"...
وفي رأيي، وقد أكون على خطأ أو صواب، ولكن ذلك وجهة نظر، أنّ حركة الشعرِ الحرّ، مع مطلع الخمسينات، كانت تُلبّي نداءَ التغيير، ونداءَ حركة التحرر الوطني العربيّة. وكانت حركة التحرر العربيّة تريد أن تبنيَ مجتمعاً جديداً، يقوم على استلهام القديم واستلهام المعاصرة. وكانت تدعو إلى العودة إلى الينابيع، وليس إلى مرحلة التقليد. فجاءت حركة الشعر الحرّ، في ذلك الوقت، تحت تأثير هذه المؤثرات الكثيرة، لكي تلبّي نداء العصر وتلبّي نداء الاتصال بأواصل ما في هذه التراث وبأفضل ما في هذا التراث. وقد عبّر شعراؤها العظام، من نازك الملائكة إلى البياتي، إلى صلاح عبد الصبُّور، حتى إلى كثير من طروحات أدونيس، عن نداء هذه الصّلة وتلبيتها الوثيقة بالتراث مرّة، وبالبداية من الواقع والانفتاح على المستقبل مرة أخرى.
لكن حركة الشعر الحرّ لم تتراكم، لم يصبح لها تاريخٌ، لم يصبح لها أفقٌ وفضاء... فسرعان ما جاءت الحركة الرابعة وهي حركة "قصيدة النثر"، وما أتى بعدها من الكتابات، لأقول ذلك متحرّزاً، عملت على إجهاض حركة الشعر الحرّ تماماً، وأستميحكم عذراً لهذه المقايسة: تماماً كما جاء الاستعمار الحديث ليجهض حركة التحرر العربية، وحركة القوميّة العربيّة التي امتدت في الخمسينات وفي الستينات. أهي نوع من المرافقة، أو نوع من المصادفة؟!.. ولكني كدارسٍ باحثِ، أستطيعُ أن أربط بين الحركتين.
ماذا حدث بعد ذلك في الحركة الرابعة ؟!... جاءت قصيدة النثر، وهي تستلهم كلَّ أمورِها النظريّة وكلَّ نماذجها التطبيقيّة، باعتراف أصحابها، من الغرب مباشرة، وحاولت أن تقيمَ هذا النوع الجديد، ليس استمراراً لتطوّر القصيدة العربيّة، وإنما عدّت ذلك البديل لكل التراث العربيّ القديم، القصيدة التقليديّة والقصيدة الرومانسيّة، وحتى قصيدة الشعر الحرّ. طبعاً، نستطيعُ نحن أن نفسّر ذلك من خلال التطوّرات التي طرأت على المجتمع العربيّ، في بنياته الاقتصاديّة والسياسيّة والأدبيّة وما شاكل ذلك، من عصر النهضة حتى الوقت الحاضر.
ولكن يبقى بالنسبة لي، يبقى السؤال الهام وهو: لماذا كانت قصيدة النثر، أو حركة الشعر الأخيرة وما تبعها من فنون كثيرة للكتابة الحديثة المطوّلة، لماذا ظلّت تدورُ حول نفسها، كأنها تنشأ لكاتب واحد ولا يستطيع الدارس أن ينسبَ نصّها إلى كاتب واحد ؟!... فإذن، خصوصيّة التعبير الشعريّة انتفت، وحاولت بشكل أو بآخر، ربما كان هذا كجزء من بِنيتها الفنيّة، أن تقوم على الترميز المغلق وأن تقومَ في ذات الوقت على الإغماض. وكلاهما (الترميز المغلق والإغماض) طريقٌ إلى الابتعاد عن الاتصال بالجماهير. وتبقى هذه الإشكاليّة قائمة في قصيدة النثر وما وَليَها: لماذا هذه القصيدة لا تهزّ الجماهير ؟!... لماذا لا تقيم هذه العلاقة الوثقى بينها، في فضائها، وبين الجماهير ؟!...
هم يحتجون ـ أصحابها ـ وقد يكونون على حقّ، بأن هذه القصيدة غير موجّهة إلى الجماهير، وغير موجّهة إلى الأكثرية من الناس، وإنما هي موجّهة إلى فئة معيّنة، قلّت أم كثرت، إلى النخبة. فإذا كان الشعرُ يُوجّه إلى النخبة، فأعتقد أنّ هذه الإشكاليّة تناقضُ دورَه ووظيفته وبِنيته وطبيعته، التي استمرت منذ العصر الجاهلي حتى الوقت الحاضر: الشعرُ تعبيرٌ وتأثيرٌ وتوجّهٌ وتحريضٌ للكثرة من الجماهير.
وقفتُ عند هذا النموذج الحداثيّ. وأقصد بالنموذج الحداثيّ قصيدة النثر وما وَليَها بعد ذلك من تنويعات على هذه القصيدة. فدرستُ هذا النموذج منذ أوائله التي ظهرت في الفترة الرومانسيّة، وهي الفترة التغريبيّة. ثم وصلتُ إلى نهايتها في مجلة "شعر"، ووقفتُ عند كثيرٍ من نقّادها وعلى رأسهم، أُنسي الحاج ويوسف الخال. وكلاهما يُقَرِّرُ بصورة واضحة أنّ المشكلة الأساسيّة، لقصيدة النثر إنما هي مشكلة اللغة العربيّة. فإما أن نحطّمَ هذه اللغةَ حتى نربحَ قصيدة النثر، أو أن نحطّمَ رؤوسَنا بصلابة اللغة العربيّة. هذا ما يقوله صراحة يوسف الخال في كتابه "الشعر". إذن المشكلة الأساسيّة كانت لديه مشكلةُ اللغة العربيّة، مشكلة التعبير....
كيف نتصرّف إزاء مشكلة التعبير ؟!... واللغة العربيّة بالنسبة إلينا، نحن كعرب، هي فكرنا، هي قناة التوصيل التي نصبُّ بها أفكارنا. ومعنى أن نحطّم اللغة العربيّة ـ وأنا لا أقصد هنا بأسلوب التعبير، وإنما أقصد العلاقات، وأقصد النظام، وأقصد البِنية ـ فإذا حطّمنا بِنية اللغة، وعلاقات اللغة ومفردات اللغة، وآمنا بالانزياح الأكبر، بالانزياح الدلالي، أي الانزياح الأقصى في إبعاد الدال عن المدلول في هذه العملية، فالسؤال الآن: ماذا يبقى لنا من اللغة؟.. وكيف يتمّ الاتصال بيننا وبين تراثنا من جهة أخرى.
وإذا انتقلنا إلى الشطر الثاني من السؤال أو من الإشكالية، وجدنا أن أنسي الحاج يقول: إنّ تخريب التراث هو أمرٌ بالنسبة إلينا مقدّس. فإذن، العمل على هدم التراث بشكل من أشكاله، هو، كما يسمونه، "العنف المقدس". فماذا يبقى إذن من صلةٍ لنا بالتراث ؟...
لذلك انتهيتُ في هذا الموضوع إلى طرح تساؤل كبير: ألمْ يكن أجدى بأصحاب قصيدة النثر أن يطوّروا لدينا جنساً ثالثاً كان موجوداً في تراثنا وهو "القول الشعريّ". والقول الشعريّ ليس هو بالنثر، ولا هو بالشعر، وإنما هو قول يجمع بين الجنسيْن، وينتهي إلى الجنس الثالث. لو فعلوا ذلك، لخدموا تراثنا ولطوّروا هذا التراث ولَلَبّوا في الوقت ذاته نداء المعاصرة.
من خلال هذا التتبّع، انتهيتُ إلى وضع قانونٍٍ لمفهوم التطوّر ومفهوم التغيّر، اعتمدت فيه على الأطروحات الاجتماعية في ميدان نظريّة المعرفة. لو رجعنا إلى الميدان الاجتماعي ـ والميدان الاجتماعي يتحدث كثيراًعن التغيير وعن التطوير ـ لوجدنا أنّ مفهوم التغيُّر الاجتماعي أو التطوّر الاجتماعي يقوم على بعض الحقائق أو ما سمِي بقانون التغيير. ومن أهمّ هذه القوانين، هي القوانين النسبيّة وقوانين التكيّف وقوانين الترافق إلى آخر هذه القوانين التي أوضحتها... لذا أستطعت أن أنفذ من خلال طرح هذه القوانين إلى قراءة جديدة لمفهوم التطوّر الأدبيّ عَبْر تراثنا.
أولاً مفهوم التطوّر الأدبيّ أو التغيّر الأدبيّ، في ميدان الأدب أو المعرفة اللّسانيّة، يختلف كلّ الاختلاف عن مفهوم التطوّر في ميدان العلم. في ميدان العلم، لدينا وَقَفاتٌ أو محطاتٌ إذا وصلنا إلى محطّة قد تُلغي المحطّة السابقة. هنالك انقطاعاتٌ مستمرة وكثيرة جداً بين هذه التطوّرات. وحتى هذه الانقطاعات ربما كانت أيضاً جزءاً من عدم الاتّصال وليس من الاتّصال ذاته.
وهذا القانون الأول، في الميدان الأدبيّ، يعني شيئاً واحداً وأمراً واحداً، وهو أنّ التطوّر في الميدان الأدبيّ إنما يقوم على ما يسمى، الاتّصال بين الماضي والحاضر والمستقبل. لا يمكن أن يكون هناك تطوّرٌ خارجٌ، تطوّرٌ في الحاضر أو في المستقبل، نقطعُ أو نبترُ من خلاله جذورنا مع التراث. قد نغيّر في التراث وهذا واجبنا، وقد نتجاوز التراث، وهذا واجبنا أيضاً. ولكن الواجب الأساسيّ أن نقرأَ هذا التراث، وأن نعيَ هذا التراث وأن نفحصَ هذا التراث، وأن نقدّمَ فيه أسئلة جديدة، ماذا نأخذ منه وماذا نترك منه، حتى تتمّ عمليّة الاتّصال بين الماضي والحاضر والمستقبل؟... وهذه العمليّة، عملية الاتّصال، إنما تشكِّل لدينا أَمريْن: الأمر الأول هو السيرورة والأمر الثاني هو الصيرورة. السيرورة خلال آنات الزمان، والصيرورة هي للمستقبل.
من خلال هذه القوانين سنكتشف أمراً مهماً: نسبيّة مفهوم التطوّر. بمعنى آخر، أنّ لكلّ مجتمع من المجتمعات ثقافته وأُطرَه الخاصة ومفهوماتِه الخاصة عن التطوّر. لا يمكن أن نقولَ إنَّ ما تمّ في الغرب من مفهوماتٍ للتطوّر، يصلح لمجتمعنا. قد نستفيد ممّا حدث في الغرب، وقد نستفيد ممّا يحدث في الصين، وقد نستفيد ممّا حدث في روسيا، لكن لمجتمعنا العربيّ خصوصيته المميّزة في مفهومات الحداثة وفي مفهومات التطوّر، وحتى في علاقاته بالتراث. إننا بكلمة مقتصرة، أمةٌ تراثيّةٌ. التراثُ فينا يجري مع دمائنا، في عروقنا. واختلاف الناس مع هذا التراث هو الظاهرة غير الطبيعيّة. بعضهم يحمل التراث كأنه عبء على كتفه وينوء به، وبعضهم يجعل من التراث موميات موجودة في المتحف. لكن الإنسان الحيّ الذي يفهم تراثه ويوظف تراثه يجعل من التراث محرّكاً في دوّامة العصر، حتى يتصل ولا ينفصل.
وبعد أن شرحت هذه القوانين وما استفدت منها، عرّجت بعد ذلك على قضايا ما يمكن أن اسميها "بالاقلاب الأدبيّ" في ميدان الأدب. هناك انقلابات عسكرية، وهنالك انقلابات اقتصاديّة. في الميدان الأدبي، نستطيع أن نجد ما يمكن أن نقوله بالاقلاب الأدبيّ لذي اشبّهه بالطَّفْرة. الطَّفْرة العارضة، في الميدان الأدبيّ، الانقلاب العسكريّ في الميدان الأدبيّ، لا يمكن أن يحيى إلاّ في نسقه. قد يجيئ من خارج النسق، لكنه يظل خارج النسق، بمعنى أن يظل بدعة سائرة، لا يؤثر في هذا النسق إلاّ إذا انتظم فيه، وخضع له وأصبح بِنية من بِنياته، تماماً كالقلب، لا يمكن أن نأخذ قلباً، أيَّ قلبِ، لأيّ جسد، لا بدّ من تكيّف معيّن. فإذا تكيّف هذا القلب مع الجسد، يعيش الجسد. أما إذا رفض الجسد هذا القلب، فإنّ الجسد لا يعيش. كذلك هذه الانقلابات الأدبيّة، إذا استمرت وعاشت ضمن إطار النسق، النّسق الفكريّ والحضاريّ والسياسيّ، فإنّ للنصوص الشعريّة المستوردة أو المطوّرة، أن تحيى. أما إذا ظلّت عائمة على السطح، لا تتصل بنا، لا تتصل ببِنيتنا، لا تتصل بتراثنا ستظل عائمة، ثمّ سيرفضها هذا الجسد عاجلاً أم آجلاً...
بعد ذلك ربطتُ وقلت: إنّ الإشكاليّة الأساسيّة، إشكاليّة الاتصال والانقطاع، في الميدان الأدبيّ، لا يمكن أن نراها إلاّ من خلال المشروع الحضاريّ. بمعنى آخر، إنّ الإشكاليّة الأدبيّة جزءٌ من الإشكاليّة المعرفيّة للمجتمع العربيّ. وبدون معرفيّة مركّبة تركيباً جديداً، لا يمكن أن يتمّ شيءٌ على مستوى المشروع الحضاريّ. وقد انتهيت بالتالي إلى أنّ الإبداع هو الخطوة الأولى في الطريق الطويلة للمجتمع في شعره ونثره وفكره وأدبه وفي كل منطلقه.
وهذا الإبداع هو الذي ننشده، إبداعاً فلسفياً ومعرفياً ومجتمعياً ومشروعياً. وهو ما ينشده هذا الإبداع ذاته، شريطة أن نفهم الإبداع، كما فهمت مفهوم الاتصال: التأكيد على الجذور وتطويرها. أفهمُ التراث شجرةً، جذورها ثابت في الأرض، لكنها في كلّ عامٍ وفي كلّ فصل تقدّم لنا فَنَناً جديداً وثمراتٍ جديدة وإبداعات جديدة. والإنسان هو الذي يعمل على ذلك. العيب ليس في تراثنا، وإنما العيب فينا. نحن الذين نصنع أنفسنا ونصنع تراثنا ونعيد قراءته من جديد لكي نوظفه في خدمتنا، بدل من أن نوظّف أنفسنا في خدمة تراثنا.
إذن، أقول كلمتي الأخيرة في جملة حروف: لا إبداعَ خاصاً إلاّ من خلال الإبداع العام، ولا إبداع أدبياً إلاّ من خلال الإبداع المعرفيّ والفكريّ، ولا يمكن لنا، لمشروعنا الحضاريّ القوميّ الذي بدأ في عصر النهضة وسيستمر صُعُداً إلى الأجيال القادمة، أن يتمّ إلاّ إذا ركّزنا على قضية الإبداع. وإشكاليّة الأصالة والمعاصرة، أو إشكاليّة الاتصال والانقطاع في الميدان الأدبيّ، شعريّ ونثريّ، إنما هي إحدى مشكلات الإبداع العربيّ. فلننشد هذا الإبداع على مستوى الإنسان، وعلى مستوى المعرفة، وعلى مستوى الحضارة، يمكن عند ذلك أن نُقدِّم شيئاً جديداً يُنسب إلينا. نحن كعربٍ نملك هُويّتَنا ونملك ذاتنا ونملك تراثنا ونملك أيضاً أدبنا الذي هو بالنسبة إلينا جزء منّا.
إدارة الندوة :... شكراً للدكتور نعيم اليافي على بحثه العميق والذي تركز بوجه خاص على أن إشكالية الاتصال والانقطاع لا يمكن إلاّ من خلال المشروع الحضاريّ والهُويّة العربيّة الخاصة التي تجمعنا كلنا... ننتقل الآن إلى مداخلة الأستاذ وليد اخلاصي، الأديب الكبير والروائي الذي يحمل على كتفيه 35 عنواناً من الروايات والمسرحيات والقصص، أذكر نموذجاً صغيراً منها: "باب الجمر"، "زهرة الصندل"، "أوديب" وغيرها ... الكلمة للأستاذ وليد اخلاصي.
اللغـة الفـنـيّـة
تساؤلات وملاحظات
الأستاذ وليد اخلاصي
سأروي حادثة وقعت لي، قد تكون مدخلاً مفيداً للحديث عن اللغة الفنيّة، أو لربما للبحث في إشكاليّة ما يسمى بالتواصل والانقطاع. فقد نصح لي زملاء لهم علاقة بصناعة الثقافة، أن اشاهد فيلماً سينمائياً كانت صالة تهتم بتقديم مختارات عالمية من الفن السابع تعرضه منذ أسابيع دون إقبال جماهيريّ واسع. الفيلم كان بعنوان "سينما براديسو" الذي حصل على جوائز عالميّة هامة ومتعدّدة منها الأوسكار. كنت كلما عقدت العزم على مشاهدته اعترضتني عقبة ما، لا أظن أهمها إلاّ نسياني عادة ارتياد دور العرض منذ سنوات. ومن أسف، فإن دفعي إلى مشاهدة ذلك الشريط لم يفلح. وسأكتشف بعد فترة قصيرة، وأنا أشاهد الفيلم عن طريق المصادفة، إنني كدت أضيّع على نفسي فرصة نادرة. فقد أعلن التلفزيون التركي عن بثّه، فعقدت العزم على متابعته بالرغم من أنه ناطق بلغة أجهلها هي التركية. وتلك كانت القضية الأساسيّة، إذ ليس المقام هنا من أجل الحديث على قصة ذلك الفيلم، بل من أجل الكشف عن قضية اللغة، والفنيّة منها على وجه التحديد. لقد استطعت آنذاك أن أتابع أحداث الفيلم وأفكاره، وكأنني قادر على فهم اللغة التركية التي حلّت محل الإيطاليّة لغة الفيلم الأساسية. ولم تكن اللغة المسموعة عائقاً بأيِّ حال من الأحوال، لأن اللغة السينمائيّة كانت معبّرة وموحية، بل ومفهومة إلى درجة لا يمكن تصورها، فخيّل إليّ آنذاك أنني على معرفة بلغة لم أتعلمها من قبل. فهل كانت اللغة الفنيّة للكاميرا هي البديل للغة المسموعة أو الأدبيّة للشريط السينمائي الجميل ؟...
تلك الحادثة أو القضية، أثارت اهتمامي، كما لم تفعل قضية من قبل، وأنا أطيل التفكير في أن تكون اللغة الفنيّة مدخلاً جديداً لفهم إشكاليّة التواصل والانقطاع في مشهد الإبداع العربيّ المعاصر، والتي تتجلى أحياناً كواحدة من الإشكاليات العامة الأخرى كمشكلة القطيعة مع الماضي أو التنكر للتقاليد والعادات أو الانخلاع عن الجذور، وغير ذلك من المشكلات الأُحْجِية.
ثمّ إن حصر التفكير في اللغة الفنيّة وحسب، دون أيّ اهتمام بالعناصر الأخرى التي تساهم عادة في خلق التواصل أو في تكريس الانقطاع، أو لربما في ظاهرة تعاقب الأجيال ومراعاتها، أو في الوراثة الأدبيّة نفسها، هل يعني أنها، أي اللغة الفنيّة، وحدها مقياس خطير لفهم عمليتي التواصل والانقطاع المتداخلتَين؟... ثمّ أن التساؤل الآن يمكن أن يقال : ما هي اللغة الفنيّة ؟...
اللغة مبدئياً، المكتوبة منها، مجموعة إشارات وكلمات تشكل جملاً ومقاطع تتوافق مع معناها. واللغة ذات الدلالة هي التي تعبّر عن شيء ما أو فكرة أو موقف أو رؤيا. واللغة الفنيّة هي الشكل المتكامل لمجموعة متكاملة من الوَحدات اللغوية معبّر عنها بشكل ما، كالحكاية أو الحكمة أو الشعر أو الرواية والنصّ الدرامي. تلك اللغة، هي التي تخلق عادة حالة معيّنة لها خصوصيتها في الوقت الذي تمتلك التواصل الحميم مع الآخرين. أي أنّ هذه اللغة الفنيّة لا يتقصاها الإنسان في المفردات وحسب، بل هي في شكل نهائي متكامل، وهي في النهاية كائن لغوي متوحّد الصفات يحمل اسماً محدّداً، كأن يقال إن الحوار العادي أو اليومي بين اثنين إنما هو لغة دون ريب، بينما القصة القصيرة مثلاً فإنها لغة فنيّة ذات خصائص وشكلها يختلف حتماً عن اللغة الفنيّة في القصيدة الحديثة.
وإذا كانت مفردات اللغة، بشكل ما، هي حالة من حالات الوراثة التاريخيّة، فهل اللغة الفنيّة في جنس أدبي ما، تكرار أو إعادة لما سبق، أم أنها حالة جديدة من صنع كاتبها نفسه، ولهذا يكون الكاتب ليس صانعاً وحسب بل مخترعاً كذلك ؟... ويدفعنا هذا التساؤل إلى آخر، كأن يقال: هل استبعاد الموروث بكل أشكاله، مفردات وصيغاً، يعني القطيعة أو الانقطاع ؟...
إذن، فهل التجديد هو القطيعة، أم أنه المؤهل لكي يؤثر في التواصل التقليدي ويخضعه لقوانين التطوّر؟!... وباشتقاق آخر للمواقف، أفهل يمكن للتقليد أو للتجديد أن يحملا في الوقت نفسه حالة الانقطاع والتواصل في بِنيتهما ؟...
* * * *
إشكاليّة التواصل والانقطاع، لم تنسحب على قضايا الفكر والأدب والفن وحسب، بل سنجدها واضحة في الأشكال السياسيّة التي تتبلور بنتوءات حادة في العقود الأخيرة من هذا القرن، بل هي كذلك موقف ظاهر في الشارع السياسي أو الاجتماعي على حدّ سواء. كما أنها في نظام الأسرة وهيكليّة التعليم بل وفي البِنى الإدارية لمؤسسات الدولة الحكومية. وتلك الإشكالية أخذت أوضاع متباينة في مصطلحات شائعة مكرورة، كالتقدم والأصوليّة، والتقدميّ والرجعيّ، والثابت والمتحول، حتى أنه يمكن الاعتراف بأن شيئاً من الابتذال قد لحق بتلك الإشكاليّة الخطيرة في حياة أي شعب أو أمة أو تجمع بشري. وكثيراً ما يقال إن التواصل هو الأصالة، وأن الانقطاع هو الانسلاخ أو الاستلاب. ولم يتفق حتى يومنا هذا على تحديد معنى الأصالة أو الاستلاب ورسم حدود واضحة لأبعادهما الشاسعة.
وما دام الأمر ما زال قضية لم تحسم، وقد لا تفعل، فإثارة سؤالَين هما، بظني، من مفاتيح أخرى تسمح بالدخول إلى رحم الإشكاليّة المثارة عن التواصل والانقطاع في أدبنا العربيّ المعاصر.
* يرتبط السؤال الأول بطبيعة التواصل أو ماهيته، أي بعلاقة التواصل بمفهوم التراث. وأن ما هو معروف ومتداول حتى الآن، هو سريان دم التراث الأدبيّ العربيّ (منذ أن عُرف في عصور ما قبل الإسلام وحتى وقت لاحق يمكن أن يحدّد دوماً بفترة من السنين تكفي لتقول إن ذلك الأدب هو من التراث، أي إنّ التعتيق الزمني يرتبط وجدانياً بالتراث) في جسد الأدب المعاصر. وبهذا المعنى يمكن إنشاء معادلة رياضيّة فيتحقق كمال التواصل بنسبة تدفُّق الدم التاريخيّ كمية وسرعة. أي إن تحقق الماضي في الحاضر هو شكل من أشكال التواصل المقبولة والمطلوبة. والسؤال هنا: وماذا عن التراث الإنساني الكبير ؟... أهو بعيد عن إشكاليّة التواصل تلك؟!... هل يستبعد تراث شعوب وأمم وحضارات منذ فجرها وبلغاتها المختلفة، عن مفهوم تواصل كاتب عربيّ معاصر مع التراث؟.. وعلى سبيل المثال، أليس تواصلاً حقيقياً وفعالاً يقوم بين كاتب مسرحيّ عربيّ معاصر وبين نصوص اليونان الدراميّة في فجر تألقها منذ خمسة وعشرين قرناً؟... أليست المثاقفة مع الآخرين، مهما كانت أحوالهم، هي شكل من أشكال التواصل، وأن القطيعة مع ثقافة الآخرين هي نوع من أنواع الانقطاع؟!... أليس التواصل بين روائي عربي معاصر وآخر من أميركا اللاتينية على سبيل المثال، يعادل أحياناً القرابة بين ذلك الروائي العربيّ والمخزون الجاحظي في المعرفة المتنوعة ؟...
* تطوّر أم قطيعة، هو جوهر السؤال الثاني الذي له علاقة بشكل التواصل. وإذا أخذنا الأشكال الفنيّة التي كانت سائدة في تراثنا العربيّ القديم، والذي يلهث الكتّاب من أجل فهمه وتمثله غريزياً أو عقلانياً، فمنهم من يبحث عن إعادة إنتاجه ومنهم من يفتش عن نقاط فيه تصلح لما يمكن أن يكون موسوماً بالمعاصرة، إذا أخذنا تلك الأشكال كالسيرة والحكاية والشعر العمودي وغيرها، ونظرنا إلى الأشكال المعاصرة، فماذا يمكن أن نجد مقابلاً لها.
ـ السيرة، كالسيرة الشعبية
والمتوالية السردية كألف ليلة وليلة
ـ الحكاية القديمة أو المقاومة
ـ الشعر العمودي الكلاسيكي
ـ المحاورة كما الحال مثلاً في
كليلة ودمنة، أو الطقس الديني
أو الاجتماعي البدائي أو الشعبي
ـ الموازنة
ـ الخطابة
ـ الحكمة أو القول المأثور يقابلها
يقابلها
يقابلها
يقابلها
يقابلها
يقابلها
يقابلها الرواية الآن
القصة القصيرة
الشعر المعاصر بكل أشكاله
وتنويعاته وأنواع تمرده
المسرح أو البناء الدرامي
النقد الأدبيّ الحديث
المقالة
التنويعات النثرية ذات الطابع الشعري
هل نجد في تلك المقابلات بين الأشكال الفنيّة القديمة والمعاصرة، علاقة تطوّرية، فنقول إنّ الأجناس الأدبية التراثيّة تحولت بفعل القوانين لتصبح الأجناس السائدة اليوم. أم أننا نقول إن أجناس أدب اليوم لا علاقة لها بشيء عربيّ تراثيّ من قريب أو بعيد.
وعلى هامش هذا السؤال، هل يمكن القول بأن التقليد الأعمى، بالرغم من تواصله الشكلاني مع التراث، إنما هو انقطاع فعلي، وأن الخلق الفنّي أو استحداث لغة فنيّة ذات شخصية، إنما هو في الحقيقة تواصل فعلي مع التراث العربيّ بخاصة والتراث الإنسانيّ بعامة؟!... لذا يمكن الإشارة الواقعية إلى أنّ إعادة إنتاج مقامة معاصرة على شكل المقامة الهمذانية أو الحريرية مثلاً، إنما هو تقليد بحت، كما يفعل شاعر قائم الآن وهو يكرر شكل ولغة الشاعر الجاهلي.
* * *
في بدايات جيلنا الأدبيّ، وليكن ذلك التوقيت متوافقاً مع نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات من هذا القرن، لا بدّ أن النصيحة الأولى لمثلي كانت في قراءة الأدب العربيّ القديم، كالأغاني للأصفهاني والعقد الفريد لابن عبد ربه وغيرهما. ثم إنّ هناك من استنكر في حينه اهتمامي بجبران خليل جبران وبطه حسين، فهما على سبيل المثال لا يمثلان خزانة الأدب الشرعي، بل إنّ بعضهم ذهب في تطرفه إلى أنّ التأدب لا يكون إلاّ على مائدة الأقدمين، فالأصالة لا تعني عندهم سوى القِدم والتوغل في عمق التاريخ (ومن المصادفات الطريفة أننا نجد اليوم من يرى في ملاحقة جبران أو طه حسين نموذجاً للوقوع في شَرَك الماضي). ولم يكن غريباً على أستاذ اللغة العربية في أيامنا تلك أن يطلب من تلامذته تدوين وحفظ جمل كاملة تستهويهم من الكتب التي يطالعون فيها كي تستخدم في الإنشاء بعد ذلك. فكأن استخدام الجماليات الجاهزة هي الوسيلة الناجعة للتواصل والحفاظ على التراث، كما أنه كان من الغريب أن يمر بنا في مرحلة الدراسة الثانوية أستاذ لغة عربية ينصح لنا بأن ندوّن ونحفظ تلك المختارات ثم ننساها بعد ذلك، لتكون لنا لغتنا الخاصة، مهما كانت هواياتنا أو مهننا في المستقبل. فاللغة الفنيّة أو الخصوصيّة الشخصيّة لا تقتصر على الكتابة الإبداعيّة وحسب، وإنما تنسحب على الفكر بعامة والسلوك البشري كذلك، وعلى مدى قدرة الفرد على التميّز، طبيباً كان أم شاعراً...
وهكذا، كانت القاعدة السائدة في فهم التواصل، لفترة ما، هي في الإتكاء على القديم، العربيّ منه على وجه التخصيص، بل إنّ في إعادة إنتاجه يعني أنك أصيل. بينما الاستثناء كان في الاستقلال الذاتيّ، دون تنكرِ لما أنجز في الماضي الإنساني. وقد ظلّت الصورتان المتناقضتان تتخاطبان طريقة تفكيري وحلمي في الوصول إلى قرار يكون هو منهجي الأساسي في متابعة الكتابة، فهل استطعت كواحد من أبناء جيل حائر أن أصل إلى شيء يبعد عني شبح التمزق ؟...
إنّ مصطلح "أصيل" هو حلم الكاتب أن يكون من صفاته، ولكنني بعد دراسة علوم الأحياء، والكيمياء التي تعتبر الأدب الشرعي لها، جعلتني أفكر في ذلك المصطلح بروح ساتيرية (ساخرة) لكنها علميّة، وقد رأيت أنّ التربية الداخلية للكائنات الحيّة كالإنسان والحيوان والنبات، أي زواج الأقارب، إنما تؤدي إلى تدهور النوع، وأن التهجين أي زواج الأباعد فيؤدي إلى تحسينه، ولهذا السبب اعتمدت الوراثة النباتية مثلاً على التهجين للحصول على أصناف مقاومة للأمراض وكبيرة الإنتاج وجيّدة المواصفات، فهل يمكن القول إن المثاقفة هي نوع من التهجين، وأن طموح الكاتب المعاصر سيتطلع ذات يوم إلى أن يحمل لقب "هجين" ولكن بعيداً عن معناه اللاأخلاقي المتداول؟!...
وهكذا، كان لي في الكيمياء عزاء في فهم جزء من أسرار الطبيعة والثقافة على حدّ سواء. وبدا لي أنه يمكن لها، بظني، أي الكيمياء، أن تساهم في حلّ إشكاليّة التواصل والانقطاع الوهميّة. فكيمياء الطبيعة على سبيل المثال هي رمز التزاوج بين المتناقضات الذي يؤدي في نتيجته إلى الوحدة والتوحد. وهي كشف عن التطوّر الذي يمكن أن نسميه بغريزة الطبيعة الهائجة، على الرُّغم من سكونيتها الظاهرة. كما أنّ الكيمياء الإنسانيّة تدلّ على أن الجسد الإنساني لم يتطوّر كثيراً ولو بشكل ملحوظ خلال العشرين قرناً الماضية، إلاّ أن المغامرة العقليّة للدماغ وهو يكشف عن الحقائق ويضاعف من المعارف الكونية، تتراكم بتجدّدٍ كمّي ونوعيّ يثير دهشة المؤرخين أنفسهم، وهذا شكل من أشكال التطوّر الكيميائيّ للحالة الإنسانيّة، لا يدل على اقتصار المادة على ذاتها، بل يؤكد على أهمية التفاعل بالنسبة للعقل البشري.
وهكذا فإن المطابقة بين الحالة العلميّة للكيمياء والحالة التاريخيّة للأدب، سيكشف لنا عدم صحة ميكانيكيّة أيّة ظاهرة، فالتحول الميكانيكيّ هو ظاهرة فيزيائيّة أو لربما سطحيّة، أما التحول الكيميائيّ فهو الوسيلة لاكتشاف أن المعاصرة مثلاً ليست بأي حال من الأحوال التقليد أو تكرار النموذج السالف، وليست كذلك أبداً انخلاع عن الماضي، لأنهما، التقليد والانخلاع، من الظواهر الميكانيكيّة.
والأدب العربيّ يمكن له أن يتجاوز المناظرات العقيمة، إذا ما عومل على أنه جزء من حركة الطبيعة نفسها، وبالتالي من حركة التاريخ، لذا يمكن أن يقال بأن الحالة الأدبيّة وهي تُفهم على هذا الأساس، هي الإنتاج الطبيعي لعقل مبدع صحيح.
يمكن للباحث أن يتفحص كيمياء كاتب معاصر ما ويحكم عليه، إنما تفحص الكاتب نفسه لكيميائه، فسيؤدي به دون ريب إلى تخييل رائع، يعيد إنتاج الواقع وتمثل الماضي ورؤية المستقبل بخصوصيّة، هي في النهاية ما يمكن أن يقال عنها إنها اللغة الفنيّة الفريدة.
إدارة الندوة .... نشكر الأستاذ والأديب الكبير وليد اخلاصي الذي جذبنا إلى لغته الفنيّة وتوقفنا معه عند معادلة بسيطة وردت وعرضها في كلامه وهي التقليد قد يكون انقطاع فعلي وأن الإبداع هو التواصل الفعليّ... ننتقل الآن إلى نقاش نفتتحه... وأدعو الحضور إلى المساهمة فيه...
المناقشة العامة
الأستاذ محمد جمعة: ... المشكلة هي مشكلة إبداع... فالإبداع ينهي الأزمة، أزمة الأمة التي من المفروض أن تبدع... إنني أبدأ من مسألة العقل والعقلنة. لماذا العقل العربيّ لا يبدع في هذه الفترة بالذات، بينما أبدع في فترات سالفة؟.. مع موافقتي على كل ما طرح من قضايا التراث واستمرارية التراث والتواصل والإنقطاع، ولكن هناك الأزمة، يمكنني أن أقف عندها في عدد من المحطات أو من النقاط: أولاً قد تكون مسألة الديمقراطيّة، مسألة الحريّة، مسألة الأنظمة السياسيّة، قد يكون للدين أيضاً... قد تكون مجمل هذه النقاط هي ما تقف في طريق الإبداع. قد يكون الصراع بين العقل والدين أو الشريعة، وهذا الصراع قد لعب دوراً كبيراً في هذه النقطة بالذات، وكان ذلك محطة أساسيّة... وإنني أعتقد أنّ العقل العربيّ توقف عن الإبداع منذ أن انهزم العقل في تاريخنا فهذه محطة أساسية. فلا نستطيع أن نبدع إذا لم نتغلب، أو إذا لم نخرج من هذه الأزمات التي أشرت إليها... فلا بدّ إذن من معالجة مسألة الديمقراطيّة مسألة الأنظمة السياسيّة، مسألة الحريّة، مسألة الدين، مسألة الهزيمة... فأنا لا أتصوّر أمة مهزومة تستطيع أن تبدع. فرأيي أن هذه النقاط جديرة بالردّ على مسألة الإبداع وقضية الإبداع وشكراً.
تعقيب الدكتور نعيم اليافي: ... افهم من السؤال أنّ الأزمة التي يعانيها الإبداع في الوقت الحاضر، في بيئتنا العربيّة إنما هي أزمة عقل، أزمة تركيب عقل، وما يحيط بهذا العقل من مستلبات: هناك استيلاب للحريّة، استيلاب للديمقراطيّة واستيلاب لإنسانيّة الإنسان وما شاكل ذلك...
ثمّ بعد ذلك انتقل إلى محورين أساسيين، فهمتهما على هذا الشكل، لا يستطيع العقل العربيّ أن يبدع في ظلّ الدين، ولا يستطيع العقل العربيّ أن يبدع في ظلّ الهزيمة.
فأنا مع الأخ الذي سأل، في أصول موضوعاتنا... إنّ أزمة العقل العربيّ ليست هي أزمة بِنية أو أزمة تركيب وإنما هي أزمة مكانيّة ـ جغرافية ومحيطيّة إن صحّ الإستعمال... والدليل أن الإنسان العربيّ عندما يُخرج من البيئة التي أستلب فيها ديمقراطياً وتعددياً وحريّة، إلى بيئة أخرى أكثر انفتاحاً، فيها نوع من الديمقراطيّة وفيها نوع من الحريّة له لكي يعمل، يستطيع أن ينتج وأن يبدع... والأدلة على ذلك كُثُر، في أميركا أو في غير أميركا، نماذج عربيّة خرجت من بيئتها واستطاعت أن تقود وأن تصنع شيئاً وأن تقدّم شيئاً.
إذن، الإشكاليّة الأساسيّة، فأنا لا أعتقد أنها إشكاليّة في بِنية العقل العربيّ وإنما هي في الظروف التي يعيشها الإنسان العربيّ... أما أزمة الديمقراطيّة فأنا مع السائل، وأزمة حريّة معه، وأزمة علم معه وكلّ هذه الأزمات إنما هي مرتبطة بالسياسة ومرتبطة بما لا يملكه الشعب منها... فإذن، لنعد فنقول: إنّ علينا أن نجهر وأن نطالب وأن نضحّيى من أجل ديمقراطيّة ننشدها، ديمقراطيّة سلوكيّة نموذجيّة وديمقراطيّة تعدّديّة وديمقراطيّة اجتماعيّة... وننشد أيضاً حريّة. وكان حديثاً فائضاً أمس عن الحريّة، لدى خليل الهنداوي، طُرح من أجل أن نهتف له وأن ندعو إليه. لا تغيير إلاّ في نطاق الحريّة، ولا مجتمعاً منشوداً إلاّ في ظلّ الديمقراطيّة والتعدّديّة.
ولكن لتسمحوا لي أن أقف ومن وجهة نظرٍ خاصة، قد أكون فيها مخطئً أو مصيباً، ولكنني في اعتقادي ومن وجهة نظري إنني في ما أرى هي علاقة العقل العربيّ بالدين: هل الدين خلّفنا {أي جعلنا متخلفين}... لماذا الدين عمل على تقدّمنا في العصر العبّاسي؟... الدين الإسلامي، والدين بصورة عامّة، مع انفتاحنا مع الآخر. كانا عاملين جبّارين وجعلانا أن نصل إلى الذروة. تقدمنا حضارياً، والعصر العبّاسي يمثل لدينا قمة اليقظة وقمة النهضة وقمة الحضارة. وكان الدين هو الدين، والعقل هو العقل. بالعكس، جاءت المعتزلة وهي الوجه المضيئ في تراثنا، لكي تضع العقل حيث يجب أن يوضع. في تصوري أنّ المشكلة ليست هي مشكلة دين، وإنما مشكلة تكمن في العلاقة بيننا وبين الدين وفي فهمنا للدين. إذا خلفنا الدين سنصبح متخلّفين. وعندما نفهم الدين فهماً آخر، نعيد قراءته من جديد، نرى فيه العقل والحياة والدعوة إلى الحياة وإلى النهضة، وإلى الحضارة، عند ذلك سننهض بمفهوم جديد للدين ويكون الدين بالنسبة إلينا محركاً من محركات هذا العصر. هذا ما أردت أن أقوله باختصار وأترك الكلمة للأخ الصديق وليد اخلاصي.
الأستاذ وليد اخلاصي: ... عندما أخذت الجزء الأول من المعجم الذي كان يعمل فيه الشيخ عبد الله العلايلي، تساءلت ما قيمة أعمال يقوم بها، رجل مثل عبد الله العلايلي بالمقايسة مع الموسوعيين العرب القدامى؟... قد نكتشف أنّ الشيخ عبد الله العلايلي أهمّ بكثير من أسماء طُرحت في تراثنا القديم. وسيأتي الوقت الذي يُقال فيه أنّ عدداً من الروائيين العرب، على قلّتهم، أهمّ بكثير من جميع الفنّ الحكائيّ الذي قيل في الماضي أيضاً. وأنا أعلم أنّ شاعراً مثل نزار قبّاني أو محمود درويش وغيرهما قد يكون لهم تأثير على الجيل أو الأجيال المعاصرة، أكبر بكثير ممّا كان للمتنبي على معاصريه.
هذا ردّ على قول إنه توقف الإبداع أو على شيء من مثل هذا الكلام. هل توقف الإبداع؟!... الإبداع لم يتوقف، ولكن السؤال الأساسيّ: متى كان هناك حريّة وديمقراطيّة وانتصارات عظيمة في التاريخ العربيّ ـ الإسلاميّ؟... هل كانت مستمرة وبتواصل مثل الأفلام الناجحة مثلاً؟... يعني يستمر الانتصار العربيّ أسبوعاً جديداً !!...
تاريخنا مليئ بهذه الظاهر التي ائتلفناها. وقد يبدوا أنّ هذه الكوارث اللاأخلاقيّة التي مرّت في حياتنا، هي جزء من أسباب دفع الناس إلى الإبداع وإلى الإجتهاد... ما هو نموذج الدولة الديمقراطيّة في العالم في القرن السابع عشر أو السادس عشر أو في القرن العاشر ؟!... يعني هذه المصيبة هي مصيبة إنسانيّة وليست مصيبة عربيّة فقط... لذلك يجب أن نحمّل عدم الإبداع ونربطه بظاهرة الديمقراطيّة... أنا برأيي أنّ هناك ارتباطاً عكسياً: كلما