الديار - د. دندشلي - العلوم الاجتماعية تحتاج إلى بلْوَرة تعكس المجتمع اللبناني
الجامعة اللبنانية ـ الفرع الخامس ـ تطرح مشكلاتها
العلوم الاجتماعية تحتاج إلى بلْوَرة تعكس المجتمع اللبناني*
لقد رأى الدكتور مصطفى الدندشلي أستاذ العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية الفرع الخامس أن الحديث عن مشاكل الجامعة اللبنانية في الظرف الراهن ووضعها العام يستدعي الأخذ في عين الاعتبار الأوضاع السياسية العامة في البلد، ذلك أن الجامعة اللبنانية كمؤسسة تعليمية وعلمية وثقافية هي انعكاس للتركيبة السياسية، للنظام السياسي، في المجتمع وللتركيبة الطائفية والمذهبية فيه. وانطلاقاً من هذه الاعتبارات أوضح الدكتور دندشلي قائلاً: "يمكننا أن نفهم عدم وجود رغبة حقيقية لبناء جامعة وطنية، تلبّي حاجة المجتمع اللبناني على مختلف المستويات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعلمية. فمن وجهة نظري الأساسية ومن ضمن قناعاتي الشخصية والمبنية على أساس من تجربتي الشخصية، لا وجود لرغبة حقيقية أو لإرادة قيام مؤسسة علمية بالمعنى الحقيقي للتعليم العالي في لبنان. فما هو واضح لأي مراقب، فإن سياسة الدولة اللبنانية كانت دائماً تقوم على تقوية الجامعات الأجنبية الخاصة، الأميركية واليسوعية، أو حتى الجامعات الطائفية والمذهبية التي نشأت حديثاً. فهذه الصورة تعكس الذهنية الطائفية في البلد. وعلى هذا الأساس نستطيع أن نفهم فهماً دقيقاً وواقعياً المشكلات الجزئية التي تعاني منها الجامعة اللبنانية من حيث الإدارات والتوظيفات والهيئة التعليمية والمستوى المتدنّي لرواتب أساتذة الجامعة اللبنانية، والذي كان من نتيجته هجرة الأدمغة حيث مجالات العمل أوفر وأكثر مردوداً في البلاد العربية والأجنبية".
وأضاف:
"هناك نقطة أراها مهمّة لابد من الإشارة إليها: التدخّلات السياسية ذات الطابع الطائفي أو المذهبي التي تمارس بشكل أو بآخر في شؤون الجامعة اللبنانية، من حيث التوظيفات وتعيينات الأساتذة على مختلف المستويات. فأحد الانتقادات التي توجّه إلى الجامعة هو تخمة الموظّفين والإداريين والأساتذة، التي تعاني منها، قد يكون هذا صحيحاً ولكن الصحيح أيضاً هو أن السياسيين أنفسهم هم الذين ساعدوا على هذا التضخّم المرضي في الجامعة اللبنانية إرضاء للجماعات والانتماءات السياسية والمناطقية المتنوّعة. من هنا نجد بأن وضع الجامعة اللبنانية الآن هو في الطريق المسدود فمن جهة، هناك ضرورة مُلِحّة لإحداث الإصلاحات الجذرية والضرورية وعلى مختلف المستويات لقيام جامعة وطنية، جامعة وموحّدة في لبنان، ومن جهة أخرى تضارب المصالح السياسية الضيقة الطائفية والمذهبية والخلافات التي تظهر بين الحين والآخر من جهة القوى المتنفّذة، مما يعيق أية عملية إصلاح حقيقية.
ففي ما يتعلق بالجامعة اللبنانية إنني أميل إلى طرح الأمور في العمق وفي الجوهر دون الدخول في التفصيلات أو الأمور الثانوية من حيث الأبنية والتوظيفات والتعيينات والمجالس التمثيلية، فكل هذه الأمور هي نتيجة لسبب أساسي برأيي هو أن السلطات الحاكمة في لبنان منذ قيامه حتى الآن، لا تريد لاعتبارات معروفة قيام جامعة وطنية حقيقية وبالمعنى العصري للكلمة.
مثلي البسيط على ذلك: هو أن أبنية التدريس في الجامعات اللبنانية التي تبلغ الآن 51 فرعاً، هي أبنية مستأجرة في معظمها ولننظر مثلاً إلى بناء الجامعة اللبنانية في مدينة صيدا، لقد كان بالاستطاعة شراء أرض وبناء عليها مبنى للجامعة، بدل من أن تدفع الدولة اللبنانية سنوياً إيجاراً لها. فخلال عشر سنوات، مثلاً، تصبح الأرض وما عليها من أبنية ملكاً للدولة اللبنانية. ففي الحقيقة يستطيع المراقب الحيادي والموضوعي أن يكوِّن صورة حقيقية للدولة اللبنانية من خلال ما يجري في الجامعة اللبنانية".
ورداً على سؤال فيما إذا كان تعدّد الجامعات في لبنان يعتبر مصدر غنى وتنوّع قال: "التنوّع كلمة عامة مطّاطة حمالة أوجه. فأنا من المتحمّسين للتنوّع، الثقافي والفكري والعلمي في لبنان، فهذا غنىً لنا، ولكن أن ننطلق من هذه المقولة، مقولة التنوّع لانتهاج سياسات طائفية ومذهبية على صعيد التربية والتعليم والثقافة وعلى صعيد الجامعات في لبنان، فهذا ما هو مضر للبنان ولاستمراره كوطن واحد وموحّد لجميع أبنائه.
ما يحصل واقعاً الآن هو إنتاج ثقافات ليست متنوّعة بل متناقضة ومتضاربة بعضها ببعض. الثقافات الانكلوسكسونية متضاربة أشد التضارب في المنهج وأسلوب التعليم والعقلية العلمية مع التفافات اللاتينية أو الفرنسية أو الفرنكوفونية وهنا تدخل على الخط الثقافات العربية والإسلامية والمسيحية ومستقبلاً الإيرانية والمجال مفتوح لدخول عن طريق الجامعات ثقافات أخرى. إذاً أنا مع التنوّع الثقافي، ولكن تحت سلطة الدولة اللبنانية الوطنية وأشدّد على كلمة وطنية ومراقبتها وهذا ما يحصل في جميع أنحاء العالم. هناك سياسة تربوية واحدة موحَّدة وموحِّدة للدولة تتبعها وتراقب حسن تطبيقها في جميع المؤسسات القائمة في البلد".
وأضاف:
"كانت هناك محاولة جدّية فيما أعتقد قام بها وزير التربية السابق الشيخ بطرس حرب وكانت محاولة ثورية حقيقية لإصلاح الجامعة اللبنانية وقد طرحت عليه شخصياً في ندوة عامة هذا السؤال: "معالي الوزير، هل سيسمح لك بتنفيذ هذا البرنامج التربوي؟ ابتسم ولم يجب".
وعن رأيه في اللامركزية القائمة للجامعة اللبنانية وتعدّدها إلى عشرات الفروع أوضح الدكتور دندشلي:
"أنا من مؤيدي وحدة الجامعة اللبنانية، هذا مبدأ أساسي. ذلك أن وحدة الجامعة وما لها من دور أساسي، إنما تؤدّي إلى وحدة الثقافة في البلد ووحدة الانتماء إلى هُوية ثقافية محدَّدة وإلى وطن واحد. هذا من حيث المبدأ أما التفاصيل فتترك لخبراء التربية من أجل تنفيذ هذا المبدأ الأساسي، يعني قد ينشأ كلية للزراعة في البقاع أو كلية للطب في العاصمة، بمعنى توزيع الاختصاصات الجامعية حسب تلبية حاجات المناطق في لبنان وهذا هو الأساس إذ إن التربية في جوهرها هي تلبية واقعية لحاجات المجتمع على مختلف المستويات ولتطوّره المضطرد".
وحول تفاعل الجامعة اللبنانية في صيدا مع المحيط الثقافي والاجتماعي: فإن دور الجامعة، أيَّ جامعة، هو أن تتفاعل مع البيئة التي توجد فيها تؤثر فيها وتتأثر بها. فهل هذا ما هو حاصل واقعياً في الجامعة اللبنانية في صيدا والجنوب؟ يؤسفني أن أقول بإن هذا التفاعل كان ولا يزال غائباً ويخيّل إليّ وكأن جامعتنا اللبنانية مزروعة في تربة هي غريبة عنها، فلم تستطع حتى الآن أن تخلق هذا الجوّ الثقافي العام في المجتمع، وأتساءل: "أين هي المحاضرات والندوات والمؤتمرات التي أقامتها وتقيمها الجامعة اللبنانية منذ تأسيسها حتى الآن، أين هو التفاعل مع المؤسسات الثقافية في الجنوب اللبناني؟ ثمّ هناك ناحية مهمّة عن مدى الفائدة والخدمات التي تقدّمها مكتبة الجامعة للمثقّفين، إذ من المعلوم للجميع أن مكتبة الجامعة يجب أن تبقى مفتوحة ليس فقط للطلاب بل للباحثين والكتّاب والمفكّرين ولكل من يريد أن يقوم بالبحث والدراسة أو أن يتزوّد بالعلم والمعرفة خاصة في ظروفنا الصعبة حيث ارتفاع أسعار الكتب والمجلات والصحف في مختلف اللغات.
وأخيراً ركّز الدكتور دندشلي على أن دور الجامعة ليس فقط إعطاء الشهادات، بل هو أبعد من ذلك، هو خلق مُناخ من الثقافة والفكر في المنطقة المحيطة بالجامعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * ـ جريدة الديار بتاريخ 27 كانون الثاني 1994.