كلمة حسين القوتلي-الحوار القومي الديني من منظور استراتيجي
الحوار القومي الديني من منظور استراتيجي
قراءة في كتاب الحوار القومي الديني الصادر عن
مركز دراسات الوحدة العربية وبيروت
* * *
كلمة حسين القوتلي
لم يسعفني الوقت في قراءة كل ما جاء في الكتاب القيّم الذي أصدره مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، فلقد كان الزمن الممتد بين لحظة الاتصال بي لدعوتي للمشاركة في هذه الندوة وموعد انعقادها في صيدا قصيراً جداً استطعت أن أقرأ خلاله المقدّمة الشاملة التي لخّص فيها الأستاذ محسن عوض كل ما قيل في هذا الكتاب من أوراق عمل ومناقشات بدقّة يُشكر عليها، كما تسنّى لي بعد ذلك أن أقرأ رؤية الدكتور خيرالدين حسيب التي تحدّد مسار البحوث والمناقشات ثمّ أن انتقل بعد ذلك إلى أوراق العمل فأقرأ منها خمساً بعناية، وأمُرّ على ما تبقّى من الكتاب مروراً أحسب أنه جعلني أُلم إلماماً كافياً بأهم النقاط التي تطرّق إليها الباحثون والمناقشون الذين اشتركوا في مؤتمر الحوار المُنعقد في القاهرة والذي جاء كتاب المركز موثِّقاً لما جرى فيه.
إنّ ملاحظتي الأولى هي حول الموضوع نفسه، فموضوع الحوار هو موضوع قديم، فقد جرى تناوله في مقالات وكتب ودراسات ومحاضرات في مناسبات وأزمنة بعيدة وإنه لمن المفارقات حقاً أنني دُعيت منذ ثلاثين عاماً أو يزيد إلى نادٍ ثقافي في صيدا، عندما كنت واحداً من شباب حركة القوميين العرب، دُعيت إلى صيدا نفسها وألقيت محاضرة في الموضوع نفسه "في العلاقة بين القومية والدين" وإذا بالتجربة اليوم تتكرّر والموضوع هو الموضوع والنتيجة هي النتيجة، إلاَّ أن الفارق بين الأمس واليوم هو أن القومية والدين كلاهما أصبحا اليوم في محنة أكبر وأقسى مما يقتضي معه المزيد من التفكير والحوار ونقد ذات. ولقد كان لمركز دراسات الوحدة العربية فضل كبير في دفع هذا النشاط الفكري الحواري بعناية رئيسه الدكتور خيرالدين حسيب ومعاونيه إلى موقع متقدّم يستحق الشكر والتقدير والتشجيع لما حمل من خلال ندواته وكتبه ومنشوراته ولقاءاته الفائدة كل الفائدة للتيار القومي كما للتيار الديني على حد سواء وثانية ملاحظاتي أن الحوار في موضوع العلاقة بين القومية والدين بات يحمل، أكثر مما كان يحمل في الماضي، وبدرجة أشد جملة من الإشكاليات التي تعقد الحوار نفسه، وأصبحت هي بحاجة إلى جهد حواري مستقل لحلّها. وأول هذه الإشكاليات هو الصراع القائم اليوم بين الديني والديني، بين تيّار ديني وتيّار ديني من دين آخر، ثمّ بين تيّار ديني وتيّار ديني من الدين نفسه، ثمّ بين مذهب ديني ومذهب ديني آخر، ثمّ بين تيّار من مذهب ديني وتيّار آخر من المذهب نفسه. وما يُقال عن هذه الإشكالية الدينية أصبح يُقال أيضاً عن الإشكالية القومية التي بتنا نلاحظها بين صفوف الحزب القومي الواحد، وتجربة الحرب الأهلية اللبنانية أعطتنا بكل تأكيد نماذج دموية عن هذه الإشكاليات الدينية والقومية المأساوية.
وملاحظتي الثالثة، في مقدّمة هذه المداخلة، أنّ هناك موضوعات وعناوين ألحقت خلال نصف قرن مضى إما بالقومية أو بالدين فأضافت إلى الحوار صعوبة فوق صعوبة، وأكثر هذه الموضوعات والعناوين المضافة هي: العلمنة ـ والأصولية ـ وأثر النظام السياسي على كل من القومية والدين، ومسألة تطبيق الشريعة، والمسألة الاشتراكية، مما جعل أي محاولة للحوار مضطرة إلى معالجة هذه الموضوعات والدخول في تفصيلات متاهاتها كلما تطرّق المتحاورون إلى إشكالية العلاقة بين القومية والدين.
أما ملاحظتي الرابعة والأخيرة في هذه المقدّمة فهي تأكيد الموافقة على تسمية هذا الحوار بالحوار القومي ـ الديني كما جاء في تسمية المركز ـ وليس تحديداً، العربي ـ الإسلامي، كما جاء في اعتراض الدكتور رضوان السيد الذي رأى أن الديني ينبغي أن يعني الإسلامي وحده عندما قال بضرورة حصر الدين بالإسلام "لأنه المكوّن الأساسي لهذه الأمة حتى الآن. وما دامت أمّتنا مشروعاً ثقافياً تاريخياً يطمح إلى التبلْوُر في كيان سياسي واحد فإن تجهيل دين الغالبية السّاحقة لهذه الأمة في التاريخ والثقافة يصبح غير مقبول" فأنا، في معارضة هذا الاتّجاه، أحسب أنّ شمولية الحوار لمختلف القوميات والأديان السماوية أمر تحتّمه الضرورة العلمية، بل إنّ شمول الحوار لموقف المسيحية واليهودية من القومية أمر بالغ الأهمية، وهو يقع في صميم هذه الثقافة الإسلامية التي تشكّل دين الغالبية وهو ما تؤكّده الآية: "قالوا آمنّا بالله وما أُنزل إلينا وما أُنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيّون من ربهم لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون".
وبعد،
فإنني أعترف بأنّ عقدة "منهجية الحوار والبحث" هي التي تتقدّم عندي على أيّ حوار وأيّ بحث، ولقد كانت كذلك متقدّمة في قراءتي لكتاب المركز "الحوار القومي الديني" فحاولت أن أصنّف الباحثين من حيث مناهجهم التي اعتمدوها لا من حيث الموضوعات التي تناولوها، متسائلاً عن المنهج الأمثل الذي يمكن اعتماده، وفي هذه اللحظة الزمنية بالذات، مما يمكن أن يفيد في إغناء الحوار القومي الديني ويفتح أمام أفكارنا وطموحاتنا الآفاق المستقبلية التي أشار إليها الدكتور خيرالدين حسيب في تقديمه للندوة.
ولقد خرجت من بحثي هذا أنّ أبحاث الباحثين والأوراق والأفكار التي قدّموها قد اعتمدت مناهج للبحث والعرض غير المنهج الذي كنت أطمح إلى اعتماده. صحيح أنني خرجت من مطالعتي لأوراق العمل والأفكار المعروضة في هذا الكتاب بفائدة جمّة أغنت معلوماتي واستولدت عندي كثيراً من الأفكار مما يجعلني أسجّل للباحثين والمفكّرين الذين كانوا سبباً في ذلك كل تقدير وعرفان، إلاَّ أنّ طموحي المنهجي الذي لم يتحقّق في هذه التجربة العابرة ظلّ هو الإشكالية المُقلقة التي اندفعت أكثر في البحث عن الجواب. فلقد اعتمد بعض الباحثين منهج المفاضلة بين القومي والديني هذا المنهج الذي يتوجّه دائماً إلى النهاية السعيدة في التوفيق بين القومي والديني وهو المنهج الذي اعتمده الدكتور عبدالعزيز الدوري، ومِن الباحثين مَن اعتمد المنهج الجغرافي التاريخي في استعراض العلاقة ما بين القومية والدين (العروبة والإسلام) وهو المنهج الذي اعتمده الأستاذ طارق البشري، ومنهم من اعتمد المنهج الإيديولوجي وهو المنهج الذي اعتمده الدكتور عبدالله عبدالدائم عندما أكّد على ضرورة الأخذ بالعلمنة حلاً للإشكال بين القومية والدين، والبعض الآخر، كالدكتور رضوان السيد، الذي أخذ بالمنهج العدمي، عندما دعا إلى إسقاط الوحدة السياسية من المشروع القومي العربي، وإلى إسقاط تطبيق الشريعة من المشروع الإسلامي، وإلى إسقاط العلمنة من المشروع القومي، كما أن البعض الآخر، كالشيخ محمد علي الجوزو، أخذ بمنهج الخطابة المنبرية عندما راح يدافع عن إسلام مصر وعروبتها لينتهي إلى التجريح بالمسيحية اللبنانية وسلخها عن عروبتها. على كل حال استطاعت معظم هذه المناهج، أن تقدّم لمسألة الحوار القومي الديني أفكاراً تبقى محلاً لتقديرنا واحترامنا، إلاّ أن مسألة المنهج ظلّت تؤرّقنا، ونحن نشهد ما نشهده على الساحة القومية الدينية من صراعات وفتن يخطّط لها أعداء القومية والدين بمنهجية علمية واعية.
أريد أن أقول إنّ المنهجية الجديدة التي أطمح إلى اعتمادها في إثارة الحوار القومي ــ الديني في هذه المرحلة بالذات هي "المنهجية الإستراتيجية" وهي منهجية أريد لها أن تُضاف، ولا أريد لها أن تُلغي، فالإشكالية التي تُحاصر اليوم ثنائية القومية والدين هي إشكالية إستراتيجية غربية، وهي لأنها كذلك، لا يمكن في ظنّي أن تواجه إلاّ بإستراتيجية قومية ــ دينية من طرف أمّتنا، سيما وأن هذا الحصار يمارس علينا بمنهجي إستراتيجية قومية ــ دينية مناوئة تتجسّد اليوم بالدولة الصهيونية في فلسطين المحتلة.
إننا لا نستطيع أن نرى في قيام دولة إسرائيل، باعتبارها دولة التطابق الممكن والوحيد بين القومي والديني في المنطقة، إلاَّ على أنها ظاهرة إستراتيجية غربية معادية هدفها تحقيق الأهداف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التالية:
1- منع أي تطابق استراتيجي بين القومي والديني في الوطن العربي، بل العمل على إحداث تنافر دائم بين القومي والديني، وحتى بين الديني والديني، والقومي والقومي، وتبقى الساحة اللبنانية في تجربة الحرب الأهلية أصدق نموذج في التعبير عن هذه الإستراتيجية الغربية المعادية.
2- السيطرة على الممرات المائية في المنطقة وميناء العقبة الذي تمت عليه السيطرة مع الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وقناة السويس التي استفادت منها إسرائيل بموجب اتفاقية كامب ديفيد، ثم حرب الخليج، ومؤخراً الأزمة العراقية الكويتية جعلت معظم الممرات المائية العربية والإسلامية في متناول القوى الغربية المعادية.
3- القضاء على كل أسباب التحرّر السياسي والاقتصادي والعسكري في الوطن العربي. إن الحشود العسكرية الغربية في الجزيرة العربية اليوم بدأت بالفعل، ومباشرة مع دول الغرب، في ممارسة هذه الإستراتيجية القهرية والابتزازية لكل إمكانات وطاقات الوطن العربي.
4- الاستيلاء على الثروات المعدنية وفي مقدّمها النفط وما جرى في المنطقة العربية حتى الآن واضح تمام الوضوح.
5- حرمان العالم الثالث، والوطن العربي في طليعته، من المعرفة التي توفر أسباب القوة والتقدم، وفي طليعتها التكنولوجيا الحديثة، باستثناء التكنولوجيا الاستهلاكية.
6- احتكار الغرب للثورات الأربع (التي أشار إليها الدكتور أحمد كمال أبو المجد) ـ ثورة الانتقال ـ ثورة الاتصال ـ ثورة المعلومات ـ وثورة الطاقة.
7- تحويل كل مكامن القوة الإستراتيجية التي هي للعالم، بما فيها مكامن القوة المادية والقيمية التي هي للوطن العربي، بل وللإسلام، إلى القبضة الأميركية التي حوّلت النظام العالمي، مع سقوط الشيوعية إلى نظام عالمي واحدي القطبية، بحيث تخطّط أميركا في هذا النظام إلى أن يكون الاقتصاد في العالم اقتصاداً أميركياً، والنفط نفطاً أميركياً، والحياة حياة أميركية، والمجتمعات المحلية في كل أنحاء العالم صورة عن المجتمع الأميركي، والقيم، كل القيم، بما فيها القيم القومية والإسلامية خاصة والدينية عامة، قيماً أميركية. وسوف تتحوّل الأديان إلى مجرد أنابيب نفط تمسك الأصابع الأميركية ـ الإسرائيلية بمفاتيحها، تماماً كما أصبحت اليوم تمسك بمفاتيح أنابيب النفط في دول النفط.
وإنه لمن الواضح أن إستراتيجية الغرب العدوانية هذه هي إستراتيجية ديناميكية متحرّكة عبَّر عن مبادئها خير تعبير السيد مورفي مساعد وزير الخارجية الأميركية، على ما ذكر الدكتور رضوان السيد في ورقته القيّمة، بقوله: "إن الشرق الأوسط مجتمع أعصاب العالم منذ القديم، كطريق مواصلات دولية مهمة، وحديثاً أضيف إلى ذلك، وجود الثروات الطبيعية الضخمة فيه الضرورية لتقدّم العالم. ودائماً كانت هناك قوة أو قوى كبرى يقع على عاتقها ضمان الأمن والاستقرار لمصلحة الجميع. ونحن الآن هذه القوة ولا نستطيع التهرّب من مسؤولياتنا".
وهناك عبارة إستراتيجية وردت في عبارة مورفي، على ما ذكر الدكتور رضوان السيد، تخص مسألة الحوار القومي الديني في منطقتنا فقد قال أيضاً:" إن منطقة الشرق الأوسط هي منطقة تغص منذ عشرات القرون بشعوب وإثنيات ودول وأديان ومذاهب متنافرة" وذلك يعني أن على أميركا أن تعاملها، بل أن تبقيها كذلك، بل أن تعزّز هذا التنافر القومي والديني معاً. ويبدو أن الأمن الأميركي، أو نظرية الأمن في النظام الدولي والذي يسير في طريق التشكُّل، سوف يعتبر إستراتيجية التنافر في الوطن العربي من شروط الأمن القومي لهذا النظام، وأن أيّ حركة وحدوية قومية أو دينية سوف تكون خطراً على الأمن القومي في النظام الدولي الجديد.
وماذا بعد،
إنني أحسب أن معرفة هذه الستراتيجية المعادية، التي تشكّل إسرائيل في تطابقها القومي والديني التام معيارها الأمثل، تُحتّم على مسار الحوار القومي ـ الديني في منطقتنا أن يصوغ لنا في ضوء هذه المعرفة إستراتيجية دفاعية مضادة تقوم على مواجهة التنافر بالتطابق التام. إنني أظن أن التطابق التام بين القومي والديني في إسرائيل لا يواجهه إلاّ التطابق التام بين القومي والديني في بلاد الطوق المحيط بإسرائيل بدايةً وعلى امتداد الوطن العربي كذلك، من هنا فإن البحث عن صيَغ التطابق بين الديني والديني (إسلام ومسيحية) والتطابق القومي القومي (قومي اجتماعي قومي عربي) وبين القومي والديني بشكل عام يبقى من أولويات الحوار والمواجهة أيضاً.
ولابُد من الإسراع إلى القول بإن هذا التطابق يبقى مستحيلاً وعقيماً على كل الصعد والمعالجات العقدية والتاريخية والجغرافية والخطابية، فقط يصبح ممكناً وضرورياً ومفيداً إذا حرصنا على إبقائه على الصعيد الإستراتيجي. ذلك يعني بالتحديد أن هناك قضايا مواجهة مشتركة بين كل القوميات وكل الأديان وكل أهل الأرض، يمكن تنظيم الصفوف وتوظيف القوى وإدارتها باتجاه الوحدة والتقدم في مواجهة التنافر والتخلف، ومن أمثلة هذه القضايا هي قضايا الإنسان المتصلة بحقوقه وكرامته وحقّه في العدالة والحرية والمساواة، وفي العلم والتقدم، وفي الإسهام في شرف الحياة وعمارة الكون.