ثورة 14 تموز في نهوضها وانتكاستها واغتيالها-حامد الحمداني
ثورة 14 تموز في نهوضها وانتكاستها واغتيالها
حامد الحمداني 6/11/2009
الانشقاق
أولاً:انشقاق القوى القومية والبعثية بقيادة عبد السلام عارف:
لم تكد تمر سوى أيام قليلة من عمر الثورة التي باركها الشعب بكل قواه السياسية الوطنية حتى ظهرت بوادر الانشقاق في صفوف الحركة الوطنية، فقد كانت خطب عبد السلام عارف وهو يطوف المدن العراقية، الواحدة بعد الأخرى، ويزور قطعات الجيش المتواجدة فيها تتناقض كلياً مع توجهات الثورة وأهدافها الآنية في إجراء التغييرات الضرورية في كافة المجالات السياسية، والاقتصادية والاجتماعية، ومن أجل تصفية مخلفات العهد السابق، وإجراءاته القمعية لحقوق الإنسان العراقي وحرياته. (1)
لقد سببت تلك الخطابات غير المسؤولة بلبلة كبرى في صفوف أبناء الشعب والقوات المسلحة من جهة، وإحراجاً لحكومة العراق أمام مختلف دول العالم، حتى وصل الأمر بوزير الخارجية عبد الجبار الجومرد أن أبدى انزعاجه مراراً وتكراراً مما يرد في خطابات عبد السلام عارف.(2)
لقد تبنت القوى القومية والبعثية عبد السلام عارف، ودعمته تحت شعار الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة، دون مراعاة اختلاف الظروف الاقتصادية، والسياسية بين البلدين ودون مراعاة التركيب القومي للمجتمع العراقي، رافضين إعطاء الفرصة لإحداث التغييرات اللازمة في الهياكل السياسة والاقتصادية، والاجتماعية في الوطن.
بدأت تلك القوى منذُ الأيام الأولى للثورة تسيّر التظاهرات المطالبة بالوحدة الفورية، دون أن تستخلص التجربة من وحدة سوريا مع مصر التي جرت بصورة مستعجلة، وأدت إلى ظهور تناقضات واسعة وعميقة بين البلدين، والتي انتهت بالانفصال فيما بعد.
لقد اتهمت تلك القوى بقية القوى السياسية الوطنية بالشعوبية، والقطرية وغيرها من الاتهامات المشينة، لأنها أرادت التريث في الأقدام على خطوة خطيرة كهذه بالنسبة لمصير الشعب والوطن، وإيجاد أفضل الوسائل والسبل الكفيلة بإقامة أوسع ارتباط مع الجمهورية العربية المتحدة في كافة المجالات السياسية، والاقتصادية، والثقافية، وصولاً إلى الوحدة فيما بعد، على أن تكون قائمة على أُسس ديمقراطية حقة، وبقرار الشعب نفسه، عبر انتخابات برلمانية حرة ونزيهة كيف ومتى يعلن الوحدة.
إن الوحدة العربية أملٌ كبيرٌ وعزيزٌ على كل عربي محب لأمته ووطنه، ومن الضروري الأعداد لها بمنتهى التبصر والحكمة، وعدم التسرع، لتجنب الأخطاء التي وقعت فيها الوحدة السورية المصرية.
لكن عبد السلام عارف والسائرين وراءهُ، ومحاولات التدخل من جانب السفارة المصرية لفرض الوحدة، أدت إلى تعمق الانشقاق في صفوف الحركة الوطنية.
لم يكتفٍ عبد السلام عارف بخطبه تلك بل سارع إلى إصدار صحيفة [صوت الجماهير] باسمه وترأس تحريرها الدكتور[سعدون حمادي] أحد قياديي حزب البعث، مخالفاً بذلك قانون الصحافة، ومتجاوزاً كونه الشخص الثاني في حكومة الثورة، وقد استخدم تلك الصحيفة لإشاعة مفاهيم غير متفق عليها فيما يخص قيام الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة، ولعبت تلك الصحيفة دوراً كبيراً في شق الصف الوطني منذُ الأيام الأولى للثورة. (3)
لقد حذر الزعيم عبد الكريم قاسم رفيقه في الثورة عبد السلام عارف من مخاطر تلك التصرفات وأثارها السلبية على مصير الثورة والشعب، وأضطر عبد السلام عارف تحت ضغط عبد الكريم قاسم إلى التنازل عن ملكية الصحيفة تلك، لكنه سلمها لحزب البعث، لكي تستمر على سياستها الهادفة إلى شق وحدة الشعب وقواه السياسية المنضوية تحت راية جبهة الاتحاد الوطني، وخيمة ثورة 14 تموز المجيدة.(4)
وبعد عشرة أيام من قيام الثورة زارالعراق [ميشيل عفلق] مؤسس حزب البعث، والتقى برفاقه في حزب البعث، مشدداً عليهم ضرورة العمل الجدي من أجل قيام الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة. (5)
وفي 19 تموز سافر وفد عراقي برئاسة عبد السلام عارف، وعضوية عدد من الوزراء، والتقى الوفد بالرئيس [جمال عبد الناصر] وجرت مباحثات بين الطرفين انتهت بالتوقيع على اتفاقية للتعاون تضمنت النقاط التالية:
1ـ التأكيد على الروابط بين البلدين، وعلى المواثيق، والعهود كميثاق الجامعة العربية، وميثاق الدفاع المشترك بين الدول العربية.
2ـ التأكيد على تنسيق المواقف بين البلدين فيما يخص الموقف الدولي وتصميم الطرفين على التعاون والتنسيق ضد أي عدوان محتمل.
3ـ التعاون بين الطرفين في مجال العلاقات الدولية، والالتزام بميثاق الأمم المتحدة ودعم السلم العالمي.
4ـ التشاور والتعاون بين البلدين في كل ما يخص الشؤون المشتركة.(6)
وخلال تواجد الوفد العراقي في دمشق أجتمع عبد السلام عارف مع الرئيس عبد الناصر بصورة منفردة، حيث دار بين الجانبين نقاش حول محاولة إقامة الوحدة الفورية بين البلدين، وعاد الوفد إلى العراق، وعاد
عبد السلام عارف يصعّد من حملته الرامية إلى الوحدة الفورية، ومُحدثاً شرخاً كبيراً في صفوف الثورة، والحركة الوطنية للشعب العراقي. (7)
واستغلت الإمبريالية وعملائها من الإقطاعيين والرجعيين الذين تضررت مصالحهم من قيام ثورة 14 تموز تلك الأوضاع، فلقد وجدت الإمبريالية ضالتها المنشودة في تمزيق وحدة الشعب وقواه السياسية، وبدأت تصب الزيت على النار، مستغلة الشعارات التي رفعتها تلك القوى،لا حباً بالوحدة ولا رغبة فيها، وهي التي سعت دوماً إلى تمزيق الصف العربي، بل لتمزيق وحدة الشعب العراقي، وقواه الوطنية المنضوية تحت راية الثورة، لكي يسهل عليها تمرير مؤامراتها الهادفة إلى إسقاط الثورة، وتصفية كل منجزاتها.
كان على الطرف الآخر من المعادلة، وأعني به كل القوى الديمقراطية والشيوعية، التصدي لذلك الشعار غير المدروس، والذي رُفع في غير أوانه، حيث بادرت تلك القوى إلى رفع شعار[الاتحاد الفدرالي] مع الجمهورية العربية المتحدة، مع السعي لرفع تلك العلاقة إلى مستوى الوحدة الكاملة عندما تتوفر الشروط الموضوعية لها في المستقبل.
ثانياً:الوحدة الفورية والاتحاد الفدرالي وموقف السلطة:
بدأ الصراع يتصاعد في الشارع العراقي، مظاهرات بعثية وقومية تهتف بالوحدة]، وأخرى شيوعية، وديمقراطية تهتف بالاتحاد الفدرالي و [الديمقراطية]، وأخذ الصراع يتصاعد في الشارع العراقي، ويزداد تعمقاً يوماً بعد يوم، ويتحول شيئا فشيئاً نحو العداء السياسي، والخصومة الدموية بين البعثيين والقوميين من جهة، وبين الشيوعيين والديمقراطيين من جهة أخرى، وجرت احتكاكات بين المتظاهرين من كلا الجانبين، وتوسعت تلك الاحتكاكات لتصبح حالة من الصدام الشرس بين الطرفين حلفاء الأمس.
وللحقيقة والتاريخ أقول أن الشيوعيين والديمقراطيين بذلوا أقصى الجهود من أجل إعادة اللحمة لجبهة الاتحاد الوطني، والسير معاً لتحقيق آمال وأحلام الشعب العراقي الذي قاسى عقوداً من الزمن من ذلك النظام القمعي، الذي أمتهن حقوق الشعب وحرياته، والذي بدد ثروات البلاد في أمور لا تخدم مصالح الشعب، مما أبقاه في تخلف وجهل، وفقر مدقع.
كان الشعب العراقي يخوض خلال تلك الحقبة نضالاً متواصلاً من أجل حريته، وامتلاك ناصية أمره، لكن كل تلك الجهود التي بذلت في هذا السبيل ذهبت أدراج الرياح، فقد كان الطرف المنشق قد عقد العزم على السير حتى النهاية في هذا الطريق الخاطئ.
وهكذا تنافر القطبان اللذان كانا بالأمس القريب يعملان يداً بيد من أجل انتصار الثورة ونجاحها، وتحقيق الأهداف التي ناضل شعبنا من أجلها. ومما زاد في الطين بله دخول الجمهورية العربية المتحدة حلبة الصراع واضعةً كل ثقلها السياسي إلي جانب تلك القوى، ضاربةً عرض الحائط أهم ركن من أركان حركة التحرر العربي، ولم يكن الرئيس عبد الناصر يدري آنذاك أن أولئك الذين رفعوا تلك الشعارات لم يكونوا جادين في أقوالهم، بل أرادوا أن يكون التصاقهم به سلماً يصعدون بواسطته إلى قمة السلطة لا غير.(8)
قد أثبتت الأحداث، بعد اغتيال ثورة 14 تموز،على أيدي نفس تلك الرموز في انقلاب 8 شباط الأسود عام 1963 عدم صدقيتهم وإيمانهم بالوحدة، فلم يكد البعثيون يغتصبون السلطة أثر نجاح انقلابهم المشؤوم في الثامن من شباط 1963، حتى تنكروا لكل شعاراتهم، واستطابوا السلطة، واضعين تلك الشعارات على الرف.
وحتى عبد السلام عارف، الذي أطاح بحكم البعث في انقلاب 18 تشرين الأول من نفس العام 1963، وأستحوذ على السلطة بصورة كاملة، فقد تنكر لكل أقواله وشعاراته حول الوحدة، وحبه لعبد الناصر، تلك هي الحقيقة التي لا مراء فيها، فقد كانوا غير وحدويين إطلاقاً، وإنما استخدموا رصيد الرئيس عبد الناصر السياسي والوطني من أجل وثوبهم على السلطة.
هكذا إذاً تعمقت الخلافات بين القوى السياسية، وأشتد التنافر بين القطبين الذين قادا ثورة الرابع عشر من تموز[عبد الكريم قاسم] و[عبد السلام عارف]، وحدث شرخ كبير بين تلك القوى التي سعت قبل الثورة لأحداث التغيير المنشود، أمل الشعب الذي ناضل وضحى من أجله عدة عقود، ولم تفد جميع المحاولات لرأب الصدع، ورجوع عبد السلام والأحزاب القومية وحزب البعث عن سلوك التآمر على الثورة وقيادتها.
لقد وقفت القوى الديمقراطية والشيوعية بكل ثقلها إلى جانب الزعيم عبد الكريم قاسم من أجل الحفاظ على الثورة ومكاسبها، ومن جانبه أعلن عبد الكريم قاسم في رده على أولئك الذين رفعوا شعار الوحدة الفورية، وسيروا المظاهرات في بغداد والمدن الأخرى، ولم يكونوا صادقين في شعاراتهم كما اثبت الواقع، فقد تحدث قاسم في 27 تموز قائلاً:
{ ليست الوحدة شيئاً يقرره إنسان بمفرده، بل يجب أن تقرره الشعوب العربية نفسها}. (9)
وفي خضم ذلك الصراع ظهر شعار[الزعيم الأوحد]، ذلك الشعار الذي كانت له جوانب سلبية على مجمل الحركة الوطنية، وعلى مستقبل العراق السياسي، حيث شجع عبد الكريم قاسم، وقد استهواه ذلك الشعار، على الاتجاه نحو الحكم الفردي بعيداً عن أمال الشعب في قيام حكم ديمقراطي، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة للمجلس التأسيسي، وسن دستور دائم للبلاد، وإطلاق الحريات العامة، حرية التنظيم الحزبي والنقابي، وتأسيس المنظمات الجماهيرية والمهنية، وتداول السلطة بشكل ديمقراطي سليم.
وكان الحزب الشيوعي قد انجّر هو وجماهيره وراء ذلك الشعار من أجل تغليب كفة عبد الكريم قاسم، والحيلولة دون اغتيال الثورة، وآمال الشعب التي عقدها عليها، وكان لذلك الموقف جانبه السلبي الخطير كما سنرى على مجمل مسيرة الثورة، حيث أخذ عبد الكريم قاسم يتحول شيئًا فشيئاً نحو الحكم الفردي، والاستئثار بالسلطة، وتحجيم بل وضرب تلك القوى التي كان لها الدور الفاعل والرئيسي في رجحان كفته في ذلك الصراع مع القوى البعثية والقومية، وإتباعه لسياسة التوازن بين القوى المدافعة عن الثورة والمتآمرة عليها، وإطلاق يد الجهاز القمعي الذي أنشأه النظام السابق ضد الشيوعيين، والديمقراطيين، مما أدى إلى انعزاله عن الشعب وقواه الوطنية، وسهل على الإمبرياليين إنجاح مؤامراتهم الدنيئة يوم الثامن من شباط عام19.
ثالثاً:عبد السلام عارف يحاول اغتيال عبد الكريم قاسم
1ـ إعفاء عبد السلام عارف من منصب نائب القائد العام للقوات المسلحة
أستمر عبد السلام عارف بإثارة الانشقاق في صفوف الحركة الوطنية وتعميقه، مهاجماً القوى السياسية الرافضة لشعار الوحدة الفورية، وكانت خطاباته السياسية في أنحاء البلاد قد أثارت قلق الزعيم عبد الكريم قاسم وسائر القوى الديمقراطية، فلم تكن تلك الخطابات تنم عن نضوج سياسي، ولا إدراك للمسؤولية، معرضاً الثورة لخطر جسيم.
ورغم كل النصائح التي وجهها له عبد الكريم قاسم وزملاءه في اللجنة العليا للضباط الأحرار، ومجلس الوزراء من مغبة الاستمرار على هذا النهج، وما يسببه من أضرار على مجمل الحركة الوطنية، ومستقبل العراق وشعبه.
لكن عبد السلام عارف كان قد عقد العزم على السير في طريقه الخاطئ ضارباً عرض الحائط بكل تلك النصائح، موصلاً البلاد إلى حافة الحرب الأهلية، وتعريض الثورة للضياع.
ولما لم يجد عبد الكريم قاسم سبيلاً آخر لوقفه عن نهجه، ومحاولته إثارة الجيش، من خلال خطاباته المتواصلة بين القطعات العسكرية، فقرر إبعاده عن الجيش، وإعفاءه من منصب نائب القائد العام للقوات المسلحة. (10)
ففي 28 آب 1958 صدر مرسوم جمهوري وأُذيع من دار الإذاعة يقضي بإعفاء عبد السلام عارف من منصب نائب القائد العام للقوات المسلحة، مع بقائه بمنصبه الثاني كوزير للداخلية، وكان المرسوم قد أصبح ضرورياً، من أجل منع انقسام الجيش، وتهديد الثورة، ومصالح الشعب والوطن، والحد من اتصالاته بقطعات الجيش، وإلقاء الخطب النارية الداعية للوحدة الفورية!!.
لقد حاول عبد الكريم قاسم بذل أقصى جهده لإعادته إلى خط الثورة، اعترافاً منه بدوره في قيادة وتنفيذ الثورة، والحفاظ على العلاقة الوطنية التي جمعته به.
غير أن عبد السلام أزداد اندفاعاً وتهوراً، وأزداد دعم القوى البعثية والقومية له في مواقفه من خلال المظاهرات التي قاموا بها، والتي قابلتها القوى الديمقراطية بمظاهرات كبرى مضادة، رافعين شعار الاتحاد الفدرالي، و داعمة موقف عبد الكريم قاسم، الذي خرج ذلك اليوم ثلاث مرات ألقى خلالها خطابات سياسية أمام المتظاهرين المؤيدين له، والذين قُدّر عددهم بمئات الألوف، وقد بدا الوضع معقداً بصورة خطيرة، ينذر بوقوع أحداث جسيمة، فكان لابد والحالة هذه من اتخاذ إجراءات أكثر صرامة ضد عبد السلام عارف.
2 ـ إعفاء عبد السلام من منصب وزير الداخلية،وتعينه سفيراً في بون: وهكذا أقدم عبد الكريم قاسم على خطوته الجريئة والحاسمة، فقد صدر مرسوم جمهوري وأذيع مساء يوم 30 أيلول 1958 يقضي بإعفاء عبد السلام عارف من منصب وزير الداخلية، وتعينه سفيراً في ألمانيا الغربية آنذاك. (11)
كما أجرى تعديلاً وزارياً شمل إعفاء [ فؤاد الكابي]ـ أمين سر حزب البعث ـ من وزارة الأعمار، وتعينه وزيراً بلا وزارة، كما أعفى الدكتور[جابر عمر] وزير المعارف، وأُنيطت الوزارتان المعارف والاعمار بالوزيرين [محمد حديد] و[هديب الحاج حمود]، إضافة إلى منصبيهما وهما من الحزب الوطني الديمقراطي، كما جرى تعيين الزعيم الركن [أحمد محمد يحيى ] وزيراً للداخلية.
رفض عبد السلام عارف الرضوخ لقرار الإعفاء، وقبول تعينه سفيراً، وأعتكف في بيته بالأعظمية رافضاً السفر.
وفي 2 تشرين الأول زاره في بيته الزعيم الركن[ ناجي طالب] والزعيم [فؤاد عارف] والدكتور[جابر عمر]، وأبدوا عدم رضاهم لما حصل ووعدوه بالعمل على إعادته، وقد شكر لهم عارف موقفهم، مؤكداً لهم أن الحاجة تدعو إلى أكثر من ثورة. (12)
وفي صباح اليوم التالي وصل إلى عبد الكريم قاسم تقريرُ عن ذلك اللقاء فما كان منه إلا أن أمر بإعادة الفوج الثالث من اللواء العشرين، الذي كان يقوده عبد السلام عارف، إلى مقره السابق في جلولاء، وأصدر قراراً بنقل العقيد الركن [عبد اللطيف الدراجي ] الذي سبق أن عين آمراً للواء العشرين بعد نجاح الثورة، إلى آمرية الكلية العسكرية، كأجراء احترازي من قبل عبد الكريم قاسم، من حدوث ما لا يحمد عقباه.
3 ـ عبد السلام عارف يحاول اغتيال عبد الكريم قاسم :
في 11 تشرين الأول عُقد اجتماع بمقر عبد الكريم قاسم بوزارة الدفاع حضره كافة قادة الفرق العسكرية، ورئيس أركان الجيش [أحمد صالح العبدي] والزعيم [عبد الكريم الجدة ] آمر الانضباط العسكري، والعقيد [وصفي طاهر] المرافق الأقدم لقاسم، والزعيم الركن [ناجي طالب] وزير الشؤون الاجتماعية، والزعيم [فؤاد عارف]، وكان إشراك الثلاثة الأخيرين بسبب صداقتهم مع عارف، وجئ بعارف إلى هناك، حيث جرى نقاش طويل معه دام أكثر من خمس ساعات دون جدوى، غادر بعدها الجميع، ما عدا عبد السلام عارف، وفوأد عارف وصفي طاهر.
وبينما كان عبد الكريم قاسم يتناول بعض الأوراق من فوق المنضدة، فاجأه عبد السلام عارف بإخراج المسدس من جيبه، و محاولاً اغتياله، وبحركة خاطفة مسك عبد الكريم قاسم ذراع عبد السلام عارف مبعداً المسدس وصارخاً به: ماذا تفعل؟ أتريد قتلي؟
وبنفس اللحظة هجم فؤاد عارف نحو عبد السلام عارف، وأخذ منه المسدس وأفرغ منه الرصاص. (13)
وفي تلك اللحظة دخل العقيد وصفي طاهر، المرافق الأقدم لعبد الكريم قاسم وأمسك بعارف، الذي بدا عليه الانهيار والخور، فقد أصبح في موقف لا يحسد عليه، وادعى أنه كان ينوي الانتحار، وقد أجابه عبد الكريم قاسم على الفور:
{إذا كنت تنوي الانتحار فلماذا لم تنتحر في بيتك؟}. (14)
وعلى الرغم من كل ما حدث، وبعد أن هدأ الموقف، ألتفت قاسم إلى عارف ناصحاً إياه قائلاً:
{سوف أعفو وعنك، ولكن عليك بالسفر إلى بون، من أجل مصلحة البلاد، لقد شقيت الشعب إلى نصفين، وأنا أُريد إبعادك عن رجال السوء، وسوف تعود حتماً بعد أن يهدأ الوضع، ويعود الوضع لحالته الطبيعية}. لكن عارف ظل معانداً رغم كل النصائح .(15)
وفي ساعة متأخرة من الليل أنفرد قاسم بعارف، وأبلغه بأن عليه أن يرحل غداً، وهذا قرار لا رجعة فيه، بعد أن شقت تصرفاته الشعب العراقي مما ينذر بحرب أهلية، وانقسام الجيش، وأن مستلزمات السفر قد هُيأت له، وقد وعده بالعودة بعد أن تهدأ الأمور.
4 ـ سفر عبد السلام عارف:
رضخ عارف للأمر أخيراً، وقرر السفر يوم 12 تشرين الأول، وغادر بغداد بصحبة السفير العراقي السابق في بون السفير[علي حيدر سليمان]، وجرت له مراسيم توديع شارك فيها قاسم نفسه، وعدد من كبار الضباط واتخُذت الإجراءات الأمنية المشددة في بغداد، وتقدمت سيارة عارف حتى الطائرة، وعانقه عبد الكريم قاسم قبل أن يصعد عارف إلى الطائرة.
توجه عارف برفقة السفير[علي حيد سليمان] إلى بروكسل، حيث زارا معرضها الدولي، ثم غادراها إلى روما، ومنها إلى فييّنا، وقد قدمت السفارات العراقية في تلك البلدان كل ما يلزم لاستقباله، والاهتمام به.
لكن عبد السلام عارف لم تك له أية رغبة في تسلم مهام منصبه كسفير في ألمانيا الغربية آنذاك، ورفض الدروس التي كُلف السفير علي حيدر سليمان إعطاءها له حول العمل الدبلوماسي قائلا له بالحرف الواحد:
{لا تتعب نفسك فأنا لست سفيراً، ولن أكون كذلك}. (16)
لم يستقر عبد السلام عارف في عمله كسفي، ولم يحاول حتى ممارسة مهامه، بل كان يخطط للعودة إلى بغداد بالتنسيق مع زمرته من الضباط الذين كانوا يخططون للقيام بانقلاب عسكري، واغتيال ثورة الرابع عشر من تموز، واغتصاب السلطة، والتخطيط للقيام بمجزرة ضد الشيوعيين، وسائر القوى الديمقراطية التي وقفت إلى جانب عبد الكريم قاسم.
في 30 تشرين الأول، أبرق عارف لعبد الكريم قاسم يطلب منه العودة إلى بغداد، وقد أبلغه عبد الكريم قاسم برفض الطلب، ودعاه إلى عدم الإقدام على هذه الخطوة رحمة بالعراق وشعبه وثورته، إلا أن عارف كان قد صمم على العودة، وقام بشراء بطاقة السفر بنفسه، حيث غادر النمسا ليلة 3 /4 تشرين الثاني، خلافاً للأمر، وتوجه إلى بغداد.(17)
أبرقت السفارة العراقية في فينّا إلى وزارة الخارجية تبلغها بعودته، ووصل عبد السلام عارف بالفعل يوم 4 تشرين الثاني، وأستأجر سيارة أجرة من المطار، وتوجه إلى داره محاطاً برجال الأمن، واستدعاه عبد الكريم قاسم بمقره في وزارة الدفاع، وحدثت أثناء المقابلة مشادة كلامية بينهما، بحضور الزعيم [عبد الكريم الجدة] آمر الانضباط العسكري.
ومع ذلك عاد عبد الكريم قاسم وخيره بأي سفارة يختارها محاولاً إقناعه، ولكن جميع المحاولات ذهبت أدراج الرياح، وعند ذلك أضطر عبد الكريم قاسم إلى الطلب من عبد الكريم الجدة اعتقاله، ونقله إلى آمرية الانضباط العسكري.
رابعاً: اعتقال عبد السلام، وإحالته إلى المحاكمة، والحكم بإعدامه:
في مساء ذلك اليوم 4 تشرين الثاني، وفي تمام الساعة العاشرة مساءاً أذاعت محطتا الإذاعة والتلفزيون بياناً من القائد العام للقوات المسلحة هذا نصه:
{عاد العقيد المتقاعد عبد السلام عارف، سفير العراق في بون، إلى بغداد دون أمرٍ أو إجازة، وبناءاً على مقتضيات المصلحة العامة، وبسبب من محاولاته المتكررة للإخلال بالأمن، والراحة العامة، فقد تمّ اعتقاله في هذا اليوم، وسيحال إلى المحاكمة بتهمة التآمر على سلامة الوطن. (18)
وفي ذلك اليوم أُعلن عن اكتشاف مؤامرة كان من المقرر تنفيذها يوم 5 تشرين الثاني يشترك فيها كل من العقيد [رفعت الحاج سري] مدير الاستخبارات العسكرية والعقيد [ صبحي عبد الحميد] والرائد [جاسم العزاوي] والمقدم[محمد مجيد] والرائد [ عبد الستار عبد اللطيف] والعقيد[صالح مهدي عماش] والعقيد [أحمد حسن البكر]، وعدد من الضباط الموالين لعبد السلام عارف، تهدف إلى تصفية عبد الكريم قاسم، ووصفي طاهر، وقد جرى اعتقالهم}. لكن عبد الكريم قاسم أطلق سراحهم فيما بعد!!. (19)
أما عبد السلام عارف فقد تمت إحالته إلى المحكمة العليا الخاصة [محكمة الشعب] في 9 كانون الأول 1958 وفق المادة 80 من قانون العقوبات البغدادي، وقد أنكر عبد السلام وجود مثل تلك المؤامرة في محاكمته أمام محكمة الشعب، غير أن توقيت عودته في ذلك اليوم [ 4 تشرين الثاني] أثار الكثير من الشكوك حول تلك المحاولة الانقلابية، وعلاقة عبد السلام عارف بها.
وجهت المحكمة إلى عبد السلام عارف خلال محاكمته تهمة تنظيم وترأس جماعة من الضباط الناقمين، والذين كانوا على رأس عدد من الوحدات العسكرية، من أجل تدبير انقلاب عسكري ليلة 4/5 تشرين الثاني 1958، وهي تهمة تنطبق والمادة 80 من قانون العقوبات البغدادي، وعقوبتها الإعدام.
كما وجهت له المحكمة تهمة محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم في مقره بوزارة الدفاع، وقد نفى عارف عنه التهمتان، مدعياً أنه من أخلص الناس لعبد الكريم قاسم، وأنه لا يمكن أن يفكر بالأقدام على مثل تلك الخطوة.
لقد جرت محاكمته حسب الأصول القانونية، وأُستدعي للشهادة عدد من كبار الضباط، وكان من بينهم الزعيم فؤاد عارف الذي كان شاهداً على محاولة الاغتيال.
وفي 5 شباط أصدرت المحكمة قرارها بتجريم عبد السلام عارف والحكم عليه بموجب التهمة الثانية بالإعدام، بعد أن برأته من التهمة الأولى لعدم ثبوت الأدلة. كما أوصت المحكمة الزعيم عبد الكريم قاسم بوصفه القائد العام للقوات المسلحة بتخفيف العقوبة، بموجب الصلاحية المخولة له، كما نص عليه قانون تشكيل المحكمة. (20)
ومع كل ذلك فأن حكم الإعدام لم ينفذ بعارف، ولكنه مكث في السجن حتى أيلول 1961، حيث أطلق عبد الكريم قاسم سراحه من السجن، بعد وقوع الانفصال بين سوريا ومصر، كما أعاد له كافة حقوقه التقاعدية وأكرمه، وأرسله إلى مكة لأداء فريضة الحج، ظناً منه ـ أي عبد الكريم قاسم ـ أن سياسة التسامح والعفو عن من حاول مراراً وتكراراً الغدر به وبالثورة قد تعيده إلى رشده وصفائه.
لكن التاريخ أثبت عكس ذلك تماماً، حيث أستمر عارف بالتآمر على الثورة وقيادتها حتى تسنى له ذلك، بالتعاون مع حزب البعث، من اغتيال الثورة وقائدها عبد الكريم قاسم يوم الثامن من شباط عام 1963، حيث وقع عبد الكريم قاسم أسيراً بيد عبد السلام عارف وشركائه البعثيين، وناله من حقدهم ما ناله من الإهانات، وتم إعدامه على أيديهم، ولم يفد تذكير عبد الكريم قاسم لرفيقه عبد السلام عارف بأنه كان قد عفا عنه، وأنقذه من حكم الإعدام.
خامساً: مؤامرة رشيد عالي الكيلاني:
رشيد عالي الكيلاني، رئيس وزراء، ووزير مخضرم في العهد الملكي، حيث شغل العديد من المناصب الوزارية، ولعب دوراً كبيراً في إسقاط العديد من الوزارات، والإتيان بغيرها، مستغلاً العشائرية والطائفية، قاد عام 1941، انقلاباً ضد حكومة[ياسين الهاشمي] بمعاونة قادة الجيش، العقداء الأربعة[صلاح الدين الصباغ] و[كامل شبيب] و[محمود سلمان] و[فهمي سعيد] وشكل وزارة برئاسته، وعلى اثر ذلك هرب الوصي عبد الإله إلى القاعدة البريطانية في الشعيبة.
لكن القوات البريطانية احتلت بغداد وأعادت الوصي عبد الإله إلى العرش من جديد، وهرب الكيلاني إلى خارج العراق، حيث تمكن من الوصول إلى ألمانيا، وبقي فيها إلى ما قبل سقوط برلين، حيث هرب إلى سويسرا، ومنها إلى السعودية، وأخيراً أستقر به المقام في مصر.
وعندما قامت ثورة 14 تموز عام 1958، أصدرت حكومة الثورة قراراً بالعفو عنه، حيث كان قد حكم عليه بالإعدام، واعتبرت حركة أيار 1941 حركة وطنية، وأُعيد الاعتبار إلى قادتها، وعليه فقد عاد رشيد عالي الكيلاني إلى العراق في الأول من أيلول 1958، بعد غياب دام 17 سنة مكرماً معززاً كأحد أبطال حركة أيار 1941، وقبل عودته قابل الرئيس عبد الناصر، وصرح بعد المقابلة، أنه يشعر بوجوب إقامة الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة.
قام عبد السلام عارف بزيارته في بيته، كما أستقبله عبد الكريم قاسم في مقره بوزارة الدفاع مرحباً به، بوصفه قائداً لحركة أيار 1941، لكن الكيلاني سرعان ما عاد إلى عادته القديمة ليشبع رغباته، وشهوته للحكم، ولم يمضِ على عودته سوي أيام قلائل حتى أصبح داره ملتقى لأصدقائه وأعوانه من الإقطاعيين والعديد من القوميين، وكان في مقدمتهم أبن أخيه [مبدر الكيلاني] والمحامي [عبد الرحيم الراوي] و[عبد الرضا سكر]، كما كان على علاقة وثيقة بسفارة الجمهورية العربية المتحدة.
فُوجئ الشعب العراقي في 8 كانون الثاني 1959 بإذاعة بيان من دار الإذاعة صادر من القائد العام للقوات المسلحة [عبد الكريم قاسم ] جاء فيه:
{ أيها الشعب العراقي العظيم بعون الله القدير، وبيقظة الشعب، تمّ اكتشاف مؤامرة خطيرة كان مقرراً لها أن تنفذ ليلة 8/9 لتعرض وحدة جمهوريتنا إلى الخطر، وتشيع الفوضى والاضطراب في البلاد، وتهدد الأمن الداخلي،هذه المؤامرة هي من تدبير بعض العناصر الفاسدة أُعدت بمساعدة الأجنبي من خارج البلاد، وإن الأدلة والأموال، والأسلحة التي كانت ستستخدم لتنفيذ هذه المؤامرة قد تم وضع اليد عليها. كما أن الضالعين والمدبرين لها قد أُحيلوا إلى المحكمة العسكرية العليا الخاصة [محكمة الشعب] لمحاكمتهم بتهمة الخيانة والتآمر على الوطن إننا ندعو الشعب إلى مزيد من اليقظة والحذر، من أجل المحافظة على النظام وإحباط الأعمال الدنيئة للعناصر المخربة في جمهوريتنا الخالدة}(21)
كما قام تلفزيون بغداد بعرض جانب من الأسلحة والأموال التي تم ضبطها مع المتآمرين، ولم يوضح البيان بادئ الأمر طبيعة المؤامرة، ولا أسماء القائمين بها، ولا الدولة التي كانت وراءها، غير أن الراديو ذكر في اليوم التالي أن الرجعية التي تضررت مصالحها سبب قانون الإصلاح الزراعي والشعارات القومية المزيفة كانت وراء تلك المؤامرة، وبعد أسابيع من صدور البيان، تبين أن رشيد عالي الكيلاني كان على رأس تلك المؤامرة التي ضمت زمرة من الإقطاعيين، وعدد من الضباط المحسوبين على الجناح القومي، وكان من بين تلك الزمرة أبن أخيه [مبدر الكيلاني]، والمحامي[ عبد الرحيم الراوي] و[عبد الرضا سكر] بالإضافة إلى عدد من شيوخ العشائر، وعدد من الضباط، كان من بينهم [طاهر يحيى] مدير الشرطة العام و[عبد اللطيف الدراجي] معاون رئيس أركان الجيش، و[رفعت الحاج سري] رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية، و[عبد العزيز العقيلي] قائد الفرقة الأولى في الديوانية، و[عبد الغني الراوي] أمر اللواء الخامس عشر في البصرة وغيرهم من الضباط.
كما تبين للمحكمة أن رشيد عالي الكيلاني كان على اتصال وثيق بسفارة الجمهورية العربية المتحدة، وبشكل خاص مع رجال المخابرات، الملحقين العسكريين[عبد المجيد فريد] و[طلعت مرعي] و [محمد كبول]، وقد أعلنت الولايات المتحدة أنها تمتلك أدلة قاطعة على وقوف عبد الناصر وراء محاولة رشيد عالي الكيلاني الانقلابية، وأن السفير البريطاني مايكل رايت قد قابل عبد الكريم قاسم الساعة الثانية ليلاً قبيل تنفيذ المحاولة الانقلابية، وابلغه بأن هناك محاولة انقلابية يقودها الكيلاني، وتقف وراءها الجمهورية العربية المتحدة، وأن هناك سلاحاً وأموالاً قد وُضعت تحت تصرف للانقلابيين. (22)
كان المقرر أن تقوم الحركة الانقلابية بتدبير الفوضى والاضطراب، وذلك عن طريق قطع خطوط الهاتف، وإخراج القطارات عن سكتها، واعتراض البريد، ووضع العوارض في الطرقات، وركز الكيلاني جهود حركته في مناطق العشائر في جنوب العراق، والفرات الأوسط، وعندما يتم لهم إثارة القلاقل والاضطرابات والبلبلة، يتقدمون بطلب استقالة عبد الكريم قاسم، مدعين أنه قد أوصل البلاد إلى الخراب والانقسام، وإذا رفض قاسم الاستقالة يتحرك الضباط المشاركون في المحاولة لإسقاطه بالقوة، وتشكيل حكومة جديدة برئاسة الكيلاني، ويعلن نفسه حاكماً عسكرياً عاماً وقائماً بمهام رئيس الجمهورية.
كما كان مقرراً تأليف مجلس لقيادة الثورة مؤلفاً من 15 عضواً، وتقرر أيضاً فور نجاح المؤامرة تأليف وزارة جديدة، وإعلان انضمام العراق للجمهورية العربية المتحدة، كما خطط المتآمرون لإلغاء قانون الإصلاح الزراعي، والقيام بحملة لإبادة الشيوعيين وأنصارهم.
لقد هيأ الانقلابيون الأسلحة المهربة من العربية المتحدة ـ القطر السوري لكي توزع على مناصريهم حال بدء الحركة، كما أُعدت الطائرات العسكرية في سوريا لإسقاط التجهيزات العسكرية في أي منطقة من العراق يكون المتآمرون بحاجة إليها.
كما تلقى الكيلاني الأموال من السفارة المصرية لتوزيعها على شيوخ العشائر، عن طريق المصرف الوطني للتجارة والصناعة. (23)
عين المتآمرون ليلة 8/9 كانون الأول 958 للشروع بالمؤامرة، ولكن المخابرات العراقية استطاعت كشف المؤامرة قبل وقوعها، حيث تمكنت من الوصول إلى عبد الرحيم الراوي ومبدر الكيلاني، واستطاعت نيل ثقتهما، وتمكنت من الوصول إلى كثير من أسرارها، وتسجيل أحاديث المتآمرين بكل تفاصيل المؤامرة.(24)
كان على رأس مجموعة أعضاء الاستخبارات التي كشفت المؤامرة الرئيس [حسون الزهيري]، وضمت كل من الملازم الأول [أحمد العلي] و المحامي [عبد الرسول الصراف] و[ جاكوب بلاكن ] والملازم احتياط [محمد محسن سميسم ]، حيث أجتمع هؤلاء وكونوا جمعية سرية وهمية باسم [ جمعية الإخاء العربي] لغرض تغيير الوضع في العراق بالقوة، و تمكن أعضاء المخابرات المذكورون من الاتصال بـ [فارس الحسن]، أحد المتآمرين عن طريق [جاكوب بلاكن] عارضين التعاون لقلب حكومة عبد الكريم قاسم، وقد استطاعوا كسب ثقة [فارس الحسن]، الذي أباح لهم الكثير من تفاصيل المؤامرة وأهدافها ومدبريها، كما استطاعوا عقد اجتماع مع المحامي [عبد الرحيم الراوي ]، واستطاعوا تسجيل محضر الاجتماع وتم فيما بعد اعتقال المتآمرين، وضبط السلاح والنقود، وفي أثناء المحاكمة أعترف [ناصر الحسن] بتفاصيل المؤامرة. (25)
مثُل رشيد عالي الكيلاني، ومبدر الكيلاني، وعبد الرحيم الراوي أمام المحكمة العسكرية العليا الخاصة ـ محكمة الشعب ـ حيث جرت محاكمتهم ليلة 9/10 كانون الأول، وصدر الحكم على مبدر الكيلاني، وعبد الرحيم الراوي، بالإعدام، ولم يثبت الاتهام ضد رشيد عالي الكيلاني، وتمت تبرئته من تهمة الاشتراك في المؤامرة.
غير أن المحكمة استدعته مرة أخرى يوم 15 كانون الأول بتهمة جديدة، هي تحريض دولة أجنبية على القيام بأعمال عدوانية ضد العراق، بعد أن تقدم كل من [مبدر الكيلاني] و[عبد الرحيم الراوي] برسالة إلى رئيس المحكمة طالبين الحضور إلى المحكمة لتقديم إفادة جديدة عن دور[رشيد عالي الكيلاني] في المؤامرة، وقد استجابت المحكمة إلى طلبهما واستدعتهما للتحقيق مرة أُخرى، حيث تحدثا أمام الهيئة التحقيقية بالتفصيل عن دور[رشيد عالي الكيلاني]، وهكذا أصبح الاثنان شاهدا إثبات في قضية جديدة.
كما استقدمت المحكمة شهوداً آخرين كان من بينهم [عبد الرضا سكر].
وفي 17 كانون الأول صدر قرار الحكم ضد رشيد عالي الكيلاني بالإعدام شنقاً حتى الموت.
لكن عبد الكريم قاسم لم يتخذ أي إجراء ضد الضباط المشاركين في المؤامرة، بل أكتفي باحتجازهم لفترة قصيرة ثم أفرج عنهم، وعين عدد منهم في مناصب مدنية، وشارك هؤلاء فيما بعد في اغتيال الثورة، وعبد الكريم قاسم نفسه، فقد كان لهم دور رئيسي في انقلاب 8 شباط 1963، وكان تصرف قاسم هذا يمثل أحد أخطائه الكبرى في مهادنته وتسامحه مع المتآمرين، والعفو عنهم، لكي يعودوا من جديد للتآمر على الثورة وعليه هو بالذات.
حرص قاسم على أن تجري المحاكمة في بادئ الأمر بصورة سرية، نظراً لعلاقة الجمهورية العربية المتحدة بها، لكي لا يجعل المحاكمة سبباً في زيادة التوتر بين البلدين، ولم يتحدث الزعيم عبد الكريم قاسم بكلمة واحدة تمس سمعة الرئيس عبد الناصر طوال مدة حكمه.
غير أن المحكمة ارتأت، بعد افتضاح أمر[رشيد عالي الكيلاني] واعترافات مبدر الكيلاني وعبد الرحيم الراوي أن تُجرى بصورة علنية، حيث افتضح دور العربية المتحدة في تلك المؤامرة.
تعرضت المحكمة إلى حملة شعواء من العربية المتحدة، والعناصر القومية والقوى الرجعية، وعملاء الإمبريالية، وشركات النفط، والإقطاعيين الذين تضررت مصالحهم بقانون الإصلاح الزراعي، وجردوا من سلطانهم على ملايين الفلاحين، وفقدوا مراكزهم السياسية في البلاد، وشن عبد الناصر حملة شعواء على الزعيم عبد الكريم قاسم متهماً إياه تارة بكونه[شعوبي] وتارة أخرى[قاسم العراق]، وتهجم على محكمة الشعب، ولم يحاول عبد الكريم قاسم أن يرد ناصر بل تجاهله تماماً.
ومهما قيل عن [محكمة الشعب] ورئيسها الشهيد [ فاضل عباس المهداوي] فأن تلك المحكمة كانت تمثل ضمير الشعب والثورة، فقد كانت المحكمة تعقد جلساتها بصورة علنية، وتنقل للشعب وللعالم عن طريق الإذاعة والتلفزيون، وتوكل المحامين للمتهمين، وتمنحهم حرية الدفاع عن أنفسهم واستدعاء شهود الدفاع.
إن على الذين أدانوا و يدينوا محكمة الشعب، ورئيسها الشهيد [المهداوي] أن يحدثونا عن محاكم العهد الملكي، ومجالسه العرفية، ومحاكم انقلابيي 8 شباط 963 الفاشيين، وعن المحاكم الصدامية الذائعة الصيت، وأخص بالذكر منها محكمة الثورة السيئة الصيت، وما اقترفته تلك الأنظمة من جرائم يندى لها جبين الإنسانية أزكمت روائحها أنوف ليس أبناء الشعب العراقي فحسب، بل انتشرت نتونها في جميع أرجاء العالم.
التوثيق
(1) موسوعة 14 تموز ـ العدد 7 ـ ص 263.
(2) نفس المصدر السابق ـ العدد 1 ـ ص 79 .
(3) أسرار ثورة 14 تموز ـ صبحي عبد الحميد ـ ص 120 .
(4) صفحات من تاريخ العراق الحديث ـ الكتاب الثاني ـ حامد الحمداني ـ ص 84 .
(5) العراق ـ الكتاب الثالث ـ حنا بطاطو ـ ص 127 .
(6) تاريخ الوزارات العراقية في العهد الجمهوري ـ نوري عبد الحميد العاني ورفاقه ـ الجزء ا ص99 .
(7) صفحات من تاريخ العراق الحديث ـ الكتاب الثاني ـ حامد الحمداني ـ ص 85 .
(8) العراق ـ الكتاب الثالث ـ حنا بطاطو ـ ص 174 .
(9) المصدر السابق ـ ص 130.
(10) مرسوم جمهوري صادر في 28 آب 1958 ـ أذيع من إذاعة وتلفزيون بغداد.
(11) مرسوم جمهوري صادر في 30 أيلول 1958 وأذيع من إذاعة وتلفزيون بغداد .
(12) ثورة 14 تموز ـ ليث الزبيدي ـ ص 181 .
(13) نفس المصدر ـ ص 211 .
(14) المصدر السابق ـ ص 212 .
(15) نفس المصدر السابق.
(16) المصدر السابق ـ ص 207 .
(17 ) عبد الناصر والعالم ـ محمد حسنين هيكل ـ ص 189.
(18) محاكمة عبد السلام ـ الجزء الخامس ـ 2043 ـ 2049 .
(19)أسرار ثورة 14 تموز ـ صبحي عبد الحميد ـ ص 144 ـ الطبعة الثانية .
(20) محاكمة عبد السلام عارف ـ الجزء الخامس ـ ص 2222 .
(21) بيان صادر عن الحاكم العسكري العام ـ أذيع من راديو وتلفزيون بغداد.
(22) ثورة 14 تموز ـ إسماعيل العارف ـ ص 376 .
(23) التاريخ لم يبدأ غداً ـ نجم الدين السهروردي ـ ص 398 ـ 399
(24) العراق في عهد قاسم ـ أوريل دان ـ الجزء الأول ـ ص 164 .
(25) ملف سيرة سلام عادل ـ نزيهة الدليمي وثمينة ناجي يوسف ـ الحلقة 8 ـ صحيفة الزمان 5/4/2000